التَّكامل الموضوعي في السنة النبوية أساس منهجي في التعامل معها
سبتمبر 14, 2020
صدق النية وحده لا يكفي
سبتمبر 14, 2020

إضاءات حول جهود العلماء في تصنيف التصرفات النبوية

تحميل المقالة كملف PDF

د. مجدي قويدر – عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج ومدير تحرير مجلة المرقاة

إن دراسة التصرفات النبوية تحظى في وقتنا المعاصر باهتمام علمي متزايد تصنيفًا وتأليفًا وحوارًا ونقاشًا لما لتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من مكانة عظيمة ومنزلة مرموقة، فهي تشكل مجموع أقوال وأفعال وتقريرات الرسول صلى الله وعليه وسلم المبلغ عن الله، النموذج الإنساني الأمثل للرسالة، فهو القدوة في الفهم وتنزيل الأحكام؛ ولهذا كان لمعرفة تصرفاته وفهمها والتمييز بين مقاماتها أهمية كبيرة في توجيه الفهم للتشريع، وضبط عملية الاجتهاد في الأدلة الجزئية، وترشيده في ضوء التمييز بين مقامات التصرفات النبوية، وتسديد تنزيله لمعالجة المستجدات والوقائع المختلفة، وفي هذا البحث محاولة لتتبع جهود العلماء في التصنيف والتأليف وعنايتهم بالتصرفات النبوية، وتطورات البحث في هذا العلم، وتسليط للأضواء على جهودهم المعطاءة وآرائهم البناءة من خلال مبحثين اثنين، الأول: مفهوم التصرفات النبوية وتطور التصنيف فيها، والثاني: دلالات واستنتاجات من جهود العلماء في تصنيف التصرفات.

المبحث الأول: مفهوم التصرفات النبوية وتطور التصنيف فيها

خصصت هذا المبحث للحديث عن مفهوم التصرفات النبوية لغة واصطلاحًا، ثم أرصد أهم مراحل التطور التاريخي لجهود العلماء في التصنيف والتأليف فيها في مطلبين:

المطلب الأول: التصرّفات النبوية لغة واصطلاحًا

أولًا: التصرفات لغة

صرف: الصَّرْفُ رَدُّ الشيءِ عن وجهِهِ، صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفًا فانْصَرَفَ، وصارَفَ نفْسَه عنِ الشيءِ صَرفَها عنه؛ ومنه التَّصَرُّفُ في الأَمورِ، يقال إنّه يتصرَّف في الأُمور، وصَرَّفْت الرجل في أَمْري تَصْريفًا فتَصَرَّفَ فيه واصْطَرَفَ، وتصرَّف الشَّخصُ: سَلَكَ سلوكًا معيَّنًا، وصرَّف الأشياءَ: نقلها، بدَّلها، وجَّهها ([1]).

ثانيًا: التصرّفات النبويَّة اصطلاحًا

عُرفت التصرفات النبوية بتعريفات عديدة أذكر أهم ما وقفت عليه فيما يلي:

التعريف الأول: عموم ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من تدابير وأمور عملية من قول أو فعل أو تقرير سواء كانت للاقتداء أو لم تكن، وسواء كانت في أمور الدين أو الدنيا([2]).

التعريف الثاني: عموم التدابير القوليّة والفعليّة والتقريريّة التي صدرت عنه صلى الله عليه وسلم، سواء كانت في الدين أو الدنيا، وسواء قصد منها التشريع أو لم يقصد([3]).

التعريف الثالث: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمور عملية بوصفه رسولا ومبشرًا من أقوال أو أفعال أو إقرارات للتأسي به واتباعه أو لعدمه([4]).

ويلاحظ أن هذه التعريفات اتفقت على أن التصرفات تشمل القولية والفعلية والتقريرية، وهذا متّفِق مع تعريف السنة النبوية، بالإضافة إلى أنها أشارت إلى تقسيم التصرفات النبوية قسمين؛ الأول: ما صدر للتشريع والاقتداء، والثاني: ما لم يقصد به التشريع والاتباع.

المطلب الثاني: جهود العلماء في تصنيف التصرفات النبوية

إن بذور هذا العلم مبثوثة في كتب الأعلام، ضاربة بجذورها في أعماق فهمهم للشريعة، حيث كبر ونمى وتطور على أيدي فقهاء مختلف المذاهب، وأسهموا في تأصيله عبر مراحل متعددة، واعتنوا به عناية كبيرة، وعلى أساس التمييز بين التصرفات النبوية فهموا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهل علماء عصرنا الذين كتبوا في تصنيف التصرفات النبوية من فقههم، وعلى قواعدهم المتينة أقيم البناء، وفي هذا المطلب رصد لتطور التأليف والتصنيف في هذه القضية عند أسلافنا.

جهود ابن قتيبة في تصنيف التصرفات النبوية:

يعد ابن قتيبة أول من نبه لمعرفة الحال التي يصدر عنها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض في كتابه (تأويل مختلف الحديث) مسألة التمييز بين التصرفات النبوية، وقسم السنة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: (سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى كقوله: ((لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها))([5])، و((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))([6])، و((الدية على العاقلة))([7]) وأشباه هذه من الأصول..) ([8]) فالسنة هنا هي التشريعات التي وردت في السنة ولم ترد في القرآن الكريم، وقد عدها الفقهاء القدامى خاصة أحكاما مستزادة عن القرآن، وهي وحي من الله، وابن قتيبة عدَّ هذه التشريعات وحيا غير متلو، فهي تشريع للأمة عامة.

وخالف بعض الفقهاء في هذه المسألة، وقالوا إن هذه التشريعات ليست مستزادة عن القرآن بل تضمنها الكتاب واحتوى عليها فهي منبثقة عنه إما بطريق الاجتهاد أو القياس، ومال إلى هذا الإمام الشاطبي في الموافقات، أما من المعاصرين فأخذ به الخضري وأبو زهرة والقرضاوي، وأما مصطفى السباعي فقد عدَّه خلافًا لفظيًّا.

القسم الثاني: (سنة أباح الله له أن يسنَّها وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخص فيها لمن يشاء على حسب العلة والعذر كتحريمه الحرير على الرجال وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به، وكقوله في مكة ((لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها)) فقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، إلَّا الإذخر فإنه لبيوتنا؟ فقال: ((إلا الإذخر))([9])، ومنه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث وعن زيارة القبور وغيرها)([10]).

فقد استنتج ابن قتيبة أن الله عز وجل قد ترك مساحة للنبي صلى الله عليه وسلم للاجتهاد فيها، فيطلق لمن يشاء ويحظر عمن يشاء. قال ابن قتيبة: (فهذه الأشياء تدلك على أن الله عز وجل أطلق له صلى الله عليه وسلم أن يحظر وأن يطلق بعد أن حظر لمن شاء. ولو كان ذلك لا يجوز له في هذه الأمور لتوقف عنها كما توقف حين سئل عن الكلالة)([11]).

القسم الثالث: (ما سنَّه لنا تأديبًا، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله)([12])، ومعنى هذا أنه إرشاد لأمته للأفضل والأحسن.

جهود ابن حزم في تصنيف التصرفات النبوية:

عُرف الإمام ابن حزم بين العلماء بتقسيمه المشهور لأحوال النبي وتصرفاته إلى أمور الدين وأمور الدنيا:

1-أمور الدين: وهي في مجموع كلامه كلها وحي لا سبيل ولا مدخل لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، يقول: (فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل)([13]) ويؤكد أن السنة في الدين لا يجوز فيها الغلط: (فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها فإنها سنة الله تعالى) ([14]).

وابن حزم رحمه الله ينطلق في تحريره للمسائل العلمية من أصوله الخاصة التي عُرف بها، وهي التمسك بظواهر ألفاظ النصوص، وعدم قوله باجتهاد الرسول في الشرعيات، ورفضه القياس مصدرا للتشريع كما هو معتمد مذهبه.

2- أمور الدنيا ومكايد الحروب، ما لم يتقدم نهي عن شيء من ذلك فقد أباح الله للنبي صلى الله عليه وسلم التصرف فيها كيف شاء، وترك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدبر كل ذلك على حسب ما يراه صلاحا، فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره وإن شاء إحداث منع له منعه، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) قال ابن حزم: (فهذا بيان جلي مع صحة سنده في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به لأن كل ذلك مباح مطلق له، وأننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي)([15]).

جهود القاضي عياض في تصنيف التصرفات النبوية:

تحدث القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) عن التصرفات النبوية في الْقِسْمِ الثَّالِثِ: (فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ وَيَصِحُّ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يضاف إليه)([16])، وقد قسم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم قسمين: ما يختص بالأمور الدينية، وما يختص بالأمور الدنيوية والعوارض البشرية:

الأمور الدينية: تصرفاته التي هو فیها معصوم عصمة تامة، وقسمها إلى نوعين:

الأولى: أحكام وأخبار المعاد وغيرهما مما أوحي إلیه به، یقول عنها: (لا یجوز علیه خلف في القول في إبلاغ الشريعة والإعلام بما أخبر به عن ربه وما أوحاه إلیه من وحیه لا على وجه العمد ولا على غیر عمد، ولا في حالي الرضى والسخط والصحة والمرض)([17]).

الثاني: ما لیس سبیله سبیل البلاغ (من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحي) فهذه أخبار یجب تنزیه الرسول فیها عن الكذبِ، فإنه لا يقع منه (لا عمدًا ولا سهوًا ولا غلطًا، وهو معصوم من ذلك في حال رضاه وفي سخطه وجده ومزحه وصحته ومرضه)([18]).

فمدار كلام القاضي عیاض هو تأكید عصمته صلى الله عليه وسلم فیما یبلغه عن الله أولًا، وعصمته عن الكذب في جمیع أخباره ولو لم تكن وحیا أو شرعا لأن خلاف ذلك سیؤدي إلى الشك في الرسالة النبویة.

2- الأمور الدنيوية والعوارض البشرية، وهي تصرفاته التي هو لیس فیها معصومًا عصمة تامة، والتي هو فیها لیس بتارك للصواب وإنما هو تارك للأولى، وذلك تنزیها له عن تصنیف تصرفاته بین الخطأ والصواب، ویمكن أن أسمي عصمته هنا عصمة نسبیة لا تامة، وتنقسم إلى عدة أنواع:

أ- التغيرات والآفات الجسمية، فالرسول صلى الله عليه وسلم فيها مثل غيره من البشر، فيجوز علیه من الآلام والأسقام والعوارض ما یجوز على سائر البشر، وهذا كله لیس بنقیصة فیه، وأما باطنه -وهو الأهم والأساس- فلا یجوز علیه ما یخل به.

ب- ما يعتقده صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا، فقد يعتقد الشيء على وجه ويظهر خلافه، وهذا بخلاف أمور الشرع، يقول القاضي عياض: (فَمِثْلُ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِعِلْمِ دِيَانَةٍ وَلَا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها مَا ذَكَرْنَاهُ…؛ إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ نَقِيصَةٌ وَلَا مَحطَّةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِيَادِيَّةٌ يَعْرِفُهَا مَنْ جَرَّبَهَا وَجَعَلَهَا هَمَّهُ وَشَغَلَ نَفْسَهُ بِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْحُونُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، مَلْآنُ الْجَوَانِحِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، قصيد الْبَالِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَكِنْ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَيَجُوزُ فِي النادر وفيما سَبِيلُهُ التَّدْقِيقُ فِي حِرَاسَةِ الدُّنْيَا وَاسْتِثْمَارِهَا، لَا في الكثير المؤذن بالعلة والغفلة)([19]).

ج- وأما ما يعتقده من أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ الْجَارِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ وَقَضَايَاهُمْ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَعِلْمِ الْمُصْلِحِ مِنَ الْمُفْسِدِ فَبِهَذِهِ السَّبِيلِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قطعة من النار))([20]).

هذا والإمام عياض حشد أدلة كثيرة على تقسيماته منها: تركُ النبي صلى الله عليه وسلم قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ مُؤَالَفَةً لِغَيْرِهِمْ، ورعايةً للمؤمنين من قرابته، وَكَرَاهَةً لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ: ((إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))([21])، وَتَرْكُهُ بِنَاءَ الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاةً لقلوب قريش وتعظيمهم لتغيّرها، وحذارًا مِنْ نِفَارِ قُلُوبِهِمْ لِذَلِكَ وَتَحْرِيكِ مُتَقَدِّمِ عَدَاوَتِهِمْ للدين وأهله، فَقَالَ لِعَائِشَةَ: ((يَا عَائِشَةُ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ))([22]).

جهود الإمام العز بن عبد السلام في تصنيف التصرفات النبوية:

يعد الإمام العز بن عبد السلام أول من صاغ عبارة التصرف بالإمامة في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) غير أنه لم يتوسع في تصنيف التصرفات فأشار إلى ثلاثة مقامات للتصرفات النبوية، وهي: الفتيا والحكم والإمامة العظمى، فقال: (فمِن هذا تصرفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والإمامة العظمى، فإنه إمام الأئمة، فإذا صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل على خلافه، وله أمثلة أحدها قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان لما شكَت إليه إمساك أبي سفيان وشحَّه: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) احتمل أن يكون فتيا، واحتمل أن يكون حكما، فمنهم من جعله حكما والأصح أنه فتيا لأن فتياه صلى الله عليه وسلم أغلب من أحكامه، ولأن الواقعة لم تستوف شروط القضاء.

المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلا فله سلبه)) محمول على الفتيا لأنه أغلب من تصرفه بالقضاء وبالإمامة العظمى.

المثال الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضا ميتة فهي له)) حمله أبو حنيفة رحمه الله على التصرف بالإمامة العظمى لأنه لا يجوز إلا بإذن الإمام، وحمله الشافعي رحمه الله على التصرف بالفتيا لأنه الغالب عليه([23]).

ولعل الإمام القرافي تلقف الفكرة والتسمية من شيخه العز بن عبد السلام وطورها وأضاف إليها مبتكرا ومبدعا لأنه كان متأثرا بشيخه ومنهجه في التفكير والاجتهاد، وقد عبَّر عن ذلك بدقة عبد الفتاح أبو غدة في مقدمته لكتاب الإحكام فقال: (وقد لازَمَ الشيخَ عزَّ الدين بنَ عبد السلام وأخَذَ عنه أكثر فنونه، واقتبَسَ منه العقليةَ العلمية والفكرَ الحُرَّ المتزنَ المستنير، وكان الشيخ عز الدين قَدِمَ من الشام إلى مصر سنة 639ه، وكان القرافي حينذاك في مطلع شبابه يبلغ من العمر نحو 15 عامًا، فلازمه حتى وفاته سنة 660هـ نحوَ عشرين سنة، وقد مَلَك الشيخُ عليه قلبَه ولُبَّه بغزارة علمه وثقابة ذهنه، ومتانة دينه وقوة شخصيته، وبسالته في نُصرة الحق وكريم تواضعه وورعه وفضله، فألقى القرافيُّ إليه بالمقاليد، ونَهَل منه وعَلَّ، وأكثر النقلَ والحديثَ عنه في كتبه، وأثنى عليه في كل مناسبة في مواضع كثيرة من تآليفه ثناءَ المرتوي من منهله والعابِّ من بحر علمه الغزير النَّمِير)([24]).

جهود الإمام القرافي في تصنيف التصرفات النبوية:

يُعد الإمام القرافي الأكثر إبداعًا وابتكارًا من بين العلماء الذين كتبوا في تصنيف التصرفات النبوية في كتابه (الفروق) فمن ذلك: (الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة): (اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة)([25]).

وخص القرافي الموضوع بالدَّرْس في كتابه المسمى (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) وفصل الأمر بشكل دقيق وفهم عميق، وضبط الفرق بين تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وعد منها أربعة أنواع وهي: (التصرف بالتبليغ، التصرف بالفتوى، التصرف بالقضاء، والتصرف بالإمامة)([26])، وقد اعتبر القرافي ذلك قانونا ساريا في كل ما يرد على الناظر من نصوص النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية)([27]).

جهود السبكيَّين في تصنيف التصرفات النبوية:

قال عبد الكافي السبكي وتاج الدین السبكي: (فِعل النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام:

الأول: أن یدل آخَر أو قرینة معه على أنه لوجوب كقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وقوله: ((خذوا عني مناسككم))  3  فإن هذین الحدیثین یدلان على وجوب اتباعه في أفعال الصلاة وأفعال الحج إلا ما خصه الدلیل، والقول في هذا القسم متضح؛ فإنه على حسب ما یقوم الدلیل والقرینة علیه وفاقًا.

الثاني: فعله بیانًا لشيء نحو قطعه ید السارق من الكوع إذ فعله بیانًا لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].

الثالث: ما عرف بالقرینة أنه للإباحة كالأفعال الجبلیة نحو القیام والقعود والأكل والشرب وغیر ذلك، وأمره واضح إلا أن التأسي مستحب وقد كان ابن عمر تبركا بآثاره الظاهرة يجر خطام ناقته حتى یبركها في موضع بركت فیه ناقة النبي ومواطن نعاله الشریفة.

الرابع: ما عرف أنه مخصوص به كالضحى والأضحى.

الخامس: ما عرف أنه غیر مخصوص به كأكثر التكالیف، فهذه الأقسام كلها لیس فیها شيء من الخلاف وأمرها واضح.

السادس: ما يخرج عن جمیع ما ذكرناه إلا أن قصد القربة ظاهر فیه، فهذا لیس أیضًا مجردًا من كل وجه.

السابع: ما لم یظهر فیه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا؛ فهذا أمر دائر بین الوجوب والندب والإباحة)([28]).

جهود ولي الله الدهلوي في تصنيف التصرفات النبوية:

توقف الإبداع في تصنيف التصرفات النبوية بعد الإمام عياض والإمام القرافي، إذ لم تبرز إضافات مهمة على ما كتبوه، واكتفى من بعدهم بترديد كلامهما في الحديث عن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر الركود إلى أن صنف العالم الهندي شاه ولي الله الدهلوي كتابه حجة الله البالغة، وضمنه الحديث عن التصرفات النبوية، فقال: (اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ودون في كتب الحديث على قسمين: أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وهو أنواع:

– علوم المعاد وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي، ولا دخل للاجتهاد فيه.

– شرائع للعبادات والارتفاقات، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ.

– حِكَم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالبا الاجتهاد.

– فضائل الأعمال ومناقب العمال، ورأى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد.

وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)) وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: ((فإني إنما ظننت ظنا، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لم أكذب على الله)) ومنه الطب، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم ((عليكم بالأدهم الأقرح))، ومستنده التجربة.

ومنه ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة دون العبادة وبحسب الاتفاق دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع وحديث خرافة، ومنه قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار، وهو قول عمر رضي الله عنه: (ما لنا وللرمل؟ كنا نتراءى به قومًا قد أهلكهم الله)، ثم خشي أن يكون له سبب آخر. وقد حُمل كثيرٌ من الأحكام عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلا فله سلبه))، ومنه حكم وقضاء خاص وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: ((الشاهد يرى ما لا يراه الغائب))([29]).

جهود ابن عاشور في تصنيف التصرفات النبوية:

ومن المعاصرين العلامة محمد الطاهر بن عاشور صاحب كتاب (مقاصد الشریعة الإسلامیة)، عمل على تطوير التصنيف للتصرفات النبوية من وجهة مغایرة، اقترح فيها تصنيفًا بشكل أوسع وأشمل، وهو الأمر الذي اقتضى منه الاهتمام بالمقامات التي صدرت عنها النصوص على اعتبار أن إدراكها طریق أساس لفهم مقصود الشارع منها، وفي ذلك یقول: (يقصِّر بعض العلماء ويتوحّل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجِّه نظره إلى اللفظ مكتفيًا ومقتنعًا به، فلا يزال يقلِّبه ويحلِّله ويأمل أن يستخرج لبَّه، وهو في كل ذلك مهمل ما قدّمناه من ضرورة الاستعانة بما يحفّ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق)([30])، ويقول: (ممّا يهمُّ الناظرَ في مقاصد الشريعة تمييز مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفرقةُ بين أنواع تصرّفاته)([31]).

وجاء تقسيم الطاهر ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة، يقول: (وقد عرض لي الآن أن أعُدَّ من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالًا، منها ما وقع في كلام القرافي، ومنها ما لم يذكره، وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد)([32]).

ولكن الإشكالية الأساسية هنا هي إنزال هذه الأقسام والتصنيفات على النصوص، حتى إن الإمام القرافي بعد أن ذكر تصنيفه السابق أورد بعض الأمثلة من اختلاف الفقهاء في بعض المسائل في تصنيف قوله صلى الله عليه وسلم من أي رتبة، ذاكرًا أن الاختلاف فيها يؤثر فيما يستنبط من أحكام عند الفقهاء([33]).

وكذلك الحال في الأمثلة التي أوردها ابن عاشور؛ فمن ينظر فيها يجد أنه قد نص على اختلاف الفقهاء في تصنيف بعضها، وما يترتب على هذا الاختلاف من اختلاف في استنباط الحكم الشرعي، كما أننا نجد أن أمثلة أخرى ذكرها أو لم يذكرها تدخل في هذا الاختلاف من حيث النظر إلى تصنيفها([34]).

 جهود سعد الدين العثماني في تصنيف التصرفات النبوية:

استطاع سعد الدين العثماني الاستفادة مما تراكم من جهود العلماء في تصنيف التصرفات النبوية، واقترح تقسيما خاصًا به في كتابه (تصرفات الرسول بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية)، وجاء تقسيمه للتصرفات النبوية على النحو التالي:

1- تصرفات تشريعية، وهي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو للاتباع والاقتداء، أو ما كان من تصرفاته مطلوب الفعل وجوبًا أو استحبابًا، وهذه التصرفات التشريعية تنقسم إلى قسمين:

تصرفات بالتشريع العام، وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة؛ وتصرفات بالتشريع الخاص، وهي مرتبطة بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها، ويطلق عليها بعض العلماء التصرفات الجزئية أو التشريعات الجزئية أو الخطاب الجزئي، ومنه كلام ابن قيم الجوزية: (لا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كليًّا عامًّا، ولا الكلي العام جزئيًّا خاصًّا)([35]).

تصرفات غير تشريعية، وهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع لا من عموم الأمة ولا من خصوص من توجهت إليهم، وقد أحصيت منها التصرفات الجبلية والتصرفات العادية والتصرفات الدنيوية والتصرفات الإرشادية والتصرفات الخاصة به صلى الله عليه وسلم.

وقسم العثماني التصرفات التشريعية وغير التشريعية إلى عشرة أقسام منها:

تشريعية عامة: الرسالة والفتيا، وتشريعية خاصة: القضاء والإمامة الخاصة بأشخاص معينين، وغير تشريعية: الجبلية والعادية والدنيوية والإرشادية والخاصة به([36]).

المبحث الثاني

دلالات واستنتاجات تصنيف التصرفات عند العلماء

في هذا المبحث رصد لأهم الدلالات والاستنتاجات من مسيرة تطور هذا العلم ونموه في النقاط التالية:

1- يعد العالمان المالكيان القاضي عياض والإمام القرافي من أهم من أبدع في تصنيف التصرفات النبوية والتمييز بين أنواعها، وكان لكتاباتهما في هذا المجال تأثير واسع فيمن أتى بعدهما من مختلف علماء المذاهب، وقد عدَّ القرافي قاعدة التمييز بين التصرفات النبوية من الأصول الشرعية الجديرة بالمعرفة والاهتمام.

2- تراجع الاهتمام والتطوير في مجال تصنيف التصرفات النبوية انطلاقا من دلالتها التشريعية ابتداء من القرن التاسع، ولم تبرز إلا في العصر الحاضر، ويعد الطاهر بن عاشور أبرز العلماء المعاصرين الذين أسهموا في تطوير التصنيف في مقامات التصرفات، وأضاف لها تقسيمات نفيسة لم يُسبق إليها، وكشف عن العلاقة الوثيقة بين المقاصد ومقامات التصرفات، وعدَّ فهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والاتباع الصحيح لرسول الله والالتزام بسنته متوقفًا على معرفة وفهم المقامات التي تصدر تصرفاته عنها، وعلى أخذ سياقاتها وظروفها ومقاصدها بعين الاعتبار.

3- يعد كلام العلامة الدهلوي أول كلام محرر في تقسيم السنة إلى ما هو تشريع وما ليس بتشريع قط أو حسب تعبيره ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة وما ليس سبيله ذلك([37])، وقد تابعه من المعاصرين الشيخ شلتوت في تقسيمه للسنة إلى ما هو تشريع وما ليس بتشريع، كما قسم الشيخ شلتوت ما هو تشريع إلى عام وخاص، وبذلك يكون سعد الدين العثماني في تقسيماته للتصرفات النبوية متابعا للعلامة الدهلوي والشيخ شلتوت.

4- الاطلاع على هذه المسيرة الغنية في التصنيف المنهجي للتصرفات النبوية يؤكد على أصالة المحاولات المستمرة لتطوير مناهج فهم السنة النبوية، وذلك بغية بثِّ الفهم الوسطي القادر على تمثل رؤية متوازنة للتصرفات النبوية بعيدًا عن أي غلو أو تقصير، ولتجديدِ مناهج التفكير الديني وترشيدِ نظريات الإصلاح السياسي، ولتجاوز عدد من الاختلالات الفكرية والمنهجية التي أصابت العقل المسلم المعاصر.

5- أهمية فهم المجتهد لمقامات التصرفات النبوية ضرورية لأنه مبلغ عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، ونائب عنه في تنزيل الأحكام؛ لذا كانت حاجته ملحة إلى العلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم لفهم مقاصد الشريعة والتمييز بين مراتب الأحكام وأنواعها وأوصافها، وهذا ظاهر من وجوه:

الوجه الأول: تقرر بالنظر إلى صنيع فقهاء التنزيل أن غاية الاجتهاد التنزيلي إصابة المقاصد الشرعية، فمن ثم كان لزاما على المجتهد التمييز بين مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن صاحب الشريعة؛ إذ به تظهر كثير من أوجه المقاصد الشرعية كما هو مقرر عند علماء المقاصد أنفسهم، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: (وللرسول صلى الله عليه وسلم صفات كثيرة صالحة لأن تكون مصدر أقوال وأفعال منه، فالناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تعيين الصفة التي فيها صدر منه قول أو فعل)([38]).

الوجه الثاني: مؤداه أن كثيرًا من المشكلات يتوقف حلها على المعرفة بهذا الموضوع، وما رسوخ الصحابة -رضي الله عنهم- العلمي وفهمهم الدقيق لمقاصد الشريعة واستيعابهم الشامل لوقائع زمانهم قضاء وفتيا وتدبيرًا إلا لأنهم (كانوا يميزون بين ما كان من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم صادرًا في مقام التشريع وما كان صادرًا في غير مقام التشريع، وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه)([39]).

6- إن جهود العلماء وضعت اللبنات الأولى لمقامات التصرفات النبوية وبينت الفرقَ الشكلي بينها وحكمَ كل مقام منها، وبقيت الفجوة الأهم في هذه الجهود هي وضع الضوابط والمحددات الدقيقة لكل مقام من المقامات بحيث يطرد التفريق بين هذا المقامات، وينتظم عِقد مفردات كل مقام، فيعرف ما كان صادرًا عن مقام النبوة أو الإمامة أو القضاء وغيره، وتظهر ثمرة أحكامه، وكيفية تنزيلها على الواقع.

إن جهود السابقين توقفت عند سرد المقامات وبيان أمثلتها تبعًا لصنيع الإمام القرافي فيها، سواء ما اتفقوا في تحديد المقام الصادر عنه فاتفقوا على حكمه، أو ما اختلفوا في تحديد المقام الصادر عنه فاختلفوا في حكمه.

إن الدور المطلوب هو استكمالُ الجهود وبذل المجهود في التفريق العملي وليس التوصيف النظري بين المقامات، وردُّ كل حديث صدر إلى مقامه الذي صدر عنه، ومعرفة حكمه على وجه الدقة، وكيف للمجتهد أن يحكم على هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بمنصب النبوة أو الإمامة أو القضاء أو غيره. وهذ المسألة غاية في الدقة والأهمية ومن الخطر بمكان، ولعل إدراك السابقين لدقتها وخطرها جعلهم يحجمون عن الخوض فيها لما سيترتب عليها من نتائج وأحكام على تصرفات النبي -صلى الله وعليه وسلم- وأقواله بمدى عمومها وخصوصها، ولذلك عبر الشيخ محمود شاكر عن ذلك بقوله: (معنى دقيق وبديع يحتاج إلى تأمل وبعد نظر وسعة اطلاع على الكتاب والسنة ومعانيها، وتطبيقه في كثير من المسائل عسير إلا على من هدى الله)([40])، وهذا الإقرار من الشيخ شاكر بصعوبة القضية واستعصائها على التحديد الدقيق وأنها فوق التنظير العام لا يعني أبدا عدم المحاولة لفك غموضها وإيضاح مشكلها وكشف مكنوناتها وسبر أغوارها، ولعل عبقريًّا من هذه الأمة ينبري لها ويحل ألغازها مستفيدا من محاولات السابقين وجهودهم المتراكمة.

وقد حاول ابن عاشور في تفصيله لهذه المراتب والأمثلة التي أوردها توضيح الفروق بينها وشرح ما يترتب عليها، كما أنه حاول أيضا أن يذكر بعض القرائن التي تمكننا من التمييز بين نص وآخر ولأي مرتبة يعود، لكنه لم يستوعب تلك القرائن ولا نص عليها في جميع المراتب، وقد ذكر أمرين مهمين في هذا الموضوع أعتقد أنهما قاعدتان أساسيتان لهذا الأمر هما:

القاعدة الأولى: (يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادرًا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك) ([41]) فكما أن الأصل في الكلام الحقيقة ولا نقول بالمجاز إلا بقرينة، والأصل في الأمر الوجوب ولا نقول بالندب أو غيره إلا بقرينة ونحو ذلك؛ فالأصل أن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام التشريع، ولا يحمل كلامه أو فعله على مقام آخر إلا بقرينة، وهذا ضابط مهم حتى لا يفتح الباب من غير ضوابط، فيأتي كل من شاء فيحمل هذا النص على ما يشتهي، وتضيع النصوص وتتعطل الأحكام.

هذا الذي ذهب إليه ابن عاشور نظير ما قرره العز بن عبد السلام في قواعده من أنه ينبغي أن يحمل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على تصرفه بالتشريع لأنه أغلب تصرفاته ما لم يدل دليل على خلاف ذلك.

القاعدة الثانية: نص عليها بقوله: (فلا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسم القرائن الحافة بالتصرفات النبوية)([42]) فهذه قاعدة مهمة، وهي بحاجة إلى اجتهاد، فاستنباط القرينة الضابطة لكل مقام أمر مهم يترتب عليه تحديد النص من أي صنف هو من تلك المراتب النبوية.

7- إن عدم التمييز بين مقامات التصرفات النبوية والجهل بالفروق بينها أدى إلى انتشار الفهم الظاهري والحرفي لأقوال النبي وتصرفاته، وفتح باب التشدد والغلو في التعامل مع التصرفات النبوية، ونتج عنه أساليب في الدعوة والتغيير أساءت لسمعة المسلمين، وأضرت بمسيرة العمل الإسلامي، وأعادت المصلحين إلى مربع الدفاع لإزاحة فرية الإرهاب عن هذا الدين، وقد لحق الضر بالعقل المسلم وفهمه للدين والالتزام به وتنزيله على الواقع، فالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحقق إلا بمعرفة أن الأقوال والأفعال والتقريرات النبوية التي صدرت عن الرسول من مقام التشريع والاتباع، وما صدر من مقامات أخرى يحتاج إلى تدقيق وتعميق لفهمه والوقوف على وجه الاقتداء فيه.

إن من الضروري نشر العلم بتنوع التصرفات النبوية وبث الوعي بقواعدها والتمييز بينها محافظةً على سنة رسول الله من الخلل في فهمها والعبث في تنزيلها والجهل في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يؤدي إلى سلسلةٍ متوالية من الاختلالات في التفكير الديني، وتشويهٍ لأحكام الشريعة وإفساد لمناهج التعامل الصحيح مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهنا أؤكد على أن فهم التصرفات النبوية والتمييز بين مقاماتها مدخل أساسي لإعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر، وإعادة ترتيب موازين وأولويات الإصلاح المعاصر، وتصويب مناهج التفكير، وترشيد العمل الإسلامي الدعوي والسياسي، وقيام نهضة فقهية اجتهادية تواكب تطورات العصر وتراعي مصالح الناس، وتسهم في الرقي الحضاري من غير زيغ عن قواطع الشريعة أو افتئات على السنة النبوية.

وأذكِّر بأن البحث العلمي في التصرفات النبوية ما زال ممكنًا، وبعض جوانبها تحتاج لعبقري يسبر غورها ويكشف غموضها ويظهر مكنونها، خاصة ما يتعلق بوضع ضوابط مطردة للتفريق بين المقامات، وتصنيف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وَفْقَها بهدف الوصول إلى تجديد حقيقي في الفهم والتنزيل.

 

 

([1]) ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار المعارف القاهرة، 4/2434.

([2]) العثماني، سعد الدين – تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة، ص8.

([3]) التصرفات النبوية على موقع رؤية بيديا، تاريخ الزيارة:31/5/2020م، http://www.roayapedia.org

([4]) عبد السلام زهير: أثر معرفة التصرفات النبوية في التعامل مع الحديث فقها وتنزيلًا، ص31.

([5]) مسلم (ابن الحجاج)، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ط، د.ت، ح1408، ج2،ص1029.

([6]) صحيح مسلم، ح1450،ج2، ص1073.

([7]) أخرجه الترمذي: السنن، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، ح2110، ج3، ص497. وأخرجه ابن ماجه: السنن، كتاب الديات، باب الدية على العاقلة فإن لم يكن عاقلة ففي بيت المال، ح2366، ج2، ص879. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى، باب توريث المرأة من دية زوجها،ح6329، ج6، ص119.

([8]) ابن قتيبة: (عبد الله بن مسلم)، تأويل مختلف الحديث، مؤسسة الإشراق للنشر، ط2 – 1999م، ص283.

([9]) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، ح: 1349.

([10]) من أمثلة هذا النوع ذكر ابن قتيبة جملة من الأحاديث النبوية: (وقال في العمرة: ((ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأهللت بعمرة)). أو قال في صلاة العشاء: ((لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين)) ثم قال: ((إني نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ثم بدا لي أن الناس يتحفون ضيفهم ويحتبسون لغائبهم، فكلوا وأمسكوا ما شئتم)) وقال: ((ونهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هجرًا؛ فإنه بدا لي أنه يرق القلوب، ونهيتكم عن النبيذ في الظروف، فاشربوا ولا تشربوا مسكرا))، وقال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فرأى رجلًا معه نبيذ في نقير، فقال: ((أهرقه)). فقال الرجل: (أو تأذن لي أن أشربه ثم لا أعود؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشربه ولا تعد)).

([11]) ابن قتيبة- تأويل مختلف الحديث، ص286.

([12]) ابن قتيبة- تأويل مختلف الحديث، ص287.

([13]) ابن حزم الظاهري- الإحكام في أصول الأحكام، 1/114.

([14]) ابن حزم الظاهري- الإحكام في أصول الأحكام، 1/120.

([15]) ابن حزم الظاهري- الإحكام في أصول الأحكام، 5/128-129.

([16]) القاضي عياض- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفيحاء عمان، 1407هـ،1/35.

([17]) المصدر السابق، 2/286.

([18]) المرجع نفسه، 2/311.

([19]) المصدر نفسه، 2/418.

([20]) صحيح البخاري، كتاب الأحكام: باب موعظة الإمام، ح7169.

([21]) المصدر السابق، ح4907.

([22]) المرجع نفسه، ح1586.

([23]) ابن عبد السلام، عبد العزيز- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار المعارف بيروت، 2/121.

([24]) أبو غدة، عبد الفتاح- مقدمة كتاب القرافي الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، مكتب المطبوعات، سورية، 1995م، ص22-23.

([25]) القرافي- الفروق، 1/205.

([26]) المصدر السابق.

([27]) القرافي- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص199.

([28]) السبكي تاج الدين وَعلي بن عبد الكافي، الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي، دار الكتب العلمية، لبنان،1995م، 2/264-265.

([29]) الدهلوي، ولي الله- حجة الله البالغة، دار الكتب العلمية، لبنان، 1994م، 1/128-129.

([30]) ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، 2/257.

([31]) المصدر السابق، 3/87.

([32]) المرجع نفسه، 3/99.

([33]) القرافي- الفروق، 1/205-206.

([34]) ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، 3/99.

([35]) ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد،

([36]) العثماني، سعد الدين- تصرفات الرسول بالإمامة، الدلالات المنهجية والتشريعية، ص21، 42.

([37]) يوسف القرضاوي، السنة مصدرا للمعرفة والحضارة، ص 36.

([38]) ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، 3/87.

([39]) المصدر السابق، 2/238.

([40]) شاكر، محمود- تحقيق الرسالة للشافعي، ص242.

([41]) ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، 3/136.

([42]) المصدر السابق، 3/134.