الكاتب : د. محمد العبدة -عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
الثورة السورية المباركة في سنتها الرابعة ، وهذا يدل على صمودها وقوتها وأقول: المباركة لأنها كشفت عن مستور المشروع الباطني في المنطقة ، كما كشفت عن نوع الخراب الداخلي في المجتمع الذي عشش فيه وفرخ طوال خمسة عقود.خراب النفوس المريضة التي ألِفت الإستبداد وتعايشت معهُ ، كما وقعت أخطاء لابدَّ من تداركها، وأظن أنه لم يفت الوقت بعد للقيام بالمراجعات المطلوبة، لأن الثورة حين تخشى أخطاءها فهي ليست بثورة وإذا اكتشفت أخطاءها ثم التفتت عنها ولم تصلحها فالأمر أدهى وأمر، فإنه لا يكفي لربَّان السفينة أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين لآخر. بعد أربع سنوات وضحت الصورة أمام الجميع ، من المخلص والجاد للقيام بالتغيير والدفع بالثورة لغاياتها ومن يريد الاستفادة من الثورة لمصالحه الخاصة .
قامت الثورة بشكل عفوي وبهمة عظيمة وروح قوية، ولكن الثورات لا يستقيم أمرها دون قيادة ودون معرفة الغايات والمعوقات ومعرفة العقابيل التي تكتنفها والحذر والانتباه لها ودون معرفة واقع العدو وقدراته وإمكاناته، والثورة إذا طال أمدها ولم يضبط أمرها تصبح كالمطيِّة تسوق من يركبها ولا يسوقها، وتختلط الأعمال والتبعات ويفلت الزمام من الأيدي، فلا يدرى من القابض عليه، ومن هو المتخلي عنه.والواقع الآن أن الدول الإقليمية والدولية هي التي تقرر مصير السوريين وهذا غير مقبول ، وإذا لم يضبط أمر القتال وحمل السلاح فإن قوى خفية تستيقظ في النفوس الضعيفة وتعود إلى حالة من الهمجية في القتل، وينتهي الأمر إلى القضاء على مثالية الثورة وأهدافها وعندما يطول أمد الثورة ولا يكون هناك مراجعات وتخطيط ووضوح فقد يشعر الناس بالإجهاد ويصابون باللامبالاة، وقد يستسلمون لأي شيء قادم ولو كان تافهاً، ويرضون بالقليل القليل،وفي التاريخ الحديث وبعد فشل ثورة أحمد عرابي في مصر قال الشيخ محمد عبده –وكان قد اشترك فيها – قال كلمته المشهورة : ” لعن الله السياسة وساس ويسوس وكل مشتقاتها “.
وعندما يطول أمد الثورة يخرج الغوغاء والانتهازيون، ويتحكم “الجهلة في بعض الأمور ففي ثورة القاهرة الثانية (ضد الفرنسيين الذي جاء بهم نابليون) حصل كلام في الهدنة واستدعي كبار العلماء ليسمعوا الشروط، فقامت عليهم العامة وشتموهم، يقول المؤرخ الجبرتي: وكان يشد أزر الغوغاء رجل مغربي وغرضه دوام الفتنة ليكون قائدا يجتمع الناس عليه.
وعندما يطول أمد الثورة يخشى من تسلل طبقة المصالح التجارية والمالية إلى مكونات الثورة من حركات دينية وسياسية، بحيث يتم القبول بحلول ضعيفة أو رديئة لا تضمن مصالح الأمة ففي تجربة نشوء باكستان، كانت القيادة منذ مولد هذه الدولة في يد طائفة من أثرياء المسلمين المتفرنجين، وكان زعماء حزب الرابطة من هذه الطبقة التي انفردت بالصلاحية في مجال تكوين دولة حديثة. وفي تاريخنا القديم كانت الدولة العبيدية والتي تسمى ( الفاطمية ) تحاول التوسع نحو بلاد الشام ولكنها لقيت مقاومة شديدة من مدينة دمشق ” وصمد أهالي دمشق وكاد الإخفاق أن يلحق بالجيش الفاطمي لولا أن جماعة من تجار المدينة قامت فشكلت وفداً قام بالتوسط لدى جعفر بن فلاح ( قائد الغزو الفاطمي ) وبثَّ هذا الوفد التخاذل بين المدافعين مما سبب ايقاف المقاومة وأدى إلى فتح أبواب المدينة لجيش ابن فلاح ” (انظر : الحشاشون ، الاغتيال عند الإسماعيلية ، برنارد لويس ترجمة وتقديم سهيل زكار) والسؤال : هل في سورية اليوم طبقة برجوازية تعيد الرواية وتخذل المدافعين ؟!!
ومن عقابيل الثورات التي ظهرت في الثورة الفرنسية والروسية والصينية، وقد لا تظهر واضحة في سورية لطبيعة الثورة وطبيعة الشعب، ولكن قد يظهر شيء منها إذا لم ينتبه للأمر، ففي الثورات التي ذكرت أعادت الثورة انتاج نظام فيه شبه بالنظام التي ثارت عليه فظهرت القيصرية في روسيا بثياب جديدة وهو طغيان الحزب والدولة، وفي الصين ظهرت البيروقراطية القديمة في صورة التسلط النظري للعقيدة الماوية .
وضباط مصر الذين ثاروا عام 1952 على الإقطاع والباشوات، تحولوا هم إلى باشوات من نوع اخر، ويكتب المؤرخ المصري حسين مؤنس كتابه (باشوات وسوبر باشوات) والذين ثاروا على السلطان عبد الحميد واتهموه بالاستبداد وأنه ألغى الدستور هؤلاء عندما استولوا على السلطة حكموا بالبطش وبالنار والحديد
التحديات
هناك عنصر في الثورة فيه غموض، يحلم بماض غير ملوث يريد تحقيقه اليوم هذا الحلم وهذه الاطلاقات العامة من الشعارات لا تكفي، ولا يصلح استنساخ صور جزئية من الماضي وإجرائها على الواقع دون معرفة الواقع والاجتهاد له، يجب أن ترسم الثورة خطاً واضحا حول التغيير المنشود، وقد تصل الأمور إلى الحل السياسي فكيف ستكون المواقف ؟ إن هذا من أكبر التحديات التي تواجه الثورة ، هل تبدأ التنازلات والشروط المخفَّفة ، وهل يصل الأمر إلى تقشير التفاحة حتى لا يبقى منها شيء بحجة الاعتدال وباسم التكتيك وتتخلى الثورة عن بعض أصالتها ورموزها ؟ هل تحتضن الثورة أنصارها وأعداءها بحجة المصالحة والتقارب ، وتكون النتيجة طبعة هجينة من الثقافة والإسلام المدُجَّن ، ويصبح المواطن كالبصير في بيت مظلم يتلمس طريقه ولا يكاد يهتدي إلا مجروحاً أو ملدوغاً . هذا ما وقع في ثورة الجزائر حين غاب العلماء وأصحاب الإتجاه
العروبي الإسلامي عن مؤتمر الصومام بعد سنتين من اندلاع الثورة ورفع في المؤتمر شعار : الجزائر جزائرية لاعربية ولا إسلامية واستمر التخريب.
وإذا كان الغرب لا يريد نجاح أي مشروع إسلامي ، ويعتبرونه قوة مضادة له ، وإذا كان واجب أهل الإسلام أن يعوا هذه الحقيقة ، فإن هذا لا يعني إخفاء إسلامنا أو عقيدتنا ، ولكن من الممكن السكوت عن الغايات الكبرى والتحدث عن المرحلة التي نحن فيها والمطالب العادلة التي نريدها .
الحل السياسي الذي يقبل هو الذي يحقق المطالب الأساسية للثورة وللأمة ، وموضوع الحلول السياسية للثورات ليس غريباً على ثقافتنا وتاريخنا ، ومن الأمثلة على ذلك الثورة التي قامت على الحجاج بن يوسف في الكوفة والبصرة ، قام بها العلماء والصلحاء من الناس ، وسميت هذه الثورة بثورة الفقهاء وفيها كبار العلماء والقراء والعبَّاد في ذلك العصر من أمثال (عامر الشعبي وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومحمد بن سعد بن أي وقاص وأوس بن عبد الله الربعي) وغيرهم كثير . قاموا مع عبد الرحمن بن الأشعث أمير الجيش الذي وجِّه إلى سجستان ، وكان على خلاف مع الحجاج فلما قرر الرجوع لعزل الحجاج وافقه العلماء وقاموا معه ، وذلك بسبب ظلم الحجَّاج وعسفهِ ، قال عنه ابن كثير : ” وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة وكان ناصبياً خبيثاً ”
خرج هؤلاء العلماء لعزل الحجاج وإقامة العدل ، وكان بعضهم هارباً ومختفياً من الحجاج قبل الثورة . التقى ابن الأشعث ومعه العلماء مع الحجَّاج في معارك كثيرة ، وقد اجتمع أهل الكوفة والبصرة وأهل الثغور على حرب الحجَّاج ، وغالبها انتصارات للثورة ولكنها طالت لمدة سنتين تقريباً ، ثم جاءت فرصة ثمينة لهؤلاء الثائرين حين عرض الخليفة عبد الملك بن مروان أن ينزع الحجَّاج وأن يتولى ابن الأشعث أي بلد يشاء مادام الخليفة حياً ، والعفو عن الثائرين معه ، يذكر الطبري أن ابن الأشعث رأى مصلحة في ذلك العرض ولكن بقية الجيش رفضوا هذا العرض وقالوا : لا والله لا نقبل نحن أكثر عدداً وعدِّة ، بل صرح بعضهم بخلع عبد الملك نفسه ، ولذلك استمر القتال وانهزم ابن الأشعث ومن معه في معركة دير الجماجم ، وقتل من قتل من العلماء سواء في المعارك أو على يد الحجَّاج مثل سعيد بن جبير رحمهم الله جميعاً .
إن عدم قبول رسالة عبد الملك كان غلطة كبيرة أو استراتيجية كما يقال اليوم ، لأنها كانت فرصة لفرض الشروط المناسبة،ونحن هنا نتحدث عن الحل السياسي الذي يحقق المصالح العليا للثورة وليس لقاءاً في منتصف الطريق مع النظام المجرم، فمثل هذا الحل مرفوض ابتداء،ولكن الحل المطلوب هو أن ينظر في الفوائد وفي المصالح والمفاسد ، فالمرونة والثبات على المبادئ ميزة كبرى لأي جماعة أو حزب أو ثورة أو دولة .
ومع المرونة والثبات يجب أن تستمر روح الثورة التي انطلقت من المساجد ، وننشر ونعيد بقوة خطوط الدفاع الإسلامية ( المنزوعة السلاح ) وأعني أمن العقيدة وأمن الشريعة وأمن الثقافة والحضارة ، وأمن الإنسان .
ومع المرونة والثبات نمهِّد للهدف الكبير ، ونعمل على ما هو مشترك بين الجميع من إقامة العدل ونشر الحرية ودستور يضمن هوية الأمة ، فالثورات التي تقوم على أساس الدين هي التي تقود التاريخ وتمنح الشعوب الوحدة والقوة ، ولا ننسى أن التقدم الأوروبي وخاصة في ألمانيا وبريطانيا ثم أمريكا وأعني التقدم الحضاري والصناعي كان من أثر ثورة ( لوثر ) و ( كالفن) ومذهب البروتستانت ، وبعض العلماء يرى أن إصلاحات لوثر الكنسية إنما استفادها من الإسلام.