الكاتب: د. محمد العبده – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
في زمن اختلطت فيه المفاهيم وكثر فيه اللغط في أمور كثيرة تتعلق بمصلحة الأمة، وكثر أدعياء العلم والمعرفة وأصبحوا خبراء في كل شأن، في هذا الزمن نحن بحاجة إلى شجاعة الرأي وشجاعة الكلمة، ليظهر الحق من بين هذا الركام، وإذا كانت الشجاعة مطلوبة في ساحات الجهاد، فهي أيضا مرغوبة في ساحات الفكر والعلم.
إن الحديث عن هذا الخلق هو الحديث عن أمهات الفضائل فبه يظهر الحق ويقمع الباطل، وبه يشفى من أمراض الفساد ،والشجاعة محبوبة متفق عليها بين سائر البشر، فالكل معجب بالبطولة، والكل يتغنى بها ويفتخر بأسماء مشهورة من بني قومه، وقد خصص الشعراء أجمل قصائدهم لذكر الشجاعة التي يقدرها الناس أكثر من غيرها ولأنها أكثر ندرة من غيرها، نجد هذا في الشعر الشعبي خاصة من اليابان إلى أمريكا اللاتينية.
الناس بحاجة إلى أبطال يقولون الحقيقة عارية واضحة يصدعون بها لا يخافون في الله لومة لائم، وهذا يساعد على نزع الأغلال والبعد عن التقليد الذي يزري بصاحبه وعن الأوهام التي تكبل التفكير السديد. الناس بحاجة إلى هؤلاء لكثرة الساكتين عن الحق، ولكثرة المداهنين في دين الله والذين يتمسحون ب(الملأ) ليغنموا فتاتاً من الدنيا، ويفضلون مصلحتهم الشخصية على مصلحة الأمة، ولا هم لديهم إلا العيش الرغيد ولو على ذلٍّ وصَغَار. ولكثرة صنف اخر من البشر وهم المتسلقون على حساب الاخرين، وعندئذ يتم إبعاد أصحاب الصدق والنبل والوفاء، وحتى إن الرجل المخلص المجاهد في الحق ليصعب عليه التعرف على أصحابه الذين بدأ معهم الطريق.
ولأهمية هذا الخلق في حياتنا جاء في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع” فما فائدة الإنسان إذا كان بخيلا وجبانا، والرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذين الخلقين لأنه إذا زلزل القلب ضاع تدبير العقل، وظهر الفساد على الجوارح، ووضعت الأمور في غير موضعها، وعندما تفقد الشجاعة وتطمئن النفوس إلى خصال من الضعف والخور تتبدل المصطلحات ويصبح قول الحقيقة يسمى: دخولا في ما لا يعني وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، والمتصف بالجبن يسمى حكيما وعاقلا ومسالما…
كان موقف الحسن بن علي رضي الله عنه في تنازله عن الخلافة رعاية للمصلحة العامة وحقنا للدماء يمثل قمة الشجاعة الأدبية، وكذلك كان موقف الصحابي الجليل خالد بن الوليد حين عزل عن القيادة العامة وقبل أن يكون جنديا تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه. الشجاعة هي أن يقف الرجل أمام الكثرة التي يعتقد أنها على غير الصواب ويقول: لا، وهذه الوقفة، وهذا الرفض ليس من قبيل العناد أو الغضب السريع ولكنه حاء بعد الدرس والتمحيص، إنها (لا) التي قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وقف في وجه المرتدين وأصر على قتالهم رغم معارضة بعض الصحابة وهي التي قالها الأئمة أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأمثالهم من العلماء العاملين الذين قالوا كلمة الحق في إبانها بشجاعة وحزم.
وهي (لا) التي يقولها في هذه الأيام الرئيس التركي أردوغان في وجه أمريكا ونفاقها وكيلها بمكيالين، فتطلب منه حماية (عين العرب) ولكنها لا تهتم بملايين السوريين في حمص ودمشق وحلب وهي (لا) التي قالها العالم ( أينشتاين ) للمثقفين في أمريكا حين تسلطت عليهم المكارثية ( 1 ) وراحت تتهم بالخيانة كل من يخالف التوجهات التي جعلتها ميزاناً واختباراً للمواطنين ، يقول : ” على كل مثقف يتم استدعاؤه أمام هذه اللجان للتحقيق أن يرفض الشهادة ، وان يكون مستعداً للسجن والمعاناة من أجل مصلحة الحرية الفكرية في بلاده ” ( 2) .
الشجاعة هي أن لا نسلم بغرق المركب رغم التحديات الكبيرة التي تواجه المسلمين في المنطقة العربية في هذه الأيام ، ورغم التفرق والتمزق الداخلي ، يجب ألا نكف عن محاربة المنكر ، هذا من واجبات المسلم . هذه الشجاعة يحتاج إليها المسلمون لأن العواطف الفائرة التي لم تبن على الحقائق هي التي تتغلب أحياناً ، إن قول نعم قد يكون سلبياً وربما عن غير اقتناع ، أو أن صاحبها يريد القبول عند الناس .
إن الخوف وحب الحياة – أي حياة – هو الذي يجعل الطغاة يحكمون الشعوب دهوراً وأعصراً ، بل يحكمونهم وهم في قبورهم ، هذا الخوف وهذا الحب للحياة كما قال تعالى عن بني اسرائيل ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) أي مهما كانت هذه الحياة ، هو المدمر للمدنية والحضارة ، لأن الحياة إذا خلت من خير ومن مثل أعلى لم يكن فيها عزاء وسلوان للإنسان ، وسوف تنحدر هذه المدنية انحداراً بائساً تعيساً .
الخوف والجبن المدمر لشخصية الإنسان هو الذي يسمح للأوهام ذات العربدة والضجيج أن يكون لها صوتاً مرتفعاً ومخيفاً ، كما هي صورة أمريكا اليوم في مخيلة وتصور بعض الناس ، تجدهم يخافون منها خوفاً شديداً ويظنون أنها وراء كل حدث وكل داهية ، إنها تمثل أمامهم حاجزاً مرتفعاً لا يتخطونه ، وبسبب هذا سيعملون بطريقة تؤدي بهم إلى التشرذم والضعف ، إنها أوهام سياسية في عقول الذين لا يعلمون ، كما جاء في الأسطورة التي تقول : ” التقى الوباء يوماً بقافلة في الطريق فسأله أفرادها : من أين هو قادم ؟ قال : من بغداد ، فقالوا له : إذن أنت الذي فتكت بالآلاف التي لقيت حتفها هناك . أجابهم الوباء : كلا ، لقد فتكت منهم بألف فقط أما الباقون فقد قتلهم الوهم ”
هكذا كان حال المنافقين في المدينة قبيل غزوة تبوك ، عندما راحوا يبثون الأراجيف يريدون تثبيط عزائم المسلمين عن الخروج لقتال الروم ويقولون : كيف تقاتلون بني الأصفر ، إن صورة الروم في أذهانهم مرعبة مخيفة ، والمنافقون قوم لايفقهون سنن الله سبحانه في النصر والتوفيق .
يقول الكاتب الروائي ( همنغواي ) متحدثاً عن الخوف أثناء الحروب : ” من أراد أن يعيش في إبان الحرب كما ينبغي فلينزع من ذهنه كل فكرة عن الخطر المحتمل ،فلن يكون الأمر سيئاً إلا ساعة وقوعه ، ليس قبل ذلك ولا بعده ، ومن تعلم أن يعيش في صميم لحظته الحاضرة فقد تعلم أفضل خصال الجندية ”
الشجاعة في قول الحق والأمر بالمعروف هو من صميم شخصية المسلم ، أما الشجاعة في المعارك والبطولات الفذة في تاريخنا فهذا له حديث آخر .
—————————————————