الفصل الأول: أحكام الخلافة الإسلامية
أولاً: تعريف الخلافة : يطلق عليها اسم الخلافة أو (الإمامة العظمى، أو إمارة المؤمنين)، وكل هذه الألفاظ تدل على وظيفة السلطة الحكومية العليا.
الخلافة لغةً مصدر من الفعل خَلَفَ، قال تعالى: (وَقَاْلَ مُوسَى لِأَخِيِهِ هَارُون اخلفْنِي فِي قَوْمِي)، أما في الاصطلاح الشرعي عرّف العلماء الخلافة بتعريفات متعدّدة تؤدي معنى متقارباً، نذكر منها تعريف الدهلوي: ((الخلافة هي الرياسة العامّة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلّق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم)).
فالخلافة أهم مؤسسة في النظام الإسلامي، وهي نظام سياسي تتحقّق فيها شروط:
-هناك ألفاظ أخرى تدل على الخلافة وذات صلة بها : (الإمارة – الإمامة – السلطنة – الحكم)
ثانياً: حكم إقامة الخلافة
هناك قولان لعلماء الأمة حول وجوب الإمامة (الوجوب، الجواز):
يرى معظم علماء الإسلام أن الإمامة بأي شكل كانت خلافة أو غيرها، مادام الشرع هو المطبّق أمر واجب على الأمّة لا قيام للدين إلا به، بل هو من أعظم واجبات الدين، والأمّة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو واجب على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو أهل لها سقط الحرج عن الكافّة، وإن لم يقم بها أحد أثم من الأمة فريقان:
أدّلة أهل هذا المذهب:
القائلون بجواز الإمامة:
قالت فئة قليلة من الخوارج، وبعض المعتزلة بجواز الإمامة لا بوجوبها، وأدلتهم في ذلك بأن وجود الحكومة يتنافى مع مبدأ الحرية الطبيعية،وفي مناقشةذلك يمكن القول: المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلاك وفوضى، وتعرّض للأخطاء الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقده الشخص من بعض الحقوق الخاصّة أو ما يقدّمه من ولاء وطاعة، أو ما يتحمّله من تبعات ومغارم، فالحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين حريات وحقوق الآخرين.
ثالثاً: نشأة مفهوم الخلافة عبر التاريخ
نشأة الخلافة في الإسلام نشأة شرعية تستمد سلطانها وأحكامها من الشريعة الإسلامية، ودليل ذلك:
فنظام الخلافة استمر في العالم الإسلامي بشكل أو بآخر حتى القرن العشرين، ولم يغب عن مجتمعنا إلا بعد أن قام “كمال أتاتورك” بإلغائه سنة (1924) عقب انهيار الخلافة العثمانية.
ومراحل الخلافة التي مرّت بالأمة الإسلامية منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عهدنا هذا هي: ((الخلافة الراشدة – الخلافة الأموية – الخلافة العباسية))
ومن أبرز ميزات عصرهم:
القوة إلى الضعف، وأصبح الخلفاء في أغلب الأحيان ألعوبة في أيدي قادة الجند، ولم
يبق لهم من السلطة إلا الاسم، واستمر هذا الوضع حتى سقطت الخلافة العباسية.
رابعاً : الخلافة والوحدة الإسلامية
ذهب جماهير المسلمين من أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يجوز تعدّد الأئمة في زمن واحد، مكان واحد، وهؤلاء القائلون بالمنع على مذهبين:
خامساً: شروط الخليفة
فقال أهل السنة: يجب كونه من قريش، لأن الرسول صلى الله عليه قال: “الأئمة من قريش”
سادساً: طرق نصب الخليفة
بيعة أهل الحل والعقد، وولاية العهد (الاستخلاف)، والقهر والغلبة.
أهل الحل والعقد: هم الجماعة المخصوصة الذين تختارهم الأمة من وجوهها المطاعين ذوي العدالة والعلم بالأمر العام، وبخاصّة العلماء المشهورين، ورؤساء الناس.
شروط أهل الحل والعقد:
وأجمع المسلمون على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة، أي الاختيار والاتفاق بين الخليفة وشخص الأمة.
شروط صحة العقد:
أنواع البيعة:
1-بيعة الانعقاد: وهي البيعة التي يعقدها أهل الحل والعقد للإمام وهي فرض على الكفاية.
سابعاً: خلافة آخر الزمان
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمّ تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمّ تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوة)).
يقول الشيخ صلاح الدين الادلبي في تحقيق الحديث: “خلاصة الأمر إن هذا الحديث بفقراته الثلاث الأول “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكاً عاضاً” صحيح بطرقه حيث تشهد له الرواية الأولى من حديث حذيفة الجيدة الإسناد وهي بلفظ :”أنتم في نبوة ورحمة وستكون خلافة ورحمة وتكون ملكاً عضوضاً” والرواية الثانية منه الضعيفة الإسناد وتشهد له الطرق الضعيفة من حديث أبي عبيدة بن الجراح وأن هذه الكلمة التي في آخر الحديث ” ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ” هي مما يجب أن يُتوقف فيه بسبب الشك في معرفة حال أحد رواة السند وتفرده بها والله أعلم.
وقد قسّم بعض العلماء تاريخ هذه الأمة حسب الحديث إلى المراحل التالية:
الفصل الثاني: الخلافة في الفكر الإسلامي المعاصر
أولاً: الاتجاهات الفكرية من الخلافة بين الرفض والتأييد:
يتضمن هذا الاتجاه محاولات لاستحضار التراث السياسي في الإسلام، وذلك بهدف إثبات حضوره على مستوى النظرية، أو مستوى التنظير لمراحل أعلى من ذلك.
الأول: سقوط الخلافة الاسلامية على يد كمال أتاتورك.
الثاني: بروز ظاهرة تأييد إلغاء الخلافة، وعدم اعتبارها من الفرائض الإسلامية.
وقد ظهر هذا الاتجاه الداعي إلى إحياء الخلافة الإسلامية عند الإمام “حسن البنا” مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وبصفة عامّة فإن هذا الاتجاه كان رافضاً لأفكار: الدولة القطرية التي ابتدعها الاستعمار تحت مبدأي (القومية)،و(الوطنية)، وكذلك (الدولة العلمانية) التي حاول (المتغربون) استيرادها من أوروبا.
المبحث الثاني: الحركات والأحزاب التي نادت بالخلافة
أكثر الحركات الإسلامية جعلت الخلافة مطلباً أساسياً لها، وإن اختلفت في مكانتها بين سلّم الأولويات، وفي نظرتها إلى آليات تحقيقها، وهناك أحزاب وحركات إقليمية لم تناد بالخلافة، وإنما جعلت من الإصلاح ونشر العدل والأخلاق الفاضلة طريقاً لتمكين الشريعة، واستلام الحكم.
أهم الحركات والأحزاب المعاصرة التي دعت للخلافة:
المبحث الثالث: مدّعو الخلافة المعاصرون
الفصل الثاني: خلافة البغدادي.
المبحث الأول: نشأة تنظيم الدولة:
في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم اندلعت حرب طاحنة بين الدولة الأفغانية بقيادتها الطالبانية المسلمة وبين الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي دفع المفكر الإسلامي والأب الروحي للتيار الجهادي الدكتور عبد الله عزام (المولود سنة 1941، والمتوفى سنة 1989) لكي ينتقل إلى أفغانستان نصرة لأخوة الدين والمنهج.
وقد استطاع عبد الله عزام –بفضل شخصيته الإسلامية الجاذبة أن يجتذب كثيراً من الجهاديين إليه، وعلى رأسهم”أسامة بن لادن”و”أيمن الظواهري” الذين شكّلا ما بعد (قاعدة الجهاد).
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وأسفرت عن نصر مبين للمسلمين الأفغان على السوفييت، وبعد أن تشكلت قاعدة الجهاد من المقاتلين العرب الذين وفدوا إلى أفغانستان للدفاع عنها، وهم من اصطلح على تسميتهم بـ(الأفغان العرب)، واجه من حاول العودة منهم إلى دياره غربة محكمة، فالشباب العائد من الجهاد لفظته حكوماته، وصار ملاحقاً في كل مكان، كما أنه كان غريباً عن مجتمعه غير منسجم معه، فالاستبداد ينشب مخالبه في أوصال المجتمع، والنخب الفكرية والثقافية والدينية تساند الحكام الطغاة، والإعلام يغيب الناس عن واقعهم، والسجون تغص بالمعتقلين الإسلاميين، وسفلة القوم تتحكم بمصائر الناس، فهو واقع يحكي قصة أمة بلا مشروع، تحكم فيه شذاذ الآفاق، وراحوا يعبثون بمصائر الناس بلا حسيب أو رقيب.
في ظل هذه الظروف نشأت كثير من التنظيمات الجهادية وربت وازدهرت. وكان كثير من هذه التنظيمات يسارع إلى إعلان انضمامه إلى التنظيم المركزي
(تنظيم قاعدة الجهاد) وإعلان مبايعته أسامة بن لادن. وكان تنظيم القاعدة المركزي قد اعتمد سياسة جهادية تتمثل في الجهاد ضد اليهود والصليبيين، وأتبع ذلك بهجمات قام بها في مدريد ولندن ونيويورك وغيرها، وهذه السياسة تتمثل في أمرين:
فلم يعد المقصود من الجهاد إسقاط نظام بعينه، وإنما الحرب على دول الاستكبار العالمي، ممثلة بأمريكا والغرب وحلفائهم، وذلك محاولة لقطع رأس الأفعى لا ذنبها.إلا أن هذه السياسة التي اعتمدها التنظيم خضعت للمراجعة وإعادة التقييم، وحصل جدل طويل ما بين القادة والمنظرين حول أمرين:
الأول: مراجعة فلسفة ضرب الأفعى دون الذنب، ليعود الحديث عن استهداف قوى الأمن والجيش المحلي أكثر من التركيز على تنفيذ العمليات في أمريكا وأوروبا.
الثاني: بروز تيار يرى أن من الواجب الشرعي السيطرة على بقعة جغرافية بعينها، وإعلانها دولة إسلامية، وبناء نظام إسلامي يحكم بما أنزل الله تعالى.
وقد صار الأمر فيما بعد إلى أصحاب هذه النظرية، فشهدنا في السنوات العشر الأخيرة تراجعاً كبيراً أو “توقفاً تاماً” في العمليات ضد أمريكا والغرب، وتوجهاً كبيراً نحو عمليات تستهدف دول المنطقة بدءاً بالسعودية فاليمن فالجزائر فالعراق وغيرها. ولما اندلعت أحداث سوريا في آذار من عام 2011م في مهدها درعا، وبدأ أوارها يلتهم كثيراً من المناطق السورية، تداعى بعض المجاهدين في 24 من كانون الثاني لعام 2012م لإعلان إنشاء (جبهة النصرة لأهل الشام) كتنظيم يتبع دولة العراق الإسلامية، وعيِّن الفاتح “أبو محمد الجولاني” أميراً لجبهة النصرة.
وفي 9 من نيسان لعام 2013 أعلن عن تشكيل (دولة العراق والشام الإسلامية) وإلغاء (جبهة النصرة) في خطوة لدمج التنظيمين، وصار أبو بكر البغدادي أميراً للمؤمنين في هذه الدولة الوليدة، وقد رفضت جبهة النصرة قرار الدمج هذا، ورفعت الأمر إلى زعيم تنظيم القاعدة “أيمن الظواهري” الذي قرّر فصل التنظيمين عن بعضهما، وجعل جبهة النصرة فرعاً مباشراً للقاعدة في بلاد الشام، وإبقاء “أبي بكر البغدادي” أميراً لدولة العراق الإسلامية. وهو الأمر الذي رفضه البغدادي مطلقاً، مصراً على التشبّث بقراره وعصيان أمر زعيم التنظيم الظواهري.
وقد أدّى إعلان دمج الدولة العراقية بجبهة النصرة، ومن ثم إعلان إلغائها، ومن ثم رفض هذا الإلغاء إلى تشظي التنظيم إلى جهتين متقاتلتين بدأت بينهما حرب ضروس على مناطق النفوذ والسيطرة. وفي يوم الأحد 1 رمضان 1435 الموافق 29 تموز 2014 أعلن الناطق الرسمي لدولة العراق والشام الإسلامية عن إنشاء دولة الخلافة الإسلامية، وخرج أبو بكر البغدادي في 6 رمضان على منبر الجامع الكبير في الموصل يدعو الناس إلى بيعته خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين.
المبحث الثاني: أبو بكر البغدادي وتحقق شروط الخليفة فيه.
للخليفة شروط لا بد أن تتحقق فيه قبل أن ينصب خليفة على المسلمين، وجماع هذه الشروط هي: التكليف والكفاءة والقدرة على تحمل مسؤوليات الخلافة والعلم، فهل هذه الشروط متحققة في البغدادي؟
لا شك أن أتباع الخليفة وأنصاره يَدَّعُون أنه أوحد عصره وفريد زمانه، وأنه يمتلك من المؤهلات ما يجعله خليقاً لهذا المنصب هو وحده بدون منازع أو شريك أو ند، لذلك نجدهم يخلعون عليه من الألقاب ويلبسونه من الصفات ما يندر أن تجده عند غيره، فهو الشيخ المجاهد، والعابد الزاهد، وقائد كتائب الدين، من أهلِ القدم الراسخة في العِلم والسّابقة في الدّعوة لدينِ الله والجهاد في سبيله، الحُسينيّ القرشيّ أمير المؤمنين، بل بالغ أحدهم فقال: “ولقد اجتمع في الشيخ أبي بكر ما تفرّق في غيره” فهل هذه الأوصاف متحقِّقة فيه بحق؟ أم هي مبالغات الأتباع والمحبين التي لا ترى إلا بعين الرضا، وعينُ الرضا عن كل عيب كليلة، وليست هي بلا شك عين السخط التي تبدي لك المساويا!.
يقول الشيخ محمد المنصور وهو من شيوخ البغدادي وشيخ الرجل أدرى به من سواه: “أما أنا فإني أشهد الله الذي لا إله إلا هو بما أعرف عن قربٍ هذا الدعيِّ الذي سمى نفسه أبا بكر البغدادي، وقد درس عندي مع مجموعة من الفضلاء شيئاً قليلاً من كتاب زاد المستقنع في سنة 2005م، ثم انقطع الدرس بسبب اعتقالي، وقد عرفته معرفة دقيقة، وقد كان محدود الذكاء، بطيء الاستيعاب، باهت البديهة، فليس هو من طلبة العلم المتوسطين، ودراسته دراسة أكاديمية في الجامعات الحكومية ومستواها هزيل جداً والتي لا علاقة لها بتكوين طالب علم فضلاً عن عالم.
ثم إنه كان إلى نهاية 2005 معنا من ضمن جنود جيشنا، ولم يكن من المبرزين في الميدان، بل ولا من أهل الصولة والجولة، ولا المهمات الكبار، ولا نذكر له واقعة مشهودة لا في الإمداد ولا في المواجهة حتى ابتليت بدخول المعتقل، عندها تغير الرجل على الإخوة وتنمر وبدأ يثير المشاكل في الجماعة وانقلب رأساً على عقب… ولذا فإني أؤكد حالفاً بالله غير حانث أنَّ أبا بكر هذا ليس راسخاً في العلم بل ولا طالب علم متمكن فحسب، إنما لا يتقن كتاباً واحداً معتمداً في العقيدة أو الفقه أبداً، وإخواننا من طلبة العلم العراقيين من جميع الجماعات والتوجهات يعرفون هذا جيداً، ويعلمون أنه ليس بينه وبين العلم نسب، ويدركون المستوى الهزيل جداً للعلم الشرعي الذي تقدمه الجامعات الحكومية”.
فهذه شهادة الخبير بالرجل، ولكن قد يقول قائل: إن هذه الشهادة ربما تكون قد صدرت عن حسد أو منافسة، ومن بدهيات علم الجرح والتعديل أن جرح الأقران إذا ظهرت علائم المنافسة فهو مردود.والجواب: ربما يكون هذا الادِّعاء صحيحاً لو أظهر المدّعي قرائن رد الجرح البين المفسر السبب، ثم إنّه لو استغني عن هذا الجرح بالكلية فإن إعمال قواعد الجرح يقود إلى اعتبار هذا الرجل في عداد المجهولين، فلا هو من المشهورين المعروفين بين أوساط المسلمين، ولا وجد من ثقات علماء المسلمين من زكَّاه حتى يُركن إلى تزكيته اعتماداً على أن معرفة الثقات برجل وتعديلهم وتوثيقهم له تكفي من يقلدهم ويتبع قولهم، ولكن أنّى بهؤلاء الثقات؟ بل إنه لو أغفلت معرفة عينه وصفاته وتتبع أحد صفاته من خلال أفعاله وأفعال أنصاره وأجناده لوجد أن صفات الخوارج الذين حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطبق عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة)) [البخاري].
المبحث الثالث: مدى شرعية تنصيب أبي بكر البغدادي
إن طرق تنصيب الإمام إحدى ثلاث طرق:
والبغدادي كما يقول منظرو التنظيم نُصِّب ببيعة أهل الحل والعقد والغلبة، ذلك أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها الأمة توجب ذلك، “فصورة الواقع الحالي في بلدان المسلمين لا تتنزل في أغلب الأحيان على المسلكين الأوليين، إذ لا يعرف اجتماع وتوافر معين لأهل الحل والعقد إلا على ندرة من خيارهم وفضلائهم مع غياب الإمام العام، وفي مثل هذا الحال يُفرض حل الضرورة بتنصيب من تظاهر وغلب بقوته مراعاة للمصالح الهامّة التي لا يمكن تأخيرها، ودفعاً للشرور والمفاسد المتأكد حصولها”. هذا هو التأصيل الشرعي لكيفية نصب البغدادي خليفة على المسلمين، وعلى هذا الكلام ملاحظات عدة:
الملاحظة الأولى: هذه الطريقة التي ذكرها الكاتب من الكيفية التي نصب بها خليفتهم طريقة مبتدعة لم يسبق إليها، بل هي طريقة مستحيلة، إذ تجمع بين طياتها بذور التناقض والتنافر، فقد أشار الكاتب إلى أنَّ إمامهم قد تم تعيينه بطريقة القهر والغلبة، وبطريقة بيعة أهل الحل والعقد، وهذا هو الجمع بين النقيضين في وقت واحد، وهو ما لم يحصل في التاريخ كله، إذ كيف يكون ببيعة أهل الحل والعقد ويكون قهراً وغلبة؟! أيجتمع الاختيار والإكراه معاً؟! إنَّ المعتاد أن الحاكم بعد أن يأخذ السلطة بالإكراه تأتي الأمة لتقر بيعته أو لا تقر، أما أن يختاره أهل الحل والعقد –كما يدعي أنصار الخليفة- ثم ينصب نفسه خليفةً بالغلبة والقهر كما هو الأمر هنا فهذا مما لا يمكن أن يفهم فضلاً عن أن يصير تنصيباً شرعياً. ويمكن أن يقول أنصار الخليفة بأن خليفتهم نصب عن طريق أهل الحل والعقد لا الغلبة، وهنا ننتقل إلى:
الملاحظة الثانية: من هم أهل الحل والعقد الذين جاز لهم ادعاء تمثيل الأمة ليختاروا البغدادي خليفة للمسلمين؟
إن مصطلح أهل الحل والعقد يطلق على الجماعة المخصوصة الذين تختارهم الأمة من وجوهها المطاعين ذوي العدالة والعلم بالأمر العام، وبخاصّة العلماء المشهورين ورؤساء الناس، وتتبعهم فيما ينوبون فيه عنها من إقامة مقصود الشرع في الإمامة ورعاية أمور الأمة ومصالحها العامة وأهمها اختيار الإمام، وهو مأخوذ من حل الأمور وعقدها. فهل هذه الصفات متوفرة في من نصبوا البغدادي خليفة للمسلمين؟
والإجابة: لا، ولو كان غير ذلك لكانت النتيجة أن انقادت الأمة لما اختاره أهل الحل والعقد منهم، وهذا ما لم يحصل بأي صورة من الصور، بل الذي حصل هو العكس تماماً، حيث تضافرت أقوال العلماء وأمراء الكتائب العسكرية وقادتها على رفض بيعة هذا الخليفة، بل واستنكار إعلان الخلافة أصلاً، ولو كان من نصبوه من أهل الحل والعقد الذين تنقاد الأمة لهم لبادروا إلى إعلان الطاعة والرضى بمجرد اتفاق أهل الحل والعقد فيهم.
ثم إن لأهل الحل والعقد شروطاً لا بد من توافرها فيهم حتى يمكن أن يطلق عليهم أنهم أهل للحل والعقد، فهل تحققت هذه الشروط فيمن اختاروا البغدادي خليفة؟ بل هل هؤلاء معروفون أصلاً فضلاً عن أن تُعْرَف صفاتهم ويُعْرَف تحقق شروط أهل الحل والعقد فيهم؟ إنهم أناس غيبت أسماؤهم وأوصافهم عن عامة المسلمين وخاصتهم -باستثناء الدائرة المحيطة بالبغدادي وبهم-، ثم يطلبون من الأمة أن تنقاد لهم، مع أن الشريعة الغراء نهت عن أن أخذ أمور الدين إلى ممن يعرف ويوثق بدينه، فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وتواتر عن السلف قولهم: ((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)) ، فإذا كان تلقي حديث واحد يحتاج أن تأخذه عمن عرف بالدين والتقى والديانة والصدق والحفظ، فكيف يؤخذ أمرٌ على غاية من الخطورة والأهمية عن أناس أقل ما يقال بحقهم أنهم مجهولون؟. ثم إنّه على فرض أن من نصبوا البغدادي خليفة هم ممن تنطبق عليهم شروط أهل الحل والعقد، فإن من المقرّر بعد بيعة أهل الحل والعقد أن يحدث أمران:
الأول: أن ينقاد الناس لهم ويسلموا ويخضعوا لمن اختاره أهل الحل والعقد خليفة لهم ويرضوا به، وهذا ما لم يتم، بل حصل عكس ذلك، فإن سخط الناس بهذه الخطوة متضافر مشتهر.
الثاني: أن يبادر العامّة إلى بيعة الخليفة بعد بيعة أهل الحل والعقد، فلا تنعقد بيعة أهل الحل والعقد وتنفذ إلا بعد أن تستتبع ببيعة العامة، فإن بايع أهل الحل والعقد رجلاً ثم لم يبايعه العامة فإن بيعته لا تنعقد كما هو مقرر عند فقهاء أهل السنة، فهل حصلت بيعة العامة للبغدادي؟، وهل أفراد الناس الذين أكرههم أجناد البغدادي على إعلان البيعة يشكلون نسبة تقل أو تكثر من عامة المسلمين وسوادهم؟، مع الإشارة إلى أن الخليفة نصب نفسه على عموم المسلمين البالغ تعدادهم ملياراً ونصف المليار، فكم هم الذين بادروا لتقديم فروض الطاعة منهم له؟.
قال الغزالي في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: “ولو لم يبايعه غير عمر، وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساماً متكافئاً لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة”. ولكن أنصار الدولة بإمكانهم أن يقولوا بأن خليفتهم نصب عن طريق القهر والغلبة لا عن طريق أهل الحل والعقد، وهنا ننتقل إلى:
الملاحظة الثالثة: التغلب على من؟!
إنَّ الغلبة التي كانت طريقة لتنصيب البغدادي خليفة ليست غلبة على العدو في الاستيلاء على السلطة والإمامة، إنما هي الغلبة على إخوانهم في فصائل الجهاد الأخرى بسبقهم في الإعلان عن تنصيب البغدادي إماماً لهم، وهل كان صعباً على أيِّ مجموعة من تلك المجاميع أن تعلن أميرها أميراً للمؤمنين؟ ولو أنَّ أحداً منهم فعل ذلك لأثبت على نفسه الجهل؛ لأنَّ أركان الدولة لم تتوفر بعد.
ثم من يتأمل الحقيقة يجد أنَّ الغلبة كانت في الإعلان فقط، لأنه لم يتغير على أرض الواقع شيء يمنح هؤلاء على هؤلاء مزية معينة، وإنما هي غلبة لا وجود لها إلا بالادعاء، فهذه المجموعة أو تلك لم تفعل أيَّ شيء يزيد من سيطرتها أو غلبتها كما تفعل الحركات التحررية بالسيطرة على العاصمة مثلاً، أو ما يفعله أصحاب الانقلابات العسكرية عند السيطرة على مبنى وزارة الإعلام والتلفزيون، أو حتى قصر الحاكم ونحو ذلك. فإذا كانت الدول تتحقق بمجرّد هذا النوع من الإعلان، فما أكثر دول الخلافة الساقطة، وما أكثر دول الخلافة القادمة، وما أكثر دول خلافة المنفى، ودول خلافة الأوراق!
ثم إن هناك سؤالاً آخر: يدّعي منظِّرو الخليفة أن “مجلس شورى المجاهدين متظاهر بقوة وشوكة عظيمة تسيطر على الأرض، هذا هو واقع الحال الذي فرضته المعركة مع الصليبين والمرتدين في العراق، فبعد أن وفق الله عز وجل عباده المجاهدين لحمل السلاح والتباري في ميدان الجهاد والنزال، أكرمهم بعطية التمكين ورسوخ الأقدام في كثير من المناطق والبقاع، وكان هذا نتيجة طبيعية كاستحقاق ناله المجاهدون إثر قتالهم وثباتهم، فخلا لهم الميدان في مساحات واسعة من الأرض كما أسلفنا، وتحقق مفهوم الشوكة والمنعة لهم في بقاع مختلفة متفرقة، وبالتبع فزمام السلطة قد آل إليهم في مناطق السيطرة، وصاروا هم أصحاب القرار الأول، وحصلت لهم الشوكة والمنعة التي بها قوام الدولة والإمارة، فالمعلم الأساس في قيام الدولة الإسلامية هو ظهور التمكين واعتلاء مظاهر السيادة والشوكة”.
فهل هذا الكلام متطابق مع الواقع على الأرض؟
والإجابة: يقول الشيخ محمد منصور: “لو كنتَ حَكَماً في قضية محددة اختصم فيها خصمان، أحدهما أثبتها والآخر نفاها، فإنَّ حكمَك الشرعي سيكون: “البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر”، فإذا لم يأت من ادّعى ببينة، وحلف من أنكر على صدق دعواه، ألا تحكم له؟ الجواب قطعاً: بلى. إذاً: فكيف إذا ثبت لديك أنَّ من ادّعى كان له مصلحة عاجلة في دعواه، ومن أنكر لم تكن له مصلحة في إنكاره؟ إلا أنه يريد أن يبين للناس الحكم الشرعي الصحيح، وحقيقة الواقع في بلدنا الجريح. أنَّ القارئ العارف بأوضاع العراق ليتساءل: أين هذه الدولة التي يتحدّث عنها الكاتب؟! أين أدنى معالم السيادة والاستقلال على أيِّ محافظة أو مدينة في العراق؟ إنها -والله الذي لا إله إلا هو- لا وجود لها إلا على هذه الورقة التي أمامه!”.
والأمر ليس مقتصراً على واقع العراق، بل إن واقع الحال في الشام لا يتعدى ذلك، وما تمكن أجناد الدولة من السيطرة على بعض الأرض إلا لأن المعركة مع النظام الأسدي المجرم قائمة، مما يجعل المجاهدين -من غير أنصار الخلافة- يحجمون عن فتح معارك جانبية تحيد بهم عن الهدف الأساس، وإلا فإنهم –لما اضطرهم غدر أنصار الدولة واعتداءاتهم المتكررة على المجاهدين- طردوا أجناد الدولة بأيام قليلة من كامل الريف الإدلبي وكامل مدينة حلب وأجزاء واسعة من ريفها، فأين هذه السيطرة وأين هذا التمكين المزعوم؟ بل إن جهود الفصائل العسكرية هي التي مكنت لقيام الخلافة المدعاة أصلاً، فالفصائل العسكرية في سوريا هي التي حررت كثيراً من الأراضي التي تحكمها دولة البغدادي اليوم، ولولا أن هؤلاء المجاهدين قد بذلوا الغالي قبل الرخيص ليحرروا هذه الأرض شبراً فشبر لما استطاع أجناد الخليفة أن يحركوا ساكناً.
والمتابع لمجريات الأحداث في سوريا يدرك بجلاء أن الفصائل العسكرية التي رفضت بيعة البغدادي هي التي حررت كامل أرض الخلافة اليوم، وخاضت في سبيل تحريرها معارك ضارية مع جنود النظام المجرم، واستطاعت بعد شلالات من الدماء أن تمكن قدمها فيها، ولكن غدر أجناد الدولة وخداعهم وكذبهم من جهة، وتورع كثير من المجاهدين عن قتالهم من جهة أخرى هو ما أمكن جنود البغدادي من بسط سيطرتهم على هذه المواقع، حتى أصبح من شائع القول أن مهمة تنظيم البغدادي هي تحرير المحرر لا أكثر. فإذا كانت طريقة تنصيب البغدادي غير معتد بها شرعاً، لا عن طريق بيعة أهل الحل والعقد، ولا عن طريق القهر والغلبة فإنها بيعة لا قيمة لها، وكل ما بني على هذه البيعة فهو بحكمها.
المبحث الرابع: موقف المسلمين من إعلان خلافة البغدادي.
اتّفقت كلمة المسلمين على رفض هذه الخلافة واعتبار الإعلان عنها باطل شرعاً، وغير منتج لآثاره الشرعية، تتّفق في ذلك كلمة الشرعيين، والعسكريين، والسياسيين، وأهم البيانات التي أصدرتها هذه الفصائل والهيئات:
ومن يعرف الواقع العسكري، والشرعي في سوريا، يدرك أن هذه الفصائل والهيئات تمثل الأعم الأغلب من القوى العاملة في سوريا. قالت الفصائل: ((إننا نجد أن إعلان الخوارج للخلافة باطل شرعاً، وعقلاً، ولا يغير شيئاً من وصفهم، ولا طريقة التعامل معهم))، وبينت الفصائل في بيانها أن: ((شروط الخلافة لم تتحقق في الوقت الحاضر، وخاصّة أن تنظيم الدولة خالف شروط الدولة، والتمكين، وعدم توفر شرط إجماع أهل النسة والجماعة على الإمام، فضلاً عن أنّهم جماعة بدعة، وضلالة لا يجوز الانتساب لها)).
نحن نعاني من ويلات حكّام أتونا بالسيف، ويحكموننا بالسيف، وبعضهم مازال يتخذ السيف شعاراً لدولته ورايته، فكفاناً سيفاً وتسلطاً.