القانون العربي الموحّد
يونيو 2, 2015
من هم الخوارج؟! جـ(2) والأخير
يونيو 5, 2015

من هم الخوارج؟! جـ(1)

الكاتب: د.عماد الدين خيتي – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن من مصائب هذا الزمان اختلاط المفاهيم، وانحراف المصطلحات، حتى تاه فيها كثير من الناس، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ) رواه ابن ماجه، وأحمد.
ومن ذلك مصطلح (الخوارج)، الذي افترق فيه الناس على أقسام من أهمها:
1- حكام طغاةٌ رموا العلماء والدعاة بالخروج؛ كيدًا لهم وتشويهًا لسمعتهم، وصرفًا للناس عن فضح طغيانهم وخيانتهم الأمانة، فانتهكوا بذلك حرماتهم، وأعملوا بهم قتلاً، وتعذيبًا، وزجًا في السجون، أفرادًا وجماعات، متأسِّين بإمامهم: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} [غافر: 26].
2- ومنتسبون للعلم، اتخذوا من إرضاء الحكام وتعبيد الناس لهم شرعة ومنهاجًا، فرموا من خالفهم بالخارجية والانحراف في الدين زورًا وبهتانًا، لم يرتفعوا بالعلم ولم ينفعوا، بل
{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ} [الأعراف:167].
3-وغلاة حصروا الخوارج في فرق تاريخية، وأفكار وعقائد لم يعد لها وجود في هذا الزمان، أو في فرق شديدة الغلو تكفر عموم المسلمين والمجتمعات، مما لا يكاد يخفى على عامة الناس وجهالهم.
4- وعامة أهل العلم الذين عرفوا عقيدة الخوارج وفكرهم، وحذّروا منه وبينوا ضلاله وانحرافه. فمن هم الخوارج؟ وما علامتهم؟ وهل لهم وجود في هذا الزمان؟
ضابط الوصف الذي يكون به الشخص خارجيًا:
فصَّلت السنة النبوية في صفات الخوارج ما لم تُفصِّله في أيِّ فرقة أخرى؛ تنبيها للأمة ورحمة بها؛ لعظيم خطرهم الفكري، وانحراف منهجهم في التعامل مع النصوص، وخطرهم الواقعي في تطبيق أفكارهم على المجتمع المسلم، ولسرعة الاغترار بهم؛ لما يظهر فيهم من تعبُّدٍ، ورفع شعارات براقة، تخدع فريقًا من الناس فيحسنوا الظن بهم، مما يدفعهم إلى اعتقاد صحة أفكارهم وأعمالهم.
والذي جاء في النصوص الشرعية من أوصاف توضِّح منهج الخوارج ومعتقداتهم:
1- أنهم يقتلون المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ) متفق عليه.
2- أنهم يخرجون عن أحكام الدين ويفارقون جماعة المسلمين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-:(يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه البخاري، ومسلم.
الوصف الأول للخوارج: قتلهم للمسلمين:
فقد ذكر أهل العلم أن سبب هذا القتل هو: أنَّهم يحكمون بالكفر والرِّدة على مخالفيهم بغيرِ حق. قال القرطبي في “المفهم”: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم”. وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “الخوارج دينهم الْمُعَظَّمُ: مفارقةُ جماعةِ المسلمين، واستحلالُ دمائِهم وأموالِهم”. وقال: “فإنهم يَسْتَحِلُّونَ دماءَ أهلِ القبلة لاعتقادِهم أنهم مرتدُّون أكثر مما يَسْتَحِلُّونَ من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين”. وقال ابن عبد البر في “الاستذكار”: “وهم قوم اسْتَحَلُّوا بما تَأَوَّلُوا من كتاب الله عز وجل: دماء المسلمين، وكفروهم بالذنوب، وحملوا عليهم السيف”.وهذا التكفير له صور كثيرة: كتكفير مرتكب الكبيرة أو بمطلق الذنوب، أو التكفير بما ليس بذنب أصلاً، أو التكفير بالظن والشّبهات والأمور المحتملة، أو بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد، أو دون التّحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع. وما ذكره كثير من العلماء من أن مذهب الخوارج (تكفير مرتكب الكبيرة)، ليس وصفًا جامعًا لكل “الخوارج”،وليس شرطًا للوصف بالخروج، وإنما هو وصف لما استقرَّ في عهدهم من أكثر فرق الخوارج، فيدخل في الخوارج كل من يكفّر المسلمين بغير حق، ويستحل دماءهم ولو لم يعتقد كفر مرتكبِ الكبائر.
ومما يدل على عدم اشتراط القول بتكفير مرتكب الكبيرة للوصف بالخوارج؛ أنَّ الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- إنَّما كفّروا الصحابة بقبول التَّحكيم، واستحلوا دماءهم بذلك، مع أنَّ التحكيم من الأمور المباحة وليس بذنبٍ أصلاً، فحكم عليهم الصّحابةُ بأنهم الخوارج الذين أخبر عنهم النّبي -صلى الله عليه وسلم- لفعلهم هذا، ولم يسألوهم عن مذهبهم في بقية الذّنوب، وهل يُكفِّرون بها أم لا.
كما أنَّ “النَّجدات” وهم من رؤوس الخوارج باتفاق أهل العلم، لا يقولون بكفر مرتكب الكبيرة، قال أبو الحسن الأشعري في “مقالات الإسلاميين” مبينًا عقيدة الخوارج: “وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك”. وقال البغدادي في “الفرق” بعد أن استعرض ما يجمع فرق الخوارج: “وقد أخطأ الكعبي في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم؛ وذلك أن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقتهم… وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا الحسن رحمه الله من تكفيرهم عليًا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين، ومن صوَّبهما أو صوَّب أحدهما أو رضي بالتحكيم”.وإن كان العلماء قد حكموا على من يكفر مرتكب الكبيرة بأنه من الخوارج، فكيف بمن يكفر بالصغائر والأمور الاجتهادية أو بما هو مباح، كالجلوس مع الكفار ومراسلتهم مثلاً؟ّ!
ومما يدل على أنَّ تعريف الخوارج بالتكفير بالكبيرة لما استقرَّ في عصر عدد من أهل العلم، وأنَّه ليس وصفًا لازمًا لجميع الخوارج في كل وقت: قول أبي حسن الأشعري في “مقالات الإسلاميين”: “فأما التوحيد فإن قول الخوارج فيه كقول المعتزلة.. والخوارج جميعًا يقولون: “بخلق القرآن”. ومعلوم أن الخوارج الأولين، ثم غالب فرق الخوارج لم تقل بمثل هذه العقائد.
الوصف الثاني للخوارج: مفارقة الدين وجماعة المسلمين:
وقد بيَّن أهل العلم أنَّ من أهم أوصاف الخوارج: خروجهم عن أحكام الدين التي جاءت بها النصوص الشرعية في التكفير واستحلال الدماء، ومفارقة جماعة المسلمين في المنهج والمعتقد.
قال ابن حجر في “فتح الباري”: “سُموا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين”. وقال النووي في “شرح مسلم”: “وسمّوا خوارجا؛ لخروجهم على الجماعة، وقيل: لخروجهم عن طريق الجماعة، وقيل: لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا)”. ومعنى (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ): يخرج من أصله ونسبه.
أما ما ذكره عددٌ من العلماء من أن الخوارج هم من خرجوا على الحاكم المسلم؛ فهذا ليس بوصفٍ جامعٍ للخوارج كذلك؛ إذ لم يرد في النصوص الشرعية ما يدل على اشتراط (الخروج على الإمام المسلم) للوصف بالخروج، بل كل من كان على معتقدهم ومنهجهم فهو من الخوارج سواء خرج على الإمام أم لم يخرج، وسواءً كان الحاكم مسلمًا أو غير مسلم، ما دام قد اجتمع في هذه الجماعة التكفير دون حق، والخروج عن جماعة المسلمين.
وإنّما خص عدد من أهل العلم وصف الخوارج بمن خرج على الأئمة لأنَّ هذا كان غالب أمرهم، فهم قد خرجوا أولاً على الخلفاء الراشدين، ثم على الدولة الأموية، والعباسية.
وهؤلاء الخوارج إن وجدوا الإمام المسلم خرجوا عليه واستباحوا الدماء والأموال، وإن لم يجدوا الإمام استباحوا دماء عامة المسلمين وخيارهم من المجاهدين والعلماء والدعاة، كما نصّت عليه نصوص الشرع، وكلام أهل العلم. وقد استدلّ أهل العلم بأحاديث الخروج عن الجماعة على ذم الخوارج.. قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم.قال القاضي عياض في “إكمال المعلم”: ” أي لا يكترث بما يفعله بها، ولا يحذر من عقباه، وفي معناها الرواية الأخرى: إيمانه إنما يقاتل لشهوة نفسه وغَضَبِها أو لقومه وَعصبَته، هذا -والله أعلم- في الخوارج وأشباههم من القرامطة”.
وقد استدلّ ابن تيمية في “الفتاوى” بهذا الحديث على الخوارج فقال: “قد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين، وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية؛ فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة؛ بل كل طائفة تغالب الأخرى.ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل (قيس ويمن)، وذكر أن من قُتل تحت هذه الرايات فليس من أمّته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه”.
وقال النووي في “شرح مسلم” عن حديث: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) “وأما قوله صلى الله عليه وسلم (وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج والله أعلم”.
ونقله العظيم أبادي مقرًا له في عون المعبود.حين اختلف الناس في حكم التتار جعلهم ابن تيمية من جنس الخوارج مع أنهم لم يخرجوا على إمام، قال ابن كثير في “البداية والنهاية”: “وقد تَكَلَّمَ الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قَبِيلٍ هو؟ فإنهم يُظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام؛ فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه!. فقال الشيخ تقي الدين [أي ابن تيمية]: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقُّ بإقامة الحق من المسلمين”.وقد روى أبو داود حديث: (مَنْ فارقَ الجماعةَ شِبراً، فقد خَلَع رِبْقَةَ الإِسلام من عُنُقِهِ) ووضعه في باب (باب في الخوارج)، وهذا من فقهه فقد جعل الخوارج من فارق جماعة المسلمين. بل إنَّ الخوارج أسسوا عددًا من الدول والإمارات على مر التاريخ، وأصبحوا هم الحكام، ومع ذلك لم يزل عنهم وصف “الخوارج”، بل وصفهم أهل العلم بذلك، وأجروا عليهم أحكامهم………..
رابط الجزء الثاني: https://sy-sic.com/?p=1531