د. محمد محمود كالو – جامعة أديامان – تركيا
مقدمة:
يحث الإسلام على عمران الأرض وتعميرها بالخير وبما ينفع الناس أفراداً وجماعات، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6]، ويكون تعمير الأرض باستثمارها وإحيائها واستخراج ثرواتها، وإحياء الأرض البوار والموات يكون بالبناء للسكن أو العمل أو الاستزراع، قال الله تعالى: { قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف:24], والتعمـير يصـحبه الإستيطان البشري فى التجمعات العمرانية الجديدة مرتكزاً على مبـدأ التـوازن والتكافـل الاجتمـاعي بـين الطبقـات ويتبعه بالضرورة التكافل العمراني دون تفرقة أو طبقية او تمييز فى الجنس أو اللون ما داموا يتقون الله فى أعمالهم وفي أداء وظائفهم الاجتماعية، قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
ولا يمكن الفصل بين البشر والحجر في عمليـات التنميـة والتعمـير، فإذا كان البناء يتولاه المتخصصون فى مختلف علوم البناء فإن بناء المجتمع الإسلامي تتولاه مؤسسة المسجد، ومن هنا يتحدد دور مؤسسة المسجد فى بناء العمـران، لـيس فقـط كمكـان للعبـادة والصـلاة، ولكـن أيضـاً كمركز للتنظيم الاجتماعي والثقافي والإداري للمجتمع حيث تتم فيه اللقـاءات والفعاليـات والأنشـطة الـتى توطـد أواصر الجوار، و تحافظ على البيئة المعمارية جمالياً وصحياً.
ولما كان فقه العُمران من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، أحببت أن أكتب فيه مبيناً (مفهوم العُمران في ضوء القرآن)، وقد قسمتُ البحث بعد هذه المقدمة إلى مبحثين، وخاتمة شاملة لأهم النتائج على الشكل التالي:
المبحث الأول: مفهوم العمران وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العمران لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: عناية الإسلام بعمارة الأرض.
المبحث الثاني: العمران في ضوء القرآن، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم العمران في القرآن.
المطلب الثاني: مفهوم الاستخلاف وشروطه.
المطلب الثالث: مفهوم التسخير واستثماره.
المطلب الرابع: مفهوم الفساد ومظاهره في الأرض.
الخاتمة وتشمل النتائج.
المبحث الأول: مفهوم العمران وفيه مطلبان
المطلب الأول: العُمران لغة واصطلاحاً.
العُمْرَانُ في اللغة: نقيض الخراب، وما يُعَمَّرُ به البلد ويُحسَّن حالُه بوساطة الفلاحة والصناعة والتجارة وكثرة الأَهالي ونُجح الأَعمال والتمدُّن، وحَضَارَةٌ وَعُمْرَانٌ: أي حَرَكَةٌ وَأَعْمَالٌ وَتَشْيِيدٌ وَتَمَدُّنٌ، قال أحمد بن فارس: “وَمِنَ الْبَابِ عِمَارَةُ الْأَرْضِ، يُقَالُ عَمَّرَ النَّاسُ الْأَرْضَ عِمَارَةً، وَهُمْ يَعْمُرُونَهَا، وَهِيَ عَامِرَةٌ مَعْمُورَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: عَامِرَةٌ، مَحْمُولٌ عَلَى عَمَرَتِ الْأَرْضُ، وَالْمَعْمُورَةُ مَنْ عُمِرَتْ. وَالِاسْمُ وَالْمَصْدَرُ الْعُمْرَانُ: وَاسْتَعْمَرَ اللَّهُ – تَعَالَى – النَّاسَ فِي الْأَرْضِ لِيُعَمِّرُوهَا.”[1].
فالعمران هو مصدر من عَمَرَ الأرض يعمُرُها عِمَارةً وعُمْرَانًا، والألف والنون في العربية تفيد المبالغة، أي عمارة جيدة وكبيرة، وحين توجد عمارة جيدة ممتازة إما لسعتها أو ضخامتها أو غير ذلك تكون عمرانًا، وكل الإنشاءات المعنوية والحسية التي يقوم بها الإنسان فيعبد بها الله تعالى ويقوم بوظيفة الخلافةكل ذلك عمران، وليس كل ما أنتجه البشر من إنشاءات مادية ومعنوية عمران إلا إذا كان على أسس القرآن، لأن العمران ضد الخراب، وأول ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات: “العِمَارَةُ: نقيض الخراب: يقال: عَمَرَ أرضَهُ: يَعْمُرُهَا عِمَارَةً. قال تعالى: ﴿وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ (التوبة:19)، يقال: عَمَّرْتُهُ فَعَمَرَ فهو مَعْمُورٌ. قال: ﴿وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها﴾ (الروم:9)، ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾ (الطور:4)، وأَعْمَرْتُهُ الأرضَ واسْتَعْمَرْتُهُ: إذا فوّضت إليه العِمَارَةُ، قال: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها﴾ (هود:61) والْعَمْرُ والْعُمُرُ: اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة، فهو دون البقاء، فإذا قيل: طال عُمُرُهُ، فمعناه: عِمَارَةُ بدنِهِ بروحه، وإذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك، فإنّ البقاء ضدّ الفناء، ولفضل البقاء على العمر وصف الله به، وقلّما وصف بالعمر، والتَّعْمِيرُ: إعطاء العمر بالفعل، أو بالقول على سبيل الدّعاء.”[2].
فكل ما فيه تدمير للبشرية بشكل من الأشكال سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى الإنشاءات المادية لا يمكن أن يسمى عمرانًا، وكذلك إذا كان في الظاهر يفيد الإنسان؛ لكن لم يُقصد به ذلك، وإنما جاء عرَضًا لمقصد آخر لا يعتبر عمرانًا، كفعل الكافر إذا لم يكن له إيمان، فقد يريد الآخرة ويسعى لها سعيها لكنه ليس مؤمنًا، فلا فائدة حينئذ، قال الله تعالى: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾(إبراهيم:18)، فارتباط العمران بالقرآن؛ ارتباط السبب بالمسبب، لأن الذي ينشئ العمران هو القرآن، إذ العُمران مرتبط بالوظيفة الأصلية لآدم عليه السلام وبنيه، التي هي الخلافة والتي حددت في عبادة الله وحده.
ولفظ (العُمْرَان) لم يرد في القرآن الكريم، وإنَّما ورد فيه ما يفيد الإعمار والتَّعمير بألفاظ مثل: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها﴾ (هود:61)، ﴿وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها﴾ (الروم:9)؛ أي: الأرض، ﴿وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ (التوبة:19)، وكلها تفيد العُمْرَان، وتعمير الإنسان لمنطقة معيَّنة بقصد العيش وعبادة الله تعالى.
والعُمْرَانُ في الاصطِلاح اقترحه المفكِّر العلامة ابن خلدون في مقدّمته؛ للدّلالة على نمط الحياة بوجه عام، جاعِلاً إيَّاه أحد الخواصّ التي تميَّز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، فالعُمْرَانُ عند ابن خلدون هو ما يسمى الآن (علم الاجتماع) يعني عمران الأرض باجتماع الناس بعضهم إلى بعض ووجود روابط تربطهم وقوانين تنظم حياتهم فقال: “العُمران وهو: التَّساكُن والتَّنازُل في مصر أو حلَّةٍ للأنس بالعشير، واقتِضاء الحاجات لما فيه من طباعِهِم من التعاون على المعاش”[3] ، وقدِ استلهمه ابن خلدون من قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:6)، والعُمران عند ابن خلدون نوعان: “ومن هذا العمران ما يكون بدويّا وهو الّذي يكون في الضّواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرّمال، ومنه ما يكون حضريّا وهو الّذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتّحصّن بجدرانها”[4].
المطلب الثاني: عناية الإسلام بعمارة الأرض.
لقد عني الإسلام بعمارة الأرض ورعاية الكون عناية خاصة، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون وهيأ فيه الظروف المثلى للحياة السعيدة المستقرة، ثم استخلف فيه الإنسان ليقوم بإعماره على الوجه الأكمل؛ قال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61).
وعندما عرض القرآن الكريم قصة بدء الخليقة والنشأة الأولى أشار في سياق ذلك إلى أن أكبر مهدد لاستمرار الحياة الطبيعية على هذا الكوكب الوليد؛ إنما يأتي من سفك الدماء والإفساد في الأرض؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: 30)؛ فالإفساد الذي هو ضد الإعمار أكبر خطر يتهدد الحياة، وهو البند الأول من المهددات التي استشعرها الملائكة الكرام أثناء الحوار عن الأرض وخليفتها، ومن ثَـمَّ فقد حذر المولى جل جلاله أشد تحذير من هذه الماحقة المدمرة؛ وجرَّم إراقة الدماء بغير حق أيما تجريم، وحرم الاعتداء على الممتلكات الخاصة أو على مالكيها، وفي سياق التشريع القانوني وضعت أشد عقوبة وأقساها في الإسلام ضد المفسدين في الأرض يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).
وهكذا جاء خلْقُ الإنسان في نهاية سلسلة خلق جميع الكائنات على سطح الأرض، وعِلَّة ذلك أن الله تعالى هيأ في الأرض نظامًا متكاملًا متوازنًا يعج بالحياة بكافة أنواعها حتى تكون في استعداد تام لاستقبال الملك المُتَوج من قِبلِ الله تعالى على كوكب الأرض… فحينما خلق الله تبارك وتعالى الأرض بارك فيها وقدَّر فيها أقواتها من أول ما خلقها وهيأ للناس أرزاقهم فيها كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ…﴾ (الأعراف:10-11) قوله: ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي فِي أَصْلَاب آبَائِكُمْ ويعني بذلك آدم عليه السلام؛ وذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ أي فِي بُطُون أُمَّهَاتكُمْ، يعني قبل أن يخلقهم خلَقَ لهم ما يكفيهم وجعل لهم فيها معايش، وعليهم هم أن ينظموا أنفسهم ويبحثوا في الزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد والعمران، حتى قال علماء المسلمين: كل ما يحتاج الناس لتعلمه لتنمو حياتهم وتتكامل يعتبر فرض كفاية[5] عليهم أن يتعلموه، ومن ذلك العلوم الدنيوية؛ كالطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك واستخراج المعادن والزراعة والملاحة والفلاحة وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة والعلوم السياسية والعسكرية وغيرها، بل يجب عليهم أن يتقنوا هذه الأشياء حتى لا يحتاجوا إلى غيرهم ممن يبتزُّهم ويكتفوا بذلك اكتفاء ذاتياً، بحيث تتكامل معاني القوة والازدهار في الحياة الإسلامية.
ولقد اهتدى ابن خلدون (المتوفى808ﻫ) إلى استنباط قواعد العُمران وأصول الاجتماع من التاريخ فصنف في ذلك مقدمة تاريخه المشهور: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، هذا العلم الذي لم يزد عليه أحد بعده من علماء المسلمين حتى ولا تلاميذه كالمقريزي وابن الأزرق؛ فقد عرّفوا بفكر شيخهم لكنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما اكتشفه ابن خلدون.
والعمران عند ابن خلدون يقوم في حقيقة أمره على دعامتين متلازمتـين:
1-دعامـة اجتماعية سياسية تشمل التوحش والتأنس والعصبيات وأصـناف التغلبـات للبـشر بعضهم على بعضم.
2-ودعامة اقتصادية تشمل ما ينتحله البشر بأعمالهم ومـساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع.
فقد بيَّن غاية هذا العلم قائلاً: “حقيقة التّاريخ أنّه خبر عن الاجتماع الانسانيّ الّذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التّوحّش والتّأنّس والعصبيّات وأصناف التّغلّبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدّول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصّنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.”[6].
ويوضح ابن خلدون أن كل هذا يتطلَّب توافر الأمن حيث بدونه تعُمُّ الفوضى ويسود الاضطراب ويفسد العُمران فيقول: ” ثمّ إنّ هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قرّرناه وتمّ عمران العالم بهم فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانيّة من العدوان والظّلم وليست السّلاح الّتي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنّها موجودة لجميعهم فلا بدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسّلطان واليد القاهرة حتّى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك”[7].
وهكذا يربط بين جميع المتغيرات الاجتماعية والاقتـصادية والـسياسية المهـمة، ومنها الشريعة والرجال والمال والعمران والعدل والمساواة بطريقة دائرية مترابطة في شكل سلسلة.
إن عمارة الأرض من أعظم مقاصد الشريعة، قال الإمام ابن عاشور:” مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوهٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ رَعْيِ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ وَرَعْيِ الْوِجْدَانِ الْخَاصِّ، وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ مَعَ الَّذِي كَدَّ لِجَمْعِ الْمَالِ وَكَسْبِهِ، وَمُرَاعَاةِ الْإِحْسَانِ لِلَّذِي بَطَّأَ بِهِ جُهْدُهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَقَاصِدِ التَّشْرِيعِيَّةِ.”[8].
وقال الشيخ علال الفاسي: “والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع”[9].
المبحث الثاني: العُمران في ضوء القرآن، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم العُمران في القرآن
لقد جاء في أكثر من أية تعزيز القيام بالعُمران وعمارة الأرض، كقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْاَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 29)، وقد قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: “والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة[10]، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم”[11]، وقال ابن عاشور مؤكداً معنى العمارة: “فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قِيَامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالْوَحْيِ وَتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ”[12].
وقال الله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْاَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:61)، قال الطبري مؤكداً على معنى العمارة في الآية: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ يقول: “وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم”[13].
وقال البيضاوي:”﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها، وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم”[14].
وفي هذه الآية المركزية في نشوء مفهوم العُمران ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْاَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:61)، نتبين ثلاثةَ مكونات أساسية:
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ الحث على بذل الجهد واستفراغ الوسع في إعمار الأرض حتى في أحلك الظروف، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ”[16].
فأسُس العُمران البشري والحضاري في القُرآن الكريم هي: الإنسان، والمكان (الأرض)، والرِّسالة السماوية، ونقرأ ذلك في دعاء نبي الله إبراهيم – عليْه السَّلام – لـمَّا قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم:37)، حيثُ أسكنَ إبراهيمُ عليْه السَّلام أهلَه وابنَه إسماعيل بوادي بجوار الكعبة، وذلك بوحي من الله تعالى، ثمَّ دعا ربَّه أن يهيِّئَ لذريَّته ما يعينهم على القيام بعبادة الله تعالى، من أمْنٍ بجوار البيت الحرام، وتعارُف ومحبَّة بينهم وبين الوافِدين عليْهم مستقبلاً، وأن يرزُقَهم من الثمرات ما يحقق حاجتهم من الطعام والعيش الكريم، وبذلك وضع إبراهيم عليه السلام الأسُس المادِّيَّة والروحيَّة للعمران البشري، وكأني به عليْه الصَّلاة السَّلام يضع تخطيطًا مستقبليًّا لعُمران أمَّة مسلمة ذات رسالة حضاريَّة متميّزة[17]، والعُمران الحضاري مقصد عام من مقاصد استخلاف الإنسان في الأرض، فقد استخلف الله الإنسان في الأرض واستعْمره فيها؛ لغاية كبرى هي تحقيق العبودية لله تعالى، بمفهومها الشَّامل وفْق ما أمر وشرع، وإقامة العدْل والإصْلاح في الأرْض، وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ (هود: 61)، ومعنى (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) في الآية: أي جعلكم عمَّارها، أو طلب منكم أن تعمروها، بصيغة الجمع مما يلفت الانتباه إلى علاقة الإنسان بمن يقوم معه بمهمة الاستعمار، وهي كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس:14)، قال محمد رشيد رضا: “وَقَدْ عَلَّلَ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: ﴿ِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ لِنَرَى وَنُشَاهِدَ أَيَّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَ فِي خِلَافَتِكُمْ، فَنُجَازِيَكُمْ بِهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ إِنَّمَا جَعَلَهَا لَكُمْ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ، لَا لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّةِ الْمُلْكِ”[18].
ولكي نقوم بالعمران الحقيقي في الأرض؛ لا بدّ من بيان المفاهيم المتعاضدة لمفهوم العمران وتحقيقها وفق ما جاء في القرآن، فالعُمران “بالمفهوم القرآني لا يمكن أن يُفهَم في أبعاده المختلفة والمتعاضدة في آن من دون فهم مفهوم الاستخلاف، وهذا المفهوم بدوره لا يعطينا كل دلالاته ولا تمتاز طبيعته من دون استحضار مفهوم التسخير، وهذان المفهومان (الاستخلافُ والتسخير) هما المفهومان المكونان للمفهوم الأعمِّ ألا وهو (العمران) ولكن لا يمكن إدراكهما بمفهومُهما الأعمُّ من دون النظر إلى المفهوم المقابل مفهومِ (الفساد) وهذا باعتباره انحرافاً عن الأصل”[19].
المطلب الثاني: مفهوم الاستخلاف وشروطه
ذكر الراغب الأصفهاني أن: “الفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:
فعمارة الأرض ومكونات الفعل العُمراني تتأسس في ثلاثة أمور:
قال الطاهر بن عاشور: “وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِخْلَافِ: الِاسْتِخْلَافُ عَنِ اللَّهِ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ. وَالِاسْتِخْلَافُ إِقَامَةُ الْخَلِيفَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ لَهُ، أَيْ جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا غَالِبِينَ وَمُؤَسِّسِينَ مُلْكًا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ.”[22].
ويُستفاد من ذلك أنَّ الإنسان مستخْلَف في الأرض ومكلَّف بعمارتها وفْق شرْع الله، وعلى هدْي أنبيائِه عليْهم الصَّلاة والسَّلام واستِخْلاف الإنسان في الأرْض تشريف وتكليف له بتحمُّل الأمانة العُظْمى الَّتي لم تحتمِلْها السَّماوات والأرض؛ لذا كان الأحقُّ بالاستِخْلاف هم المؤمنون الصَّالِحون المصْلِحون، تبعًا لسنَّة الله في الأُمَم، فكلَّما أهلك الله أمَّة طاغية، جعل أمَّةَ المؤمنين خلائفَ في الأرْض، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس:14)، ومن معاني (الخليفة) التناوب في الوجود بين بني البشر حيث “يَخْلُف بَعْضهمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْد قَرْن وَجِيلًا بَعْد جِيل”[23].
شروط الاستخلاف:
المتأمل في فقه العمارة في الإسلام يجده فقهاً راقياً يتناول الإعمار من أبعاده كلها وعلى كل المستويات؛ فقد بدأ بإعمار أهم كائن في الكون وهو الإنسان، فاهتم بإعمار نفسه أولاً، وتزكية إيمانه قبل كل شيء وتعزيز روح التضحية في النفس الإنسانية حتى تسمو إلى عوالم الإيثار، وقد أخبر الباري سبحانه وتعالى أن هذا الإعمار لا يعدله حتى إعمار أفضل بيت من بيوت الله في الأرض؛ قال الله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 19)؛ فالإعمار المعنوي للنفوس هو الأساس الذي ينبني عليه إعمار الأرض، ولا يمكن أن نؤسس لحضارة إنسانية وارفة الظلال إلا بإعمار وتزكية الجانب الخلقي والإنساني فيها، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم: 9).
وإذا كانت غاية استخلاف الإنسان في الأرض هي عبادةَ الله تعالى وتعمير الأرض وإصلاحها، فالتعمير والعُمران لا يكون إلاَّ وفق الشرع الحكيم والهداية الربَّانية، وهو مُحْتوى الإيمان والعمل الصَّالح اللَّذيْن جعلهما الله شرْطًا للتَّمكين والاستِخْلاف في الأرْض؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
ليستخلفنَّهم في الأرض أي: ليجعلنَّهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، والآيات تدل على أن طاعة الله بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة، فلا عمران إذن من دون إيمان وعبادة.
ولا بدَّ من الاستمرار على الحق والإيمان والعمل الصالح حتى يأتي النصر ويتمَّ الاستخلاف والتمكين، أما الأمن فلا يكون إلا بعد خوف، قال الشيخ سعيد حوى: “والذي نلاحظه أن كثيراً من المسلمين إذا جاء الخوف تركوا وانعزلوا، وأن كثيرين ليسوا متحققين بشروط الاستخلاف، ومن ثم نرى أن النصر يبطئ على حملة دعوة الله، والرجاء من أهل الإسلام أن يتحققوا ويستمروا.”[24].
إن العمران الحضاري إذا قام على الحقِّ وعلى التَّقْوى والصَّلاح يباركه الله، ويَحيا به أهلُه حياة طيِّبة، وإذا قام على الشِّرْك والظلم والطغيان والاستِكْبار في الأرض، دمَّره الله كعُمران أقوامِ هود وصالح وفرعون وأمثالهم، ومن أجمل ما صوَّره الله تعالى لنا في القرآن قصة قوم سبأ، حينما استجاب أهلها لدعوة التوحيد، وأقلعوا عن عبادة الشمس، كانت لهم حضارة وعُمران وازدهار في اليمن، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (سبأ:15)، ولكنهم لما أعرضوا وعادوا إلى عبادة الشمس، ولم يشكروا الله عز وجل، انقلبت النعمة إلى نقمة، وضاعت حضارتهم، ودُمِّر عمرانهم، وأرسل الله عليهم سيل العَرِم: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ (سبأ:16،17)، فمزَّقهم الله شذر مذر، حتى أصبحوا حكايات وأحاديث، وضَرَبَتِ العَرَبُ بِهِم المثَلَ فِي الفُرْقة فقالوا: “ذَهَبُوا أَيْدِي سَبَأ”[25] أَي مُتَفَرِّقين، قال الله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (سبأ:19).
وما فتئ القرآنُ ينبِّه المكذِّبين برسالة نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليْه وسلَّم ويدْعوهم إلى النَّظر والاعتِبار بعاقبة سلفهم في الكفر وتكْذيب الرسل، الذين لم تنفعهم قوَّتُهم ولم ينفعهم عمرانُهم ولا ما بنَوْه من قصور ومصانع، إذ كل ذلك صار آثارًا وأطلالاً، تذكِّر النَّاظرين والمعتبرين بمصير تاركيها، قال الله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ (الدخان: 25-29)، وهكذا قرر العلماء بناء على آيات الاستِخْلاف: أنَّ عُمران الأرْض مأْمور به شرعًا، وأنَّه من مقاصِد الشَّريعة الكُبْرى؛ بل هو الغاية من الكثير من مقاصدها الأخرى، التي تحفظ المسيرة الإنسانية من الضياع على كلا الجانبين الأخلاقي والمادي.
المطلب الثالث: مفهوم التسخير واستثماره
أما مفهوم التسخير فقد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: “أما السُّخْرةُ فما تَسَخَّرْتَ من خادم ودابة بلا أجر ولا ثمن. تقول: هم لك سُخْرَةً وسُخْرِيّاً.”[26].
لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بتسخير الكون له بلا أجر ولا ثمن، وتسخير ما فيها لمنفعته وتمكينه من دوره الذي خلقه من أجله، حيث سخّر له ما هو أكبر منه خلْقاً كالسماوات والأرضين، وأعظم منه جسماً كالأنعام، فقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ (لقمان:20).
قال أبو السعود: “والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له، أعمُّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ، أو لا يكون كذلك، بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غير أن يكون له دخلٌ في استعمالِه، كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً ومعاداً، وما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً، على أنَّ معنى (لكُم) لأجلِكم، فإنَّ جميعَ ما في السمواتِ والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ، وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى”[27].
وتسخير كلّ تلك المظاهر الكونية والمخلوقات لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب، بل يَلْمَحُ الإمام البقاعي غرضاً آخر له، فيقول: “الآيات في ذكر الكواكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ…﴾ (الأنعام:97) ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (النحل:12) ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (ابراهيم:33) …كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخِّر القاهِر فوق عباده الذي استوى على جميعها”[28]،
فالتسخير يقود إلى مبدأ التوحيد الأعظم الذي هو ثمرة هذا الإعمار الواعي للكون، ولأنّه نعمة تذكِّر بالمنعِم سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الله تعالى ما يتعلق بالليل والنهار في كتابه الكريم إما بصيغة التسخير، وإما بذكر الغاية من هذا التسخير، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ (الإسراء:19).
قال ابن كثير: “يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجُمَع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضيَّ الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك؛ ولهذا قال: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك”[29].
ولا أعتقد أن هذا التسخير والتطويع الذي كثُر ذكره في آيات عديدة من القرآن الكريم؛ إلاّ شاحِذٌ رئيس لاكتشاف نواميس الكون ومعرفة مجالات التسخير فيه، وكيفية خدمة الإنسان بذلك، والعقل الذي يُخاطب بهذا الأمر الدقيق البالغ في تحديد مهامه الصالحة والإصلاحية يجب أن لا يضيِّع وقته في مجالات لا تفيد؛ بل ينبغي أن يتفتَّق فكره بالمخترعات والمكتشفات الحياتية التي تسهل عليه البناء، والحصول على الغذاء، وبلوغ السماء، وتوفير الرخاء، وقطع المفاوز والصحراء، وتيسير المصاعب وتقليل المخاوف والأعباء، وغيرها مما يشغل بني الإنسان ويرفِّهه في حياته[30].
وهكذا تقوم العلاقة بين الإنسان وتسخير الكون على التوافق والانسجام، وأي فكر أو حركة تجديد تهمِل هذا التسخير وتحذِّر منه بحجة ذمِّ الدنيا والإقبال على الآخرة يجعل الأمة في حالة ارتكاس، ويضيع به المسلم دنياه وآخرته معاً، بل يكون بذلك متجاهلا لأوامر الله التي تحثه على الأخذ بأسباب القوة والاستخلاف وفق قوانينه في خلقه، مما يؤدي إلى تضييع أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض وتسليمها إلى البغاة والمفسدين.
المطلب الرابع: مفهوم الفساد ومظاهره في الأرض
قال ابن منظور: “الفساد نقيض الصلاح… وتفاسد القوم: تدابروا وقطعوا الأرحام… واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى استعصى عليه، والمفسدة خلاف المصلحة، والاستفساد خلاف الاستصلاح”[31].
ومن خلال ذلك نخلص إلى أن وجود خلل أو نقص في أداء الشيء يسمى فسادًا، ففساد الآلة بخرابها، والجسم بمرضه وضعفه، والثمرة بفقدان طعمها، والدولة بنكوصها عن أداء مهماتها، وذلك بعدم انسجام أعضاء مجتمعها، وفقدان الأمن والوحدة الاجتماعية اللذين يحفظان تماسكه.
فالفساد أمر مرفوض ومستهجن بكافة أشكاله، وما شرع الإسلام من العقوبات والحدود، أو حتى الجهاد في سبيل الله، إلا للمحافظة على عمارة الأرض واستقرارها، وبتر يد العابثين من المفسِدين، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ (البقرة:205).
قال أبو حيان: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ هَذَا عِلَّةُ سَعْيِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ مُعَانَدَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:60) وَالْفَسَادُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ: الْجَوْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالنَّهْبِ، وَالسَّبْيِ، ويكون: بالكفر… الْإِفْسَادَ شَامِلٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ إِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ إفسادهما غاية الإفساد”[32].
ومصطلح (الفساد) في القرآن الكريم لا يدل على ما هو متعارف عليه في أذهان عامة الناس، من أنّ كلمة الفساد تعني عدم الالتزام الشرعي، بل ينقله تارة على ألسنة العصاة والظالمين في وصفهم لحركة الأنبياء والصالحين، كما في وَصفِ أتباعِ فرعونَ لدعوة موسى عليه السلام وحركته الإصلاحية، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ (الأعراف:127)، أو وصف فرعون لدعوة كليم الله موسى عليه السلام بقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26)، أو قول بلقيس في وصف عمل الملوك: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل:34).
وتارة يستعملها القرآن الكريم في وصف الطغاة أو الخارجين عن الشريعة، أو في التحذير من عمل يؤدي إلى الفساد، كقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص:83)، وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال:73).
ومما يلفت النظر أن هناك شبه تلازم في القرآن الكريم بين مصطلح (الفساد) وبين كلمة (الأرض)، وإذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة، فسنجد أن الكتاب الحكيم استخدم كلمة (الفساد) وتصريفاتها بحدود خمسين مرة، وفي جميع هذه الاستخدامات كان يرد اسم (الأرض) أو الإشارة إليها، ما عدا إحدى عشرة مرة لم يرد فيها ذكر الأرض; لأن الاستعمال كان في معرض وصف عمل المفسدين وعاقبته، كقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (النمل:14)، أو في معرض الدعاء: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ (العنكبوت:30)، أو في معرض بيان إحاطة العلم الإلهي: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:40).
فنخلص من ذلك كله إلى أن ظاهرة الفساد التي يشير إليها القرآن الكريم ليست ظاهرة فردية أو شخصية، أو محدودة بمجتمع ضيق أو مقيدة بعمل معين، بل هي ظاهرة تعم المجتمع الإنساني بغالبيته في الكرة الأرضية كلها.
من مظاهر الفساد في الأرض:
للفساد الذي ذكره القرآن الكريم وحذر منه أشكال ومظاهر كثيرة في القديم والحديث منها، دعوات قوم لوط إلى “الجنس المثلي” وخدائع قوم شعيب “في تطفيفهم الكيل والميزان”، فالقرآن يعتبر أن عمل قوم لوط من أعمال الإفساد في الأرض، وهذا العمل الشائن كما يؤدي إلى الأمراض الفتاكة المختلفة، فإنه كذلك يكون سبباً في تهديد النسل واستمرار الوجود البشري، وأما في عصرنا الحديث فإن مشكلة “الزواج المثل” قد أصبحت إحدى أخطر مهددات الاستمرار الإنساني في المجتمعات التي انتشرت فيها، ولا سيما في الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، ومع هذا فإن الغرب يحاول جاهدًا أن يقنن هذا الشذوذ باعتباره ظاهرة إنسانية مقبولة… ولكن القرآن الكريم يصنفها ضمن نماذج الإفساد البشري في الأرض، لما يتسبب عنها من دمار للمجتمعات وتفكيك لبنيتها.
ومن نماذج الإفساد في الأرض التي نص عليها القرآن الغبن والتدليس والغش والسرقة في البيع، وعدم الصدق في العقود، وغياب الأمانة عن الأسواق، إضافة إلى الجشع والظلم والاعتداء وفقدان الأمن وعدم الثقة بين أفراد المجتمع، مما يؤدي إلى زعزعة المجتمع وتهديد أمنه واستقراره.
ولما كان للإنسان حاجات رئيسة وحقوقاً أساسية لا يمكن للمجتمع أن يستمر نحو أهدافه بدونها، بغض النظر عن الهوية والفكر السياسي، كالغذاء والكساء والسكن والأمن والدواء، جعل القرآن الكريم أيّ تهديد لهذه الحاجات أو خلل في تلبيتها أو كفايتها إفسادًا في الأرض وتعدّياً على تلك الحقوق.
ولذلك يطرح القرآن الكريم قضية فرعون وهامان نموذجاً للأنظمة المستبدة التي أفسدت في الأرض، والتي تكون فيها أجهزة الدولة ومقدَّراتها في خدمة شخص الحاكم الظالم لا الشعب والأمة، بل تصبح تلك الأمم المضطهدة بكل جهودها وقيَمها أسيرةَ ما يضفيه الحاكم عليها من تعاليم وفلسفات فاسدة، حيث تتحول نزوات الحاكم إلى قوانين وتشريعات، قال الله تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر:29)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:4)، شِيَعًا جمع شيعة، وهي الطائفة التي لها امتيازاتها الخاصة وشكل حياتها المميز عن الطوائف المجتمعية الأخرى، ووفق قوانين القرآن فإن المفروض في الـمُمَلَّك أنْ يُسوِّي بين رعيته، فلا تأخذ طبقة أو جماعة في مملكته حظوه عن الطبقات الأخرى… ولكن فرعون قد جعل الناس طوائف، ثم قام بتسليط بعضها على البعض الآخر، بل وزاد على ذلك بأن سخَّر الطوائف المستضعفة للطوائف الأقوى منها، وهكذا تشير الآية إلى أن الأنظمة المستبدة تساهم في تمزيق المجتمع ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾، عبر الطائفية المقيتة، كما تلمح إلى أن منهج هذه الأنظمة الظالمة والمفسدة يعتمد على ضرب طوائف المجتمع ببعضها، كي يبقى الحاكم المستبد محتفظًا بنفسه فوق الجميع.
كما لفت القرآن الكريم الأنظار إلى دور الأنظمة السياسية الفاسدة في تدمير المجتمعات ونشر الفساد أثناء حديثه عن أرمَ وعاد وثمود وفرعون في سورة الفجر حيث وصفهم بقوله ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ (الفجر:11-12)، وقال جل جلاله في موضع آخر على لسان قوم مستضعفين: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ (الكهف:94)، نعم إنه الفساد الذي يدمر المجتمعات ويفقدها أمنها وسعادتها… ولا يمكن للمجتمعات الإنسانية أن تعيش بهناء إلا إذا قامت بالقضاء على بؤر الفساد والظلم التي تمثلها الأنظمة الطاغية أو بناء سد يحول بين ظلمهم وبينها، وهكذا فإن الخلاص من الظلمة هو الطريق إلى سعادة المجتمع وعُمرانه واستقراره وازدهاره.
الخاتمة وتشمل أهم النتائج:
وبعد هذه الدراسة العجلى حول مفهوم العُمران في ضوء آيات القرآن، توصل الباحث إلى النتائج التالية:
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع:
http://www.alukah.net/publications_competitions/0/6447/
http://www.almultaka.org/site.php?id=768&idC=1&idSC=1
36 – القحطاني، مسفر بن علي، “سؤال التسخير الكوني للإنسان: رؤية مقاصدية“، بحث منشور في موقع مجلة الإحياء المغربية الصادرة عن الرابطة المحمدية للعلماء، ندوات، على الرابط التالي:
http://www.alihyaa.ma/Article.aspx?C=5812
[1]– ابن فارس، أحمد. معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ، 1979م، ج4، ص141.
[2]– الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب. المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، بيروت، دار القلم الدار الشامية، 1412ھ، ص586.
[3] – ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (المتوفى808هـ)، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ، 1988م، ص53.
[4] – المرجع السابق.
[5]– ولأهمية القيام بفروض الكفاية في الشريعة الإسلامية قال بعض العلماء: إن القيام بها أفضل من القيام بفرض العين لعموم نفعها وإسقاط الإثم بالقيام بها عن جميع الأمة، قال صاحب المراقي:
وهو مفضل على ذي العين في زعم الأستاذ مع الجويني
[6]– مقدمة ابن خلدون، ص46.
[7]– المرجع السابق، ص56.
[8]– – ابن عاشور، محمد الطاهر (المتوفى1393هـ)، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، الدار التونسية للنشر، تونس 1984م، ج3، ص45.
[9]– الفاسي، علال (المتوفى 1394هـ)، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الخامسة،1993م، ص45-46.
[10]– قال ابن قيم الجوزية: “هَذَا قَول جمَاعَة من النُّحَاة، وَالصَّوَاب أن التَّاء إِنَّمَا دخلت فِيهَا للعدل عَن الْوَصْف إلى الاسْم فَإِن الْكَلِمَة صفة فِي الاصل ثمَّ أجريت مجْرى الأسماء فالحقت التَّاء؛ لذَلِك كَمَا قَالُوا: نطيحة بِالتَّاءِ فَإِذا أجروها صفة قَالُوا: شَاة نطيح كما يَقُولُونَ: كَفّ خضيب وإلا فَلَا معنى للْمُبَالَغَة فِي خَليفَة حَتَّى تلحقها تَاء الْمُبَالغَة وَالله أعْلَم ” [ابن القيم الجوزية محمد بن أبي بكر (المتوفى 751هـ)، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ج1، ص153].
[11]– البيضاوي، ناصر الدين عبد الله بن عمر (المتوفى 685 هـ)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ، ج1، ص68.
[12]– ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج1، ص399.
[13]– الطبري، محمد بن جرير (المتوفى310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ – 2000م، ج15، ص368.
[14]– البيضاوي، عبدالله بن عمر، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج3، ص139.
[15]– رمضان، يحيى، “القرآن والعمران قراءة في المفاهيم المؤسسة“، بحث منشور في الملتقى الفكري للإبداع، تاريخ النشر: 22-08-2009، على الرابط التالي: http://www.almultaka.org/site.php?id=768&idC=1&idSC=1
[16]– ابن حنبل، أحمد (المتوفى241هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وغيره، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421هـ، 2001م برقم: 12981، ج3، ص191، والبخاري، محمد بن إسماعيل، الأدب المفرد، تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ، 1998م، باب استصناع المال، برقم: 479، ج1، ص168.
[17]– البوزي، محمد، “التقوى والعمران الحضاري في القرآن” بحث منشور في موقع الألوكة الالكترونية، تاريخ الإضافة: 30/6/2009 ميلادي – 7/7/1430 هجري، على الرابط التالي:
http://www.alukah.net/publications_competitions/0/6447/
[18]– علي رضا، محمد رشيد، (تفسير المنار)، ج11، ص259.
[19]– رمضان، يحيى، بحث: “القرآن والعمران قراءة في المفاهيم المؤسسة” مرجع سابق.
[20]– الأصفهاني، الحسين بن محمد المعروف بالراغب، الذريعة إلى مكارم الشريعة ،ص82.
[21]– رمضان، يحيى، بحث: “القرآن والعمران قراءة في المفاهيم المؤسسة” مرجع سابق.
[22]– ابن عاشور، محمد الطاهر التحرير والتنوير،ج9، ص62.
[23]– ابن كثير، إسماعيل بن عمر(المتوفى774هـ)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ، ج1، ص124.
[24]– حوى، سعيد (المتوفى1409هـ)، الأساس في التفسير، دار السلام، القاهرة، الطبعة السادسة 1424هـ، ج7، ص3811.
[25]– “قَوْلُهُمْ ذَهَبُوا أَيْدِي سَبَأ، أَي: مُتَفَرِّقين، شُبِّهُوا بأَهلِ سبَأ لـَمَّا مزَّقهم اللَّهُ فِي الأَرض كلَّ مُمَزَّقٍ، فأَخذ كلُّ طائفةٍ مِنْهُمْ طَرِيقًا عَلَى حِدةٍ. واليَدُ: الطَّرِيق” [ابن منظور، محمد بن مكرم (المتوفى711هـ)، لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414هـ، ج1، ص94].
[26]– الفراهيدي، الخليل بن أحمد (المتوفى:170هـ )، كتاب العين، تحقيق: د مهدي المخزومي وغيره، دار ومكتبة الهلال، ج4، ص196.
[27]– العمادي، أبو السعود (المتوفى 982هـ)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ج7، ص73-74.
[28]– البقاعي، إبراهيم بن عمر (المتوفى885هـ)، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، د.ت، ج8، ص533.
[29]– ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، ج5، ص46.
[30]– القحطاني، مسفر بن علي، بحث: “سؤال التسخير الكوني للإنسان: رؤية مقاصدية“.
[31]– ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج3، ص335.
[32]– أبوحيان، محمد بن يوسف (المتوفى 745هـ)، البحر المحيط في التفسير، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، الطبعة 1420 هـ، ج2، ص329-330.