الكاتب: د. محمد العبده – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
إن المتتبع لما ينشر هذه الأيام في بعض الصحف والمجلات أو في المواقع (الإلكترونية) وكذلك ما يقال ويتحدث به في الندوات الثقافية. سيلاحظ ظهور فئة من الناس تدعي التجديد في التراث والثقافة، والتجديد عندها هو تحطيم الماضي، وخاصة التاريخ السياسي والحضاري للأمة (1) فتجدهم يلمزون ويغمزون من قريب أو بعيد في الدولة الأموية خاصة ، وأنها دولة استبدادية، ثم يرجعون قليلا إلى الوراء ليقولوا: إن الإسلام لم يطبق إلا في عهد الخلفاء الراشدين بل في عهد أبي بكر وعمر فقط.
هذا التعميم الجائر الظالم من هذه الفئة يقول عنه أديب العربية الشيخ محمود محمد شاكر: “يلقي ظلا كثيفا قاتما كئيبا على العصور الأولى، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور ، والشك في أمورهم، ويعمي عن معرفة الحقائق” (2) ليس بخاف على المسلمين العلماء منهم والمؤرخين أن دولة بني أمية ليست مثل دولة الخلفاء الراشدين، هناك أخطاء وهناك ظلم من بعض الولاة، وهناك وضع للأموال في غير محلها ، ولكن أكثر ملوك الأمويين “كانوا من الحزم والعلم وحسن السياسة والإدارة على جانب عظيم، والسواس منهم معاوية وعبد الملك وهشام…”(3) وواسطة عقدهم وممن تفتخر بهم هذه الدولة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وأحواله وأعماله معروفة مشهورة، كما أن فتوحات بني أمية هي أبقى الفتوحات بعد فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأبعدها أثرا في اتساع نطاق الإسلام ونشر العربية. يقول الشيخ رشيد رضا عن بني أمية: “وكانت حرية انتقاد الحكام والإنكار عليهم على كمالها وأما الاستبداد فكان مصروفا للمحافظة على سلطتهم وقلما تسرب شيئا منه إلى الإدارة والقضاء” (4).
وهذا قتيبة من مسلم الباهلي من ولاة الدولة على خراسان يخطب في الناس “إن الله قد أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات، وقد وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، ووعد المجاهدين أحسن الثواب، فوطنوا أنفسكم على أقصى أثر وإياي والهوينا” وهذا أشرس بن عبد الله السلمي عامل هشام بن عبد الملك على خراسان أرسل إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس هناك إلى الإسلام، وكتب إليه أمير سمرقند: إنهم لم يسلموا إلا تعوذا من الجزية، فقال له أشرس : من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القران فارفع خراجه..” نعم لم يكن الحكم شوريا كما ينبغي وكما هو الواجب، ولكن وجود العلماء والقضاء المستقل والشريعة المطبقة يحد كثيرا ممن تحدثه نفسه بظلم العباد، وكأن البعض يقارنهم بالحكام المستبدين في العصر الحديث الذين يتبعون أهواءهم وشهواتهم ولا يطبقون شرع الله، ويتعاملون مع أعداء الإسلام ولا رادع لهم من دين أو خلق. فالمقارنة كلها ظلم وجهل.
ومن جهة أخرى كانت الحضارة العلمية والاجتماعية على أفضل ما يكون، فلماذا ينظر للصورة من جانب واحد ولا ينظر للعدد الكبير من العلماء والفقهاء ومن الأبطال الفاتحين. إن هذا التوقيت في الاستهزاء بتاريخنا جاء بعد انتفاش الباطنية والشعوبية في هذه الأيام، ومن هنا تأتي الشكوك والريبة في الذين يتظاهرون بالحيادية والتعالم ويتفاصحون أنهم لا يريدون إلا النقد المجرد. ولعل الخطل جاء من الاعتداد بالنفس ممن يكتب في التاريخ والإفراط في الثقة في فرضيات لم توضع على محك التوثيق. وفي كل تواريخ الأمم هناك الواجهة القاتمة لبعض السياسات الظالمة، وهناك الوجه الحضاري من نبل الرجال وعطايا الخير، يقول المؤرخ (ول ديورانت): “الحضارة نهر ذو ضفتين، يمتلأ النهر أحيانا بدماء الناس من الظلم والخسف، ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا يبنون الحضارة ولكن المؤرخين متشائمون لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعاملون مع النهر” (5)
لا أحد يمنع أحدا من نبش التاريخ إذا كان المقصود بيانا لحقائق أو تصحيحا لمعلومات خاطئة، أو نقدا للعبرة، ولكن ليس لتغلغل شعوبي باطني حاقد. أفسد الحياة الثقافية وجعل تاريخنا مما يدعو إلى اليأس والإحباط.
ما هو الميزان الذي نستطيع به أن ننصف الناس في أمور معقدة من نوازع البشر واختلاف الطبائع والوجهات إنه نوع من أنواع الميزان الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تزكية الأجيال الثلاثة (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) “ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يداهن في دين الله، ولا يأمر الناس بما يعلم أن الحق في خلافه ولا ينعت أحدا بصفة إلا بما علمه ربه وبما أنبأه..”(6) وليس هذا موضع تفصيل تاريخ كل خليفة من خلفاء بني أمية، ولكن هنا موضع للكشف عن أهواء الذين ينقضون غزلهم بعد قوة ، ويتبعون ما تعبث به أهواء الباطنية سواء علموا أم لم يعلموا، وذلك في إثارة الأحقاد والشغب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى التابعين وعلى العرب الذين أزالوا الدولة الفارسية ففي دولة بني أمية كانت بقية من الصحابة على قيد الحياة ، وكان جيل التابعين وتلامذتهم الذين نشروا الإسلام وعلموا الأجيال وإذا كان الذين ينفثون هذه الأحقاد من الشعوبيين الجدد يعتبرون أنفسهم مسلمين فإن إسلام أجدادهم كان على يد الفاتحين العرب. وكان التفاف الناس حول هؤلاء الفاتحين فيه خير كثير، وعندما ذهبت هذه القيادة تفتت الدولة إلى دويلات في العصر العباسي الثاني.
———————————————————-