بطولات إسلامية في العصر الحديث
ديسمبر 20, 2016
الدماء الدماء
فبراير 1, 2017

أهل الحل والعقد

الكاتب: الدكتور عبد الكريم بكار – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري

أصل المفهوم:
مصطلح أهل الحل والعقد من المصطلحات العريقة في تنظيم الشأن السياسي، وهو مصطلح اجتهادي لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سُنة رسوله . ويعود اللجوء إلى التعويل على ثلة من خاصة الأمة في اختيار الحاكم إلى الأيام الأولى من الحكم الراشدي يوم اجتمع نخبة الصحابة رضوان الله عليهم في سقيفة بني ساعدة من أجل اختيار خليفة لرسول الله يكون أميراً على المؤمنين، وقد كان في ذلك تعبير قوي عن أن الأمة هي مصدرُ شرعيةِ من يحكمها، ورضاها عنه هو الذي يمنحه صلاحية تنفيذ أحكام الشرع فيها.
إن مصطلح أهل الحل والعقد يؤسس في الحقيقة لما نسميه اليوم (الطبقة السياسية)، وهي نخبة من نخب المجتمع تهتم بالشأن السياسي وتلعب الدور الأكبر في تحريك المشهد وتطويره، كما أنها تشكل نوعاً من الضمانة لاستقراره وتماسكه.

غموض المدلول:
هناك تساؤل مشروع حول مفهوم أهل الحل والعقد وتحديد مدلولاته، والحقيقة أن عدم وجود مؤسسة تؤطر عمل من يمكن أن نسميهم أهل حلٍ وعقدٍ حال دون تحديد مواصفاتهم، كما حال دون تطوير أدائهم.

وعلى كل حال، فمن أهل العلم بالسياسة الشرعية من يرى أن أهل الحل والعقد هم علماء الشريعة وأولو العلم والخبرة والرأي السديد في كل مجالات الحياة، ومنهم من يرى أن أهل الحل والعقد هم أصحاب النفوذ والشوكة من رؤساء الجند وشيوخ القبائل ووجهاء الناس وعظمائهم ممن لهم نوع من السلطة التنفيذية أو الأدبية على عموم الناس، ومنهم من يرى أن أهل الحل والعقد هم مزيج من هؤلاء وأولئك، وهذا في نظري أقوى وأرجح من القول الأول ومن القول الثاني أيضاً.

أهل الشورى وأهل الحل والعقد:
كثيراً ما يطلقون على أهل الحل والعقد اسم (أهل الشورى) وربما كان هذا أسبق في التداول من اسم (أهل الحل والعقد)، وهناك ما يشير إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن أهل الحل والعقد هم أولو الأمر الذين قال الله تعالى فيهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) وهم الأمراء نواب ذي السلطان والقضاة وأمراء الأجناد وولاة الأموال والكتّاب والسعاة على الخراج والصدقات، وبذلك يكون أهل الحل والعقد هم من يلي السلطة التنفيذية، كما أن كلام شيخ الإسلام يوسِّع مفهوم أهل الحل والعقد ليتجاوز صفوة المجتمع إلى الموظفين من الدرجة الثالثة أوالرابعة!.

هذا كله يعني أن مفهوم أهل الحل والعقد لم يحظ بالبلورة المطلوبة عبر تتابع القرون والحكومات، وهذا لم يكن بسبب عدم وجود مؤسسة تؤطرهم أو نظام يوجه عملهم فحسب، بل كان أيضاً بسبب تضاؤل دورهم بعد حقبة الخلفاء الراشدين بل انعدامه في معظم الأحيان!.

تنظيم أهل الحل والعقد:
أعتقد أن المشكلة الأساسية في مسألة أهل الشورى أو أهل الحل والعقد تكمن في تنظيم عملهم، وهذا التنظيم يشمل شيئين أساسيين:

الأول: هو اختيارهم؛ إذ إن من يمكن أن تنطبق عليهم صفات أهل الحل والعقد قد يصلون في الدولة الواحدة إلى عشرات الألوف من الناس، وتكون الحاجة إلى مائة منهم أو مائتين أو ألف على أقصى تقدير، فما الجهة التي تقوم باختيار العدد المطلوب؟.
إذا قلنا: إن الأمة هي التي تفعل ذلك، فكيف يمكن لبلد عدد سكانه (250)  مليوناً من البشر (كما هو الشأن في إندونيسيا) أن يقوم بذلك؟، وإذا قلنا: إن الحاكم هو الذي يقوم بذلك، فهذا مخالف لفعل الصحابة ، لأن أهل الحل والعقد في زمانهم كانوا يمثلون الأمة، ثم كيف يمارسون عملهم، ويقومون بواجبهم في الاختيار والعزل والمحاسبة للحكام وهم مختارون من قبلهم؟ هذا طبعاً لا يستقيم على أي وجه من الوجوه.

الثاني: المواصفات المطلوبة لمن يكون من أهل الحل والعقد، وإذا عُدنا لما قاله السابقون، فإن رجلاً مثل الماوردي يرى أن شروط أهل الاختيار ثلاثة:

الأول: العدالة الجامعة لشروطها.
الثاني: العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
الثالث الرأي والحكمة.

أما النووي رحمه الله فيرى أن أهل الحل والعقد هم العلماء والرؤساء، وهذا يعني أنهم أولو الأمر، على حين أن الخطيب البغدادي يرى أن أهل الشورى أو أهل الحل والعقد هم أهل الاجتهاد، وهذا يعني أنه يجب أن تتوفر في الواحد منهم الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الفقيه المجتهد. وإذا أردنا جمع كل ما قيل في مواصفات أهل الحل والعقد، فسنجد أنها تكاد تبلغ السبع أو العشر، حيث ذكر بعض الباحثين أن من صفاتهم: العدالة والعلم والرأي والحكمة والفطنة والذكاء والأمانة والصدق، وأن يسلموا فيما بينهم من التحاسد والتنافس، وأن يسلموا من معاداة الناس وبغضهم، إلى جانب ألا يكونوا من أهل الأهواء.

هذا كله يدل على أن علماءنا كانوا يتحدثون عن شيء غير موجود في الواقع، إنهم يتحدثون عن شيء تاريخي سمعوا عنه، ولم يروه.

نظرة نقدية:
كانت الفكرة السائدة عند بيعة أبي بكر أن أهل البيعة وأهل الحل والعقد هم أصحاب النبي، وكبارهم معروفون، ولهم تصنيفات تساعد على تحديد من يتقدم لذلك؛ مثل  (أهل بدر) و(المهاجرين) و(أهل بيعة العقبة) أضف إلى هذا أن سمة الصلاح والتقوى والورع والقرب من رسول الله كانت هي السمة الأساسية التي ترجح شخصاً على غيره لتولي المناصب الكبيرة، وقد تغير هذا كله اليوم تغيراً كبيراً مما يدعونا إلى تحقيق مقاصد الشريعة في مجال الحكم والولاية بأساليب وطرق جديدة.

أما بالنسبة إلى طرق اختيار من يشغل المناصب العليا في الدولة مثل الرئيس أو مجلس الشورى أو مجلس الشعب أو المحكمة العليا فإنه لم يبق اليوم لدينا سوى طريق واحد هو (الانتخاب) طبعاً من الناحية النظرية البحتة يمكن أن تكون لدينا طريقة أخرى هي (التوافق)  ولكن هذه الطريقة من الناحية العملية أقرب إلى المستحيل بسبب ضخامة المجتمعات.

وإذا كان لا مناص من الانتخاب، فلا فرق من الناحية الشرعية بين أن يختار الناس رأس السلطة بطريقة مباشرة، وبين أن يختاروا مجلس الشورى أو مجلس الشعب، ويقوم المجلس باختياره وإن الخبرة العلمية المتراكمة في هذه النقطة لا تعطي ميزة لأي منهما، إذ المقصود هو أن يتضح تعبير الأمة عن رضاها وعن مساندتها لمن سيتولى أمورها.

طبعاً نحن نعرف أن الانتخابات تأتي بالفاضل والمفضول وبالجيد والرديء، ولكن علينا القبول بذلك لأنه لا بديل لدينا عنها سوى الاستبداد أوالاقتتال، وإذا استطعنا توفير بديل، يتم فيه التعبير عن رضا الأمة إلى جانب الخلاص من سلبيات الانتخابات، فإن الصيروة إلى ذلك البديل تصبح واجباً شرعيّاً، لأننا مأمورون في باب المصالح المرسلة بتكثير الخير والتقليل من الشر.

إشكالية الانتخابات:
طبعاً معظم الشعوب الإسلامية تعاني معاناة شديدة من مسألة الانتخابات، ومصدر معاناتهم تنبع من أمرين:

الفقر: حيث يتم شراء أصوات الفقراء بطرق مختلفة من قبل المرشحين الأغنياء ومن يدعمونهم.

والثاني: ضعف وعي الناس بأهمية الانتخابات وضعف وعيهم بشروط الحياة السياسية الصحيحة.
إذ من الثابت اليوم أن إجراء انتخابات حرة نزيهة ومعبرة عن إرادة الأمة يتطلب تنظيم الحياة السياسية، أي وجود أحزاب تتنافس عبر برامج إصلاحية وتنموية على خدمة البلاد، وإذا لم يتوفر هذا فإن المأزق الذي ينتظر الناس هو الإعلام المأجور، الذي يجعل الأبيض أسود، والأسود أبيض على نحو ما نراه اليوم في كثير من الدول.

هناك من يقول: إن الانتخابات لا تعبر عن رضا الناس لأن الذين يقترعون قد يكونون في بعض الأحيان في حدود ( 30 %) ممن يحق لهم التصويت.
وأقول: إن هذا صحيح فعلاً، ولكن إذا كان عدد الذين يحق لهم التصويت عشرين مليوناً فالثلاثون في المائة تعني ما يزيد على ستة ملايين شخص، ورأي هؤلاء يعبر عن رضا الناس بصورة لا بأس بها، وهي أفضل الخيارات المتاحة؛ على أن المهم دائماً أن يكون في وسع الناس أن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، أو يُعرضوا عنها بملء إرادتهم دون خوف أو ضغط من أحد.

صفات أهل الحل والعقد صفات اجتهادية:
أما ما ذكره السابقون من صفات أهل الحل والعقد، فإنه بالطبع اجتهادي استنباطي، إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سُنة رسوله ما يدل بوضوح على صفاتهم أو شروط اختيارهم أو آلية عملهم، ونحن إذا نظرنا في جملة ما ذكره علماء السياسة الشرعية نجد أن الصفات التي ذكروها لأهل الحل والعقد عائمة ويصعب تحديدها وقياس مقدار المتوفر منها لدى الواحد منهم، فالذكاء والفطنة والأمانة والصدق والاجتهاد وسلامة الصدر من الحسد والشحناء، كل هذه الصفات نسبية، وشيء منها موجود لدى معظم الناس، ولهذا فإنها لا تساعد فعلاً على تحديد الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا من أهل الحل والعقد، بل إنها قد تصبح مصدراً لنزاعات وخلافات لا تنتهي، كما أن من الممكن أن تصبح باباً لاستغلال الدهماء من الناس من قبل الطامعين والطامحين إلى السلطة على ما نراه اليوم في الكثير من ديار المسلمين!.

شروط من يختار ليكون من أعضاء مجلس الشورى أو البرلمان يجب أن تكون منضبطة، ومن المؤسف أن ما يمكن أن نعده على هذا الصعيد محدود جداً، وذلك مثل السنّ والشهادة المعبرة عن مستوى التعلم وكون سجله العدلي نظيفاً من الأحكام الجنائية، هذه الأمور يمكن ضبطها والتحقق منها، ومن المهم في هذا الصدد الإشارة إلى أن من الحيوي ألا يؤدي وجود أهل الحل والعقد إلى تهميش دور الأمة في تدبير شؤونها، فالأمة هي التي تختارهم، ولها بالطبع عزلهم، إذا لم يقوموا بدورهم على الوجه المطلوب، كما أن من واجب أهل الحل والعقد أن يتواصلوا على نحو مستمر مع الذين اختاروهم وأن يستمعوا إلى مطالبهم، ويُطلعوهم على ما حققوا من تلك المطالب، وهذا تقليد معمول به اليوم في العديد من الدول العريقة في الشورى وذات النضج السياسي العالي.

أهمية وجود (مجلس حكماء):
إذا ثبت أن نظام الانتخاب هو أفضل طريقة متاحة اليوم للتعبير عن رضا الناس عمن يحكمونهم، فإن هذا لا يعني الاستسلام للنظم الانتخابية السائدة، وإنما علينا الحد من سلبياتها على مقدار ما نستطيع، وعلى سبيل المثال، فإن من الممكن أن يكون في البلد (مجلس حكماء) تختاره المؤسسات الشرعية والعلمية الرفيعة، وتكون مهمته توجيه سياسات الدولة العامة، وتصحيح مسارها الحضاري، كما أنه قد يشكل نوعاً من الضمانة لاستقرار البلاد في حالة وجود أحداث طارئة كبيرة أو اضطرابات عاتية، ومن الممكن كذلك رفع سن من يحق لهم المشاركة في التصويت إلى سن العشرين أو الثانية والعشرين حتى نضمن درجة أعلى من الرشد في الاختيار، ويمكن كذلك أن يكون لدينا نوعان من الانتخابات: انتخابات خاصة بالصفوة الذين يحملون شهادات جامعية وشهادات ما بعد المرحلة الجامعية )الماجستير والدكتوراه( وانتخابات لعامة الناس، ويمكن أن تكون انتخابات الصفوة أولاً حتى يشكل اختيارهم للمرشحين مرشداً لمن دونهم من عامة الناس.

ملاحظة أخيرة:
الملاحظة الأخيرة في مسألة أهل الحل والعقد أننا رأينا من علماء الأمة من يجعلون بين أهل الحل والعقد رؤساءَ الجند والقضاة وكتاب الدواوين والسعاة على تحصيل الخراج، أي أنهم أدخلوا في أهل الحل والعقد أو أهل الشورى بعضَ موظفي الدولة، وهذا ربما كان نابعاً من نظرتهم لدور أهل الحل والعقد والذي يقوم على اختيار الخليفة أو الإمام أو الرئيس، كما يقوم على مناصرته ومؤازرته في حفظ أمن البلاد والوقوف في وجه من يحاولون اغتصاب السلطة منه، وهذا قد تغير في الحقيقة اليوم على نحو كلي، حيث إنه قد ثبت أن مصلحة العباد والبلاد في إبعاد العسكر عن الساحة السياسية على نحو مطلق وتفريغهم لحماية حدود البلاد، كما أن هناك ميلاً عالمياً إلى الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى أن دور أهل الحل والعقد لا يقتصر على اختيار الحاكم فحسب، وإنما يتعداه إلى مراقبة تصرفاته.