قال أبو محمد ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع: “ومن قول أهل السنة: أنَّه لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة؛ لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يُعذروا؛ إذ خرجوا بتأويلهم على الصحابة، فسمّاهم عليه السلام مارقين من الدين، وجعل المجتهد في الأحكام مأجوراً وإن أخطأ”. وقال ابن حجر في “فتح الباري”: “وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك”، وقال النووي في “شرح مسلم: “فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم، ولا ينفّذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلّها، ولا يعذر في شيء من ذلك”.
4-ولأجل خروجهم غير المسوَّغ عن الدين كفرّتهم طائفة من أهل العلم، والأرجح عدم تكفيرهم:
فمّما يدل على خطورة بدعة الخوارج: أنَّ فريقًا من أهل العلم حكم بكفرهم وردَّتهم قديمًا وحديثًا، وتوقّف فيهم آخرون لم يحكموا بكفرهم ولا إسلامهم، مع أنَّ عامة أهل العلم على عدم تكفير الخوارج، وإنَّما يُحكم عليهم بالبدعة والضلالة، وهو الأرجح؛ لكن في هذا دليل على خبث هذه البدعة، واختلاف أحوال الخوارج عن الفئات السابقة. قال الآجري في “الشريعة”: “لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أنَّ الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن صلّوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافعٍ لهُم”. وقال النووي في “شرح مسلم”: “المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحقّقون: “أن الخوارج لا يكفّرون كسائر أهل البدع”. ولا يمنع ذلك من وقوع بعض فرقهم أو أفرادهم في الكفر؛ لارتكابهم ناقضًا من نواقض الإسلام، أو غير ذلك، لكن لا يكون الحكم عليهم إلا ببينةٍ شرعيةٍ، بعد استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع.
خامساً: ومن آثار بدعتهم الخبيثة: سفك دماء المسلمين بتهمة الردة:
1- لحديث: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ) رواه البخاري، ومسلم.
2- (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ) رواه أحمد. قال القرطبي في “المفهم”: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم”.
ومن انحرافهم أنَّهم يرون قتل من يرمونه بالرِّدَّة أولى من قتل الكفار الأصليين، قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فإنهم يَسْتَحِلُّونَ دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنّهم مرتدون أكثر مما يستحلّون من دماء الكفّار الذين ليسوا مرتدين”. بل إنَّهم يقتلون المسلمين بطرق شنيعة لم تعرف في المسلمين من قبل قال ابن كثير في “البداية والنهاية” عن طائفة من الخوارج ظهرت في المدائن: “فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم”. وقصّتهم في ذبح عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه، وبَقر بطن امرأته الحامل معروفة. وهم من زعم أنَّ الذبح بالسكين من السنن النبوية في العصر الحالي ونشروا العمل بها، (ينظر فتوى: ما حكم ذبح أسرى الأعداء بالسكين؟ وهل هو فعلاً سنة نبوية؟).
سادساً: لذلك كانوا شرَّ الخلق، وأضر على المسلمين من الكفّار:
1- لحديث: (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) رواه أبو داود، وأحمد.
قال ابن الأثير في “النهابة”: “الْخَلْقُ: الناس، والْخَلِيقَةُ: البهائم. وقيل هما بمعنى واحد، ويريد بهما جميع الخلائق”.
2- (شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) رواه ابن ماجه، وأحمد. قال ابن تيمية في “منهاج السنة”: “أي أنهم شرٌ على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًا على المسلمين منهم: لا اليهود ولا النصارى; فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مُستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفّرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة”. وقال في “الفتاوى”: “وقد اتّفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء; فإنهم بغاة على جميع المسلمين، سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال; فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق. فإن أولئك إنما مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا، وإنما يتعرّضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عمّا ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن. وأخرج ابن ابي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول -وَيَدَاهُ هَكَذَا
-يَعْنِي تَرْتَعِشَانِ مِنَ الْكِبَرِ-: لَقِتَالُ الْخَوَارِجِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِتَالِ عُدَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ”. ونقل ابن حجر في “فتح الباري” عن ابن هبيرة قوله: “إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين؛ إذ إن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى”.
7- ولمعتقدهم السيء وضررهم على المسلمين فهم كلاب أهل النار
1- لحديث: (شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قتلى مَنْ قَتَلُوا، كِلَابُ أهل النار) رواه ابن ماجه.
2- وحديث: (أَلَا إِنَّهُمْ كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة. وذلك تشبيهًا لدناءة أفعالهم في حق المسلمين بدناءة الكلاب: قال المناوي في “التيسير”: “أي يتعاوَون فيها كعواء الكلاب، أو هم أخس أهلها وأحقرهم كما أن الكلاب أخس الحيوان”. وقال: “هم قوم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}؛ وذلك لأنهم دَأَبوا ونصبوا في العبادة وفي قلوبهم زيغ، فَمَرقوا من الدين بإغواء شيطانهم حتى كفَّروا الموحدين بذنب واحد، وتأوَّلوا التنزيل على غير وجهه، فخذلوا بعد ما أيّدوا حتى صاروا كلاب النار، فالمؤمن يَستُر ويرحم ويرجو المغفرة والرحمة، والمفتون الخارجي يهتِك ويُعيِّر ويقنُط، وهذه أخلاق الكلاب وأفعالهم، فلما كلبوا على عباد الله ونظروا لهم بعين النقص والعداوة ودخلوا النار صاروا في هيئة أعمالهم كلابًا كما كانوا على أهل السنة في الدنيا كلابًا بالمعنى المذكور”.
3- ولخطورة بدعتهم وشدة انحرافها وسيطرتها على عقولهم وتمسكهم بها، مع الكبر في نفوسهم ورفضهم للحق فإنَّ غالبهم لا يرجعون عن بدعتهم: أ- لحديث: (إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَعْبُدُونَ وَيَدْأَبُونَ، حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ نُفُوسُهُمْ) رواه أحمد. ولذلك فإنَّ الخوارج يكثرون من التفاخر بما قدموه وما فعلوه، ويكثرون من تزكية منهجهم وأفعالهم، ويدفعهم غرورهم لادّعاء العلم، والتطاول على العلماء ورفضهم، ومواجهة الأحداث الجسام، بلا تجربة ولا رَوية, ولا رجوع لأهل الفقه والرأي، ومن قرأ سيرتهم عرف كيفية تعاملهم مع الصحابة وأهل العلم، بل كيف خاطب رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ)!
ب- وحديث: (لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ) رواه أبو داود، وأحمد.و(الفُوق) هو موضع الوتر من السهم، أي لا يرجعون إلى الدين الصحيح حتى يرجع السهم على الفوق، وهذا تعليق بالمحال فإن ارتداد السهم على الفوق محال، ورجوعهم إلى الدين أيضاً محال. قال الطيبي في “المشكاة”: “وهذا من التعليق بالمحال على رجوعهم إلي الدين بما يعد من المستحيلات؛ مبالغة في إصرارهم على ما هم عليه حسمًا للطمع في رجوعهم إلى الدين”. وعقد الشاطبي في “الاعتصام” بابًا سماه (الْمُبْتَدِعُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ) وساق فيه أدلة عديدة على أنَّ المبتدع لا يرجع عن بدعته، ومنها هذا الحديث، ثم قال: “فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار، وحاصلها: أن لا توبة لصاحب البدعة عن بدعته، فإن خرج عنها; فإنما يخرج إلى ما هو شر منها…وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق، ولكنه قد يحمل على العموم العادي، إذ لا يبعد أن يتوب عمّا رأى ويرجع إلى الحق، ولكن الغالب في الواقع الإصرار، ومن هنالك قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم; لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره، وسبب بعده عن التوبة: أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس; لأنه أمر مخالف للهوى، وصادٍ عن سبيل الشهوات، فيثقل عليها جدًا. ينسبها إلى الشارع، ويدّعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصودًا بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به وهو الدليل الشرعي في الجملة؟!.
4- ولجميع ما سبق فهم فرقة أخرى غير ما سبق من أنواع القتال بين المسلمين: أ- لحديث: (تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ) رواه مسلم.
ب- وحديث: (تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ، فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ ) رواه مسلم. ج- (تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ) رواه مسلم.
د- وحديث: (يَخْرُجُونَ عَلَى فُرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ) رواه مسلم. والفرقتان المقصودتان في الحديث: جيش علي ومعاوية رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين، ودعواهما واحدة هي الإسلام؛ فالخلاف بينهم ليس على أمرٍ ديني، أو افتراقٍ في العقيدة. فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج معهم، بل أخرجهم منهم، ممّا يدل على أنهم ليسوا على دعوة الإسلام. قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فهؤلاء الذين قتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام وكانوا يسمون الحرورية، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته، وأن أصحاب علي أولى الطائفتين بالحق، ولم يُحرِّض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الإسلام، وفارقوا الجماعة، واستحلّوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم، فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين”.
5- وهم معاقبون في الآخرة بحرمانهم من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تنال أهل الكبائر:
1- لحديث: (رَجُلانِ لا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ، وَآخَرُ غَالٍ فِي الدِّينِ مَارِقٌ فِيهِ) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة.
قال الصنعاني في “التنوير”: “(مارقٍ) من مرق السهم من الرمية نفذها أي خارج بغلوه من الدين مع أنه باق على الإسلام إلا أنه بغلوه صار كالخارج عنه”.
6- لذا جاءت النصوص في علاج بدعتهم بالأمر بقتلهم، والتأكيد عليه:
أ- لحديث: (فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) رواه أبو مسلم.
ب- وحديث: (فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ) رواه أحمد.
ج- وحديث: (قِتَالُهُمْ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)رواه أحمد.
وطبيعة قتالهم قتل استئصال لا دفع صائل، ولا لغاية معينة:
د- لحديث: (لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) رواه البخاري.
ه- وحديث: (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ) رواه البخاري ومسلم.
و- وحديث: (كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) رواه أحمد.
ز- وحديث: (كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ) قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً) رواه ابن ماجه.
قال ابن الجوزي في “كشف المشكل”: ” وَقَوله: (لأقتلنهم قتل عَاد) أَي أستأصلهم؛ فَإِن عادًا استؤصلوا”. وقال النووي في “شرح مسلم”: ” قوله صلى الله عليه وسلم (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) أي قتلاً عامّاً مستأصلاً، كما قال تعالى: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} وفيه الحث على قتالهم”. وقال العيني في “عمدة القاري”: “التقدير: كقتل عاد، والتشبيه لا عموم له، والغرض منه استئصالهم بالكلية كاستئصال عاد، لأن الإضافة في قتل عاد إلى المفعول. فإن قلتَ: إذا كان من الإضافة إلى الفاعل يكون المراد القتل الشديد القوي، لأنّهم كانوا مشهورين بالشدة والقوة، وعلى التقديرين المراد استئصالهم بأي وجه كان وليس المراد التعيين بشيء”. وقال القسطلاني في “شرح صحيح البخاري”: “(لئن أنا أدركتهم) أي الموصوفين بما ذكر (لأقتلنهم قتل عاد) أي لأستأصلنهم بحيث لا أبقي منهم أحدًا كاستئصال عاد”. وقال العظيم أبادي في “عون المعبود”: ” (لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ): أراد بقتل عاد استئصالهم بالهلاك”. فسبب القتل هو بدعتهم الخطيرة:
نقل الملا الهروي عن الطيبي قوله: “أي: فإذا لقيتموهم فاعلموا أنّهم شرار خلق الله فاقتلوهم، كما قال: (طوبى لمن قتلهم وقتلوه)، ووجه آخر: وهو أن يكون الجزاء محذوفًا، يعني فاقتلوهم والجملة بعده استئنافية لبيان الموجب”. وقال المازري في “المعلم ” عن حديث (لَئِنْ أدْرَكتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ): ” قد يتعلق بظاهر هذا من يرى تكفيرهم وقد اختلف أهل الأصول في تكفيرهم.
وقد ينفصل عن هذا من لا يرى تكفيرهم بأن يُحمل قتلهم على أنه كالحدّ لهم على بدعتهم”. وقال ابن تيمية في “الصارم المسلول”: “فرتَّب الأمر بالقتل على مروقهم فعلم أنه الموجب له”.
7- ورتَّب الأجر الكبير على قتلهم للحث عليه وحسم التردُّد فيه لما قد يقع في النفوس من عبادتهم واستدلالهم بالنصوص الشرعية، ومناداتهم بتطبيقها.
فمن قاتلهم فهو خير الأمة: أ- لحديث: (مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ) رواه أبو داود، وأحمد. قال العظيم أبادي في “عون المعبود”: “أَيْ مِنْ بَاقِي أُمَّتِي “. نقل الملا الهروي في “مرقاة المفاتيح: “الضمير فيه راجع إلى الأمة أي من قاتلهم من أمتي أولى بالله من باقي أمتي، وأمّا على الوجه الثاني فالضمير راجع إلى الفرقة الباطلة”. أ- وحديث: (يقتلهم خيار أمتي). ب- وحديث: (خَيْرُ قتلى مَنْ قَتَلُوا) رواه ابن ماجه، وأحمد. وله الأجر الكبير يوم القيامة: أ- (فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم. ب- (فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ). وطوبى شجرة في الجنة. ومن قاتلهم ولم يُقتل فله أجر شهيد، ومن قُتل على أيهيم فله أجر شهيدين: ج- (مَنْ قَتَلَهُمْ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَمَنْ قَتَلُوهُ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ) أخرجه الطبراني في الأوسط، والبخاري في التاريخ الكبير. بل إن قتلهم يكاد يكفي للنجاة من النار لكثرة الثواب عليه: د- قال علي رضي الله عنه في الخوارج: “لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ، مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ” رواه مسلم. قال السيوطي في “الديباج”: ” أَي لاتكلوا على ثَوَاب ذَلِك الْعَمَل واعتمدوا عَلَيْهِ فِي النجَاة من النَّار والفوز بِالْجنَّةِ لِأَنَّهُ عَظِيم جسيم”.
سادساً: موقف الصحابة من قتال الخوارج:
على عكس موقف الصحابة –رضي الله عنهم- من الفتنة التي ابتعدوا عنها، وتجنبوها، كان موقفهم من قتال الخوارج، فقد اجتمعوا لقتالهم، وحثّوا الناس عليه، ورَوَوا لهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ولما رأى علي رضي الله عنه لما (ذو الثدية) مقتولاً: (فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ) رواه ومسلم.
وفي رواية: (فَخَرَرْنَا سُجُودًا وَخَرَّ عَلِيٌّ سَاجِدًا مَعَنَا) رواه أحمد. قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “وقاتل أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه الخوارجَ، وذكر فيهم سنَّة رسول الله المتضمنة لقتالهم، وفرح بقتلهم، وسجد لله شكراً لما رأى أباهم مقتولاً وهو ذو الثُّدَيَّة .بخلاف ما جرى يوم “الجمل” و “صفين”؛ فإن عليّاً لم يفرح بذلك، بل ظهر منه من التألم والندم ما ظهر، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنَّة بل ذكر أنه قاتل باجتهاده”. وقال ابن القيم في “الزاد”: ” وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهى سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصِّدِّيق لما جاءه قتلُ مُسَيْلِمة الكذَّاب، وسجد علي بن أبى طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً في الخوارج”.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “يَرَى قِتَالَ الْحَرُورِيَّةِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ” أخرجه أحمد في السنة. وقال معاوية بن قرة: “خرج محكم في زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليه بالسيف رهط من أصحاب رسول الله منهم عائذ بن عمر” أخرجه أحمد في السنة. وقال الأزرق بن قيس: “كنا بالأهواز نقاتل الخوارج وفينا أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه”” أخرجه أحمد في السنة. ثم قاتلهم معاوية، وقاتلهم عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم أجمعين، وكان على قتالهم كافة علماء الأمة جيلاً بعد جيل، والأخبار في ذلك أكثر من أن تُحصى في مقال مختصر.
سابعاً: قتال الخوارج لا يختص بزمان أو مكان:
كل من انطبق عليه وصف الخوارج فهو مشمول بنصوص القتال، والدليل على ذلك:
أنَّ الأحاديث تنصَّ على أن الخوارج فرقة سيستمر وجودها إلى آخر الزمان، وقد جاءت مطلقةً في أحكام التعامل مع الخوارج دون أن تخصّصها بزمنٍ دون آخر.
بل إنَّها نصَّت على الأمر بقتلها كلما خرجت لحديث: (فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ)، وحديث: (أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)، وحديث: (كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِع). وهذا ما فهمه علماء الأمة، وما زالوا يستدلّون بهذه النصوص على هذا العموم. قال الشهرستاني في “الملل والنحل”: “كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيًا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان”. وقال ابن حزم في “الفصل”: “ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وإن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي”. وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “وهذه العلامة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم؛ فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال، وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر. وأيضًا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا” ثم ذكر الأحاديث. ثُمّ إنَّ خطرهم العقدي لا يختص بوقتٍ دون وقت، بل ربما كان في بعض الفرق اللاحقة أشدّ انحرافًا وتلبيسًا من الفرق الأولى.
ثامناً: أحكام أخرى للخوارج:
ورد في كلام أهل العلم أحكام أخرى للتعامل مع الخوارج غير ما سبق، ليس هذا مكان بسطها، أو الفتوى فيها؛ وإنما هو لبيان خصوصية هذه البدعة الخطيرة واختلافها عن بقية حالات القتال بين المسلمين: 1- جواز ابتدائهم بالقتال وإن لم يبدؤوا: قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فلم يأمر بقتال الباغية ابتداءً. فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به؛ ولكن إذا اقتتلوا فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء.
فالاقتتال ابتداء ليس مأمورًا به؛ ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم؛ ثم إن بغت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا. وأما الخوارج فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: (أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ: (لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ)”.وقال ابن قدامة في “المغني”: “الصحيح، إن شاء الله، أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء، والإجهاز على جريحهم؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتلهم ووعده بالثواب من قتلهم، فإن عليًا -رضي الله عنه – قال: لولا أن ينظروا، لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأن بدعتهم، وسوء فعلهم، يقتضي حل دمائهم؛ بدليل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عظم ذنبهم، وأنهم شر الخلق والخليقة، وأنهم يمرقون من الدين، وأنهم كلاب النار، وحثّه على قتلهم، وإخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد، فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكف عنهم، وتورّع كثير من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن قتالهم، ولا بدعة فيهم”.
2- جواز قتل الشخص المفرد من الخوارج وإن لم يكن له جماعة، وإن لم يقاتل:
بحث أهل العلم مسألة المبتدع الداعي إلى بدعته الذي يتسبب في تفريق الجماعة، والخروج عن الدين الصحيح، وقرّروا أنه يجوز للحاكم قتله إن كان ضرره عظيمًا، ولم يمكن دفع شره إلا بذلك.
وبمثل هذا قتل عدد من رؤوس المبتدعة بفتاوى كبار علماء زمانهم، كمعبد الجهني في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وغيلان الدمشقي في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، وغيرهم من الزنادقة والمبتدعة، فكيف إذا كانت هذه البدعة هي من أشر البدع وأخطرها، ولا تتوقف حتى تستباح بها الدماء المعصومة؟ قال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: “وقد روي من وجوه متعددة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل رجل كان يصلي، وقال: (لَوْ قُتِلَ، لَكَانَ أَوَّلَ فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا)، وفي رواية: (لَوْ قُتِلَ، لَمْ يَخْتَلِفْ رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ) خرَّجه الإمام أحمد وغيره، فيستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين، ويحسم مادة الفتن.وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة”.وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم)، وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقًا [يقصد علامة الخوارج التي كانت فيهم] لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض؛ فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. وقال: “ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل، مثل المفرّق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين”. وذكر ابن عابدين في “حاشيته “:”والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهّم منه أن ينشر البدعة وإن لم يحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرًا؛ لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين”. والبدعة لو كانت كفرًا يباح قتل أصحابها عامًا، ولو لم تكن كفرًا يقتل معلمهم ورئيسهم زجرًا وامتناعًا”. وقال ابن فرحون المالكي في “تبصرة الحكام”:” وأما المفرّق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل”.
3- جواز قتل أسير الخوارج ومدبرهم:
سبق كلام ابن قدامة: “الصحيح، إن شاء الله، أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء، والإجهاز على جريحهم”.وقال أبو الحسن الطرابلسي في “معين الحكام”: “فإن هزمهم ولهم فئة يلجؤون إليها فينبغي للإمام العدل أن يتبع مدبرهم ويجهز على جريحهم ويقتل أسيرهم وإن شاء حبسه؛ لأنه لو خلاّهم يعودون حرباً علينا، وإن لم يكن لهم فئة لم يفعل شيئًا من ذلك”. وقال السرخسي في “المبسوط”: “وإن كانت له فئة فلا بأس بأن يقتل أسيرهم؛ لأنه ما اندفع شره، ولكنه مقهور، ولو تخلص انحاز إلى فئته. فإذا رأى الإمام المصلحة في قتله فلا بأس بأن يقتله، وكذلك لا يجهزوا على جريحهم إذا لم يبق لهم فئة، فإن كانت باقية فلا بأس بأن يجهز على جريحهم؛ لأنه إذا برئ عاد إلى تلك الفتنة والشر بقوة تلك الفئة، ولأن في قتل الأسير والتجهيز على الجريح كسر شوكة أصحابه”. وقال الجصاص في “أحكام القرآن” :”فإذا كانت لهم فئة فإنه يقتل الأسير إن رأى ذلك الإمام ويجهز على الجريح ويتبع المدبر”.
4- جواز اغتنام أموالهم:
قال السرخسي في “شرح السير”: “المال لو كان للخوارج لم يجز ردّه عليهم مع بقاء توهم الاستعانة على قتال المسلمين إن كانت منعتهم باقية”.
وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “” فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج، وقد نص أحمد في رواية أبى طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين … فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار. وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به؛ فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا، وسيرة على رضى الله عنه تفريق بين هذا وهذا؛ فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة، وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر، وقال في أهل الجمل وغيرهم “إخواننا بغوا علينا” طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين”. وقال”: “فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال، وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك، ففي أخذه نزاع بين العلماء، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه نهب عسكره ما في عسكر الخوارج، فإن رأى ولي الأمر أن يستبيح ما في عسكرهم من المال كان هذا سائغًا”. وهذا ما كان عليه المسلمون في محاربة الخوارج، فقد ذكر ابن كثير في “البداية والنهاية” أنَّ المهلّب: “اشترط على أهل البصرة أن يُقوِّي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج ، فأجابوه إلى ذلك”.
تاسعاً: المخدوعون في صف الخوارج:
لا حجّة لبعض من يقول إنَّ في صفوف الخوارج من هو مخدوع، أو جاهل، أو مغرَّر به؛ إذ إنَّ الأصل في التعامل مع الطوائف التي لها قوة وشوكة ومَنَعة، ولها قيادة تأتمر بأمرها، وراية تقاتل تحتها: أن يتعامل معها بمجموعها العام، والغالب عليها، وما يظهر منها من عقائد وتصرفات. بل لا تتصور طائفة مسلمة أو غير مسلمة إلا وفيها من هذه الأصناف: الجاهل، والمكره، والمغرّر به، وحسن النية، والراغب في مغنم دنيوي، ونحوهم، لكن لا يتوقف الحكم على هذه الطوائف أو التعامل معها على مخالفة بعض الأفراد لعامّة الطائفة، بل تقاتل جميعًا دون تفريق بين أفرادها. وقد كان الرسول يُخاطب رؤساء القبائل، والملوك، والزعماء، وينذرهم ويُقيم عليهم الحجة، فإن سالموه أو أسلموا: كان سِلمه لهم ولأقوامهم، وحرَّم دماءهم وأموالهم جميعًا، وإن حاربوه حاربهم جميعًا، واستحلّ منهم ذلك، دون أن يكون ذلك لكل فرد من أفراد قومهم أو جيوشهم. ثم قاتل الصحابة -رضي الله عنهم- الممتنعين عن أداء الزكاة، وفتحوا البلدان، وقاتلوا الخوارج. وعلى ذلك جرت أقوال أهل العلم، وعملهم؛ لم يشترط أحد منهم ألا يكون في صفوف المُقاتلين من هو مغرَّرٌ به، أو مخدوع، أو جاهل؛ إذًا لتوقف الجهاد في سبيل الله! ثم إن كان في أفراد هذه الطوائف من له عذرٌ من جهلٍ، أو تغريرٍ، أو غير ذلك: فإنه يُبعث على نيته يوم القيامة، والله حسيبه، فقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: (الْعَجَبُ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) رواه البخاري، ومسلم. وفي رواية من حديث أم سلمة: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ) رواه مسلم. قال النووي في “شرح مسلم”: “وفيه أن من كثَّر سوادَ قومٍ جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا”. وقد كان الصحابة يقاتلون الخوارج، ويفرحون بذلك، مع حزنهم على ضلالهم وقتلهم بسبب ذلك، بل كان بعضهم يبكي لذلك، كأبي أمامة رضي الله عنه، ولم يمنعهم ذلك من قتالهم والحث عليه.
عاشراً: لا يشوش على ما سبق ما قد يلحظ في بعض كتب أهل العلم من تداخل في الحديث بين الخوارج والبغاة.
فقد أطلق عددٌ من الفقهاء على الخوارج لفظ البغاة، بل أطلقه بعضهم في حق مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، ويُجمل بعضهم الحديث عن كلا الطائفتين دون تفصيل في موضع، ويفصِّل في موضعٍ آخر، وقد يدخل بعضهم أحكام الخوارج في أحكام البغاة؛ وذلك لأنَّه يجمعهم اسم البغي والاعتداء والخروج.قال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع: “فالبغاة هم الخوارج وهم قوم من رأيهم أن كل ذنب كفر كبيرة كانت أو صغيرة، يخرجون على إمام أهل العدل ويستحلّون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل ولهم منعة وقوة”.وقد يفصل بعضهم الفرق بينهما في بعض ثنايا الموضوع، أو في أبواب أخرى.وقد يطلق البعض عليهم جميعًا لفظ الخروج لخروجهم عن جماعة المسلمين، وقد يطلقون لفظ البغاة ويريدون به الظلم والاعتداء عمومًا بأنواعه المختلفة، قال ابن قدامة في المغني: “والخارجون عن قبضة الإمام، أصناف أربعة: أحدها: قوم امتنعوا من طاعته، وخرجوا عن قبضته بغير تأويل، فهؤلاء قطّاع طريق، الثاني: قوم لهم تأويل، إلا أنهم نفرٌ يسير، لا منعة لهم، كالواحد والإثنين والعشرة ونحوهم، فهؤلاء قطّاع طريق، الثالث: الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير، وكثيراً من الصحابة..الصنف الرابع: قوم من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفّهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة”.
وقال ابن حزم في “المحلى”: “فالبغاة قسمان لا ثالث لهما: إما قسم خرجوا على تأويل في الدِّين فأخطئوا فيه, كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق. وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق، أو على من هو في السيرة مثلهم”. ولا بد عند بحث هذه المسائل من النصوص الشرعية، والنظر في كافة كلام أهل العلم، وضمِّ بعضه إلى بعض، حتى يتضح الفرق بين هذه المصطلحات، وتتبين أحكامها. وقد سئل ابن تيمية عن البغاة والخوارج : هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد؟ أم بينهما فرق؟ وهل فرّقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا؟ فأجاب بجواب طويل، وفيه:
” أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعتْ على أن لا فرقَ بينهما إلا في الاسم: فدعوى باطلةٌ، ومدّعيها مجازف؛ فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم: مثل كثير من المصنّفين في (قتال أهل البغي)؛ فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام، من باب (قتال أهل البغي) ثم مع ذلك فهم متّفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة؛ لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق؛ بل مجتهدون. وأمّا جمهور أهل العلم فيفرّقون بين (الخوارج المارقين) وبين (أهل الجمل وصفين) و(غير أهل الجمل وصفين): ممّن يعد من البغاة المتأولين، وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلّمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم: من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم… فمن سوّى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين: كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين!..
ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعهما وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ على قولين هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج. وأما أهل البغي المجرّد فلا يكفّرون باتفاق أئمة الدين؛ فإن القرآن قد نص على إيمانهم وإخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي” مختصرًا من “الفتاوى”. ومن هذا الباب ما يقع من الخلط في بين قول علي في معاوية رضي الله عنهما ومن معه، وبين قوله في الخوارج: فالثابت أنه سئل عن جيش معاوية: “قِيلَ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا، قِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ; قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: إِِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا” أخرجه البيهقي، وابن أبي شيبة. أما في الخوارج: فقد سئل: “مَنْ هَؤُلَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وَهَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ, فَعَمُوا فِيهَا وَصُمُّوا” أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. وسئل “عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ، أَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا, قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا , قِيلَ لَهُ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا” أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في السنن الكبرى. وما ورد من رواية في وصف الخوارج بإخواننا فهي ضعيفة. وهذا ما يتوافق مع وصف الآية الكريمة لطرفي النزاع بين المؤمنين بالأخوة في الدين: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما}.
وأخيرًا:
فإذا اجتمع إلى ما سبق غدرٌ، ونقض للعهود والمواثيق، وقتال للمسلمين وقت جهاد الدفع، واستهدافٌ لقادة المجاهدين ودعاتهم، كما هو مشاهدٌ معلومٌ من تنظيم (الدولة)، مع خطورة تقويض الجهاد كما سبق أن فعلوا في العراق، بل خطورة إسقاط مشروع الأمّة بأكملها، مع استخدام الأعداء لهم –بالاستغلال والاختراق، وتجاوبهم مع ذلك، وتكرار ظهور إجرامهم وانحرافهم في كل مكان يظهر للمسلمين فيه مشروع، كأفغانستان، وفلسطين، وليبيا، واليمن، وغيرها؛ فإنَّ الحكم عليهم ينبغي أن يكون أشدّ وأكثر حزمًا، ولا ينبغي التوقف حتى تستأصل هذه الفئة المارقة وتزول عن ديار المسلمين. ويبقى القول الفصل في تنزيل هذه الأحكام على الأرض لجهات الفتوى المعتبرة. والحمد لله رب العالمين.
رابط الجزء الأول من المقال: https://sy-sic.com/?p=1555