الكاتب: الدكتور عبد الكريم بكار – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
1- الشريعة هي الأصلح:
هذه قضية عقدية في المقام الأول حيث إنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد بأن ما وضعه الناس من قوانين وأعراف أصلح للعباد والبلاد من أحكام الشريعة، كما أنه ينبغي على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهذا الذي نقرره أجمع عليه علماء الأمة. إن الله سبحانه وتعالى جعل نبيه محمداً خاتم النبيين وجعل شريعته خاتمة الشرائع، وذلك لما فيها من خصائص تجعلها تسع أحوال الخَلق في كل الأزمنة والأمكنة، ولولا ذلك لاقتضى لطف الله بعباده استمرار إرسال الرسل وتنزيل الكتب. إن الأدلة على وجوب التحاكم إلى الشريعة الغراء في كل شؤون الحياة كثيرة جداً، منها: قول الله تعالى:
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء: 65
وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) الأحزاب: 36
والأحاديث النبوية في هذا كثيرة ومعروفة.
إن الاعتقاد بوجوب إنفاذ حكم الله تعالى والاستسلام لأمره شيء لا يقبل المساومة ولا أنصاف الحلول، أما تطبيق ما يعتقده المسلم – سواء أكان حاكماً أم محكوماً- من أحكام الشريعة وتجسيدُه في واقع الحال، فهذا له أحكامه الخاصة التي قد نعرض لبعضها في موضع آخر.
إن الاعتقاد بعدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان هو انسلاخ من ربقة الدين وخروج من دائرته من غير خلاف بين علماء الإسلام الثقات المعتمدين.
2- من الذي يطبق الشريعة ؟
قد ثار جدل عريض في هذا الأمر بين الإسلاميين بتياراتهم المختلفة، وبينهم وبين العلمانيين، فمن قائل: إن الشريعة لم تطبق إلا في أيام الخلفاء الراشدين، وهذا يعني أنها لا تصلح لكل زمان ومكان بسبب محدودية النصوص وكون حوادث الزمان غير محدودة، ولهذا فإن المطالبة بتطبيق الشريعة هي نوع من العبث والانتكاس الحضاري، وهناك من يقول: إن الحكومات العربية والإسلامية قد أدارت ظهرها للدين، وعطلت أحكام الشريعة، وقد أدى هذا إلى اتهامها بالكفر والزندقة… المشكلة الأساسية في ظنيّ تكمن فيما تعنيه كلمة (الشريعة) حيث إنه تم اختزالها لدى كثير من المسلمين إلى الجانب القانوني منها، بل إلى الحدود والعقوبات على وجه التحديد، وفي هذا تشويه كبير للمراد من المفهوم!.
معنى (الشريعة):
الشريعة في الأساس هي الدين كله، وهذا واضح في قول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الجاثية:18 قال الطبري: “يقول: على طريقة وسُنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا (فاتبعها) يقول: فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك، وقال قتادة: الشريعة هي الفرائض والحدود والأمر والنهي فاتبعها ، وقال ابن زيد: الشريعة: الدين. وقرأ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) قال: فنوح أولهم وأنت آخرهم”.
إذا كانت الشريعة هي الدين بعقائده وأخلاقه وعباداته وأحكامه ومعاملاته، فإن تطبيق شيء منها بل أكثرها ظل ماثلاً في حياة شريحة غير قليلة من المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي، وسواء أكانت الحكومة التي تحكم المسلمين ملتزمة بالإسلام أم غير ملتزمة به إذ إن أكثر من (90%)من أحكام الشريعة يطبقه عامة الناس، وليس الحكومة، ونحن نعرف أن جماهير علماء (أصول الفقه) قد انتهوا إلى جعل مقاصد الشريعة خمسة: حفظ الدين و النفس والعِرض والعقل والمال، وإن أي جهد أو نشاط يساعد على صون وتنمية ودعم أي مقصد من المقاصد الخمسة المذكورة أو يصب فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هو في الحقيقة من تطبيق الشريعة، وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن من تطبيق الشريعة التالي:
-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أمور دينهم.
-تقليل نسبة البطالة في المجتمع وتوفير فرص العمل وإعانة الناس على كسب رزقهم.
-إعداد الدعاة وتحسين مستواهم وتوفير الظروف الملائمة لعملهم.
-بناء المدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي.
-بناء المستشفيات والمراكز الطبية وتوفير الدواء للناس.
-تربية الأولاد وحُسن العِشرة مع الزوجة وبرّ الوالدين والإحسان إلى الجيران
وصلة الأرحام.
– إيصال الناس، (ولاسيما الضعفاء منهم) إلى حقوقهم.
-تنفيذ أوامر الشرع في الحدود والعقوبات.
-بناء جيش قوي مرهوب الجانب.
-شق الطرق الواسعة وبناء المطارات وإقامة الحدائق والمرافق العامة مما ييسر حياة
الناس ويوفر لهم نوعاً من الترويح المُباح.
-إتقان العمل والحرص على الجودة والدقة في المواعيد.
-الرفق بالحيوان والحفاظ على الحياة الفطرية.
-التعامل مع الناس بالصدق ولين الجانب والتسامح.
-توفير الأمن للناس وتحريرهم من الظلم والطغيان.
-تدريب الشباب على إتقان مهنة من المهن أو إدارة عمل من الأعمال.
إن في إمكاني أن أعدد الكثير الكثير من الأعمال والأنشطة التي تُعدّ من التعبد لله تعالى والقيام بأمره وتطبيق شرعه. الرسالة التي أريد إيصالها من وراء كل هذا هي: أن تعليق تطبيق الشريعة بحكومة إسلامية هو تعليق غير سديد لأنه في الحقيقة يؤدي إلى اختزال الشريعة إلى عُشر ما هي عليه، كما أنه يُشكل نوعاً من الفرار من المسؤولية الأخلاقية والشرعية عن تطبيق الشريعة، وهذا كله يعني أن تطبيق معظم أحكام الشريعة لا يتوقف على وجود حكومة إسلامية، وهذا لا يعني بالطبع الإذعان لحكومة علمانية أو معادية للدين، لكنه يعني أن وجود حكومة إسلامية هو شيء جيد، لكنه لا يعني تطبيقاً للشريعة في كل الأحوال، إذ إن التاريخ يعلمنا أن سوء تعامل الحكومة التي تدعي الالتزام بالدين أو تصطبغ بصبغته ظاهراً مع الناس، قد يؤدي إلى شيوع الإلحاد والتمرد على أحكام الدين وآدابه، وذلك لأن الناس حين يُقهرون سياسياً من جهةٍ ما فإنهم يردون عليها من خلال محاربة القيم التي تؤمن بها، وهذا شيء خطير للغاية!.
3- ما المرجعية العليا ؟
بين الإسلاميين والعلمانيين نزاع شديد في تحديد (المرجعية العليا) للدولة حكومة وشعباً، و التي تُسمى أحياناً بـ (المبادئ فوق دستورية). إن المرجعية العليا هي ذلك الإطار النظري الذي يُشكل مصدراً للرؤى والتصورات والقيم والمبادئ والأهداف الكبرى وكل العلاقات والمواقف الوطنية.
الوحي (كتاباً وسُنة) يُشكل عمود المرجعية الإسلامية العليا، والإيمان بهما يشكل ضابط الانتماء إلى الإسلام. في بعض الدساتير يُنص على أن دين الدولة الإسلام، وهذا يعني ببساطة أن الدستور يستلهم الإسلام في كل مواده، وفي بعضها يكون النص على أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع، وهذا يُفهم منه أن الدستور بالإضافة إلى المواد القانونية المبنية عليه يتلاءم مع الشريعة، ولا يناقضها أو يخرج عليها. إذا نظرنا إلى المرجعية على أنها إطار توجيهي لكل جوانب الحياة، فهذا يعني أن لدينا أكثر من مرجعية، الدستور ينطوي على المرجعية القانونية، وهو يحكم السلوك الجماعي للفرد، والعلاقات التي يقيمها مع غيره، وتأثيره في الحياة العامة كبير، ولاسيما في الجانب الحقوقي وعلى مستوى العقوبات، لكن تأثير الدستور في الحياة الشخصية
للفرد شبه معدوم. إلى جانب مرجعية الدستور، هناك المرجعية العقدية والثقافية ومرجعية الأعراف الاجتماعية، وهذه المرجعية أقوى أثراً في حياة الناس وتوجيه سلوكهم، فالمسلم الذي يتصدق، ويخفي صدقته، ويقوم الليل، ويعاني من شدة الظمأ في نهار رمضان… لا يفعل ذلك بسبب مرجعية الدستور، وإنما بسبب مرجعية عقيدته. الأم التي تعلِّم ابنها كيف يستقبل الضيوف وكيف يتعامل مع أبناء الجيران لا تفعل ذلك بسبب مرجعية الدستور، وإنما بسبب حرصها على مراعاة العُرف السائد وخوفها من كلام الناس…
وأستطيع هنا أن أقول: إن مرجعية العقيدة ومرجعية العُرف أقوى بكثير من مرجعية الدستور، لأن الناس تعودوا التحايل على القوانين، وهناك محامون يفسرون الدستور والقانون بما يساعد على نجاة المجرم من العقوبة، أما المسائل التي تحكمها العقيدة فإن المسلم يلتزم بالشرع فيها إرضاءً لمن يعرف السرّ وأخفى، حيث لا تنفع الحيلة ولا المواربة، ونحن نعرف أن الدولة هي التي تتولى حراسة القانون، وهي التي تتأكد من امتثال المواطنين له، أما العُرف، فإن المجتمع هو الذي يتولى حمايته، ويردع الخارجين عليه، وحضور المجتمع وسلطانه أقوى بكثير من حضور الحكومة.
ما الذي يعنيه هذا كله؟
ما ذكرته يعني شيئاً مهماً هو: ألا نعتبر معركة المرجعية الدستورية هي المعركة الفاصلة التي ليس بعدها أي معركة، فهذا غير صحيح، فنحن رأينا دولاً عديدة تنص دساتيرها على أن دين الدولة الإسلام وعلى كون الشريعة هي المصدر الأساسي للتقنين، ومع هذا فقضاؤها فاسد والحقوق فيها مضيّعة، وحالها الحضارية يُرثى لها، ولا أرغب أن يُفهم من هذا التهاون في أمر الدستور، فهذا مما لا يقوله أي متابع للشأن السياسي والحقوقي في أي بلد، لكن الذي أودّ قوله هو أن المرجعية الحقيقية والأساسية للناس هي معتقداتهم ونظرتهم للحياة بالإضافة إلى الراسخ من طموحاتهم وتطلعاتهم، كما أن لما يتواطأ عليه المجتمع وما ينشأ عليه الصغار من عادات وتقاليد أهمية بالغة في صلاح المجتمع وفساده، ويتضح من هذا أن المعركة الأساسية وبعيدة المدى ليست معركة الدستور، وإنما معركة تصحيح العقائد وتربية النشء على آداب الإسلام وترشيد الأعراف الاجتماعية السائدة، وصياغة الطموحات والتوجهات المُتشبعة بالإيمان والمنضبطة بالقيم الإسلامية الرفيعة .