الكاتب : الدكتور محمد العبدة – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
هناك تجارب حديثة توضح لنا كيف أن أمة من الأمم أخذت بالتقدم العلمي ولكنها لم تنسلخ عن هويتها وعاداتها وتقاليدها ، ألم تحزم اليابان أمرها وتحدد هدفها وتنقل التقنية الغربية وذلك عندما هددت في القرن التاسع عشر بضرورة فتح التجارة مع أمريكا ، لقد تصرفوا بلباقة وعلموا أنه لابد من تعلم التقنية الغربية ، لقد تأوربت اليابان كي تبقى أكثر يابانية كما يقول الكاتب ( فلسيان شاللي ) ( 6 ) ويرى ( لي كوان يو ) رئيس سنغافورة سابقاً أنه يجب تطوير صيغة غير الصيغة الغربية للديمقراطية ، ومع الأسف لم تتكرر تجربة اليابان في العالم الإسلامي ، يستثنى من ذلك ما قامت به ماليزيا وما تقوم به تركيا اليوم رغم صعوبة الأمر .
إن من المفاهيم التي تؤسس للهوية والتي ركز عليها القرآن كثيرا مفهوم (الأمة )وهو مفهوم عقدي سياسي قد لايوجد له نظير عند الأمم الأخرى ، والذي يعني الوحدة في المصدر والوحدة في الاتجاه ، وهو مغاير تماماً لمفاهيم الوطنية الضيقة أو القومية أو أي تجمع على أساس جغرافي أواقتصادي ، الوطن الإسلامي الأول الذي تكون في المدينة استمد حقيقته من كيان الأمة ، لا أن الأمة تستمد حقيقتها من الوطن وحدوده الترابية ، حتى لو وجدت وحدات سياسية منفصلة ولكن الفرد المسلم يشعر بالانتماء إلى الأمة ، وهذا يعطيه شعوراً بالأمن ، وجدت داخل الحضارة الإسلامية انتماءات عرقية وديانات أخرى ولكنها عاشت تحت مظلة هذه الحضارة لأنها حضارة مستوعبة وفيها عدل ورحمة ، وعندما تزعزعت المؤسسة السياسية بقي مفهوم الأمة قوياً وحفظ كيان المسلمين .
إن الغرب وإن رفع شعارات مثل حقوق الإنسان ونشر قيم الحرية والديمقراطية ولكن النظام الرأسمالي هو المهيمن ، وهوية هذا النظام هي ( العولمة ) والمؤسسات الكبرى التي نتجت عنها ( البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية ، الشركات العملاقة عابرة الحدود والقارات ) وخطورة هذه الهوية الرأسمالية أنها تدعي الإنسانية في أهدافها وأعمالها ، وفي حقيقتها مالية ثقافية ،وفي جانب منها دينية .
العولمة مرحلة من مراحل الرأسمالية الليبرالية ، وهي تعني التمدد نحو العالم ، أي إعادة تشكيل العالم وفق النموذج الغربي كما تقول الباحثة ( حنة أرنت ) وكأنهم يريدون أن يتنفس العالم برئة واحدة وينظر بعين واحدة ، وهو شيء مخالف لطبيعة البشر ولسنن الله في اختلاف الخلق ، ينظر المسلم إلى العالم بأنه ينقسم إلى عالمين : عالم الإسلام وعالم غير المسلمين ، أو أمة الإجابة وأمة الدعوة ، والعولمة تريد فرض قانون واحد وكأن ليس للمسلمين دور في هذا العالم .
أطلق مصطلح العولمة في البداية لما رأوا أن الإعلام حوَّل العالم إلى قرية كونية ، ولكنه وجد مجاله الأول في الاقتصاد ، ثم جاء محمولاً على أعناق وأكتاف ثورة الاتصالات ، واكتسحت الشركات الكبرى الدول والحدود ، وسجلت نفسها خارج السواحل للتهرب من الضرائب ،وأصبح مدراء الشركات هم رؤساء العالم ، وظهرت فكرة الليبرالية التي تنادي بتقليص نشاط الدولة في مساعدة الأفراد والمجتمع وانتهاء دولة الرفاه ، وأن هذا العصر هو عصر ( السوق ) وساعدت التقنية الحديثة في ربط فروع هذه الشركات مهما كانت متباعدة ،وأصبح السريع يلتهم البطيء وكان في السابق الكبير يلتهم الصغير .
ولكي تستمر هذه الرأسمالية المتفوقة أو المتوحشة لابد من مستهلكين ، ولابد من إشاعة ثقافة الاستهلاك في كل الأرض ، وإذا استعصت بعض الشعوب على ذلك فلابد من تغيير ثقافتها وفكرها أيضاً ، فهذه العولمة ليست قوانين تجارية وحسب ، بل قيم معينة تطبق على تركيب مجتمع ، وكلمة السر هنا هي التسويق marketing كل شيء قابل للتسويق ، وما هي إلا أن يقول الإعلام أن هذا الشيء ضروري من ضروريات الحياة حتى يبادر المستهلك إلى الشراء ، لقد أصبح الإنسان محكوماً من الأشياء التي صنعتها يداه( 7 ) إنها وثنية جديدة ، وبواسطة الإعلام ( كلب الحراسة للرأسمالية ) يتطور الاستهلاك ليصبح مفروضاً على الإنسان ، ليأكل أكثر ويتبضع أكثر ويتملك أكثر ، يكدس المشتريات وإن لم يستعمل الكثير منها ، هناك أطراف تملي المواقف وأطراف تستقبل وتذعن . وبسبب ضخامة النظام الصناعي ( شركات ، سوبرماركات ) فقد أصبح كثير من الناس موظفين وبالتالي هم تابعون لرؤسائهم ، هم لم يبيعوا قوة عملهم فقط بل باعوا شخصياتهم ( ابتساماتهم ، أذواقهم ، صداقاتهم ) خوفاً من الفصل من أعمالهم .
بواسطة العولمة فإن البنك الدولي يغير النمط الثقافي للمجتمع ، ففي بلاد مثل مصر أو الهند تتغير القوانين طلباً للاستثمار ، والبنك الدولي يقدم قرضاً لدولة من دول الطغيان فيتصرف الحاكم وأسرته في تبديد هذا القرض وحين يأتي موعد دفع الديون لايقول الحاكم أنه اشترى عمارات وسيارات وأودع الباقي في بنوك سويسرا ، ولذلك توزع مسؤولية الدين على أفراد الشعب عن طريق تقليص الانفاق العام وتقليص دعم السلع الأساسية ، وكأن الوطن أصبح برسم البيع . واستغلت العولمة الأمم المتحدة لتتدخل في خصوصيات المجتمعات الأخرى ، ففي مؤتمر عن المرأة عام 2000 تم إضفاء الصفة القانونية على الانحطاط الاخلاقي وترجم مصطلح feminism بالأنثوية وهذا لا يعني شيئاً فالأنثى انثى والمعنى الحقيقي هو فصلها عن الرجال وتأكيد هويتها الفردية على حساب هويتها الاجتماعية كزوجة وأم وبنت . والليبرالية الجديدة تبحث عن مفهوم جديد لسلطة الوالدين ، أي عن إضعاف هذه السلطة لأنها بنظرهم من معاقل النظام الديني . وعندما تأتي الشركات الكبرى إلى بلد ما فإنها تأتي أيضاً بأنماط ثقافية معينة ( هدايا الكرسمس ، هالوين دي ، حمامات سباحة مختلطة …. )
إن العولمة بتغليبها الجانب الدنيوي أدت إلى الاستلاب والاغتراب ، لأن جيل الشباب الذي لا يجد في الجامعات نهمه إلى الثقافة وإلى الدين الذي يلائم فطرته ،سيدفعه ذلك إلى صرعات وثنية أو الحيرة والضياع . وفي العولمة أصبح الترف مقبولاً في أكثر المجتمعات حيث تحولت هذه المجتمعات إلى عبادة المظاهر والأشياء المادية ، ومن الغريب أن العولمة وهي تدعو إلى توحد العالم تحت سياق معين ولكنها في الوقت نفسه تحاول تفتيت المجتمعات ، فهي تنادي بدعم جماعة دينية صغيرة بحجة أنها أقلية ، وجماعة عرقية صغيرة بأنها أقلية وهكذا الشواذ جنسيا ً أقلية… يتبع
رابط الجزء الأول :https://sy-sic.com/?p=701
رابط الجزء الثاني : https://sy-sic.com/?p=709