د. مجدي محمد قويدر
عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج ومدير تحرير مجلة المرقاة المحكَّمة
التغيير سنة ماضية في الحياة، وحقيقة قائمة مشاهدة في المجتمع الإنساني، وقد شغل موضوع التغيير أذهان كثير من العلماء والمفكرين ورواد الإصلاح الذين اتفقوا على قدرة الإسلام على التغيير والنهوض الحضاري، وتجاوز واقع التخلف والاستلاب الحضاري إلى آفاق التقدُّم والرقي، وهذه القناعة الراسخة هي سبب التحرك والمحاولات المتعددة لاسترداد الشهود الحضاري للأمة المسلمة.
ومن رواد التغيير والإصلاح في هذا العصر الإمام عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان، صاحب نظرية المنهاج النبوي تربية وتنظيمًا وزحفًا، الذي تميز برؤيته السُّننية لتغيير الواقع، وبوضوح الأهداف وشمولية الرؤية والجرأة في طرح الأفكار والتدرج في الخطوات، واستلهام تجارب الأمم وخبرة الحركات الإسلامية ورواد الفكر والإصلاح، والخروج بنظرية تجديدية تجمع بين طلب القرب من الله وتحقيق العبودية الخالصة وبين تربية النفس الإنسانية طلبًا للغايةِ الإحسانية وتحقيقِ العدل في الدنيا والنهوض بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصولًا إلى تحقيق العمران الأخوي وتوحيد الأمة واسترجاع خيريتها وإقامة خلافتها على منهاج النبوة تحقيقًا للغاية الاستخلافية في الأرض، فهذا الجمع بين طلب الإحسان والعدل بشكل متكامل متناسق هو أساس مشروع الإمام التغييري الذي يعد إضافة نوعية في الفكر والإصلاح والتنظير للتغيير، وفي هذا البحث استجلاء لمفهوم التغيير بأبعاده المختلفة عند الإمام ياسين، وقد جاء في تمهيد يتضمن سيرة موجزة للإمام عبد السلام ياسين، ومباحث:
المبحث الأول: التغيير لغةً واصطلاحًا. المبحث الثاني: مفهوم التغيير عند الإمام ياسين.
المبحث الثالث: التغيير سنة ربانية. المبحث الرابع: التغيير الجوهري للإنسان الفرد.
تمهيد: سيرة موجزة للإمام عبد السلام ياسين
ولد عبد السلام بن محمد بن عبد السلام بن عبد الله بن إبراهيم في سبتمبر 1928م، وتلقى دروسه الأولى في مدرسة أسسها الشيخ العلامة المغربي محمد المختار السوسي، ثم تخرج بعد أربع سنوات ليلتحق عام 1947م بمدرسة تكوين المعلمين بالعاصمة الرباط، وعمل في سلك التعليم 20 سنة، وتقلب بين عدد من المناصب والمسؤوليات التربوية والإدارية بوزارة التعليم.
أرسل عبد السلام ياسين نصيحة إلى الملك الحسن الثاني عام (1974) في أكثر من مائة صفحة سماها “الإسلام أو الطوفان”، وأرسلها أيضًا إلى كبار الشخصيات والعلماء والسياسيين ورجال الفكر والثقافة قبل أن تصل الملك، جاء فيها: “اعلموا أن صاحبكم -يقصد الملك- إن طرح النصيحة وماطل وراوغ ذاهبٌ أمرُه وصائرٌ إلى ما يصير إليه مَن أخذته العزة بالإثم حين قيل له: اتق الله”. كانت رسالة شديدة اللهجة قضى على إثرها ثلاث سنوات وستة أشهر محتجزًا في مستشفى الأمراض العقلية، فهذه الرسالة بداية مرحلة سياسية جديدة في حياته، أبرز معالمها الدخول في حلقات من الصراع مع الدولة، وبعد موت الحسن الثاني وتولي الملك محمد السادس الحكم أرسل إليه ياسين رسالةً تحت عنوان “إلى من يهمه الأمر”.
خرج ياسين من سجنه عام 1978، وما إن عاد إلى الدروس في المسجد حتى صدر الأمر بمنعه من التحدث إلى الناس، فأصدر في فبراير 1979 العدد الأول من مجلة “الجماعة” لتخاطب الناس وتبلغهم أفكاره، انتشرت “الجماعة” فكونت جماعةً من الناس التفوا حول ياسين، ثم لاقت مضايقات وصودرت أعدادها، وقبل وقفها تمامًا كتب فيها مقالًا تحت عنوان: “قول وفعل” ردَّ فيه على ما ورد في رسالة ملكية نشرها الحسن الثاني بمناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، وقد كان هذا المقال السبب في اعتقاله الثاني عام 1983.
جماعة العدل والإحسان:
خرج الشيخ عبد السلام ياسين من معتقله عام 1985 فوجد مجموعته قد توسعت تنظيميًّا وعددًا، ما مكَّنه عام 1987 من رفع شعار “العدل والإحسان”، ثم أطلقَ الاسم نفسه على الجماعة التي صار مرشدًا لها، وعدَّتها السلطات المغربية جماعة غير شرعية، إلا أن ذلك لم يحل دون أن يصبح للجماعة حضور واضح في المؤسسات التعليمية والثقافية ودُور الشباب، وتقاطعت جماعة العدل والإحسان في توجهاتها مع الطرق الصوفية؛ فقد اشتمل المنزع الروحي لها على تصور تربوي قائم على الصُّحبة والجماعة والذِّكر، لكنها جمعت إلى هذه الأحوال الصوفية منزعًا سياسيًّا حيث وضع ياسين تصورًا يتميز برفض العنف والاغتيال السياسي ورفض السرية.
ولما رأت الدولة أن أمر الرجل رغم التضييق والقمع لا يزداد إلا اتساعًا، فرضت عليه حصارًا جزئيًّا في بيته عام 1989 حتى إن كل من أراد أن يدخل بيت ياسين كان يطلب منه تقديم بطاقة الهوية لرجال الأمن، وقد منع من الخروج كما منع الناس حتى أقرباؤه من زيارته، وفي عام 1988 قرر أفراد الجماعة الامتناع عن تقديم بطاقة الهوية عند زيارة بيت ياسين، فكان أن ضاقت السلطات بنشاطهم الآخذ في التصاعد خاصة اللقاءات في بيت المرشد، فجاء الحصار الشامل، وفي مطلع عام 1990 خرج ياسين لصلاة الجمعة وألقى كلمة في جموع المصلين من عموم الناس وأعضاء الجماعة معلنًا فتح جبهة جديدة، وسبقت هذه الفترة اعتقالات ومحاكمات حتى تم اعتقال جميع أعضاء مجلس الإرشاد، ثم وضع ياسين تحت الإقامة الجبرية أكثر من 10 سنوات حتى 10 مايو 2000، واستمر النشاط الدعوي والإرشادي للشيخ عبد السلام ياسين رغم التضييق المتواصل من قبل السلطات المغربية إلى أن وافته المنية في 13 ديسمبر 2012م.
المبحث الأول: التغيير لغةً واصطلاحا
قضية التغيير من أهم القضايا التي تتداوَل في الوقت الراهن على المستويات كافة، ويُعَد مصطلح التغيير الأكثر تناولًا في الفضائيات والحوارات والجلسات بعد اندلاع شرارة الثورات العربية، التي هبت لاستعادة الكرامة والحرية المفقودة وإسقاط رموز الفساد ودهاقنة الاستبداد، وكان الإمام عبد السلام ياسين أولى التغيير اهتمامًا كبيرًا في تراثه الفكري، ووضع إجابات شافية لقضايا التغيير في نظرية المنهاج، وفي هذا المبحث إضاءة لمفهوم التغيير لغةً واصطلاحًا ليكون مدخلًا لتناول مفهوم التغيير عند الرائد الصدوق الإمام ياسين:
المطلب الأول: التغيير لغةً
الغين والياء والراء أصلٌ يدلُّ على التحوُّلِ والتبدُّلِ: تغيَّر الشيءُ عن حاله تحوَّل، وغَيَّرَه حَوَّلَهُ وبَدَّلَهُ، أي جَعَلَه غَيْرَ ما كَانَ، ويأتي بمعنى اختلافِ شيئين، وقولُنا: هذا الشَّيءُ غيرُ ذاك أي: هو سِواه وخلافه، وتغايرت الأشياء اختلفت، والغِيَر أَي تَغَيُّر الحال وانتقالها من الصلاح إِلى الفساد([1])؛ فالتغيير في معناه اللغوي له صورتان: أولاهما تغيير صورة الشيء دون ذاته، يقال: غيرت داري إذا بنيتها بناء غير الذي كان، وثانيتهما تبديل شيء بغيره نحو غيرت غلامي ودابتي إذا أبدلتهما بغيرهما، وينبغي ملاحظة الفرق بين التغيير والتغيُّر، فالتغيير هو “إحداث شيء لم يكن قبله”، وهو عملية إرادية، أما التغيُّر فهو “انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى”([2])، والانتقال يكون غير إرادي أحيانًا كما أن حركته متوجهة من خارج الإنسان إلى داخله.
المطلب الثاني: التغيير اصطلاحًا
التغيير من أكثر المفاهيم التي لازمت الحياة الإنسانية من فجر نشأتها إلى وقتنا الحاضر، حتى أصبح هذا المفهوم قانونًا أساسيًّا في الحياة ومن السنن المسلَّم بها، وقد تعددت نظرة العلماء والمفكرين للتغيير تنظيرًا وتطبيقًا، واختلفت تبعًا لذلك الأهداف والبرامج والبدايات، وجاءت النهايات في بعض مشاريع التغيير دون الآمال، وبعضها الآخر باء بالفشل والخسران لأنه جانب الشرع واصطدم بنواميس الكون، وفي هذا المطلب تبيان لمفهوم التغيير عند بعض الكتاب الإسلاميين:
1- تعريف جودت سعيد: “هو عملية مقصودة تتم وفق بواعث ومبررات ووسائل شرعية للوصول إلى أهداف ونتائج تعكس المبادئ، ويكون من نتائجه إحداث مواقف جديدة وبرؤية وجوانب أعمق وأوسع للأحداث”([3]).
2- تعريف محسن عبد الحميد: “عملية مقصودة تحدث من داخل الإنسان وبإرادته ووفق اختياره، والله سبحانه وتعالى يعين الإنسان على إحداث التغيير الذي اختاره بنفسه وإرادته الحرة”([4]).
3– تعريف عبد الكريم بكار: “عمل قصدي بشري يقوم به الناس بغية الوصول إلى أهدافهم”([5]).
هذه التعريفات اتفقت على أن التغيير عمل إرادي مقصود ينبع من نفس الإنسان، ولم تحدد طبيعة أهداف التغيير وغاياته هل هي فردية أم جماعية، دنيوية أم أخروية؟ وما هي الوسائل الموصلة إلى التغيير؟ وما هي النتائج المرجو تحقيقها على مستوى الفرد والجماعة؟ وهذا ما جعل التعريفات تتسم بالتعميم، وأضفى نوعًا من الغموض على مفهوم التغيير.
المبحث الثاني: مفهوم التغيير عند الإمام ياسين
انطلق الإمام ياسين في بيان مفهومه للتغيير من القرآن الكريم بوصفه مصدر علم التغيير، ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفتها النموذج التطبيقي للتغيير، فقال: “في طريقنا إلى دولة القرآن وفي خطوات دولة القرآن نحو مجد الإسلام لا دليل لنا في المهمات وفي تحديد الأهداف والغاية إلا كتاب الله -عز وجل- كما طبقته سنة رسوله عليه من الله الصلاة والسلام”([6])، وبين الإمام ياسين “أن القرآن يشير إلى منهجية تغيير المجتمع بنيويًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وشرع لذلك الشرائع ورسم له منهاجًا”([7]).
وقد عبر الإمام عن مفهومه للتغيير بقوله: “التغيير الجذري في تصور الإنسان لنفسه وللعالَمين الدنيوي والأخروي وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت”([8])، ثم بين الإمام أن هذا التغيير “يلمس جوهر الإنسان ونفسيته وعقيدته وأخلاقه وإرادته وحركته كلها على الأرض؛ لتكون حركةً لها غاية ومعنى وارتباط بمصيره بعد الموت وبمصير أمته في التاريخ”([9]).
التغيير عند الإمام عبد السلام ياسين مفهوم أصيل مستمد من القرآن الكريم، ذو أبعاد متعددة يستهدف جوهر الإنسان وهو الأنفس؛ ليراجع الإنسان من مواقفه، وينتبه لمصيره، ويقبل على نفسه يغير ما بها لتقبل على ربها([10])، فالتغيير المنشود هو في الأساس تحول للإنسان من حال إلى حال، والتوبة إلى الله والإنابة إليه مركز الانطلاق للتغيير الفردي، فإنَّ “موقف الإنسان المؤمن من نفسه ومن العالم يتغير بالتوبة إلى الله الشاملة… والمؤمن التائب والناشئ على إيمان يضع أوامر الله عز وجل مواضعها في كل جوانب حياته، تصطبغ حياته بصبغة الله، وتنضبط بطاعة الله، ينبعث، ينبري، يسارع في الخيرات، يسعى سعي الآخرة لا كدح الدنيا”([11]).
والتوبة المقصودة عند الإمام ياسين هي التوبة الانقلابية بحيث “يتغير المؤمن والمؤمنة نفسًا وفكرًا وحياة بالتوبة العميقة الانقلابية”([12])، وهي ليس مجرد استغفار من الذنوب والمعاصي على أهمية تلك التوبة وضرورة ملازمة الإنسان لها، وإنما توبة التحول من الغفلة إلى اليقظة، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للقاء الله، إنها “توبة انقلابية لا التوبة الجزئية الآنية الطارئة من ذنب يقترف ومعصية تؤتى، هذه لازمة مواكبة لحياة المؤمنين والمؤمنات، يُخطِئُون ويأثمون فيستغفرون الله فيغفر لهم، إنه غفور رحيم” بل “التوبة قلب دولة”، فهي تلك التي تنقل المؤمن من عالم إلى عالم، من عالم الغفلة عن الله وعن نفسه الهائمة وعن مصيره الأخروي إلى عالم اليقظة والتهمُّمِ بلقاء الله عز وجل”([13])، فالتغيير بالتوبة تحرير للإنسان من كل عبودية ليدخل في عبودية الله وحده([14]).
هذه هي “رسالتنا لأنفسنا وللإنسان: أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد، أن يكون ابتغاء رضاه والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته والوصول إليه والنظر إلى وجهه الكريم: منطلقَ الإرادة وحادي المسارعة وقبلة الرجاء” ([15])، وهذا يجعل المكلف دائب الحركة لاقتحام مراقي الصعود ومعارج القرب من مولاه عبادة وتبتلًا ليسعد في الدنيا والآخرة.
والتغيير الجذري في بعده المجتمعي عند الإمام ياسين هو هدف القَومة([16])، والمراد به تغيير جوهري يأتي بنيان الفتنة من القواعد([17])، “والمطلوب إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن” ([18])، فهو ليس استبدال طبقة بطبقة أو تناوبًا على السلطة، أو مشروعَ تنمية أو عدالة اجتماعية، أو إصلاحات قصيرة المدى كما يحدث في التغيير الثوري الذي يغير الأشكال وبنى المجتمع واقتصاده وسياسته، ولا يولي مركز التغيير -وهو الإنسان وغاية وجوده- أي اعتبار([19])، يقول الإمام: “تهدف دولة القرآن إلى كل ذلك التغيير، وتعتبره واجبًا من آكد واجباتها، لكن الدعوةَ إلى الله وإنقاذَ الإنسان من ظلام الكفر وقتامة النفاق وقذارة معصية الله وغبش الغفلة عنه المؤدية إلى بؤس الدنيا وعذاب الآخرة هي الهدفُ الأسمَى، ومحورُ الحركة ومحطُّ الطموح” ([20]).
والتغيير في بعده السياسي عند الإمام ياسين قومة في مواجهة الظلم والاستبداد والتخلف الحضاري والطبقية الظالمة والتبعية لشرق الجاهلية وغربها، قال الإمام: “نريد أن نُعبِّر بقومة؛ لأنها تعيد لأذهاننا تلك القداسة التي كان يتمتع بها القائمون من آل البيت الذين حاربوا الظلم والاستبداد، إمامهم في ذلك سِبْطُ الرسول الحسين عليه السلام”([21]). وقال: (قومة لا ثورة، وكلمة قام تعطي معاني القوة والاستقامة والصبر والإتقان…، أمرنا أن نقيم العدل إذا حكمنا بشرط أنفسي هو “القيام لله”، وشرط آفاقي هو “القيام بالقسط،” هذا من ذاك وذاك إلى هذا”) ([22]).
والقومة السياسية ليس مقصدها الحكم والاستحواذ على السلطة لذاتها، وإنما لتقرير الحاكمية لله وتعبيد الناس لخالقهم واستعادة الحكم الشوري؛ لتكون الدولة في خدمة الدعوة، وتحقق أمانة الاستخلاف وحراسة الدين” وليست القومة الإسلامية ثورة قطرية إقليمية تنتهي مهمتُها عند تغيير بُنى المجتمع وتنشيط اقتصاده وتطوير وسائله، بل هي رسالة القرآن إلى الإنسان أن يغيرَ موقفه وينتبه لمصيره، ويُقبِلَ على نفسه يُغيِّرُ ما بها لتُقبِلَ على ربها”([23]).
يتبين لنا من خلال هذه المراجعة لتراث الإمام ياسين أبعاد مفهوم التغيير وامتداداته وشموليته، وعمقه الجوهري الذي يربط بين الغاية من وجود الإنسان بمصيره بعد الموت، ويتسع المفهوم لما هو ذاتي وجماعي، ويلتحم فيه الروحي بالاجتماعي والسياسي في محاولة تجديدية لإعادة بناء الأمة في مختلف جوانب حياتها واستنهاض مكوناتها وتعبئة طاقاتها؛ لتحقيق الاستخلاف الإنساني وقيام العمران الإيماني في الحياة الدنيا، ونيل رضا الله وسعادة الأبد في دار الخلود يوم القيامة، يقول الإمام: “القومة تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي والاجتماعي”([24]).
المبحث الثالث: التغيير الاجتماعي سنة ربانية
اقتضت حكمة الله في الخلق أن تحكم حركة الكون وحركة الاستخلاف الإنساني قوانين وسنن ثابتة مطردة، تتكرر نتائجها كلما توفرت مقدماتها وشروطها وانتفت عوائقها، والقرآن لفت انتباه المسلم إلى هذه السنن الاجتماعية التي تحكم الحياة، وطلب منه السير في الأرض والتوغل في التاريخ البشري للكشف عنها ومعرفتها والاستفادة منها، ومن أهم السنن التي نبه إليها القرآن سنة التغيير الاجتماعي، أتناولها بشيء من التفصيل على النحو التالي:
المطلب الأول: سنة التغيير الاجتماعي في القرآن الكريم
تحدث القرآن الكريم عن سنة التغيير في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} [الرعد: ١١]، وقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:٥٣]. بينت الآيتان أن التغيير يبدأ من الأنفس سواء بالارتقاء أو الانتكاس، فإذا وجدت الأسباب تبعتها النتائج، وحدوث التغيير من الله مرتبط ومترتب على حدوثه من البشر سلبًا أو إيجابًا.
وقوله تعالى في هذه الآية: {إن الله لا يغير ما بقوم} أي من النعمة والإحسان ورغد العيش {حتى يغيروا ما بأنفسهم} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله إياها عند ذلك, وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية فانتقلوا إلى طاعة الله غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة([25]).
وذكر الله النفس “لأن أعمال الجوارح ناشئةٌ من نَبْعِ نفس تُحرِّك الجوارح، وحين تصلح النفس تصبح الجوارح مستقيمة، وحين تفسد النفس تصير الجوارح غير مستقيمة، فالحق سبحانه وتعالى أخضع كل الجوارح لِمُرادَات النفس، فلو كانت النفسُ مخالفةً لمنهج الله فاللسان خاضع لها، ولا ينطق رغم إرادته بالتوحيد لأن النفسَ التي تديره مخالفةٌ للإيمان”([26]).
وتغيير الله لحالة الناس للأسوء لا يشترط لحصوله تغيير جميع الناس لحالتهم، بل يحصل بتغيير بعضهم دون بعض، قال القرطبي: “أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير؛ إما منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم بسبب كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير”([27])، كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل (أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟) قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))([28]).
والتغيير من الناس لا يلزم أن يكون من حالة أحسن إلى أسوأ أو العكس، بل قد يكون من حالة أحسن إلى حالة أحسن منها، أو من حالة أسوأ إلى حالة أسوأ منها، مثال ذلك كفار قريش كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عبدة أصنام، فلما بُعث إليهم بالآيات البينات كذبوه وعادوه، وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيَّروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب([29]). والتغيير يشمل جميع النعم صغيرها وكبيرها، لا يختص بنعمة دون غيرها، قال الألوسي: “أي لم ينبغِ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغيَّر نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها على قوم من الأقوام {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة، ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة”([30]).
والتغيير سنة عامة لا يختص بقوم دون آخرين، فهو شامل لكل الناس سواء كانوا مؤمنين أم كافرين؛ لأن المدلول المطلق للفظ (قوم) الجماعة من الناس، والحق سبحانه لم يقيِّد هذه الجماعة من الناس بوصف، فيبقى اللفظ على إطلاقه، فلفظ (قوم) في الآية نكرة، والنكرة تفيد الشيوع بأصلها، فمتى ما حقق الناس أسباب وجود السنة الإلهية وقعت ما لم يمنعها مانع، بغض النظر عن دينهم أو أصلهم أو أي اعتبارات أخرى([31]). فالتغيير سنة ثابتة مطردة لا تتبدل ولا تتحول، ولا تُحابي أحدًا، ولا تتسلط على أحد، ولا تُدرك بالأماني، يقول محمد رشيد رضا: “أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله، فهلكوا وحل بهم الدمار، ثم لعُدُولهم عن سنة العدل وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة حادوا عن الاستقامة في الرأي والصدق في القول والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات والحمية على الحق والقيام بنصره والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة وانكبوا على الشهوات الفانية وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال”([32]).
ومن المعلوم أن التغيير لا بد أن يرتكز على مقومات ثلاثة:
أولها العقيدة:
فالإيمان بالله تعالى يعد شرطًا أوَّليًّا لبسط النعمة أو بالمصطلح المعاصر: «الحضارة» أو الرفاهية والرخاء، والعمل الصالح الذي يترجم هذا الإيمان إلى سلوك هو صِمَام الأمان للحفاظ على هذه النعمة أو الحضارة.
ثانيها الإنسان:
وهو محور التغيير لأنه اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فلا بد من تزكيته وتربيته وتهيئة إرادته للعمل والإبداع عن طريق شحذ قوته الداخلية الروحية والعاطفية والنفسية والعقلية؛ ليمتلك رصيدًا ضخمًا في مجال المبادرات الحضارية.
ثالثها الزمن:
بوصفه عاملًا رئيسًا لإنضاج عملية التغيير؛ ذلك أن التغيير النوعي في المجتمع يتطلب فترة زمنية كافية حتى يكتمل ويؤتي ثماره يانعة سائغة.
إن سنن الله تعالى المبيَّنة في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة جديرة بالدراسة والفهم؛ لأن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جدًّا الواجبة شرعًا؛ إذ هي جزء من معرفة الدين، ومن جملته معرفة أحوال الأمم مع أنبيائهم وما حلَّ بهم بسبب سلوكهم معهم وفقًا لسنن الله تعالى كما أنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعِثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذرنا الله عز وجل منه، ونظفر بما وعد الله تعالى به عباده المتقين، “والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها…، ولا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله تعالى من ذكرها…، إنهم بما لهم من معرفة بأحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم، ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط؛ كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها”([33]).
المطلب الثاني: سنة التغيير في فكر الإمام عبد السلام ياسين
بنى الإمام عبد السلام ياسين مشروعه الإصلاحي على أساس سنة التغيير، قال: “جاء في القرآن اقْتِرانُ تغيير الأحوال بتغيير ما بالنفس في سورة الرعد وسورة الأنفال، قال المفسرون بأن الآيتين تُخبران عن تغيير الله عز وجل نعمته نقمة على قوم جحدوا دينه، والآيتان دالتان أيضًا على حصول العكس في حق مَن غير نفسه من جحود وكُفران لاعتراف وإيمان جريًا على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”([34]). “مهمة تغيير ما بنا لا حلَّ لها إن لم نغير ما بأنفسنا، فكما خذلنا حين تنكبنا شريعته ينصرنا إن رجعنا إليه، والرجوع إلى الله إنما يكون عن دعوة داع وتربية مرب، إرجاع الأمة بكاملها إلى الله تعالى قضيتنا، فقبل أن نصل إلى الحكم تبذل الدعوة جهدها لتغيير وجهة سفينتنا الموحولة في المياه الفتنوية العكرة”([35]).
وأول تغيير لما بالنفس الانتقال من المعصية إلى التوبة والاقلاع عن الذنوب، فهو مقدمة لتغيير ما بالواقع، قال الإمام ياسين: “تشير الآية في عموم إطلاقها إلى أن المسلم التائب عندما يتغير موقفُه من نفسه ومن خالقه ومن الكون، وعندما تتغير علاقاته تبَعا لذلك الموقف وأخلاقُه وتصورُه، يتغير ما به من رذيلة وظلم اجتماعيٍّ واستبداد سياسيٍّ وعجز اقتصاديٍّ وخمولٍ فكريٍّ وتبعيةٍ للجاهلية”([36]).
وتغيير ما بالأمة لن يتم بمعجزة خارقة بل بسنة جارية، وهي تغيير ما بالأنفس أي من داخل الإنسان وعزمه وإرادته، يقول الإمام ياسين: “سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة”([37]).
ومن خلال التغيير الداخلي للإنسان تتحدد طبيعة التغيير الذي سيكون في الخارج إيجابًا أو سلبًا؛ لأن موقف الإنسان وسلوكه تجاه التاريخ والأحداث نابع من النفس وقناعاتها وقيمها، والإنسان مسؤول في الدنيا والآخرة عن نتائج تفاعله مع الأحداث ومواقفه حيال الأشياء، يؤكد على هذا المعنى سيد قطب في تفسيره لآيات التغيير، فيقول: “هذه الآيات قررت عدل الله في معاملة العباد، فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها، ومن الجانب الآخر يُكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله، ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيًّا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم”([38]). “فالله يراقب عباده، فيرتب تصرفه بهم على ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم، فإنه لا يغير نعمة أو بؤسًا، ولا يغير عزًا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقًا له في الزمان بالقياس إليهم”([39]).
التغيير قانون اجتماعي وليس قانونًا فرديًّا، دل على ذلك قوله (ما بقوم)، فلم يقصد هنا فردًا، وإن الحديث عن قوم أي عن مجتمع له خصائصه وعناصره، ثم جاءت كلمة (ما بأنفسكم) لتشير إلى المجتمع مرة أخرى، ومع أن تغيير الأنفس أساس التغيير المجتمعي فإن تغيير فرد أو مجموعة أفراد ما بأنفسها لا يعني حدوث تغيير في المجتمع، ما لم تتم إثارة الوعي بقضايا المجتمع ومشكلاته وكيفية مواجهتها عند السواد الأعظم من الأفراد على أقل تقدير، وحشد طاقاتهم وإمكانياتهم ومواهبهم ضمن رؤية موحدة تقوم على أساس العمل الجماعي لإصلاح ما فسد([40])، وتغيير الظروف الاجتماعية المحيطة بالأفراد، وهذا ما أطلق عليه الإمام ياسين تعبئة المستضعفين حيث قال: “الهدَفُ من تجنيد العامة وتعبئة المستضعفين إيقاظُ القلب إلى معاني الإيمان، ورفعُ الهمم إلى نُشدان الكرامة الآدمية وكمال الإنسان، ثم إيقاظُ الفِكر من سُبات الزمان، وبَثُّ الوعي السياسيِّ لِيَهْتَمَّ المستضعفون بما يَجري في الحَدَثَانِ”([41]).
وتعبئة المستضعفين بتعبير الإمام ياسين تحتاج إلى كتلة بشرية متميزة أُعدت سابقًا لهذه المهمة الشاقة، ولديها القدرة على تحريك العامة وتحفيز عزائمهم، قال الإمام: “والمفروضُ أن المحرِّكَ للعملية -وهم جند الله- جماعةُ الحق في رابطتهم الجهادية، يكونون قد تجاوزوا كل هذه المراحِل من اليقظة والتربية وشحذ العزائم قبل أن يتصدَّوْا لتحريك غيرهم على النطاق الواسع”([42]).
المبحث الرابع: التغيير الجوهري للإنسان الفرد
الإنسان حجر الزاوية في عملية التغيير، وهو موضوع التغيير ووسيلته وهدفه، ولا قيمة لتغيير البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما لم يتغير الإنسان عقيدة وفكرًا وسلوكًا، ومنطلق تغيير الإنسان ما بنفسه هو الإرادة المحركة الباعثة على الانتقال من الغفلة إلى اليقظة على المستوى الفردي، ومن الانقياد للطاغوت إلى الانعتاق على المستوى الجماعي، وفي هذا المبحث بيان لمركزية الإنسان في التغيير، ودور الإرادة الحرة في صناعة التغيير.
المطلب الأول: الإنسان محور عملية التغيير
إن الإنسان الفرد هو اللبنة الأولى في المجتمع، وإعادة بناء الإنسان الفرد وتربيته هي الطريق الصحيحة للتغيير الحضاري المنشود والبداية لكل التحولات الإنسانية التي نطمح إليها؛ فالإنسان أساس البناء وخميرة النهوض، وعليه تقوم الحضارات والأمم؛ لذلك أكد الإمام ياسين على مركزية دور الإنسان في التغيير بوصفه موضوع التغيير ووسيلته وهدفه في آن واحد، والتغيير الجوهري للإنسان يسبق تغيير السياسات والهياكل، قال الإمام: “والقومة تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي”([43]) “وكل تغيير في السياسية والاقتصاد فإنما هو تبَعٌ لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان”([44]). فلا معنى لتغيير السياسات والهياكل ما لم يتغير الإنسان الذي سيقوم بتنفيذها، وسيغدو عندئذ التغيير شكلًا بلا مضمون، ولن يجعل منا أمة مقتدية بالهدي النبوي، مطلبها الإحسان والزلفى عند الله في الآخرة وإقامة العدل في الأرض، بل عدَّ الإمام تغيير الهياكل دون تغيير الإنسان تضييعًا للجهد في دوامة التجارب الفاشلة([45]).
الأساس الأول للتغيير الجوهري للإنسان يبدأ بتصويب الاعتقاد وتصحيح التصورات وإدراك الغاية من الوجود، يقول الإمام ياسين: “التغيير الكلي الجوهري: للإنسان ونفسيته وعقيدته…”([46]) و”هذا التغيير الجذريُّ في تصور الإنسان لنفسه وللعالمين الدنيويِّ والأخروي وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت” “ورسالة القرآن إلى الإنسان أن يغير موقفه، وينتبه لمصيره، ويقُبِل على نفسه يغُيِّرُ ما بها لتقُبِلَ على ربها”([47]). وكل تغيير لا يحقق هذه الغاية ليس له أي وزن أو قيمة.
إن بناء العقيدة السليمة في النفس الإنسانية هو الأساس الأهم في التغيير الفردي، وأول قواعد بناء العقيدة التصور السليم عن الذات الإلهية المستحقة للتوحيد والعبادة والاتصاف بالقدرة المطلقة والعلم النافذ في جميع الكليات والجزيئات وغيرها من الصفات المختصة بذاته جل وعلا، وتخلية العقول مما ترسب إليها من انحرافات تؤدي إلى الشرك والضلال، هذا ويستلزم الإيمان بوجود الله تعالى الإيمانَ ببقية الأركان؛ إذ كيف يصل الإنسان إلى توحيد الخالق إلا من خلال وجود رسائل منه ورسل يوصلونها؟ وإن من مقتضيات العدل أن يكون هناك يوم للجزاء ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: ١٣٦].
إن الإيمان بالله وتوحيده هو بمثابة إعلان تغيير النفوس من الظلمات إلى النور، والتحول من الشر إلى الخير، والخروج من أحكام الدنيا إلى أحكام الدين، والالتزام بمنهج الله دون غيره، وهذا يوجب يقظة في القلب واستقامة على الطريق ورقابة لله في السر والعلن وإحسان العمل وتحقيق الغاية من وجود الإنسان واستخلافه في الأرض.
الأساس الثاني للتغيير الجوهري إصلاحُ الفكر والعقل؛ لأن له دورًا كبيرًا في عملية التغيير، فهو المغذي الرئيس لعملية التغيير الفردي بكل جوانبها ومراحلها، وهو دعامة الثبات والانضباط لها وفق منهج الله؛ كي لا تجتث من أساسها أو تضطرب في مسارها، فالتغيير يقوم على معارف ومدركات وقناعات تستند إليها النفس في تنفيذ سلوكها، وإنما يتم التغيير العميق عند الإمام ياسين بتغيير الذهنية والإقناع، وهو ليس بالأمر الهين اليسير([48]). أما دور القيادة فهو تنوير الفكر وتحريره، يقول: “مهمةُ القيادة المجاهدة في هذه العمليات أن تشُدَّ فكر الأمة وعزمها إلى المثَل الأعلى المنشود، وأن تسهر على جمع الإرادة المشتتة لتصنع منها سهما يخرِق الحواجز” ([49])، ولا بدَّ لتحرير العقول وتنوير الأفكار من حركة دائبة وسعي حثيث؛ وبذلك تحيا الهمم وتنبعث العزائم، يقول الإمام: “وحركةَ فكر وحركةَ عواطف تتناسق لتُحْيِيَ وقتَ العامة النائمَ في الأحلام المضطربَ بالتوافِه، ولتخاطِب الحواسَّ، وتستفِزَّ الفكر، وتَنْهَض بالإرادة البليدة” ([50]).
إن الفكرة عندما تقتحم عقل الإنسان وتلج ضميره، تفعل فعلها في تغيير عقله وعاطفته فسلوكه ثم واقعه كله، فالفكر يسبق العمل دائمًا، ولو استعرضنا التاريخ البشري لوجدنا أن كل تغيير حدث في مكان ما قد سُبق بتغير في أفكار الناس المعاصرين، والتغيير يزداد عمقًا كلما كانت الفكرة ألصق بعقل الإنسان وضميره مرتبطة بمصدر غيبي روحاني أكثر من ارتباطها بمصدر مادي ملموس.
الأساس الثالث للتغيير الجوهري إصلاح السلوك، وهو نتيجة طبيعيَّة لإصلاح العقائد والأفكار لأن السلوك انعكاس لما في القلب والعقل، وأول مظاهر تغيير السلوك التوبة ثم اليقظة والاستقامة على أمر الله تعالى، وقد جمع الإمام ياسين الأسس الثلاثة في الجزء الثاني من كتابه الإحسان، فقال: “في هذا الكتاب تعرضنا قبل كل شيء للتغيير اللازم في نفسية المسلم والمؤمن وعقليته وسلوكه ليكون صالحًا في الآخرة، قريبًا من الله عز وجل في مقاعد الصدق، وصلاحُه في الآخرة وربانيَّتُه واستقامته على أمرِ الله ونهيِه ضمانٌ ليكون عمله في المجتمع صالحًا في ميزانه يوم القيامة، مصلحًا لغيره نافعًا لخلق الله”([51]).
إن تكوين الفرد على هذه الوتيرة يجعله يعيش عصره بكفاءة وفعالية بحيث يشعر بقدرته على التغيير؛ تغيير نفسه وتغيير محيطه ورؤيته للأشياء، فيمتلك القدرة على مغالبة الرتابة والعادات السلبية والتفوق عليها، وتحديث أساليب الدعوة والخطاب بصورة مستمرة للوصول إلى تغيير واقع المجتمعات.
الفرد المسلم نواة المجتمع، والخلية الحضارية التي يجب تكوينها وبناؤها ورعايتها وتأمين المحضن المناسب لها، فإذا نُمّيت قدراته وصقلت مواهبه وشحذت فعاليته وفجرت طاقاته، استيقظت فيه روح العمل وتدفق عطاؤه، فيغدو بإمكاناته الروحية والمادية مستعدًا للتلقي والإبداع ومسابقة العصر ومواكبة حضارته بنظرة ثاقبة وبصيرة نيِّرة، وبعزيمة وثَّابة تتجاوز مظاهر الخمول والكسل والسلبية التي يعاني من رواسبها الإنسان المسلم في الوقت الحاضر.
المطلب الثاني: الإرادة الحقيقية للتغيير
إن الإنسان مخلوق مكرم ميزه الله بالعقل، ومنحه إمكانية الاختيار، وجعله أهلًا للتكليف، وأناط التغيير بإرادته، وجعله محور التغيير ووسيلته وهدفه، فالله سبحانه ربط تغيير الحال بإرادة الإنسان وحركته وتغيير ما بنفسه، حيث جعل الفاعل في قوله: {إن الله لا يغير} عائدًا إلى الله سبحانه، والفاعل في قوله {يغيروا} إلى الإنسان؛ ذلك أن من سنة الله وقانونه في التغيير أن يبتدئ من داخل الإنسان ويرتبط بإرادته([52])، فهي الفاعل المحرك للتغيير في الحياة، وأي محاولة للتغيير وإعادة البناء لا بد أن تتجه إلى الإنسان بإحياء العزيمة وبعث الإرادة وتجديد الأفكار وتصحيح المسار وتجديد الإيمان وإشعال أشواق القلب إلى مرابع القرب من الله، فيبصر حقيقة وجوده ومآله بعد الحياة الدنيا، يقول الإمام: “إن توتر القلب شوقًا إلى اللّه عز وجل يبقَى أماني جميلة عقيمة إن لم يصحبه توتر العقل لمعرفة الشريعة -الطريق، المنهاج، الكتاب والسنة، كلها مترادفات- ولم يصحبه توتر الإرادة على مدى الإنجاز وقطع المراحل، فبين مرمى الطرف ومحط الأشواق وبين مواقع الأقدام في الواقع الآني مسافات شواسع” ([53]).
هذا التحول الإيجابي المنبعث من داخل الإنسان المبني على إشعاع الروح وأشواق القلب المصحوب بالإرادة يطلق طاقته ومواهبه من عُقُلِها، ويستيقظ من سباته، وينعتق من كسله وسلبياته، وينتبه لمصيره فيعمل لآخرته، “فلا يمكن للمسلمين أن ينتظروا تغيير ما بهم حتى يغيروا بتجديد إيمانهم ما بأنفسهم من عقدة حب الدنيا والشح بها وإيثارها على الآخرة دار البقاء”([54]).
إذا تحقق الفرد بالإرادة وأيقن بضرورة التغيير على المستوى الذاتي تنتقل هذه الإرادة وتسري في المجموع، فيكون الاقتناع الشعبي بالتغيير، ويصبح مطلب الجمهور، ويشاركوا في إحداثه بإرادتهم، يقول الإمام ياسين: “إننا بحاجة أن تنبعث هذه الإرادة المغيرة الفاعلة من داخل صدور الملايين، وقد ألِفَتْ الملايين قرونًا أن تضع أمرَها بين يدي الحاكم وتتواكل إليه وتسكت عنه”([55]).
ويرى الإمام ياسين أن بعث الإرادة يتوقف على وجود جماعة تقود عملية التغيير، وتصنع شروطه في الواقع، يقول: “إن استراتيجية التغيير الإسلامي- كما نقرؤها في السيرة النبوية وفي القرآن الكريم- تتأسس على إرادة جماعة مجاهدة مبنية بناء خاصًّا، ثم إذا تغيرت النفوس الفردية في الجماعة وتقوت في الإيمان والإحسان إلى أن تكون عن استحقاق معنيَّةً بقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أصبح القرآن برنامَجها ونظامها المقترَح وأسلوبها، وأصبح موقعُ النظُم الجاهلية والأساليب والخُطَطِ منها موقعَ الكفر من الإيمان وموقعَ عصيان الله من الطاعة له ولرسوله وموقعَ العنف من الرفق”([56]). إن مهمة هذه الجماعة حشد الأمة وتربيتها، وشد همتها إلى مطلوب العدل والإحسان، وأن تشرح لها مراحل الطريق وطبيعة الصراع وحجم التضحيات ومقتضيات التغيير، فالإرادة التي تنبعث على أساس من العلم أقوى على الصمود وتحقيق الموعود، “ومعرفة موضوع التغيير وحجمه وكَمه وكيفه وتطوره وقوى الصراع فيه ومن حوله مقدمةٌ وبابٌ ليدخل جند الله بإرادته الإيمانية على المستقبل من باب العلم، وحول هذا الداخل بثبات -مَن يعرف مواقع خطاه وهو مستعد لبذل النفس والمال والجهد- تلتف الأمة وتستعيد ثقتها في القيادة وفي نفسها”([57]).
إذًا إنَّ التغيير يتوقف على بعث الإرادة الفردية والجماعية معًا للنهوض بالمجتمع، وهذه الإرادة يجب أن تكون موجهة بخطة استراتيجية واضحة المعالم مكتملة الأركان واثقة الخطوات، وإلا استحالت حركة الجماهير إلى هيجان وفتنة مدمرة غير محمودة العواقب.
النتائج
([1]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 2/307، ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط1، (5/3325).
([2]) الجرجاني، علي بن محمد، التعريفات، تحقيق محمد السود، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2001م، ص (67).
([3]) سعيد، جودت، حتى يغيروا ما بأنفسهم، دار الفكر- دمشق، ط8، 1989م، ص (7).
([4]) عبد الحميد، محسن، منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1983م، ص (14).
([5]) بكار، عبد الكريم، تجديد الوعي، دار القلم، دمشق، ط4، 2015م، ص (180).
([6]) ياسين عبد السلام، إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2009م، ص (85).
([11]) ياسين، عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1994م، ص (98-99).
([12]) المرجع السابق، ص (102).
([15]) ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي تربيةً وتنظيمًا وزحفًا، الشركة العربية الإفريقية، ط2، 1989م، ص (8).
([16]) المرجع السابق، ص (245).
([18]) ياسين، عبد السلام، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط2، 2005م، ص (21).
([19]) المرجع السابق، ص (85-86).
([21]) ياسين، عبد السلام، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان، بيروت، ط1، 2001م، ص (8).
([24]) رجال القومة والإصلاح، ص (7).
([25]) السعدي، عبد الرحمن، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2000م، ص (324).
([26]) الشعراوي، محمد متولي، تفسير الشعراوي، أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، (12/7243).
([27]) القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2006م، (12/32).
([28]) صحيح مسلم، كتاب الفتن: باب اقتراب الفتن، ح (2880).
([29]) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف، مكتبة العبيكان، ط1، 1998م، (2/591).
([30]) الآلوسي، شهاب الدين السيد محمود، روح المعاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (10/19-20).
([31]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص (31).
([32]) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، (4/2049).
([33]) تفسير المنار، (4/114-115).
([35]) المنهاج النبوي، ص (242).
([38]) سيد، قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط38، 2008م، (3/1535).
([39]) في ظلال القرآن، (4/2049).
([40]) حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص (38).
([42]) إمامة الأمة، ص (46-47).
([43]) رجال القومة والإصلاح، ص (7).
([45]) المنهاج النبوي، ص (238).
([48]) ياسين، عبد السلام- الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، ط1، 2000م، ص (310-311).
([51]) ياسين، عبد السلام، الإحسان، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1998م، (2/366).
([52]) حسنه، عمر عبيد، رؤية في منهجية التغيير، الأعمال الفكرية الكاملة، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 2011م، (4/ 2099).
([53]) ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ط1، 1989م، ص (74).
([54]) العدل والإسلاميون والحكم، ص (203).