الكاتب: د.عماد الدين خيتي – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالحكم على الخوارج والتعامل معهم مما استفاضت به كتب أهل العلم وفتاواهم قديمًا وحديثًا، وعلى الرغم من ذلك فقد اختلطت أحكامهم على البعض بسبب طول عهد الأمة بالتعامل مع أحكام الخوارج، وتلبيسات بعض المنتسبين للعلم، فظهرت تساؤلات واستنكارات، ومن أهمها:
1- أنه لا مشروعية للقول باستئصال الخوارج، بل إنَّ قتالهم لرد عدوانهم وصيالهم ونزولهم على الشرع.
2- أنَّ الأحاديث الواردة بـقتلهم (قتل عاد) خاصّة بفئة معينة من الخوارج في ذلك الوقت لا يمكن تطبيقها في كل زمان ومكان.
وجميع ذلك مبنيٌ على أنَّ لدم المسلم حرمة يجب الوقوف عندها، ووجوب الامتناع عن الخوض في الفتنة الحاصلة بين المسلمين.فما دقّة هذه الاعتراضات؟ وما أحكام التعامل مع الخوارج في الشرع، وكلام أهل العلم؟
أولاً: الأصل حرمة دماء المسلمين:
من الأصول المقررة في الشرع والمجمع عليها عند أهل العلم ولا تحتاج لكثير بسط وتقرير: أنَّ الأصل في دم المسلم الحرمة والعصمة، لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) رواه النسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، ومن أهم الفروق بين أهل السنة والغلاة: الاستهانة بدماء المسلمين لأدنى الشبهات، والغلو في التكفير. ومع تأكيد هذا الأصل العظيم، لكن إن تحقق في المسلم ما يبيح دمه –بحكم شرعي ومن جهة مخوَّلةٍ بذلك- فلا يكون القتل والقتال حينها محرمًا، ويكون التورعُّ عن الامتثال لما أمر الشارع به معصية ومخالفة للنص الشرعي، وإعانةً للمجرم في جريمته بالإفلات من العقاب، واتهامًا للشرع بعدم الحكمة أو الرحمة، وقد يصل إلى حد رفض التشريع المخرج من الملة.
ومما أذن الشارع به في القتل والقتال:
1- القصاص من القاتل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
2- قتل المرتد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) رواه البخاري.
3- دفع الصائل المعتدي.
4-قتال الفئة الباغية.
5- قتال الخوارج الذين جاءت صفاتهم في الأحاديث النبوية، وسيأتي ذكرهم.
وقد فرَّق الشرع بين أنواع من القتال الذي يقع بين المسلمين، وجعل لكلٍ منها أحكامًا خاصةً بها، كما سيأتي بيانه.
ثانياً: دفع الصائل:
الصائل هو: المعتدي على نفس غيره، أو عرضه، أو ماله بغير حق، ويشرَعُ للمتعدَى عليه ردُّ العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء، مبتدئًا بالأخف فالأخف، في كل زمان ومكان.قال ابن المنذر في “الإشراف”: “يقول عوام أهل العلم إنَّ للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله، إذا أريد ظلمًا، للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تخص وقتاً دون وقت، ولا حالاً دون حال”.
الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة: 194].
وحديث: (مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد)رواه أبو داود، والترمذي.
قال ابن حجر في “فتح الباري” معلقًا على حديث صفوان بن يعلى، عن أبيه، قال: (خَرَجْتُ فِي غَزْوَةٍ، فَعَضَّ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “وفيه دفع الصائل وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدرًا”.
شروط دفع الصائل:
ذكر الفقهاء شروطًا لدفع الصائل، هي باختصار:
1- أن يكون هناك اعتداءٌ حقيقية لا مجرد توهم أو شك.
2-أن يكون الاعتداء قائمًا بالفعل في الحال، لا مجرد تهديد.
3-ألا يُمكِن دفع الاعتداء بطريق آخر.
4- أن يُدفع الاعتداء بالقدر اللازم من القوة مبتدئًا بالأخف فالأخف.
قال النووي في “منهاج الطالبين”: “ويدفع الصائل بالأخف فإن أمكن بكلامٍ واستغاثة حَرُمَ الضرب، أو بضرب بيد حَرُمَ سوط، أو بسوط حَرُمَ عصا أو بقطع عضو حَرُمَ قتل”.
فإن هرب الصائل فيجب الكفُّ عنه، قال العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام”: “قتال الصِّوَالِ ما داموا مقبلين على الصيال، فإن انكفوا حرم قتلهم وقتالهم”.
واستثنى من ذلك عددٌ من أهل العلم ما إذا فعل الصائل في صياله ما يوجب العقوبة، كما لو ضربه ثم هرب، فإن للمضروب الحق في مماثلته في الضرب، أو اعتدى على عرضه، أو بدنه فيريد الإمساك به، أو أخذ ماله فيريد أن ينتزعه منه، قال الإمام أحمد: «فَإِنْ وَلَّى فَلْيَدَعْهُ وَلَا يَتَّبِعْهُ» ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَخَذَ مَالِي وَذَهَبَ أَتَّبِعُهُ؟ قَالَ: “إِنْ أَخَذَ مَالَكَ فَاتَّبِعْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ)، فَأَنْتَ تَطْلُبُ مَالَكَ، فَإِنْ أَلْقَاهُ إِلَيْكَ فَلَا تَتَّبِعْهُ، وَلَا تَضْرِبْهُ، دَعْهُ يَذْهَبْ” أخرجه الخلال في السنة.وللفقهاء تفصيلات عديدة في هذه المسائل يرجع إليها في مظانها.
ثالثاً: قتال الفتنة:
والمقصود به القتال الذي لا يتبيَّن فيه الحق، أو يكون قتالاً على غايةٍ غير مشروعة، أو يكون قتالاً على ظلم. قال الجصّاص في “أحكام القرآن”: “إذا قَصَدَ كل واحد منهما صاحبه ظلمًا على نحو ما يفعله أصحاب الْعَصَبِيَّةِ والفتنة”.وقال النووي في “شرح مسلم”: “تُتَأَوَّل الأحاديث على: من لم يظهر له الحق, أو على طائفتين ظالمتين لا تَأْوِيل لواحدة منهما”. وقد جاءت النصوص الشرعية ناهية عن قتال الفتنة والاشتراك فيه، ومن ذلك:
1- حديث: (فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، قَالَ: فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ، فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ) رواه أحمد.
2- وحديث: (فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً، أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) رواه البخاري.
3- وحديث: (فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ” قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ) رواه مسلم
وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بهذه الأحاديث حين اندلاع الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في معركتي الجمل وصفِّين، فاعتزلوا الفتنة إلا نفرٌ يسير، قال الشعبي عن موقعتي الجمل وصفِِّين مجتمعتين: “بِاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ، مَا نهض فِي تِلَكَ الفتنة إلا سته بدريين ما لهم سابع، أو سبعة مَا لَهُمْ ثامن” أخرجه الطبري في تاريخه.
وقال ابن تيمية في ” الفتاوى”: “وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك القتال في الفتنة، وبينوا أن هذا قتال فتنة”.
سبب الاعتزال:
يتضح من أحاديث الفتن التي تأمر بـ (العزلة في الفتنة، والبعد عن كلا الطائفتين المتقاتلتين، ولزوم الدار، وإغلاق الباب، والتخلّص من السلاح وكسره، وترك الدفاع عن النفس) أنَّ مقصود الشارع هو: تقليل القتال، وحقن الدماء، وإيقاف الحرب؛ سعيًا إلى إنهاء الفتنة؛ لأنَّ الاستمرار في القتال يزيد الفتنة؛ لذا كان المعتزل للفتنة والمستسلم للقتل خيرًا من المقاتل.
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن بن علي رضي الله عنهما لأنَّ وضعه للسلاح وترك للقتال سيؤدي إلى حقن دماء المسلمين، واجتماع كلمة الأمّة، فقال: (ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري.
رابعاً: قتال الفئة الباغية:
البغاة هم: جماعة من المسلمين يخرجون على الإمام، بتأويلٍ سائغ، ولهم قوة وشوكة ومنعة.ومعنى التأويل السائغ: شُبهة أو حُجة يستسيغون بها مفارقة الجماعة والخروج على الإمام، وقد لا تكون هذه الحجَّة صحيحة.ويكون لهذه الجماعة أحكام الفئة الباغية بشرطين: قال النووي في “روضة الطالبين”: “الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام أو منع الحق المتوجه عليهم … الثانية: أن يكون لهم شوكة وعدد، بحيث يحتاج الإمام في ردِّهم إلى الطاعة إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، ونصب قتال”.
وقد ذكر أهل العلم في كيفية التعامل مع البغاة:
أن يبعث إليهم الإمام شخصًا أمينًا ناصحًا، يسألهم ما ينقمون، فإذا ذكروا مظلمة أزالها، أو شبهة وضحها وبينها، وإن طلبوا حقًا لهم أعطوه، فإن أصروا على موقفهم في الخروج، أو لم يكن لهم مطلبٌ عادل، وإنما كان خروجهم من أجل الدنيا، أو انتزاع الحكم فيُنصحون، وإلا يقاتلون. وقد أوجب الشارع قتال الفئة الباغية، وجعل غاية قتالها التوقف عن الاعتداء، والنزول على الشرع، قال تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. ففي وجوب قتالها: قال القرطبي في “تفسيره”: “في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين”.
وفي بيان مآل القتال وغايته: قال الشافعي في “الأم”: “فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها؛ لأن الله عز وجل إنما أذن في قتالها في مدة الامتناع بالبغي إلى أن تفيء… والفيءُ: الرجعة عن القتال، بالهزيمة، أو التوبة، وغيرها، وأي حال ترك بها القتال فقد فاء”.وما ورد في “قتل” الخارج عن الإمام فهو مفسرٌّ بالمدافعة أولاً:
1- لحديث: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) رواه مسلم.
قال النووي في “شرح مسلم”: “فيه الأمر بقتال من خرج على الإِمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، ويُنهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتِل، وإن لم يندفع شَرُّه إلا بقتله، فقُتِلَ كان هدرًا”.
2- وحديث: (مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِن اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ) رواه مسلم.
قال النووي في “شرح مسلم”: “معناه ادفعوا الثاني، فإنه خارج على الإمام، فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله ولا ضمان فيه؛ لأنه ظالم متعدٍّ في قتاله”، ويلحظ أنَّ في أنواع القتال السابقة أنَّ الأصل فيها عصمة دم المسلم، وإنما أبيح قتاله لدفع ضرره؛ فإن ذهب ضرره عادت إليه عصمته (إلا بحقوقٍ ترتَّبت على اعتدائه)، دون أن يبيح ذلك الطعن في دينه وعقيدته لمجرد الاعتداء.
خامساً: الخوارج:
أما في حال التعامل مع الخوارج فنجد أنَّ النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم تختلف في التعامل معها؛ لأنَّ الخلاف مع الخوارج عقديٌ، وبدعتهم في التكفير ومفارقة جماعة المسلمين هي من أشر البدع وأخطرها على الأمة الإسلامية، وقد سبق في مقال (من هم الخوارج؟) بيان تفاصيل معتقد الخوارج، ويمكن تتناول في عدة مسائل:
1- الخوارج مبتدعون في الدين، خارجون عن جماعة المسلمين:
أ- لحديث: (يَقْرَؤونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه البخاري، ومسلم.
ب- وحديث: (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه مسلم.
ج- وحديث: (يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئؤونَ الْفِعْلَ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) رواه أبو داود، وأحمد.
قال ابن حجر في “فتح الباري”: “سُمّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين”. والبدعة متغلغلة فيهم إلى أقصى حد، لحديث: (وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ) أخرجه الطبراني في الكبير. قال البيضاوي في تحفة الأبرار”: “معناه: يجري بينهم ويسري إلى قلوبهم جري الكَلَب في العروق إلى أعماق البدن, وهو داء يعتري الإنسان من عضة الكَلْب المجنون, وهو مرض مخوف تصل نكايته إلى جميع البدن”. ولشدة انحراف بدعتهم وبعدهم عن الدين الصحيح يكثر فيهم الدجالون، ويكونون من أتباع الدجاجلة؛ لحديث (حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ) رواه ابن ماجة. وقد شهد التاريخ ظهور عدة (مهديين) ودجاجلة فيهم، وأعلنوا خلافات وإمارات، ثم يكون مصيرهم آخر الزمان في جيش الأعور الدجال.
2- ولبدعتهم فإنَّهم يحملون النصوص الشرعية على غير مرادها، ويفسرونها بأهوائهم:
أ- حديث: (يقرؤون القرآنَ، يحسَبُون أنه لهم وهو عليهم) رواه مسلم.
ب- قال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قالوا: ” لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ”، قال علي: ” كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ” أخرجه مسلم.
ج- “وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: “إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ” أخرجه البخاري تعليقًا، قال ابن حجر في “فتح الباري”: “وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار … قلت وسنده صحيح”.
د- ولما استدل الخوارج على كفر الصحابة بآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ”، أخرجه الخلال في السنة، والحاكم في المستدرك، وغيرهما. قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم؛ ولهذا تأوَّل سعد بن أبي وقاص فيهم هذه الآية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله، من غير معرفة منهم بمعناه، ولا رسوخ في العلم، ولا اتّباع للسنّة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن”.وهذا ما يؤدي إلى تحريف الدين وتغيير أحكامه.
3- لذلك فإنَّ تأويلهم للنصوص غير سائغٍ، وهم غير معذورين فيه:
لأنَّه قائمٌ على اتباع الهوى في تفسير النصوص، ممن ليس له حق الاجتهاد والنظر؛ فكما سبق هم من أبعد الناس عن العلماء، وأكثرهم رفضًا لكلامهم، وازدراءً لهم.
قال أبو محمد ابن أبي زيد القيرواني في كتاب “الجامع”: “ومن قول أهل السنة: أنَّه لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة؛ لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يُعذروا؛ إذ خرجوا بتأويلهم على الصحابة، فسمّاهم عليه السلام مارقين من الدين، وجعل المجتهد في الأحكام مأجورًا وإن أخطأ”.، وقال ابن حجر في “فتح الباري”: “وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك”. وقال النووي في “شرح مسلم: “فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك”.
4-ولأجل خروجهم غير المسوَّغ عن الدين كفرتهم طائفة من أهل العلم، والأرجح عدم تكفيرهم:
فممّا يدل على خطورة بدعة الخوارج: أنَّ فريقًا من أهل العلم حكم بكفرهم وردَّتهم قديمًا وحديثًا، وتوقف فيهم آخرون لم يحكموا بكفرهم ولا إسلامهم، مع أنَّ عامة أهل العلم على عدم تكفير الخوارج، وإنَّما يُحكم عليهم بالبدعة والضلالة، وهو الأرجح؛ لكن في هذا دليل على خبث هذه البدعة، واختلاف أحوال الخوارج عن الفئات السابقة. قال الآجري في “الشريعة”: “لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أنَّ الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم”. وقال النووي في “شرح مسلم”: “المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون: أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع”.ولا يمنع ذلك من وقوع بعض فرقهم أو أفرادهم في الكفر؛ لارتكابهم ناقضًا من نواقض الإسلام، أو غير ذلك، لكن لا يكون الحكم عليهم إلا ببينةٍ شرعيةٍ، بعد استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع.
5- ومن آثار بدعتهم الخبيثة: سفك دماء المسلمين بتهمة الردة:
أ- لحديث: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ) رواه البخاري، ومسلم.
ب- (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ) رواه أحمد. قال القرطبي في “المفهم”: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم”.
ومن انحرافهم أنَّهم يرون قتل من يرمونه بالرِّدَّة أولى من قتل الكفار الأصليين، قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فإنهم يَسْتَحِلُّونَ دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين”. بل إنَّهم يقتلون المسلمين بطرق شنيعة لم تعرف في المسلمين من قبل:
قال ابن كثير في “البداية والنهاية” عن طائفة من الخوارج ظهرت في المدائن: “فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم”.
وقصّتهم في ذبح “عبد الله خباب بن الأرت” رضي الله عنه، وبَقر بطن امرأته الحامل معروفة، وهم من زعم أنَّ الذبح بالسكين من السنن النبوية في العصر الحالي ونشروا العمل بها، (ينظر فتوى: ما حكم ذبح أسرى الأعداء بالسكين؟ وهل هو فعلاً سنة نبوية؟
6- لذلك كانوا شرَّ الخلق، وأضر على المسلمين من الكفار:
أ- لحديث: (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) رواه أبو داود، وأحمد.
قال ابن الأثير في “النهابة”: “الْخَلْقُ: الناس، والْخَلِيقَةُ: البهائم. وقيل هما بمعنى واحد، ويريد بهما جميع الخلائق”.
ب- (شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) رواه ابن ماجه، وأحمد.
قال ابن تيمية في “منهاج السنة”: “أي أنهم شرٌ على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًا على المسلمين منهم: لا اليهود ولا النصارى; فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مُستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفّرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة”.وقال في “الفتاوى”: “وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء; فإنهم بغاة على جميع المسلمين، سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال; فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق. فإن أولئك إنما مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن”، وأخرج ابن ابي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول -وَيَدَاهُ هَكَذَا- يَعْنِي تَرْتَعِشَانِ مِنَ الْكِبَرِ: لَقِتَالُ الْخَوَارِجِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِتَالِ عُدَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ”. ونقل ابن حجر في “فتح الباري” عن ابن هبيرة قوله: “إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين؛ إذ إن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى”….