الدكتور: أيمن يزبك – دكتوراه في التاريخ الإسلامي – محاضر في جامعة دمشق سابقًا
تُعد المدرسة القادرية إحدى أهم المراكز العلمية التي لعبت دورًا فعّالاً في حركة الإصلاح والتجديد في مرحلة من الزمن سمّاها بعض الباحثين المعاصرين عصر الجمود، وكان بعض الحكام ممن قادوا حركة الإصلاح والتجديد أمثال نور الدّين زنكي وصلاح الدّين الأيّوبي يعتمدون عليها في رفدهم بالأجيال الواعية لبناء مشروعهم النهضوي وإتمام مسيرة الإصلاح… وقد أمدَّت هذه المدرسة الأمّة الإسلاميّة بكوادرَ علميّة تعدى تأثيرها جغرافية العالم السني ووصلوا إلى مناطق النفوذ الشيعي، وأسهموا بشكل فعّال في التّحول السياسيّ والفكريّ لتلك الشعوب… والحديث هنا يدور عن حياةِ مؤسس هذه المدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني ودوره التربوي والتعليمي، وعن بناء مشروع النهضة الذي بدأه الوزير نظام الملك الطوسي وأكمله نور الدين وصلاح الدين ومعهم ثلةٌ من العلماء، وعن الخطوط التي سارت عليها حركة الإصلاح والتجديد.
وسيكون الحديث عن الإمام الجيلاني ومنهجه الإصلاحي من خلال خمسة مباحث، الأول: أُعَرفُ فيه بأمور الشيخ العامة، والثاني: أتحدث فيه عن منهجه في البناء العقائدي لتلامذته، وأما في المبحث الثالث: فأتحدث فيه عن مفهوم التصوف عند الشيخ إذ كان أبرز ما اشتهر به منهجه الإصلاحي، وأما المبحث الرابع: فتكلمْت فيه عن معالم الطريقة القادرية وأهم ما يتعلمه المريد فيها، وأما المبحث الخامس والأخير : فعرفْت فيه بأهم المدارس القادرية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ونبذة عن حياة مؤسسيها، ثم عقبت ذلك بخاتمة فيها أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
اسم الإمام ونسبه وشيوخه ومكانته العلمية
هو أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي شيخ بغداد، لقبه محي الدين ([1]) ، مولده في جيلان([2]) من بلاد ما وراء طبرستان عام 471هـ/1078م، وفيها كانت نشأته وبداية طلبه للعلم.
وقد نشأ في كنف أسرة عُرفت بالزهد والصلاح والتقوى، وقد وصف الشيخ عبد القادر عائلته بقوله: (أهَّلني الله عز وجل ببركات متابعتي للرسول صلى الله عليه وسلم وبري بوالدي ووالداتي رحمهما الله عز وجل، والدي زاهد في الدنيا مع قدرته عليها ووالدتي وافقته على ذلك ورضيت بفعله، كانا من أهل الصلاح والديانة والشفقة على الخلق) ([3]).
وفي سن الشباب رحل الشيخ إلى بغداد عام 488هـ/1095م، وهي يومئذ ملتقى العلماء، حيث تتلمذ على شيخه في المذهب ابن عقيل الحنبلي وعنه أخذ فقه المذهب، كما تتلمذ على الشيخ أبي سعيد المخرّمي صاحب المدرسة.
عاش عبد القادر الجيلاني تسعين سنة وتوفي عام 561هـ/1165م، وكان كثير الولدان فكان له من الذكور سبعة وعشرون ومن الإناث واحد وعشرون، وكان من أولاده أحد عشر حملوا رسالته وفقهه إلى العالمين.
حظي الشيخ الجيلاني بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ممّن جاء بعدهم فقال عنه السمعاني: – وهو من معاصريه – (إمام الحنابلة في زمانه)، وقال عنه الذهبي [ت748هـ]: (الشيخ الإمام العالم الزّاهد العارفُ القدوة شيخ الإسلام وعلم الأولياء ومحي الدين)([4])، وقال ابن رجب [ت795هـ] في وصفه: (شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ صاحب المقامات والكرامات)([5]).
وقد كابد الشيخ الجيلاني مصاعب الحياة في سبيل طلب العلم الشرعي الذي سيؤهّله فيما بعد للانضمام لصفوف عظام الدعاة المنافحين عن دين الله وشريعته والـمُثَبِّتين لمذهب أهل السنة والجماعة… ولم يكن الإمام عبد القادر بدعًا في ذلك، فقد أصابه من المشقة والعنت ما أصاب الذين سبقوه في العلماء العاملين كابن جرير الطبري وأبو حاتم الرازي ونظام الملك والغزالي.
وقد وصف الإمام الجيلاني معاناته في سبيل طلب العلم فقال: (وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يومًا من شدة الجوع إلى الشط لعلي أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوّت به. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد سبقني إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حُبًّا، فرجعت أمشي وسط البلد لا أدرك منبوذًا إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين ببغداد وقد أجهدني الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمي ومعه خبزٌ صافٍ وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح فمي من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسي: فقلت ما هذا؟ وقلت: ما ههنا إلا الله أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجمي فرآني فقال: بسم الله يا أخي! فأبيت فأقسم علي فبادرت نفسي فخالفتها فأقسم أيضًا فأجبته، فأكلت متقاصرًا، فأخذ يسألني: ما شغلك؟ ومن أين أنت؟ وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقّهٌ من جيلان! فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابًّا جيلانيًّا يسمى عبد القادر يُعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ فقلت: أنا هو، فاضطرب وتغير وجهه وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد معي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت عقَّتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي، إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيبًا فإنما هو لك وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمُّك وجهت لك معي ثمانية دنانير فاشتريت منها هذا للاضطرار، فأنا معتذر إليك! فسكَّتُّه وطيّبتُ نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئًا من الذهب برسم النفقة فقبله وانصرف) ([6]).
استقى الشيخ عبد القادر العلم والمعرفة من ينابيع عدة، وكان أولها في بغداد:
أ- شيخه أبو سعيد: المبارك بن علي المخرمي شيخ الحنابلة، وهو الذي بنى مدرسة في باب الأزج وجلس فيها للتدريس ثم تولى المهمة بعده تلميذه عبد القادر ، وكانت وفاة أبي سعيد عام510هـ/1116م([7]).
ب- أبو الوفاء علي بن عقيل بن عبد الله البغدادي شيخ الحنابلة في عصره، وصاحب التصانيف وصفه الذهبي بقوله: (بحر المعرفة)([8]).
ج- حماد بن مسلم الدبّاس، وكان على درجة عالية من العلم والاستقامة وقد تحدث عنه ابن تيمية حيث ذكره وتلميذه الجيلاني بقوله: (فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشايخ أهل الاستقامة – رضي الله عنهم – بأنه لا يريد السالك مرادًا قطُّ، وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها بل يجري فعله فيه فيكون هو مراد الحق)([9]).
د- أبو محمد جعفر بن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد، وصاحب التصانيف كان من يلتقي به من التلاميذ، ويأخذ عنه يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بين طلبة العلم([10]).
ه- أبو عبد الله يحيى بن الإمام أبي علي الحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي، وكان من أكثر من أثنى عليه من العلماء وذكروا فضائله كبنائه للمساجد([11]).
يلاحظ من ذكر هؤلاء أن الإمام عبد القادر الجيلاني قد أخذ فقه الحنابلة عن أكثر من شيخ مما جعله على قدر كبير من العلم والإحاطة بفروع المذهب واجتهادات أئمته ومصنفاتهم في ذلك.
ومن رحم المعاناة وضيق الفاقة وُلِد هذا الفقيه النحرير الشيخ عبد القادر الجيلاني فقيهًا محدّثًا مفسّرًا واعظًا جمع بين صنوف العلم والتبحر فيها، وتشهد له تصانيفه بذلك إضافة إلى ثناء كبار علماء الإسلام عليه، فهذا تلميذه موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب المغني يقول: (دخلنا بغداد سنة ( 561هـ ) فإذا الشيخ الإمام محي الدين عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علمًا وعملًا وحالًا وافتاءً، وكان يكفي طالب العلم عن قصده غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين وجمع الله فيه أوصافًا جميلة وأحوالًا عزيزة، وما رأيت بعده مثله وكل الصيد في جوف الفراء)([12]).
وهذا ابنه عبد الوهاب الذي ورث أباه عبد القادر في المذهب، يقول: (كان والدي رحمه الله يتكلم في الأسبوع ثلاث مرات بكرة الجمعة وعشية الثلاثاء وبالرباط بكرة الأحد، وكان يحضره العلماء والفقهاء والمشايخ وغيرهم، ومدة كلامه على الناس أربعون سنة أولها 521هـ وآخرها 561هـ، ومدّة تصدره للتدريس والفتوى بمدرسته 33 سنة أولها 528هـ، وآخرها561هـ، وكان يكتب ما يقول في مجلسه أربعمائة محبرة) ([13]).
وأثنى عليه ابن تيمية ثناءً جميلًا فقال: (الشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، من أعظم المشايخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية) ([14]).
المبحث الثاني
منهجه في العقائد
لقد تميز منهج الإمام في عرض العقيدة الإسلامية بالبساطة والصفاء الذي كانت عليه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصدر الأول من السلف قبل أن تدخلها الجدليات التي لحقت بهذا العَلَم فيما بعد… وكان الإمام محبًّا لمنهج السلف وكان على منهج أهل الحديث في العقائد وخصوصًا منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويتجلى ذلك في قوله: (قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله وأماتنا على مذهبه أصلًا وفرعًا وحشرنا في زمرته)([15])، وكان يتحدث أيضًا عن السلف فيقول: (عليكم بالاتباع من غير ابتداع عليكم بمذهب السلف الصالح امشوا في الجادة المستقيمة)([16]).
كان الإمام الجيلاني يرى أن توحيد الله يأتي بالفطرة، وهو ينبع من أعماق النفس البشرية، وفي هذا يقول: (النفس بأجمعها تابعة لربها موافقة له إذ هو خالقها ومنشئها وهي مفتقرة له بالعبودية)، ثم يبين الجيلاني رأيه في أن معرفة الإنسان لربه في المرحلة الثانية بعد الفطرة تكون من خلال تأمله في آيات الله في الكون والنفس، حيث يقول الجيلاني: (أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد فرد صمد… لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا نَّد ولا مشير)([17])، وهذا كما في قوله تعالى: {ليس كمثلهِ شيء وهو السميع البصير} [سورة الشورى: الآية 11}، وهذا تمام التوحيد.
ويُتابع الشيخ الجيلاني قوله: (إن الواجب على من أراد الدخول في دين الإسلام أن يتلفظ بكلمة التوحيد، وأن يتبرّأ من كل دين غير الإسلام معتقدًا بقلبه وحدانية الله…)([18]).
وأما عن قوله في الإيمان فكان لا يخرج عن قول جمهور السلف الصالح في ذلك حيث يقول: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان، وهذا هو القول المعتمد عند السلف الصالح)، وفي موضع آخر يقول الجيلاني: (الإيمان قول وعمل: فالقول دعوى والعمل هو البيّنة، والقول صورة والعمل روحُها)، ويقول أيضًا: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية)([19])، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {فأما الذين امنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون} [سورة التوبة: آية 124] وقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} [سورة الأنفال: آية 2] .
لم يكن الإمام عبد القادر من محبّي علم الكلام ولا من الخائضين فيه بل كان يعارضه بشدّة، وكان يتمثّل بقول الإمام أحمد بن حنبل وهو: (لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيْء من هذا إلّا ما كان في كتاب الله عز وجل أو حديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم أو عن التابعين، فأمّا غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود)([20]).
وقد التزم الجيلاني منهج التفويض بما جاء في الكتاب والسنة بخصوص صفات الله حيث يقول: (ولا نخرج عن الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونَكِل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل)([21])، ويقول أيضا: (انفوا ثم أثبتوا، انفوا عنه مالا يليق به، وأثبتوا له ما يليق به، وهو ما رضيه لنفسه ورضيه له رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا فعلتم هذا زال التشبيه والتعطيل من قلوبكم)([22]).
لقد وافق الجيلاني علماء السلف فيما ذهبوا إليه حول شرط قبول العمل وهو الإخلاص لله أولًا ثم الاتباع أي موافقة العمل للسنة وفي هذا يقول: (إذا عملت هذه الأعمال – يعني الإتيان بالأوامر وترك النواهي – لا يقبل منك إلا الإخلاص فلا يقبل قول بلا عمل، ولا عمل بلا إخلاص وإصابة السنة) ويقول في موضع آخر: (وجميع ما ذكرناه من صيام الأشهر والأضحية والعبادات من الصلاة والأذكار وغير ذلك لا يقبل إلا بعد التوبة وطهارة القلب وإخلاص العمل لله تعالى وترك الرياء والسمعة) ثم يستشهد على وجوب الإخلاص بقول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [سورة البينة: آية 5] وقوله سبحانه (ألا لله الدين الخالص) [سورة الزمر: آية 3] ثم ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه الغنية أقوال العلماء في الإخلاص مبيّنًا منهجه الذي لا ينفصل عن منهج السلف الصالح، ومن ذلك قول سعيد بن جبير [ت96هـ} (الإخلاص أن يخلص العبد دينه لله وعمله لله تعالى، ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدًا)([23]).
ومن أبرز ما خالف به الجيلاني فرق الخوارج والمعتزلة حكم مرتكب الكبيرة، فأهل السنة والجماعة يرونه فاسقًا لا تخرجه الكبيرة من ملة الإسلام، وإنما هو واقع تحت رحمة الله في الآخرة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ويقول الشيخ الجيلاني في هذا: (ونعتقد أن من أدخله الله النار بكبيرته مع الإيمان فإنه لا يخلد فيها بل يخرجه منها؛ لأن النار في حقه كالسجن في الدنيا يستوفى منه بقدر كبيرته وجريمته ثم يخرج برحمة الله تعالى ولا يخلد فيها) ثم يتابع قائلاً: (ونعتقد أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرةً من الكبائر والصغائر لا يكفُر بها، وإن خرج من الدنيا بغير توبة، إذا مات على التوحيد والإخلاص)([24]).
هذه باقة من عقائد الإمام الجيلاني نلحظ من خلالها الالتزام الكامل بعقيدة أهل السنة والجماعة ومفاهيمهم على طريقة السلف مع البعد عن كل ما قد لحق ببعض العلوم الإسلامية من جَدَليّات لا طائل منها… وهذا هو المنهج التي قامت عليه مدرسة الشيخ عبد القادر وحملها تلاميذه إلى أرجاء العالم الإسلامي فكانوا خير قادة لحركة الإصلاح والنهوض السني.
المبحث الثالث
مفهوم التصوف عند الشيخ الجيلاني
قال الجيلاني في معرِض حديثه عن التصوف :(التصوف هو الصدق مع الحق وحسن الخُلقُ مع الخَلْق)([25])، وعرّفه أيضاً بقوله: (هو تقوى الله وطاعته ولزوم ظاهر الشرع وسلامة الصدر وسخاء النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى وتحمّل الأذى والفقر وحفظ حُرمات المشايخ والعشرة مع الإخوان والنصيحة للأصاغر والأكابر وترك الخصومة والإرفاق، وملازمة الإيثار ومجانبة الادّخار وترك صحبة من ليس من طبقتهم والمعاونة في أمر الدين والدنيا).
يوضح الشيخ الجيلاني معالم التصوف الحقيقي، والذي لا يحيد عن منهج سلفنا الصالح مبينا ذلك في ثمان صفات هي: 1- السخاء 2- والرضى 3- والصبر 4- وسرعة الفهم بالإشارة 5- وصفاء النفس 6- واصطفاؤها، 7- والتأمل والتفكر في آيات الله في الكون والنفس ويسميها الصوفية السياحة، 8- وأخيرًا الفقر ويكون فيه العبد ذليلًا منكسرًا بين يدي ربه معتمدًا عليه مخلصًا في دعائه وتضرعه.
وهذه المعاني أو الصفات إذا تحققت في العبد بلغ مرحلة الاصطفاء كما يرى الشيخ الجيلاني، فالصوفي عنده (من صفاء النفس أو العبد الذي أصبح صافيًا من آفات النفس خاليًا من مذموماتها سالكًا لحميد مذاهبه ملازمًا للحقائق غير ساكن إلى أحد من الخلائق)([26])؛ ولذلك وضع معنى اصطلاحيّا للصوفي بقوله: (الصوفيّ من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والصوفي الصادق في تصوفه يصفو قلبه عما سوى مولاه عز وجل، وهذا شيء لا يجيء بتغيير الخرق وتعفير الوجوه وجمع الأكتاف ولقلقة اللسان وحكايات الصالحين وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل، وإنما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل والزهد في الدنيا وإخراج الخلق من القلب وتجرّده عمّا سوى مولاه عز وجل)([27]).
ومن هذه المعاني والمفاهيم وضع الشيخ الجيلاني كتابين يانعين ما تعين هما :(الغنية) و (فتوح الغيب) ،واللذان كانا منهاجًا لمدرسة تربوية سعى من خلالها لتنقية التصوف من شوائب البدع والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن التصوف الأصيل… فالفهم الصحيح ينتج عنه سلوك صحيح، ولا يكون هذا إلا من خلال تهذيب النفس وتنشئتها على الأخلاق الحميدة والعقيدة الصحيحة؛ لذا قرر الجيلاني على تلاميذه جملة من الآداب والواجبات التي تنقي النفس وتسمو بها إلى مراتب الصفاء الروحي والنفسي وهي: التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما كمنهج عملي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق مع الله وإخلاص العمل له ومجاهدة النفس في سبيل مرضاته وصحبة الصالحين؛ لأن في صحبتهم حفظًا للنفس من التقصير في الطاعة، وترك أصحاب القيل والقال والابتعاد عن مجالسهم، والتحلّي والاتّصاف باليقين والكرم، فبهما تسمو النفس فلا تخشى قلة بعد عطاء وبذل، وتهذيب النفس عن طريق الجوع والحرمان فلا تُلبّى بكل ما تطلبه، وفي هذا يقول الشاعر: (والنفس راغبةٌ إذا رغّبتها —- وإذا تردُّ إلى قليلٍ تقنعُ}
كما كان يأمر تلامذته بالابتعاد عن مجالس الشهرة كي لا يصل العُجبُ إلى النفس فيدخلها الهوى وحُب الظهور، وأن يتضرع الفرد منهم دائمًا إلى الله بأن يستره ويعينه على ترك الذنوب والمعاصي وأن يرزقهُ التوفيق والصلاح، ويأمرهم بالإيثار وهو أن يؤثِر المريد أقرانَه على نفسه فلا يتقدمهم في مجلس شيخ ولا في بيت عالم وأن يكرمهم قدر المستطاع، وعلى المريد أن يتعلم كظم الغيظ والمسارعة في الصفح والعفو، وتناسي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم، كما أن من أدب العلم ملازمة الشيوخ ونيل الرضا والتودد إليهم… كما على كل منهم أن يعامل الناس على قاعدة الحب في الله والبغض فيه، يقول الشيخ الجيلاني موضّحًا ذلك: (إذا وجدت في قلبك بغض شخص أو حبَّه فاعرض أعماله على الكتاب والسنة، فإن كانت فيهما مبغوضة، فأبشر بموافقتك لله عز وجل ولرسوله، وإن كانت أعماله فيهما محبوبة وأنت تبغضه، فاعلم بأنك صاحب هوى تبغضه بهواك ظالمًا له ببغضك إيّاه وعاصيًا لله عز وجل ولرسوله مخالفًا لهما فتُبْ إلى الله عز وجل)([28]).
هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيلاني من التصوف ومفهومه ومقاصده، تصوف يسمو بالعبد إلى أعلى درجات العبودية لله موقنًا حقّ اليقين أنه لا معبود بحق سوى الله، ومترجمًا هذا بسلوكه مع نفسه ومع الناس ومع البيئة المحيطة به زاهدًا بمتاع الدنيا، وليس الزهد الذي يغيّب صاحبه عن هموم أمته والنظر في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى واحدًا من أفراد الأمة يصيبه ما يصيب المسلمين، ولا يظن نفسه بمنأًى عمّا ينزل فيها من بلاء.
المبحث الرابع
الطريقة القادرية وتصحيح المفاهيم
يُعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني من أول وأشهر من نظّم الصوفيَّة في جماعاتٍ مُمنهجَة تسير وفق طريقة منضبطة، تضبط سلوك المريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك الاثنين مع الناس والبيئة المحيطة بهم، ويتجلى ذلك في وصيته لابنه عبد الرزاق حيث قال: (أوصيك بتقوى الله، وطاعته ولزوم الشرع وحفظ حدوده، وأعلم يا ولدي – وفقنا الله وإياك والمسلميـن – أن طريقتنا هذه مبنيّةٌ على الكتاب والسنة وسلامة الصدر وسخاء اليد وبذل الندى وكف الجفا وحمل الأذى والصفح عن عثرات الإخوان).
وقد أصّل الجيلاني لطريقته تأصيلًا يقوم على الكتاب والسنة ولا يحيد فيه عن فهم سلف الأمة، حيث يقول في وصيته: (أدخل الظلمة بالمصباح وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن خطر خاطر أو جدّ الهامٌ فاعرضه على الكتاب والسنة؛ فإن وجدت فيهما تحريم ذلك مثل أن تلهم الزنا والرياء ومخالطة أهل الفسق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك وأهجره ولا تقبله ولا تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين)([29]).
كان الشيخ الجيلاني كثيرًا ما يحثّ أتباع طريقته على وجوب الأمر بالمعروف، واجتناب ما نهى اللهُ عنه والاستسلام والتسليم لهُ بقضائه فلا مرد لقضائه، ولكنه سبحانه يلطف بالناس بقدر دعائهم وتضرعهم لهُ عز وجل، فكان يقول لتلاميذه: (لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمر يمتثله ونهي يجتنبه وقدر يرضى به، فأقل حالة المؤمن لا يخلو فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي أن يُلزم همَّها قلبَه ويحدِّث بها نفسه ويؤاخذ الجوارح بها في سائر أحواله)([30]).
اتّبع الشيخ الجيلاني أسلوب الوعظ والإرشاد والنصح والغيرة على عباد الله وحمل همهم وهم آخرتهم، لذلك ازداد التفاف الناس حوله، وكان يقول لهم: ( ألا إني راع لكم ساق لكم ناطور لكم، ما ترقيت ها هنا وأرى لكم وجودًا في الضر والنفع بعد ما قطعت الكل بسيف التوحيد… حمدكم وذمكم وإقبالكم وإدباركم عندي سواء، كمْ مَن يذمني كثيرًا ثم ينقلب ذمه حمدًا، كلاهما من الله لا منه، إقبالي عليكم لله أخذي منكم لله لو أمكنني دخلت مع كل منكم القبر وجاوبت عنه منكرًا ونكيرًا رحمة وشفقة عليكم).
بهذه المعاني ربّى الجيلاني أتباعه، وغرس في نفوسهم مفهوم الإخاء والبذل والعطاء، والتناصح والشفقة وحسن التعامل وطيب الكلام، وتجريد النفس عن الهوى، وانقيادها لخالقها وباريها بصدق وإخلاص، وقد وصل صدى وعظ الإمام إلى قلوب جماعة الأحداث وقطاع الطرق، فأسلم من لم يكن مسلمًا وتاب على يده من نسي دينه حتى قال الجيلاني: (وتاب على يدي من العيّارين والمسالحة أكثر من مائة ألف، وهذا خير كثير)([31])، ولذلك انتشرت طريقة الشيخ، وحيث ما توزع أتباعه ووصلوا وجدت طريقته بمعانيها وأسسها البسيطة والخالية من أي فكر فلسفي معقد الكثير من الأتباع المخلصين… وقد كان الشيخ كثيرًا ما ينهى أتباعه عن الفلسفة ويحذرهم من خطر دخولها على النفس والعقل.
المبحث الخامس
المدرسة القادرية وفروعها في البلدان
لقد كانت المدارس الدينية هي المراكز التي انتشر منها منهج الإمام التربوي والإصلاحي، وكانت هذه المدارس محطاتً متخصصة في صناعة الوعي وتربية الجيل على الإيمان والعلم والاستعداد لخدمة الأمة… وسأعرض الآن لبناء المدرسة القادرية الأولى وأهم فروعها في المدن والأرياف.
منذ أن جلس الشيخ عبد القادر الجيلاني للتدريس وارثًا شيخه أبا سعيد المخرمي في مدرسته صار المكان يضيق بالمجتمعين من شدة الازدحام وكثرة إقبال الناس على مجلس الشيخ الجيلاني، حتى خرج بهم إلى سور بغداد الجنوبي… وهناك أقام الإمام مدرسته الجديدة التي عرفت باسم (المدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم كلٌّ يبذل ما استطاع لبناء المدرسة حبّا وكرامة وتقديرًا وإجلالًا للإمام ومنهجه… فهذا الغني يتصدق بماله ويستأجر العمال، وهذا الفقير المعدوم الذي لا يجد قوت يومه يبذل نفسه وجهده، حتى المرأة كانت تتصدق بمهرها لزوجها مقابل أن يعمل في بناء المدرسة، في مشهد من التكافل والتعاون والتآزر والتلاحم والتكاتف عَكَسَ روح العمل الجماعي الذي أثمر عن إنشاء وتشييد صرح علمي غدا مع الزمن مركز إشعاع دعوي رفد الأمة الإسلامية بالكثير من الدعاة اللذين كان لهم دور كبير في بناء المدارس وتوحيد الأمة، ورفد مشروع الزنكيين والأيوبيين لحماية الدين ومواجهة كلٍّ من الخطر الصليبي والرافضي على السواء… لذلك عمل الشيخ الجيلاني بعد إتمام بناء المدرسة عام (528هـ/1133م) على استقبال كل من يقصد هذه المدرسة من طلبة العلم القادمين من كل أنحاء العالم الإسلامي، وتوفير كل ما يلزم طالب العلم من مسكن ومأكل وملبس ومستلزمات الدراسة ومرتب يعين به أهله، حتى كبار السن كانت لهم مجالس تعليم خاصة بهم… كل ذلك من أجل أن يصل العلم الشرعي للكبار والصغار فيُقضى على الأميَّة ،ويتبدَّد الجهل، فتستنير قلوب الناس بنور العلم والمعرفة ويعرف المرء ما هو أصل دينه وما ليس من دينه.
وصار الشيخ عبد القادر يعد الكوادر ويهيِّئُها للعمل الدعوي وفق منهج مؤصّل واضح حتى يوصلوا هذا المنهج إلى مناطقهم، وكان اهتمام الجيلاني يتركز على الأرياف أكثر من المدن التي تكثر فيها المدارس ومراكز الدعوة، وأكثر أهل العلم يقطنون فيها بخلاف الأرياف التي تكون مراكز التعليم فيها أقل… ومن أجل هذا كان الطالب يُعَدُّ إعدادًا صحيحًا منضبطًا ثم يُرسل إلى منطقته كي ينشئ فيها فرعًا للمدرسة القادرية ومنهجها المؤصل.
أسسها عدي بن مسافر، وهو ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ الْهَكَّارِيُّ، مؤسس الطريقة العدوية أصله من بعلبك غرب دمشق من قرية فيها تسمى بيت نار، وقد اختلف المؤرخون في عام مولده ولكنهم اتفقوا على تاريخ وفاته 557هـ وهو المهم([32])، وحظي بألقاب كثيرة عند العلماء ومنها قطب المشايخ وبركة الوقت وقدوة العلماء([33]).
ومن بعلبك ارتحل الشيخ عدي إلى بغداد، وفيها حضر مجالس شيخه حماد الدبّاسي الحنبلي والشيخ عقيل المنبجي([34])، كما التقى بالشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أبي الوفاء الحلواني والشيخ أبي نجيب السهروردي([35])، حدث عنه الحافظ عبد القادر الرهاوي الذي صاحب عدي بن مسافر زمنًا طويلًا فوصف لنا حاله وأحواله حيث يقول:
(ساح سِنين كثيرة، وصحِب المشايخ، وجاهد أنواعًا من المجاهدات، ثُمَّ إنّه سكن بعض جبال المَوْصِل فِي موضع ليس به أنيس، ثُمَّ آنسَ اللَّه تلك المواضع به وعمّرها ببركاته حَتَّى صار لا يخاف أحدٌ بها بعد قطْع السّبيل، وارتدع جماعة من مفسدي الأكراد ببركاته، وعمّره اللَّه حَتَّى انتفع به خلْق وانتشر ذِكره، وكان معلّمًا للخير ناصحًا، متشرّعًا، شديدًا فِي أمر اللَّه، لا تأخذه فِي اللَّه لومةُ لائم، عاش قريبًا من ثمانين سنة… ورأيته إذا أقبل إلى القرية يتلقّاه أهلها من قبل أن يسمعوا كلامه تائبين، رجالهم ونساؤهم إلا من شاء الله منهم، ولقد أتينا معه على دَيْرٍ فِيهِ رُهْبان فتلقّاه منهم راهبان، فَلَمّا وصلا إلى الشَّيْخ كشفا رأسيهما وقَبّلا رِجْلَيه وقالا: ادْعُ لنا فما نَحْنُ إلا فِي بركاتك وأخرجا طبقًا فِيهِ خُبْزٌ وعَسَل فأكل الجماعة)([36]).
بهذه الصفات والأحوال التي عُرفت عن الشيخ عدي أقام مدرسة سلوكية تعنى بتزكية القلوب وتهذيب النفوس، ورُبِّيت فيها أجيال عدة من أبناء الكرد وغيرهم من أبناء المناطق المجاورة، وقد عرفت هذه المدرسة بعد ذلك بالمدرسة العدوية نسبة لمؤسسها حيث تخرج منها أعداد جمة من الأكراد الذين عملوا في خدمة الدولتين الزنكية والأيوبية، ومن أعلام هذه المدرسة أسرة صلاح الدين الذي طال انتظار القدس له في حينها، وما زالت القدس تنتظر في زماننا مثله… وكان عدي بن مسافر يحرص على تعليم أتباعه نهج التصوف المبني على صفاء النفس واصطفائها والعقيدة المبنية على الكتاب والسنة والتي تلقاها عن شيخه عبد القادر الجيلاني وفي مدرسته القادرية، لذا وضع لأتباعه كتابين هما (عقيدة أهل السنة والجماعة) وكتاب (الوصاية) كمنهج تعليمي تربوي في مدرسته… وبعد وفاة الشيخ بزمن توزع أتباعه في الأمصار والتحق قسم كبير منهم بجيوش الأيوبيين…
وهي مدرسة عثمان بن مرزوق القرشي الحنبلي الفقيه الزاهد، وصفه الشعراني صاحب الطبقات بقوله: (من أكابر مشايخ مصر المشهورين، وصدور العارفين، وأعيان العلماء المحققين صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الفاخرة والأفعال الخارقة والأنفاس الصادقة، وهو أحد العلماء المصنفين والفضلاء المفتين أفتى بمصر على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، ودرس وناظر وأملى وخرق الله تعالى له العوائد وقلب له الأعيان).
والإمام القرشي هو أحد أصحاب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان قد اجتمع به في بغداد في جملة من جمعهم الشيخ الجيلاني للتباحث والتشاور في أمر إصلاح المجتمع وبثِّ روح السنة في نفوس الناس([37])، فكان الشيخ عثمان قد أخذ على عاتقه إحياء النشاط السني في مصر، – وكانت مصر يومئذٍ تحت حكم العبيديين – ولم يكن الشيخ عثمان أول السابقين في هذا المجال بل قد مهد له ولغيره الفقيه أبو بكر الطرطوشي ابن نظاميَّة بغداد، والذي أوقد شعلة المذهب السني في مصر أوائل القرن السادس الهجري والحادي عشر الميلادي، وجاءت جهود عثمان بن مرزوق القرشي متممة لجهود سابقيه فعقد مجالس الوعظ والفقه والتفسير وكانت مجالسه تزدحم بالمستمعين وطلاب العلم، وراح يلقنهم معاني التربية الروحية والسلوكية والفكرية… حتى استخلص لنفسه ثلَّة من طلابه أعتمد عليهم في نشر أصول السنة والوعي الديني، ومنهم ابن القسطلاني وأبو الطاهر وابن الصابوني وأبو عبد الله القرطبي، كما كان لابن مرزوق دورٌ كبيرٌ في تثبيت حكم نور الدين زنكي في مصر من خلال حشد التأييد الشعبي له عند مجيء أسد الدين شيركوه([38])… لكن لم يقدر لهذا الشيخ الفقيه الواعظ أن يشهد سقوط الدولة العبيدية التي أمضى في أراضيها نصف عمره وهو ينافح عن أصول السنة في وسطٍ كانت تخرج منه دعوة التشيع ودعاته… وقد توفي ابن مرزوق عام564هـ ولم يترك مكانه شاغرًا بل أعدّ لمدرسة الإصلاح السني أساتذة يقودونها، ولتبقى مستمرة على يد تلميذه الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا.
وهي مدرسة الفقيه الواعظ زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا بن الغنائم الدمشقي الفقيه الحنبلي، ولد في دمشق عام 508هـ وتعلم على خاله عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الحنبلي، وعنه أخذ فقه الحنابلة، كما أخذ فقه المالكية عن الشيخ علي بن أحمد بن قبيس المالكي.
وعندما دخل نور الدين زنكي دمشق اتصل بعلمائها وكان منهم الشيخ ابن نجا الذي اختاره نور الدين ليكون سفيره لدى الخليفة العباسي في بغداد عام 564هـ/1168م، وكان له دور كبير في بناء العلاقات الدبلوماسية بين الخلافة العباسية والدولة الزنكية.
وفي بغداد اجتمع ابن نجا بالشيخ الجيلاني صاحب المدرسة القادرية والمربي الأول لرجال الدولة الزنكية، وطلب الشيخ الجيلاني من ابن نجا أن يتوجه إلى مصر ويقابل الشيخ عثمان بن مرزوق القرشي ويعمل معه لتهيئة الأجواء لقدوم جيش نور الدين زنكي، وهذا ما حدث بالفعل فقد التقى ابن نجا بالشيخ عثمان وبدأ معه التخطيط الدقيق لهذه المهمة إلا أن أيامه مع ابن مرزوق لم تكن طويلة حيث وافت المنية ابن مرزوق القرشي ولم يقدر له أن يشاهد أركان الدولة الفاطمية وهي تتهاوى على أيدي صلاح الدين الأيوبي ورجاله كما شاهدها ابن نجا…
لم تنتهِ مهمة الشيخ ابن نجا بتهيئة الأجواء لقدوم الفاتحين بل كان له الدور الأكبر والأهم بعد سقوط الفاطميين عام 567هـ/1171م ليبدأ مرحلة التأسيس السياسي للإسلام السني المتمثل بالدولة الزنكية ثم الأيوبية بعدها، واستطاع أن يكتشف محاولات فلول العبيديين للانقلاب على صلاح الدين وإعادة السلطة العبيدية، ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليماني عام 569هـ/1173م حين كان يخطّط مع بعض أصحابه لقتل صلاح الدين والقبض على مساعديه… وفي أثناء التحضير لمعركة حطين كان لابن نجا دور هام في التوجيه المعنوي للجيش وشحذ الهمم ورفع معنويات الجنود حتى فتحت القدس وبلغ ابن نجا مقام الشرف الأعظم لما كان خطيب أول جمعة تقام في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين، ثم عاد إلى مصر ليثبت دعائم المذهب السني حتى توفاه الله عام 599هـ/1202م.
تتلمذ مؤسسها على الشيخ عبد القادر الجيلاني ولازمه في المدرسة القادرية حتى عُد من أقران الشيخ الجيلاني في الزهد والتصوف، وصارت إليه المشورة بعد وفاة الجيلاني، فكتب اللهُ له القبول عند الخاصة والعامة، وكان بيته ملاذًا للفقراء([39])، وقد أنشأ مدرسته على غرار المدرسة القادرية حتى صارت فرعًا منها في منهجها التعليمي والتربوي، وظل الشيخ أبو السعود على هذا المنهج حتى وفاته عام 582هـ/1186م([40]).
كان مؤسسها من المقربين عند الشيخ عبد القادر ولازمه في مجالسه حتى علا شأنه وأقبل الناس عليه، وقد أنشأ مدرسة على نهج المدرسة القادرية التي تخرج منها، وكان له تأثير كبير في حياة الناس وتاب على يده خلق كثير.
أنشأها عبد الله الجبائي، وعبد الله هذا أصله من جبل لبنان، وكان نصرانيًا أُسِر ونُقل إلى دمشق، وفيها أعتنق الإسلام فاشتراه علي بن إبراهيم بن نجا وأرسله إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني كي يلازمه في مجالسه، وصار عبد الله من المقربين من الشيخ الجيلاني، وكانت ملازمته للشيخ أكثر من عشرين عامًا، وبعد وفاة الجيلاني ارتحل إلى أصبهان ليدرّس ويفتي فيها، وأنشَأَ فيها مدرسة شبيهة بالمدرسة القادرية التي تتلمذ فيها منذ عام 540هـ/1145م وظل يدرس فيها حتى وفاته عام 605هـ/1208م.
أسسها أبو محمد ماجد الكردي في منطقته التي ولد فيها وهي قوسان من العراق، وكان الشيخ ماجدُ هذا من الذين تواصلوا مع الشيخ الجيلاني، وكانت بينهما علاقة حميمة، وقد تبنى ماجد نهج الشيخ الجيلاني، وكانت مدرسته على هذا النحو حتى وفاته عام562هـ/1166م، وهو يتصدر للتدريس فيها([41]).
أنشأ هذه المدرسة حياة بن قيس الحراني صاحب الكرامات والأحوال حتى إن الملوك والسلاطين كانوا يزورونه تبرّكًا به وطلبًا للدعاء منه، حيث كان السلطان نور الدين زنكي يزوره باستمرار، وكان الشيخ يحثه على الجهاد ضد الصليبيين، كذلك فعل مع السلطان صلاح الدين الأيوبي([42])، وعلى يده تتلمذ جمع غفير من طلبة العلم وكثر إقبال الناس عليه وكان ذلك سببًا في نشر العلم ونهج التصوف والزهد، وتحريض الناس على الجهاد في سبيل الله مع السلطانين نور الدين وصلاح الدين. ولم يقدر له أن يشهد فرحة النصر في حطين، فقد وافته المنية عام 581هـ/1185م.
أُنشئت كذلك العديد من المدارس الأخرى على يد تلاميذ الشيخ الجيلاني ومريديه([43])… وقد أسهمت هذه المدارس في رفد مشروع النهضة الذي بدأ على أيدي العلماء أمثال نظام الملك والغزالي والجيلاني، وأكمله السلاطين الصالحين أمثال نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي… ذلك المشروع العظيم الذي عُني بإعداد جيل الإصلاح السني لمقاومة كل من الجبهة الباطنية والزحف الصليبي وإحداث نقلة نوعية في المجتمع الإسلامي والحفاظ على الكيان السني في مشرق العالم الإسلامي ومغربه… فجزاهم عن أمة الإسلام كل خير…
([1]) – وقد توقف ابن كثير وأبو الفداء الحموي عند هذا النسب، في حين أن ابن الوردي والصفدي والشعراني ينسبه إلى آل البيت، وأنه من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب: قال الذهبي: ( وزاد بعض الناس في نسبه إلى أن وصله بالحسن بن علي رضي الله عنه فقال : ابن أبي عبد الله بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه) انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص252.
([2]) – كورة فارسية تقع جنوبي بحر الخزر وشمالي جبال البرز ويحدها من الشرق طبرستان أو مازندران، ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بنهر (الرس)، وهذه الكورة حافلة بالمستنقعات، ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطين أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم. انظر ابن شمائل: مراصد الاطلاع، ج1، ص368.
([3]) – انظر: ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص298.
([4]) – سير أعلام النبلاء، ج20، ص439.
([5]) – ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص290
([6]) – انظر: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص298.
([7]) – الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج19، ص428
([8]) – الذهبي: المصدر السابق، ج19، ص446.
([9]) – ابن تيمية:الفتاوى،ج10، ص455.
([10]) – الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج19، ص228.
([11]) – الذهبي: المصدر السابق، ج20، ص6.
([12]) – ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص294.
([13]) – الشطنوفي: بهجة الأسرار، ص95.
([14]) – ابن تيمية: الفتاوى، ج10، ص488.
([15]) – عبد القادر الجيلاني: الغنية، ج1، ص55.
([19]) – المصدر نفسه، ج1، ص62.
([22]) – الفتح الرباني مجلس 47، ص62.
([23]) – الجيلاني: الغنية، ج2، ص66.
([24]) – الجيلاني: المصدر السابق، ج1، ص65.
([25]) – ابن القيم: زاد المعاد، ج1، ص71.
([26]) – الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ص381.
([27]) – الفتح الرباني، مجلس 25 ، ص90.
([28]) – الجيلاني: فتوح الغيب، ص50.
([29]) – الجيلاني: المصدر السابق، ص640.
([30]) – الجيلاني: المصدر السابق، ص6.
([32]) – ابن كثير: البداية والنهاية، ج12، ص302.
([33]) – ابن العماد: شذرات الذهب،ج6، ص300.
([34]) – الذهبي: العبر، ج3، ص28.
([35]) – ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج3، ص254.
([36]) – الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص128- 129.
([37]) – الصلابي: القائد المجاهد نور الدين محمود، ص396.
([38]) – الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ص413.
([39]) – الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص745.
([40]) – ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص237.
([41]) – ابن المستوفي: تاريخ أربيل، تحقيق سامي السيد خماس، دار الرشيد، العراق، 1980م، ج2، ص454
([42]) – ابن الملقن: طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، ط2،1994م، ص430
([43]) – من هذه المدارس: مدرسة الشيخ رسلان الجعبري، ومدرسة عقيل المنيحي، ومدرسة الشيخ علي بن الهيتي، ومدرسة الحسن بن مسلم، ومدرسة الجوسقي، ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي، ومدرسة مولى الزولي، ومدرسة محمد بن عبد البصري، ومدرسة القيلوي، ومدرسة علي بن وهب الربيعي، ومدرسة الشيخ بقا بن بطو. انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص224- 238.