الكاتب: الشيخ حسن الدغيم – عضو الجمعية العمومية في المجلس الإسلامي السوري
اعترى الساحة السورية طوامٌ كثيرةٌ ونوازلُ خطيرةٌ تمثلت في أفكارٍ غريبة حملت من خارج الحدود تلوي أعناق النصوص وتبعث على الفرقة وتنشر التكفير وتشق الصف وتعيث في عقول الشباب الانحراف والغلو فتسوقهم إلى مشاريع ظلامية ومذابح عدمية لا ينصر فيها حق ولا يقذف فيها باطل ،ولقد حذر القرآن الكريم من خطر الانحراف عامة والغلو بشكل خاص وذلك لأن المغالي في الدين يكون شديد التعصب لأنه يظن بجهله أنه على المحجة البيضاء ويحسب أنه من الذين يحسنون الصنيع وقد قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) البقرة:104
وهذا من الجهل واتباع الهوى وهاتان الصفتان توجدان في كثير من فرق الغلاة على مدار التاريخ ، فهم متبعون للهوى ، جاهلون بالشرع . ولهذا حتى لو قرؤوا القرآن فإنه لا يجاوز حناجرهم ، بمعنى أنهم يقرؤون بدون تدبر، وبدون فهم، ولهذا لا يهتدون بهدي القرآن ، ولا ينتفعون بمواعظه ، فلذلك يقعون في استباحة الدماء، فـ : “يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام” . وذلك نتيجة لتكفيرهم المسلمين، ثم ينطلقون من ذلك الاعتبار إلى استباحة دمائهم .
أولاً تعريف الغلو:
هو تجاوز الحد في التدين مع اعتقاد الصواب، مثل الرهبانية حيث ابتدعها رجال الدين النصارى فترهبوا وتركوا الزواج بدون أن يكلفوا بذلك شرعاً ظناً منهم أن ذلك سيقربهم إلى الله زلفاً قال تعالى: (ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) الحديد:27
حتى يتضح لنا حقيقة الغلو فلا بد أن نعرف ما مقابل الغلو ، مقابل الغلو في الطرف الآخر هو الجفاء وهو التفريط ، والغلو هو الإفراط ، وكلا الأمرين مذموم .
فالشريعة جاءت بذم التفريط كترك الطهارة بأن لا يعبأ بطهوره ولا اختيار الماء الطهور ولا يتقي النجاسات في ثيابه وصلاته، وبذم الإفراط كالوسوسة وهي أن يحمل نفسه ما لا تطيق فيكرر الوضوء مرات ومرات وربما قطع الصلاة ظناً منه أنه على غير طهارة بينما جاءت الشريعة بالعدل، وسلوك منهج الوسط في الاعتقاد وفي العمل.
لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: ” ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه” فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
ثانياً الغلو عند الأمم السابقة:
كغلو اليهود في النبي عزير وغلو النصارى في عيسى بن مريم ونسبة الألوهية لهما والعياذ بالله واتخاذهم أرباباً تعبد وتمجد من دون الله وما دفعهم إلى ذلك إلا الجهل العظيم وإلا كيف يعبدون بشراً مثلهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة: 30-31
وقد نهاهم كتاب الله عن هذا الباطل وتجاوز حدود ما أمر الله فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ النساء: 171، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى واصفاً الغلو بالضلال عن الدين ومفارقة الحق
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾المائدة: 77
ثالثاً الغلو عند المسلمين:
وهذه الظاهرة وجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوه، ثم قالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ثم قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم بما قالوا بيَّن لهم المنهج الصحيح، وأنكر عليهم هذا الانحراف عن السنة، فقال صلى الله عليه وسلم ” أَمَا إِنِّي أَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ” .
وكذلك فالغلو يسري إلى الاعتقاد فيغلو المسلم في محبة الصالحين إلى درجة منحهم فوق ما أعطاهم الشرع من ميزات كمن يغلو في نبي من الأنبياء ، فيستغيث به ، ويسأله من دون الله عز وجل أو يدعي فيه أنه يعلم الغيب، أو غير ذلك مما هو من خصائص المولى تبارك وتعالى، ومن ذلك أيضا الغلو في الصالحين والطواف حول قبورهم وتقديم الذبائح والقربات لها وسؤالهم تفريج الكربات، وإجابة الدعوات ، فهذا أيضًا من الغلو ومن ذلك أيضًا الغلو في التكفير بغير برهان من الله عز وجل ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ورمي المسلمين بالكفر والزندقة كما فعل الخوارج عندما كفروا صحابة رسول الله صلى الله عليهم واستحلوا دمائهم فقتلوا عثمان وعلي وطعنوا معاوية وقتلوا خلقاً كثيراً وهم في ظنهم أنهم يتقربون إلى الله بدمائهم و جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذر من الغلو والتنطع، منها حديث عبد الله بن مسعود حيث قال صلى الله عليه وسلم : ” هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ” .
والمتنطع كما يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم هو المتعمق في الشيء، المغالي فيه، المجاوز حدَّ الشرع فيه، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقادًا.
وقال صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ” ويشاد بمعني: يغالب، فمَن غالب الدين فشق على نفسه فسيكون منتهى أمره إلى الانقطاع ويُغلَب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: “عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا “.
رابعاً خطر الغلو:
لا يحتاج من يعيش واقعنا هذا كثير تفكير ونظر ليدرك خطر الغلو فهو يرى بعينه كيف يكفَّر المسلمون وتستباح دماؤهم وأعراضهم وتفجر مساجدهم وأسواقهم بل ومقرات مجاهديهم وهم صائمون كما حدث في مسجد سالم في أريحا وغيره مما لا يخفى عليكم وربما نذكر بعض هذه الأخطار
أ : إسقاط علماء الأمة والإساءة إلى سمعتهم ومكانتهم مما جعل الشباب يبتعدون عنهم ويقعون في مهاوي الجهالة والظلام وأخذ العلم عن المجاهيل والنكرات الذين لا يشتهر لهم بين الناس فضل ولا علم.
ب: شق صف المسلمين في الماضي والحاضر وزرع الفتنة والتناحر بين الجماعات الإسلامية وإشعال الحروب المدمرة للأمة.
ج: تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وطعنهم في الخاصرة ومشاغلتهم عن أعدائهم وحرف بوصلة الثورات والمقاومة
د: تشويه سمعة الإسلام في العالم وتصوير المسلمين على أنهم وحوش وقتلة وأكلة أكباد ولحوم بشر وأن على العالم أن يتعاون للقضاء عليهم.
هـ: وقف حركة الفتوحات الإسلامية أكثر من مرة في الماضي وضرب مشاريع الثورة والمقاومة في العصر الحاضر
خامساً علاج الغلو:
ما دام أن الجهل وعدم اقتفاء السنة النبوية واتباع الهوى هي أسباب الغلو فإن علاجه يكون بمحاولة إزالة هذه الأسباب التي أدت إليه وذلك عن طريق :
1- الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، ومجانبة البدع والحذر منها ، وهو أعظم أنواع العلاج ، يقول الله عز وجل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ آل عمران: 103 والاعتصام بحبل الله هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها .
وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ” .
2- لزوم الجماعة ، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية كما قال الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ آل عمران:103، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ “. رواه الترمذي، وهو حديث صحيح .
وفي ظرفنا الحالي (في المناطق السورية المحررة) ليس هناك ولي أمر مطاع وإنما هنالك حالة من الفرقة وهنا كما قال الإمام الجويني وغيره من الأئمة أن على الناس أن تعود في أمورها إلى العلماء الثقاة والقضاة العادلين فهم أجدر الناس بأن يحفظوا عقد الأمة من الانفراط وهؤلاء العلماء ممن شهدت لهم مواقفهم وأعمالهم وزكاهم الناس ضمن شروط أهل العلم من تقوى وورع ونظافة يد وحب للمسلمين ولزوم للسنة.
3- أخذ العلم عن العلماء الثقات الذين تناقلوا ميراث النبوة كابراً عن كابر ولم يأخذوا العلم من بعض المطالعات وصفحات الكتب قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ النساء : الآية 83
4- القيام بالمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بالطرق المشروعة على جميع مستويات الأمة، للغالين على وجه الخصوص يقول ربنا جل وعلا ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران: 104 ويقول سبحانه: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ الشورى : 13
مع ترك القضايا العامة التي تعترض الأمة ليتصدى لها أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وولاة الأمور، بما مكنهم الله عز وجل من القدرة العلمية والسلطة، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا، وأما عامة الناس وقليلو العلم وقليلو التجربة فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا، لأنهم إذا تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم.