الكاتب: د. محمد العبده – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
في منتصف القرن الخامس الهجري ظهرت في الغرب الإسلامي دولة المرابطين ، وهي دولة إسلامية كبرى لها شأن كبير في تاريخنا ، ولها باع طويل في حفظ الكيان الإسلامي في الأندلس ، ووحدت هذا الغرب تحت رايتها .
أسس هذه الدولة الشيخ عبد الله بن ياسين مع تلميذه وصاحبه يحي بن ابراهيم الجدالي أمير قبيلة جدالة الصنهاجية ، كان ذلك نتيجة تخطيط محكم قام به علماء الإسلام المغاربة ، بدءاً من الشيخ أبي عمران الفاسي الذي بدأ دعوته في مدينة ( فاس ) قائماً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الفريضة هي من أصول الإسلام في السياسة الشرعية ، لأن معناها الإصلاح من جميع جوانبه . انزعج حاكم المدينة من دعوة الشيخ وطريقته ، فخرج أبو عمران من ( فاس ) واتجه شرقاً واستقر في مدينة القيروان ، وهي مدينة ليست غريبة على أبي عمران فقد تتلمذ فيها على شيخه أبي الحسن القابسي ، ولعل هناك سر آخر في اختيار هذه المدينة، فالراحلون الى المشرق للحج أو لطلب العلم يمرون بهذه المدينه ، وهذا ييسر لقاء الشيخ بالعلماء وطلبة العلم والتدارس في شأن المسلمين خاصة وأن حال المسلمين في الأندلس والمغرب وصل إلى درجة كبيرة في الضعف والتفرق . فالأندلس تحولت الى دول الطوائف وبعضها يستعين بأعداء الإسلام على إخوانه ليكسب البقاء أو ليتوسع أرضاً على هوان وذل .
كان الشيخ يترقب الحوادث ويسبر غور الدعاة الذين يرسلهم لتعليم الناس ، ويفكر طويلاً بأمر الإسلام في هذا الجزء من العالم الإسلامي ، ولا شك أنه باحث طلابه وإخوانه حول السبل الكفيلة للخروج من هذه النوازل التي زلزلت كيان المسلمين . جاءت الفرصة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وذلك حين زاره في رحلة العودة من الحج الأمير يحي بن ابراهيم ، وسمع من الشيخ وأعجب به . ودار الحوار حول أحوال البلاد وقبائل صنهاجة الصحراوية ، وسأله الشيخ عن العدد فأخبره الأمير عن سعة بلاده وما فيها من الخلق .
ورأى الشيخ في هذا الأمير الطيبة والطبيعة التي لم يفسدها الترف ولم يبطرها القوة والسلطان وشكا الأمير الى الشيخ حالة قومه وبلاده وأنهم بحاجة إلى فقيه يعلمهم أمور دينهم ويجمع كلمتهم ، وطلب من الشيخ أن يرسل معه أحد تلامذته . استجاب أبو عمران لطلب الأمير وكتب كتاباً إلى أحد تلامذته الفقهاء العاملين وهو الشيخ ( وجاج بن زلو اللمطي ) ، الذي استقر في مدينة ( نفيس ) وأنشأ فيها مدرسة لطلب العلم .
وكانت لفتة ذكية من الفقيه وجاج حين اختار لهذه المهمة شاباً ألمعياً من تلامذته وهو عبد الله بن ياسين الجزولي ، الذي قام بالمهمة خير قيام وتوجه الى منازل قبيلة جدالة ، وكان لها الرئاسة على القبائل الصنهاجية الأخرى : لمتونة ، سوفة ، جزولة ، لمطة ، كانت طريقة الشيخ ابن ياسين أن يعلمهم أمور دينهم ولكن لم يكتف بذلك بل أراد أن يهذب من طباعهم ويخرجهم من بدائيتهم ، وكان حاسماً معهم في أمر الدين لا يداهن في ذلك ، فلم يرضوا طريقته وشدته في الحق فخرج من بلادهم وعاد إلى شيخه وجاج يطلب النصيحة غضب الشيخ وجاج من تصرف هذه القبيلة وطلب من الأمير يحي أن يعاتب قومه على فعلتهم ، ندمت القبيلة على تصرفها وطلب من الشيخ العودة ولكنه رفض وذهب إلى جزيرة قريبة من الساحل في منطقة ( السوس ) في أقصى جنوب المغرب ( ربما تكون قريبة من مصب وادي السنغال ) وكان ذلك أيضاً باشارة من صديقه الأمير يحي .
وفي هذه الجزيرة أسس الشيخ رباطاً وسمى أتباعه المرابطين ، وعندما رأى وفرة الرجال الذين وفدوا إليه لطلب العلم خرج بهم من الجزيرة مجاهداً فاتحاً القرى والمدن التي عشش فيها الجهل وتحكم فيها الزعماء الظالمون وبعد وفاة الأمير يحي بن ابراهيم ، كان الساعد الأيمن للشيخ ابن ياسين وأقرب الناس له الأمير يحي بن عمر اللمتوني وكانت قبيلته ( لمتونه ) من المؤسسين لدولة المرابطين وكأن العلماء والصلحاء من الناس ينتظرون مثل هذه اللحظات ، ففي عام 447هـ اجتمع فقهاء سلجماسة وفقهاء درعة وصلحاؤها وكتبوا الى عبد الله بن ياسين والأمير يحي يطلبون الوصول لبلادهم ليطهروها من المنكرات ، استجاب ابن ياسين واستولى على درعة ثم سلجماسة وأصلح أحوالها وأزال ما فيها من البدع وأسقط المغارم المفروضة على الناس وهكذا استطاع الشيخ أن يقود المرابطين لتوحيد هذا الإقليم ( الغرب الاسلامي ) تحت راية الشريعة ، ومن أعظم أعماله محاربته للفئة المنحرفة عن الاسلام ( البرغواطيين) في منطقة ( تامسنا )وقد استشهد في المعركة التي خاضها معهم .
كان ابن ياسين هو الرئيس الفعلي للمرابطين ، وهو صاحب الدعوة ، ولكنه لم يختر أن يرأس الدولة الجديدة بل جعل رئاستها لصاحبه وشريكه في الدعوة الأمير يحي بن عمر وبعد وفاة يحي تولى الأمر أخوه أبو بكر بن عمر ولم يكن أقل من أخيه يحي حرصاً على الدعوة وامتثالاً لأوامر الشريعة .
اتسعت حركة المرابطين اتساعاً كبيراً ، ويذهب أبو بكر بن عمر للدعوة في الجنوب ، في مناطق السودان الغربي ( ما يسمى اليوم السنغال وما جاورها ) ويترك قيادة الدولة لابن عمه يوسف بن تاشفين ، لقد تخلى عن الحكم لأن الدعوة كانت همه الأول .
قام ابن تاشفين بأمور الدولة خير قيام واتخذ مدينة مراكش عاصمة له وغدت دولة المرابطين دولة واسعة قوية مرهوبة الجانب وعندما كانت الأندلس تتناثر قطعاً بأيدي ملوك الأسبان النصارى ، اجتمع علماء الأندلس ورأوا أن لا مناص من الاستعانة بالمرابطين . وطلبوا من ملوك الطوائف الكتابه لابن تاشفين في هذا الأمر . كان ابن تاشفين يعلم أحوال الأندلس وتفرق أهلها فاستجاب لطلب علمائها وزعمائها ، واعتبر ذلك فرضاً دينياً ، وعبر الأندلس بجيوشه المجاهدة ، ووحد صفوف الأندلسيين ، وكانت معركة الزلاقة المشهورة التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً ، وتوقف الزحف الاسباني على المدن الاسلامية لعقود قادمة .
لم يكن لابن تاشفين مطمع في الأندلس ولا في الغنائم التي تركها العدو ، تركها لأهل الأندلس ورجع الى عاصمته مراكش ، ولكن أمراء الأندلس نكسوا وعادوا الى طبيعتهم من التنازع والتفرق ، ويضطر ابن تاشفين للعودة مرة ثانية الى الأندلس ليقضي على الدويلات المتهارشة على الدنيا .
تربى ابن تاشفين في مدرسة عبدالله بن ياسين وهي مدرسة تربوية جهادية لا تستهويها المناصب ، فالذي ناصر وأسس مع ابن ياسين ذهب الى الجنوب والغرب الافريقي ليدعو أهلها الى الإسلام وترك الحكم لابن عمه .
تأسست دولة المرابطين على الخير والإخلاص وكان للعلماء فيها المكانة العالية. ولذلك تتهم هذه الدولة من المستشرقين وبعض تلامذتهم بأنها دولة عسكرية وليست حضارية ، أهل الحكم فيها جفاة يحاربون الاتجاهات الفلسفية ، فالمهم عند هؤلاء هو انتشار الفلسفة ، وأهل الانصاف يرون أن هذه من مزايا المرابطين لانهم يهتمون بالعلم والعمل وليس بالجدل الكلامي ، يهتمون بالفقه وتطبيق السنه ، وهي دولة دعوية أرسلت الدعاة الى ممالك السودان فأسلم بعض ملوكهم ، وفي عهدهم أصبحت العاصمة مراكش مليئة بالعلماء الذين وفدوا اليها من كل حدب وصوب بسبب تشجيع المرابطين للحركة العلمية ، وفي تاريخ المسلمين ، كان للعلماء دور كبير ، فإما أن يضعوا الأمر في نصابه ويعيدوا للأمة حيويتها ونضارتها وإما أن يتركوا مهمتهم التي ندبوا اليها فيعم الجهل والنسيان . ومع الأسف لم تطل مدة بقاء هذه الدولة فقد حاربها وبقوة الذي ادعى المهدوية محمد بن تومرت وأجلب عليها قبيلته المصامدة وقضى على دولة المرابطين في فترة كانت الأمة الإسلامية بحاجة الى التوحد وتكريس الجهود لامتداد الاسلام والوقوف في وجه الزحف الأوروبي الآتي من الشمال.