الكاتب: الدكتور محمد العبدة – عضو الجمعية العمومية في المجلس الإسلامي السوري
قد يخطر لبعض قراء القرآن الكريم السؤال عن مكان أصحاب الأخدود أو مكان أصحاب الكهف ، أو ما اسم ذو القرنين إلى غير ذلك مما يتعلق بالزمان أو المكان ..
قد لايعلم هؤلاء الذين يسألون أن القرآن الكريم لايسرد الأحداث ويذكر الزمان والمكان وكأنه كتاب تاريخ، لأن من أهداف القصص القرآني أو التاريخ الذي جاء به القرآن هو وضع المقاييس والمعايير التي يمكن من خلالها محاكمة التاريخ الزمني، سواء كان تاريخنا أو تاريخ غيرنا من حيث الاستقامة على جادة الصواب أوالحيدة عنها، فمن الملاحظ أن القصة لا تأتي بالتاريخ الكامل للشخصيات التي يرد ذكرها، وتأتي أحياناً متفرقة في السور حسب سياق الكلام ومناسبة الجزء منها لموضعه في السورة، ولهذا أيضاً لا يذكر الأسماء أحياناً مثل اسم فرعون فالمقصود هو أنه نموذج الطغيان .
القرآن الكريم يستخدم التاريخ للتربية وصياغة شخصية المسلم وإخراج الأمة المسلمة، إنه يطرح مجموعة من القيم الثابتة ومحاكمة الإنسان على أساسها، فقصة إبراهيم عليه السلام هي مرجعية لنا للحكم على واقعنا وواقع غيرنا أيضاً، وقصة فرعون مع موسى عليه السلام هي مرجعية لمعرفة طرق تفكير الطغاة وأهل الاستبداد، والحديث الطويل عن بني اسرائيل لتحذير المسلمين ألا يكونوا مثلهم في التواء أفكارهم وتحريف كتاب ربهم، وقصة ذو القرنين هي مثال لما يجب أن يتحلى به القائد أو الحاكم المسلم من العلم والحزم والاهتمام بالخلق .
القرآن الكريم يحض الناس على استخدام عقولهم لدراسة التاريخ (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) يوسف/ 109 وقال تعالى مخاطباً العرب وقريش خاصة ومتحدثاً عن آثار ما حصل لقوم لوط ( وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) الصافات / 137-138 أي أفلا تعقلون ما تشاهدونه من آثار عقوبة الله النازلة بهم، أفلا يزجركم هذا عما أنتم عليه من الشرك؟
وإذا كان القرآن ليس كتاباً في التاريخ أوتقويم البلدان وإن ذكر فيه أحداث تاريخية، فهو كذلك ليس كتاباً في العلوم الكونية أو الجيولوجيا وإن ذكر فيه خلق السماوات والأرض والجبال والبحار، وإن من الخطورة بمكان التدليل على صحة القرآن بموافقته لنظريات علمية أو ما أنتجته العلوم الطبيعية، لأن هذه العلوم هي علوم نسبية وكلام الله سبحانه مطلق لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولاشك أن الحقائق العلمية المؤكدة لن تخالف القرآن ولا يخالفها والقرآن يشجع على العلم والبحث ولكنه ليس كتاباً في الفيزياء أو الكيمياء، وليس من الصواب أنه كلما ظهرت نظرية علمية نسرع لنقول أن هذا موجود في القرآن وكأننا في شك منه، وكأن النظريات العلمية هي الأصل وهي التي توصل إلى الحقيقة المطلقة، ولذلك نقول: سواء وافقت بعض النظريات العلمية ما جاء في القرآن أولم توافق فهذا لاينقص من ايماننا بالقرآن وأنه وحي من السماء .
القرآن الكريم أيضاً ليس كتاباً في الإحياء والبيولوجيا وإن ذكر فيه تطور الجنين في رحم أمه، وليس كتاباً في علم النفس وإن ذكر فيه خبايا النفس الإنسانية والقلب البشري ،وهو ليس كتاباً في القانون ذو مواد مقننة ولكن فيه تشريع هو معجز لأنه من عند الله وهو لصالح الإنسان إلى يوم الدين، كما أنه ليس كتاباً أدبياً وإن كان معجزاً في بلاغته، وقد يستغرب المثقف الغربي أو غير المسلم إذا اطلع على القرآن، يستغرب أن السورة الواحدة ليست ذات موضوع محدد، فالآيات تنتقل من الحديث عن الخلق إلى قصص الأنبياء إلى الحديث عن اليوم الآخر، وقد يربكه وضع السور وما هي العلاقة بين السورة والتي تليها، ذلك لأنه يظن أن هذا الكتاب مثل الكتب الأخرى ذو فصول متتابعة مرتبط بعضها ببعض، وقد تنبه علماء المسلمين لهذا الأمر وحظي بعنايتهم، فكتبوا في موضوع تناسب الآيات والسور، ومن أشهر الكتب في ذلك ( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ) لبرهان الدين البقاعي.
ويشرح أبو الحسن العامري هذا الأمر أعني موضوعات السورة الواحدة فيقول: ” يجتمع في الجزء منه الشبيه بما هو موجود في الكل، أعني أنه لا يقرأ الإنسان منه عدة آيات إلا وقد ورد منه على الأبواب الاعتقادية والعبادية والأبواب المعاملية والأبواب الزجرية وأخبار الأمم الماضية على بلاغة ميسرة للذكر ووجازة مسهلة للحفظ ” ( الإعلام بمناقب الإسلام / 133 )
القرآن الكريم هو كل هذه الموضوعات التي ذكرت وهو يدعو بشكل صريح للتفكر في الآفاق والأنفس والاستفادة من سنة تسخير الكون للإنسان، ولكن كل هذا أيضاً لتحقيق الغايات الكبرى للرسالة الخاتمة و ليرسم الطريق لسعادة الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة، إنه يهيء الإنسان ليصل إلى درجة إحسان العمل، وليعمر هذه الأرض بالعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) تبارك/2
القرآن يريد هداية الخلق ولذلك يأتي بالدلائل الكثيرة على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويذكر الإنسان بالنعم الكثيرة التي حباها الله للإنسان، لعل النفوس ترتدع، إنه يستثير النفس الإنسانية حتى ترجع إلى ربها ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) البقرة / 28 وإذا كان الجانب الطيني من الإنسان غذاؤه من الأرض فإن غذاء الروح لابد أن يكون من القرآن ( أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الأنعام / 122 وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) الشورى / 52 فسمى القرآن روحاً ، وعندما تتخلى الأمة عن هذا القرآن فقد فارقت روحها ، وإذا كان الغيث يحي الأرض بعد موتها فإن هذا القرآن هو الذي يحي النفوس بعد ضعفها وخمودها .