الكاتب: د.محمد العبدة – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
عندما نطرح موضوع الشورى لا نقصد الالتزام بهذا الاسم أو هذا المصطلح لمجرد الخصوصية مقابل مصطلح الديمقراطية، أو للتميز والمخالفة، كما أننا لا نراه شيئاً مثالياَ أو خيالياً، لا يملك آلية للوصول إلى الهدف المنشود.
نتحدث عن الشورى كعملية سياسية لإدارة الحكم تختلف عن الديمقراطية بشتّى أشكالها في الغرب أو الشرق، وعندما أظهرنا بعض عيوب ونقائص الديمقراطية فلأننا نريد أن نعيد لمصطلح الشورى مضامينه الحقيقية كما جاءت في القرآن الكريم، وكما طبّقها الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده. نعيدها ونجتهد في تطويرها لتكون بديلاً صحيحاً هي أقرب للصواب ولحسن الاختيار كي نصل إلى أفضل المؤهلين فكرياً وعلمياً وخبرةً، ولا نقلّد غيرنا.
ونستورد شيئاً قد نبت في أرض غير أرضنا وطبّق على شعوب غير شعوبنا وفي ظروف غير ظروفنا والأسئلة التي يطرحها البعض عندما ننقد الديمقراطية: ما هو البديل؟ هل البديل جاهز؟ ونقول لهؤلاء: لماذا لا نفكر في البديل من البداية؟ لماذا لا نجتمع ونتحاور ونجتهد مع أهل العلم والذكر الخبراء في السياسة والسياسة الشرعية ومقاصد الشريعة، بعض الأمم غير الإسلامية الذين رفضوا الديمقراطية الغربية، أوجدوا بديلاً، قد يكون ناجحاً وقد يكون غير ذلك؛ ولكنّهم فكروا في البديل المناسب لهم، أليس من الأولى والأحرى أن يقوم المسلمون بإيجاد النظام المناسب لهم؟
عندما نتحدّث عن الشورى فإننا نتحدّث عن مبدأ تجري فيه المناقشات والحوار وتبادل الرأي تحت مظلّة القيم الإسلامية، وتتحرى فيه الآراء القرب من العدل والحق الذي تفرضه الشريعة.
نتحدث عن الشورى في مجتمع اسلامي يمارس واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط وآداب معروفة، وهو واجب فرضه القرآن على جميع المسلمين وجعلهم مسؤولين فرادى وجماعات عن مرقبة وحراسة الأمن العام للأمّة، وهو واجب له مجالات واسعة في التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وفي التشريع والدعوة والمجالس من أصغر خلية إلى (مجلس الشورى) إنه سلوك خلقي شامل، وإنه من خصائص الأمّة الإسلامية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) هذا الواجب هو مصدر صريح للشورى وهو يُطّهر المجتمع من آفتين: الاستبداد من جهة، واستعباد الآخرين من جهة أخرى، فالقضية ليست في شكليات (الدستور) أو (المواد الدستورية) القضية هي في نفسية الفرد وثقافته وعقيدته، فعندما يفقد الفرد شعوره بقيمته كإنسان ينتهي كل شيء.
وضع الإسلام حاجزين لمنع تدهور الإنسان، وحتى لا تظهر آفّة الاستبداد حثّ القرآن المسلمين بأن لا يقبلوا بالذل والهوان (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) النساء 96 .
وحتى لا تظهر آفة استعباد الآخرين قال تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص 83
قد تمنح الديمقراطية العلمانية الحقوق للإنسان، وتمنحه الضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأمرين: إما أن يكون ضحية مؤامرات لمنافع خاصّة، أو لا مانع عنده من ممارسة الديكتاتورية على الآخرين، أي استعباد الشعوب الأخرى.
نتحدث عن الشورى في مجتمع إسلامي يقرأ القرآن ويرى ما فيه من تشنيع على صنف من الناس يخضعون لتأثير(الملأ) ويتبعونهم على غير هدى. وذكر القرآن ضعف هؤلاء التابعين أمام المتبوعين (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ،قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) سبأ 30 ــ 31
(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا) سبأ 32
ماذا نقول عن هذا الاستهواء وعن صنوف هذا التأثير بعيدة الخطر في الحياة العامّة وفي العصر الحديث يقوم الإعلام بهذا الدور حين يتحكم بالرأي العام ويسلب الناس تفكيرهم إضافة إلى الزعماء الدجالين، ويظن الفرد أحياناً أنه مستقل حر، ولكن الإعلام يكون قد أثر عليه.
إنها الشورى التي تتعمق داخل المجتمع الأسلامي، وليست مجلساً سياسياً فقط، وإن كان المجلس هو قمّتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته ” ففي هذا الحديث الشريف تتوزع المسؤولية على الجميع من الأدنى إلى الأعلى، كل فرد، وكل أسرة وكل مجموعة أو تجمع.
نتحدث عن الشورى التي بدأت بالتطبيق العملي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الخلفاء الراشدين وهي سوابق دستورية لم يشهدها التاريخ، وقد تمثلت في أنها: ليست وراثية، وأنها سلطة المسلمين عامة، وأن تداول السلطة يمكن أن يأتي بأكثر من وسيلة، وأن الأمّة يجوز لها أن تنيب عنها مجموعة هي التي تختار رأس الدولة، وأن الحاكم ليس معصوماً. هذه التجربة نريد أن نستأنفها ونطورها ونقعِّد لها القواعد والنظم حسب واقعنا وظروفنا.
ثانياً: الشورى في القرآن والسنة
وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين : في سورة آل عمران بصيغة الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” آل عمران/ 159 وفي أرجح الأقوال أنها نزلت بعد موقعة (أُحد) والآية الثانية التي وردت فيها كلمة الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) الشورى / 38وهذه الآية تصف أحوال المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم وكأنها تجعل ممارسة المؤمنين للشورى شيء طبيعي بحكم استجابتهم لربهم وبحكم اقامتهم الصلاة وإنفاقهم مما رزقهم الله، وهي صفة عامّة ينبغي أن تلازم جماعة المسلمين في حياتهم العادية وسلوكهم العادي، وليس أمراً فقط للعلاقات السياسية بل إنّها لا تضيع في العلاقات السياسية إلا اذا ضاعت في المجتمع ككل ، فالله سبحانه وتعالى عاب على قوم فرعون أنهم أطاعوه (سْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) الزخرف /54 أي هم الذين تسبّبوا في طغيان فرعون وقبلوا الاستخفاف وقد قصّ القرآن من أمر مملكة سبأ: أنها قالت للملأ من قومها بعد أن اتصلت بكتاب سليمان ــ عليه الصلاة والسلام ــ قالت لهم ” قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” النمل /32. والقرآن لا يقص علينا القصص للتفكّه بالوقائع التاريخية، ولكن ليتعلم الجاهلون، ويتنبّه الغافلون، وهو القائل لرسوله صلى الله عليه وسلم: “فاقصص القصص لعلّهم يتفكرون ” الأعراف/176.
فمسؤولية الشورى وحكمها يدور في المجتمع كله، ولا يقتصر على العلاقات السياسية قال أبو هريرة رضي الله عنه: “ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أربع أنواع من الناس، استشار كل الناس وهي شورى مفتوحة وتكون غالباً في المسجد، فعل ذلك في التصميم على القتال في بدر، وأخذ برأي الأغلبية في الخروج الى أحد.
الشورى الثانية كانت لرؤساء الناس، وأوضح مثال هو عندما استشار السَّعْديَن (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة) في أمر يخص أهل المدينة، وهو إعطاء الأعراب ثلث ثمار المدينة على أن ينسحبوا من تحالف الأحزاب في حصارهم للمدينة (غزوة الخندق) وفي أعقاب غزوة حنين طلب من عموم الجيش أن يبعثوا ممثلين لهم (عُرفاء) فقد جاء في السيرة أن هوازن جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا يطلبون رد السبي من جيش المسلمين المنتصر، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم “إنا لا ندري من أذن فيه ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم” أي أن الذين سيأذنون برد السبي هم أفراد الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فرجع العرفاء الى الناس وكلموهم فأذنوا وطيّبوا، فرد السبي فهذا يدل على أن اختيار الناس ممثلين عنهم للدفاع عن قضاياهم ومطالبهم طريقة صحيحة.
الشورى الثالثة: أهل خبرة في مجال معين، أبدوا رأيهم لخبرتهم، فقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه في حفر الخندق، ومشورة الحباب بن المنذر في مكان النزول في غزوة بدر.
النوع الرابع: أهل الشورى الذين استشارهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أهل رأي وحنكة وتجربة وسابقة جهاد، وأكثر ما خصّها الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقال لهما: “لواتفقتما على أمر ما خالفتكما”.
فالشورى تعتمد على الموضوع المطروح، فهناك موضوعات يستشار فيها أهل الاختصاص، وبعضها يستشار فيها جميع الناس كما فعل عبد الرحمن بن عوف عندما استشار الناس في خلافة عثمان أو علي رضي الله عنهما.
إلزامية الشورى والفرق بين الشورى والاستشارة
إذا كانت الشورى في الأمور العامّة، التي تهم الأمّة جميعاً مثل اختيار الإمام أوالرئيس، أوحالة السلم والحرب والمعاهدات مع الدول فهذه الشورى إلزامية أي تخضع لرأي الأكثرية. فلم يرو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه استشار وخالف مضمون الشورى، بل استجاب للشورى رغم مخالفتها لرأيه كما في الخروج الى أحد، وعندما استشار السعدين في إعطاء أعراب غطفان ثلث ثمار المدينة قالا له: ما لهم عندنا الا السيف، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هو ذاك وألغى موضوع الاتّفاق مع غطفان . أما صلح الحديبية واعتراض بعض الصحابة عليه، فهذا كان أمراً ربانياً، استنبط الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خلأت ناقته (القصواء) أن الله سبحانه وتعالى لا يريد من المسلمين دخول مكة هذا العام وقتال أهلها، فهذا الصلح لم يكن أمراً مطروحاً للشورى.
إن أمر الشورى أمر عظيم، وما ضعفت الأمة الا حين تركته، وقد يظن البعض أن قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران / 159 لا تعني إلزامية الشورى بل أفضلية الاستشارة، ولكن معنى الآيه كما قال الرازي: ” إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة، فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، وقد أمر الله تعالى أولي الأبصار بالاعتبار، ومدح المستنبطين (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد اذا لم ينزل عليه وحي، والاجتهاد يتقّوى بالمناظرة والمباحثة، وقد شاورهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر في الأسارى، وكان من أمور الدين”
يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآيه: ” الظاهر أن معناه فإذا عزمت على الأمر الذي تشاورهم فيه فافعله وتوكل، ففي الآية إيجاز بحذف متعلّق عزمت، وحذف جواب (إذا) استغناء عنهما بما دلّ عليهما من قوله (في الأمر) والذي يتتبع مصادر الشريعة ومواردها يدرك أن نصوصها تأبى الاستبداد، وأن الأمر بالشورى للوجوب، ولو فرضنا أن رأي الأغلبية أخطأ في أمر من الأمور، فإنّ الضرر الناتج عن هذا الخطأ أخف من الضرر الناتج عن ترك مبدأ الشورى وما يتبعه من استبداد الحكام. يقول الشيخ محمد أبو زهرة في موضوع إلزامية الشورى: “خير للجماعات أن تخطىء وهي حرّة الإرادة في أمر نفسها، وأن تتعلم من تجاربها من أن يفرض عليها رأي ولو كان صواباً، فإن ضغط الإرادة وما يترتب عليه من الضيق. والإعنات والإرهاق النفسي أشدّ ضرراً على حياة الأمة حاضرها ومستقبلها ”
ويقول الاستاذ عبدالله ابو عزة: “الخليفة لا يكون فريداً أوعملاقاً بين أقزام، بل يكون واحداً من بين نخبة يتقارب أفرادها تقارباً شديداً في مستواهم، حتى ليكاد يصعب التمييز بينهم، وسيظل من حوله يقاربونه، وستظل حصيلة آرائهم. أكبر من حصيلة رأيه هو منفرداً على الأرجح “ويقول الشيخ رشيد رضا: ” أيصرّح كتاب الله بأن الأمر شورى، فيجعل ذلك أمراً ثابتاً مقرراً، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة “وإذا كانت الشورى تنصّب على أمور ليس فيها نص غالباً، وهي كثيرة ومتشعبة وإذا كان الحاكم ينفذ رأيه لا رأي أهل الشورى، فمعنى هذا أنه خبير في كل شيء، وأنه قد أحاط بكل شيءٍ علماً؟!
بين الشورى والديمقراطية
نتحدث عن الشورى حيث يجري فيه تبادل الرأي، وتجري فيه التفرقة بين كثرة الأقوال وصواب الأقوال، والصواب هو لأهل الذكر (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الفرد في الشورى هو ضمن أجواء عقدية وأخلاقية، هو عضو في مجتمع له ثقافة وتقاليد، وهو يرى الاختيار جزءاً من واجباته الدينية، الفرد في النظام الديمقراطي الغربي يتبع حزباً من الأحزاب يرتضيه حسب برنامجه السياسي، وهذا الفرد لا يهتم كثيراً بدين مرشح الحزب أو عقيدته وانتمائه.
الشورى في النظام السياسي الإسلامي خاضعة للشريعة التي رسمت الحدود التي لا يجوز تجاوزها، فإذا صدر قرار من الأغلبية يخالف مبادئ الشريعة، فإنه سيكون باطلاً ديانةً، والديمقراطية لا تعرف الحدود الثابتة، وحتى الحدود الثابتة التي كانت بالأمس في بلاد الغرب خرقتها البرلمانات المعاصرة أخيراً.
في الشورى حل لمشكلة التلاعب بالقوانين وتعديلها حسب ما يراه السياسيون، إنّ الواقع التاريخي للأمّة الإسلامية يثبت أن الحكام لم يتدخلوا في شؤون اجتهاد العلماء في استنباط الأحكام، أو لا يستطيعون التدخل لأنّ أمر الفقه والاجتهاد ليس تابعاً لهم، بينما نرى أن الحكام المستبدّين اليوم يصدرون الأحكام والمراسيم ويطلبون من برلماناتهم التصديق عليها.
فالدول الإسلامية وإن لم تمارس الشورى على حقيقتها ولكنها لم تتجرأ على إصدار القوانين خارج نطاق الشريعة. في الشورى لا يطرح التصويت العددي مباشرة، بل يستمر الحوار للوصول إلى الإقناع وحتى يصل الأمر إلى الإجماع أو الأكثرية، وفي الشورى لا بد من شروط معينة في المرشح لمجلس الشورى، شروط تؤهله لأن يمارس الرقابة على السلطة التنفيذية، وأن يكون ممثّلاً للأمة في جميع مناحي حياتها، فلا يطمح للوصول إلى هذا المنصب أحد بسبب ما عنده من ثروة أو بسبب ذلاقة لسانه أو ممن يلتف حوله الناس لعصبية جاهلية.
لقد حدّد الإسلام المضامين والمبادئ في أمور الحكم ولم يحدّد الهياكل والمؤسسات التي تدير شؤون الناس وهذا يعطي الشورى المرونة والاتساع، ولو حدّد الهياكل لوجب أن تتّبع في كل مكان وزمان.
الاجتهاد الدائم وتطوير النظم
إن هذه الفروق وغيرها لا تعني الوصول إلى إجابات نهائية في كل قضية مطروحة، ولكنه الاجتهاد الدائم والاستفادة من الماضي والحاضر دون أن نفقد هويتنا وثقافتنا.
النماذج الجاهزة المستوردة من الخارج لا تصلح للمجتمعات العربية الإسلامية الحديثة، ولا التي تؤخذ حرفياً من تراثنا وتاريخنا، لا بد من الاجتهاد وإعمال الفكر وأخذ أوضاعنا الحالية في الاعتبار. وإذا كان الواقع أنه سيكون هناك انتخابات وبرلمان، فمن باب التدرج أن تكون مهمة هذا البرلمان إشرافية على الحكومة ويهتم بالقضايا التنفيذية والإدارية
والمالية على ألا تتعارض معارضة صريحة مع الشريعة الإسلامية، ويضاف إلى هذا البرلمان المنتخب رؤساء النقابات لأنهم منتخبون من أعضاء نقاباتهم. ويكون بجوار هذا المجلس مجلس آخر يضم النخبة من علماء الشريعة والبارزين من أهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد والإعلام والعلوم العسكرية والطب، وهذا المجلس يصدر القوانين المناسبة تحت مظلة الشريعة، أو يحق له الاعتراض على القوانين التي يصدرها المجلس الأول إذا كانت مخالفة للشريعة المشكلة التي ستبرز هنا: من الذي يختار هذا المجلس أو كيف يتم اختيار هذا المجلس. وما هي الشروط المطلوبة؟ خاصّة وأنه لا سابقة وتجارب في هذا الصدد، وإن كانت الشروط المطلوبة قد كتب فيها مثل قول الإمام الجويني “أن يكون ذا بصيرة متّقدة، من الذين حنكتهم التجارب، البصيرون بما يصلح للسياسات”
قال البخاري : ” وكان القرّاء (العلماء) أصحاب مشورة عمر، كهولاً كانوا أو شباناً، وكان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل “وأمر الشروط سهل يمكن الاتفاق عليه. وأمّا طريقة اختيار المجلس الثاني (مجلس الشورى) فهذا مما يجب الاجتهاد حوله، فقد يكون من خلال لجنة حيادية، بعد أن تستمزج وتسمع لآراء الجمهور الذين يعرفون هؤلاء وعلى صلة بهم وإذا كان السعي هو للتجديد والاجتهاد في وضع الأطر والنظم في أمور الشورى ومن يمثل الأمّة، ولا نريد التقليد السهل فإنه من البديهي أن الحكومة المقبولة ليست هي الحكومة الثيوقراطية ولا النظام الديمقراطي ولا الاستبداد، المطلوب هو شيء مختلف الشريعة هي الأساس والشريعة غير جامدة على نصوص قانونية محددة.
إن من الاشكالات التي ترد على أذهان بعض المسلمين ظنهم أن شكل الحكم قد حدّد وليس هناك صورة أخرى له، وهذا من الجمود الذي نهى عنه القرآن الكريم، وإن استدعاء صورة معينة وتطبيقها على الواقع دون معرفة خصوصية هذا الواقع وتعقيداته أمر لا يفيدنا اليوم. يقول العالم ابن برهان (ت 518)هـ
“ان الشرائع سياسات يدبّر بها الله عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان نوع من التدبير وحظ من اللطف والمصلحة تختص به “.ويقول العلامة ابن عاشور: “قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبوته غير معرج على تبيين من يخلفه في تدبير أمور المسلمين، ولو كان للأمّة مصلحة في بيان ذلك لبينه فيما بيّن، فترك العهد والوصية، لأن الله لم يأمره ببيان ذلك، ولعلّ حكمة السكوت عن هذا الأمر قصد التوسعة على الأمة في طرق اختيار ما يليق بحال مصالحها في مختلف الأحوال والأعصار والأقطار، ومن حكمة ذلك أن لايكون لولي الأمر دالة على الأمة بحق عهد أو وصية بل يكون لها الكلمة في اختيار من يلي أمورها دون شائبة اكراه”.
ويقول الشيخ صبحي الصالح: ” فالشرع الاسلامي لم يدخل على الناس في معترك الحياة بتطورات مثالية فلم يتمثّل في مراحله الأولى جميع الأطوار السياسية التي ستتعاقب على أمة الإسلام، وكانت هذه مزيّة له على كل النظم السياسية في القديم والحديث، وكأنّما آثر الاسلام بتركه صورة الحكم بسيطة لا تعقيد فيها أن يتنافس المسلمون في بناء مجتمعهم تبعاً لما يصيبون من أسباب الحضارة والنماء، فالمهم هو المضمون، أي تطبيق النظم الإسلامية والعدل الإسلامي، وهذا الذي تحدّث عنه ابن تيمية حين طفق يدعو للإصلاح الداخلي
في الدولة المملوكية لمواجهة الانقسام والتصدّع الداخلي. وقد كان الإمام الطرطوشي مُدركاً لهذه الصعوبات في التطبيق على أرض الواقع، وأنّه لا بد من التدرج في ذلك، وقد عاش فترة من حياته في مدينة الاسكندرية التي كانت تحت حكم الدولة العبيدية الباطنية (الفاطمية) يقول رحمه الله: “فلا يقوم السلطان (الحكم) لاهل الايمان، ولا لأهل الكفر إلا بإقامة العدل النبوي أو ما يشبه العدل النبوي من الترتيب الاصطلاحي ” ويعني بالترتيب الاصطلاحي ما اتّفق عليه البشر من السياسة العادلة.
إنّنا بحاجة لاجتهاد في هذه الأمور، ولا نقع فريسة الحلول السهلة ونستورد ديمقراطية (جاهزة) والشورى المطلوبة تحتاج الى ثقافة معينة وإلى إعداد وتربية، حتى يكون حسن الاختيار فقد يظن بعض الناس أن المجتمع الذي عاش فترة معينة تحت حكم ظالم، ثم جاءت حركة إصلاحية أو ثورة على النظام القديم، هذا المجتمع سيتحول الإنسان فيه بشكل مفاجئ الى إنسان مختلف تماماً عن وضعه السابق وهذا خطأ واضح، فالتحولات لا بد لها من زمن تجري فيه التربية والإعداد، ولا بد من تغطية الهوة بين ما هو ضروري ومطلوب وغاية، وبين ما هو ممكن وتحت سقف الاستطاعة. والناس حين يرون التخطيط على مقاييس كبيرة، مع اقتراح الخطوات العملية المباشرة، فإنهم يتشجعون ويتغلبون على ما في نفوسهم من التحفظات أو نقص في العلم.