الدكتور/ محمّد أيمن الجمّال – أستاذ مشارك في جامعة السلطان محمّد الفاتح الوقفيّة
تمهيد:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
فإنّ الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه قد عاصر لفترة غيرِ قليلةٍ الحكمَ الأمويّ كما عاصرَ فترةً من الحكم العبّاسيّ، وقد كان فيما بينهما جملةٌ من القلاقل السياسيّة والانقلابات والثورات أدّت إلى تغيّر واجهة الحكمِ من الدولة الأمويّة إلى الدولة العبّاسيّة، وشهدَ الإمامُ خلال تلك المدّة تغيّر عدد من الأمراء والدول والخلفاء، وكانت له معهم مواقف تستحقّ أن تُدرس لنتعرّف من خلالها إلى فقه الثورة عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفي الوقت الذي يُحاول فيه كثيرٌ من أصحاب الفهم السقيم أن يفصلوا التشريع الإسلاميّ عن واقع الحياة الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ؛ فإنّ مُراجَعَةَ حالِ أولئك الأئمّةِ العظامِ يُعطينا صورةً واضحةً عن مقدار اهتمامهم بالسياسة، ومدى تأثيرهم في الأمّة والأئمّة والخلفاء والأمراء والحكّام، والعلماء والقضاة، وهذا لا يتأتّى إلاّ من خلال قراءةٍ واعية لبعضِ مواقف هؤلاء الأئمّة مع ساسةِ عصرهم، واستنباط بعض مرتكزات فكرهم السياسيّ من خلال تلك المواقف.
لذلك فقد رأيت أن أكتب هذا البحث تبيينًا لمواقفِ إمامٍ من أعظم الأئمّةِ وقوفًا في وجه الظالمين، ومن أكثرهِم صدحًا بالحقّ، وذلك من أجل تخريج فروع مواقفهم وما مرّوا به في حياتهم على أصولهم الفقهيّة، وتعرّفًا إلى مبادئهم وقيمهم التي غرسوها في نفوس تلاميذهم حتّى نُقلت إلى أتباعهم.
ومن المعلوم أنّ من أبرز مهمّات السياسة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولمّا كان للإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مواقفُ كثيرةٌ في هذا الباب؛ كان من أحقّ من تُولَى العنايةُ إليه، وتنصرفُ الهمم إلى قراءةِ أقواله وسبرِ ما فيها من أحكام.
وقد كان من أبرز ما امتاز به في حياته السياسيّة وقوفه رضي الله عنه مع الثورات ضدّ الحكّام، وقد استتبعَ ذلك ما استتبعَهُ من محاولةِ الحكّام للتقرّب إليه، نظرًا لمكانتِهِ بين العلماء وطلاّب العلم والعوامّ، فأدّى رفضُهُ المتكرّرُ إلى المطاردة والتهجير أحيانًا والحبس والجلد أحيانًا أخرى، حتّى أكرمَهُ الله بشهادةٍ في السجن على يد بعضهم، غفر الله لهم !
وقد مرّت بالإمام الأعظم جملة من المواقف تستحقّ الوقوف عندها لنقرأها قراءة سياسيّة يُفهم منها علاقته بأهل الحكم في زمانه، وطبيعة آرائه السياسيّة.
ولمّا كانت هذه الدراسةُ دراسةً أوليّةً غيرَ مستوفيةٍ لفقه الإمام السياسيّ، بل هي بحثٌ صغيرٌ في هذا الباب، نظرًا إلى طبيعة المجلّة العلميّة؛ فقد اكتفيتُ بالوقوف على موقفين اثنين من جملة المواقف السياسيّة للإمام الأعظم رضي الله عنه، موقف الإمام أبي حنيفة من ثورة زيد بن عليّ، وموقفه من تولّي قضاء القضاة، ومحنتُهُ في ذلك؛ في مبحثين كما سنذكر في خطّة البحث بعد قليل إن شاء الله.
وقد اخترنا هذين الموقفين لكون أحدهما يمثّل علاقته مع الدولة الأمويّة والآخر مع الدولة العبّاسيّة، لنتعرّف إلى موقفه السياسيّ بغضّ النظر عن الدولة التي كانت تحكم.
لقد شكّل الإمام بمكانته الفقهيّة والعلميّة خطورةً بالغةً على الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، وقد كان لوجوده أثرٌ في دعم الثورات التي وقعت في تلك الفترة.
إنّ هذه المواقفَ المهمّة في تاريخ الأمّة الإسلاميّة مع هذا الإمام ينبغي أن تُدرَسَ من خلال القراءة السياسيّة وفق علم التحليل السياسيّ المعاصر، وذلك أنّ كثيرًا ممّا يجري في زماننا يمكن قراءته ومعرفة أحكامه من خلال قراءةٍ متأنيّةٍ لأحوال تلك الفترة، وآراء الأئمّة رضي الله عنهم فيها.
ومن المعلوم أنّ الإمام أبا حنيفة لم يكن معارضًا سياسيًّا عاديًّا بل كان مجتهدًا، فقيهًا في معارضته، يُقدّر العواقب ومآلات الأحداث، ولا يجهل حكم الله تعالى فيها ولا تعظيمَ تحريمِهِ للدماءِ، ومعرفة تفاصيلِ تلك القضايا وأثرِها في أحكام السياسة الشرعيّة من الواجبات التي لم يلتفتْ إليها كثيرٌ من أتباع الإمام في زماننا.
والمتصدّر للبحث في هذا الباب يجدُ جملةً من الصعوبات من أهمّها قلّة المصادر التي حكَتْ تلك الأحداث، وعدم الدقّة في النقل للأحداث التاريخيّة عمومًا، وقلّة من استنبط الأحكام من تاريخ الأئمّة.
خطّة البحث:
تناولتُ هذا الموضوعَ في مقدّمةٍ ومبحثين:
المقدّمة: وقد تناولتُ فيها أهمّ ما يُميّز عصر الإمام سياسيًّا، والمراحل السياسيّة التي مرّ بها الإمام.
– المبحث الأول: موقف الإمام أبي حنيفة من ثورة زيد بن عليّ، وقد تحدّثتُ فيه في مطلبين:
المطلب الأوّل: القراءة التاريخية والتحليل السياسيّ لأحداث تلك الثورة.
المطلب الثاني: الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك الثورة.
– المبحث الثاني: موقفه من تولّي قضاء القضاة، وقد تحدّثت في هذا المبحث في مطلبين:
المطلب الأوّل: القراءة التاريخية والتحليل السياسيّ لأحداث هذه المحنة.
المطلب الثاني: الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك المحنة.
ثمّ تناولتُ في الخاتمة أهمّ النتائج التي توصّلتُ لها وأهمّ التوصيات.
المبحث الأوّل
ثورة الإمام (زيد بن عليّ) رضي الله عنه
وقد تحدّثتُ عن ثورة الإمام: زيد بن عليّ، رضي الله عنه في مطلبين:
المطلب الأوّل: القراءة التاريخيّة والتحليل السياسيّ لأحداث تلك الثورة عمومًا.
المطلب الثاني: الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك الثورة
المطلب الأوّل: القراءة التاريخية والتحليل السياسيّ لأحداث تلك الثورة.
وسنتحدّث فيه في فروع:
الفرع الأوّل: ملاحظات عامّة حول تدوين التاريخ في ذلك العهد:
يلحظُ المتأمّل فيما سطّره المؤرّخون حول تاريخ تلك الفترة من عمر الزمان أنّ الأحداث التاريخيّة لم تكن توثّق بشكلٍ محايدٍ، كما أنّ ما حدث في تلك الفترة من تعاقبٍ سريعٍ على السلطة من قبل أُسرٍ مختلفةٍ أدّى إلى دفع المؤرّخين إلى عدم الاستفاضة في ذكر مناقب الثورات السابقة لإقامة الحكم، بل دفعهم إلى عدم الخوض في تفاصيل تلك الثورات، ومن قام بها، ومن دعمها.
ومن المعلوم أن التاريخ يكتبه المنتصرون، ولا يقدر أنصار غيرهم أن يكتبوا ما يعرفون من حقائق إذا كانت على وجهٍ لا يرتضيه أصحاب الحكم.
لقد كُتبت بداية التاريخ العبّاسيّ على الوجه الذي يرضاه العبّاسيّون إذ كُتب في عهدهم، بينما كُتب تاريخ دولة بني أميّة كلّهم في عهد من ورث منهم الحكم من أعدائهم، دولة بني العبّاس، فكان أيضًا على الوجه الذي يرتضيه العبّاسيّون في الجملة.
وليس في هذا قدح للمؤرّخين من كبار علماء الإسلام، لكنّه حكاية واقعٍ تاريخيّ لا يُمكننا أن نغضّ الطرف عنه حين نتحدّث عن تلك الفترة وملابساتها.
ولا ريب أنّ منهج كتابة التاريخ عند علماء المسلمين كان منهجًا غايةً في التميّز، فانفرد بالإيمان بوحدة الأمّة، كما امتاز بالتوثيق العلميّ، واعتماد منهجيّة النقد للروايات التاريخيّة، ومحاكمتها إلى بعضها، لتكتمل الصورة قدر الاستطاعة([1]).
ومن المعلوم أنّه لم يكتب أحدٌ في آراء أبي حنيفة السياسيّة كتابًا مستقلاً([2])، ولا أُفرِدَ ببحثٍ علميّ خاصٍّ فيما نعلم، لذا فإنّ التنقيب في كتب المناقب والتراجم هو السبيل الوحيد لمعرفة هذه الآراء، بعد فهم الواقع من حوله إبّان حدوث القلاقل في الدول، ووقتَ نشوء التنازع في الحكم، كما نحتاج مع هذا إلى فهم الواقع من حوله، وقراءة أحداث الفترة والخريطة الجيوسياسيّة للمنطقة في مدّة حياة الإمام رضي الله عنه.
الفرع الثاني: حالة الحكم في عهد الأمويين:
يُمكن تقسيم عصر الأمويين إلى فترة قوّة وفترة ضعف، وقد كانت السنوات العشرة الأخيرة في نهايات عصرهم مشتملةً على ضعفٍ شديدٍ ومنازعاتٍ كبيرةٍ فيما بينهم، وفيها بدأ ظهورُ ثوراتٍ منظّمة من العبّاسيّين والخوارج وغيرهم عليهم، وذلك بسبب ضعف الأمويّين وكثرة اختلافهم، وبعضُ ذلك قد حكاه المؤرّخون في رواية أحداث تلك الفترة، وسنقتصرُ على حكاية بعضِ ما ورَدَ في فترة حكم الوليد بن يزيد (125-126 هـ)، وهي فترة لا تكاد تزيد عن سنة واحدة، لكنّها تشتمل على كثيرٍ من الإساءات للدولة الأمويّة، وهي في نهايات العهد الأمويّ، حيث بدأت تظهر ملامح الثورات على بني أميّة في أكثر من مكان، وبدأت الانشقاقات تظهر فيما بينهم، وقد بدأ الوليد بن يزيد حكمه بالعدل وإنصاف الناس، قال الذهبيّ في تاريخ الإسلام([3]):
(يزيد بن الوليد بن عبد الملك: الملقّب بالناقص، لكونه نقص الجند من أعطياتهم، توثّب على الخلافة، وتمّ له ذاك وقتل ابن عمّه الوليد). وممّا يُروى في فظائع تلك الفترة([4]):
(سنة ستٍّ وعشرين ومائة: فيها في جمادى الآخرة مقتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، بحصن البحراء بقرب تدمر، وكانت خلافتُهُ سنةً وثلاثةَ أشهر، وكان من أجمل الناس وأقواهم وأجودهم نظمًا، ولكنه كان فاسقًا متهتّكًا، زعم أخوه سليمان أنّه راودَهُ عن نفسِهِ فقاموا عليه لذلك مع ابن عمّه يزيد بن الوليد الملقّب بالناقص)([5]).
ومن مصائب تلك الفترة انتشار البدع في الاعتقاد فيها، (قال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعيّ يقول: لمّا وليَ يزيد بن الوليد دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه)([6]).
فكيف نريد من إمامٍ لا يخشى إلا الله تعالى، كالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ولا يخاف في الحقّ لومة لائمٍ أن يرضى بهذا الظلم للأمّة؟!
إنّ وقوف أولئك الأئمّة الكبار أمثال إمامنا النعمان أمام هؤلاء الحكّام سببٌ لحفظ الدين، ولولا تلك الوقفات التي كلّفتهم أنفسَهم لضاعت العقيدة السليمة، ولفَقَدتِ الأمّة وجودَها وهويّتَها، ولَــــتَمادى أولئك الحكّامُ في ظلمِ النّاس، ولسوّلت نفوس المشايخ الضعفاءِ أن تتغيّر أحكام الشريعة لما يوافق مصالح أولئك الحكّام، ولكنّ الله تعالى حفظ دينه بأمثال هؤلاء الذين يقولون قولَةَ الحقّ، ولا يخشون إلا الله.
الفرع الثالث: الإمام أبو حنيفة في عصر الأمويين:
لقد عاش الإمام أبو حنيفة اثنين وستين عامًا من حياته في العصر الأموي([7]) وثماني عشرة عامًا في العصر العباسيّ، أدركَ الدولة الأمويّة في قوّتها وعنفوانها، ثمّ أدركها حين المؤامرة عليها، ومع الحالَيْنِ وقفَ مواقفَ حازمةً من قادتها وأمرائها وخلفائها، لكنّه لم يظهر عليهم بالسيف، ولم يُقارِعهُم بالسنان، بل اكتفى من نُصرَتِهم –وهم الظالمون في نظرِهِ- بالنّصح لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وذلك يُظهر أنّه كان يُقرّ بشرعيّة وجودهم، وتولّيهم، لكنّه لم يكن يُقرّ لهم بشرعيّة كاملة، ويَظهَرُ جليًّا في جملةٍ من المواقف التي تعرّض لها الإمام عدمُ إقرارِهِ بالشرعيّةِ المطلقةِ لحكم الأمويين الذين عاش في زمانهم.
ولعلّ أحد أسباب عدم مبادرة الإمام بإظهار مواقفه من الحكّام في تلك الفترة أنّه كان ما يزال في شبابه، فلم تكن له منزلة في نفوس أهل العلم ، ولا في نفوس العامّة، تسمحُ له بالمجاهرة برأيِه أمام الحكّام، فتكون مجاهرتُهُ سببًا في الخراب غيرَ مضمونةِ العواقب.
وقد جلس أوّل ما جلس للإفتاء وعمره نحو خمسين سنة، وذلك بعد وفاة شيخه حمّاد التي كانت سنة 120 للهجرة([8])، ثمّ امتدّت به الحياة نحو ثلاثين سنةً إلى أن بلغ ثمانين عامًا، وكان قبل جلوسِهِ للإفتاء يعملُ في التجارة، ولم تكن خصوصيّة أو مكانة بين العلماء لوفرتهم وصغر سنّه ابتداءً.
ثمّ حصل له من المكانة ما حُسِدِ عليها من الحكّام والأمراء والعلماء، وقد كان بعد وفاة شيخه حمّاد بمدّة غير يسيرة (ابن أبي ليلى وابن شبرمة وشريك وسفيان يُخالفونه ويطلبون شَينَهُ، فلم يزل كذلك حتّى استحكَمَ أمرُه واحتاج إليه الأمراءُ، وذكرَهُ الخلفاء)([9]).
وحين بدأت المواجهات بين الأمويّين والعبّاسيّين بادر العبّاسيّون إلى استعمال لباس آل البيت، ومحبّة العترة، فأقبل الناس إليهم، ثمّ حدث أوّل قتال بين الأمويّين والعبّاسيّين قبل نهاية شهر رمضان من عام 129 هـ، فاحتاج الأمراء من بني أميّة إلى من يؤازرهم ضدّ من يخرج عن سلطانهم، فلجأوا إلى الأئمّة من أمثال أبي حنيفة، لكن لم يكن فيهم واحدٌ في منزلته في نفوس العامّة، ولا عند الحكّام.
فلمّا احتاج له الأمراء لم يُداهن ولم يقل إلاّ كلمة الحقّ، وذُكِرَ عن أبي يوسف أنّه قال: بعث ابن هبيرة إلى أبي حنيفة فأتاه وعنده ابن شبرمة وابن أبي ليلى، فسألهم عن كتابِ صلحِ الخوارجِ؛ كيف يُكتَبُ؟ وما الصيغة الأنسبُ له؟ وكانت بقيّةٌ بقيَتْ من الخوارج من أصحاب الضحّاك الخارجيّ، (فقالت الخوارج نريد أن تكتب لنا صُلحًا على أن لا نؤخذ بشيءٍ أصبناه في الفتنة ولا قبلَها، الأموال والدماء، فقال ابن شبرمة: لا يجوز لهم الصلح على ذلك على هذا الوجه، لأنّهم يؤخذون بهذه الأموال والدماء، وقال ابن أبي ليلى: الصلح لهم جائزٌ في كلّ شيء.
قال أبو حنيفة: فقال لي ابن هبيرة: ما تقول أنت؟ فقلت: أخطآ جميعًا، فقال ابن هبيرة: أفحشْتَ، فقل أنت، فقلت: القول في هذا أنّ كلّ مالٍ ودمٍ أصابوا قبل إظهار الفتنة فإنّ ذلك يؤخذ منهم، ولا يجوز لهم الصلح عليه، وأمّا كلّ شيءٍ أصابوه من مالٍ ودمٍ في الفتنة فالصلح عليه جائزٌ، ولا يؤخذون به، فقال ابن هبيرة: أصبتَ وقلتَ الصواب، هذا هو القول)([10]).
وفي موقف آخر يشهد لصلابة مواقفه في الحقّ أمام الحكّام، ويبيّن أصل نظرته إلى التعامل معهم ودوافعها: (دعاه ابن هبيرة يومًا وأراه فصًّا منقوشًا مكتوب عليه: (عطاء بن عبد الله) وقال: أكره التختّم به لمكان اسم غيري عليه، ولا يُمكن حكّه، فقال: دوّر رأس الباء يكون: (عطاء من عند الله)، فتعجّب من سرعة استخراجه، وقال: لو أكثرتَ الاختلافَ إلينا وأفدْتَنا، قال: وما أصنع عندك؟ إن قرّبتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، وليس عندك ما أرجوه وليس عندي ما أخافك عليه).([11])
ومن مواقفه مع بني أميّة:
ما وقع له مع ابن هبيرة حيث (أراد ابن هُبَيْرَة أبا حنيفة على قضاء الكوفة فأبى وامتنع فحلف ابن هُبَيْرَة إِن هو لم يفعل ليضربنه بالسياط على رأسه فقيل لأبي حنيفة فقالَ: ضربُهُ لي فِي الدُّنْيَا أسهلُ عليّ من مقامع الحديد فِي الْآخِرَة، وَاللهِ لَا فعلتُ وَلَو قتلني، فَحُكِيَ قولُه لابن هُبَيْرَة فقال: بلغ من قدره أن يُعَارض يَمِيني بيمينه، فَدَعَاه، فقال شفاهًا: وحلف له إِن لم يَلِ ليضربنّ على رأسه حتَّى يَمُوت، فَقَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: هِيَ موتةٌ واحدة، فأمَرَ به فضُرِبَ عشرين سوطًا على رَأسه، فقال أبو حنيفَة: اذكر مقامك بَين يَدي الله فإنّه أذلّ من مقَامي بَين يديك، ولا تهدّدني فإنّي أقول: لا إله إلا الله، والله سائلك عنّي، حيث لا يَقبلُ منك جوابًا إلَّا بالحقّ؛ فأومأ إلى الجلاد أن أمسِكْ، وبات أبو حنيفة رضي الله عنه فِي السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضَّرْب، فقال ابن هبيرة: إِنِّي قد رأيتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فِي النّوم وَهُوَ يَقُول لي: أما تخَاف الله، تضرب رجلاً من أمّتِي بلا جُرمٍ وتُهدّده، فأرسل إليه فاستخرجه، واستحلّه)([12]).
ومن ذلك أيضًا ما وقع له حين وقعت الفتنة بخراسان فدعا ابن هبيرة العلماء كابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن أبي هند، وولّى كلّ واحدٍ منهم شيئًا من عمله، وعرضَ على أبي حنيفة أن يكون الخاتَمُ في يده، لا يُنفِذُ كتابًا إلا من تحت يده، فأبى؛ فحلف الأمير أنّه إن لم يفعل يضربُهُ في كلّ جمعة سبعةَ أسواط، فقال له الفقهاء: إنّا إخوانك نناشدك على ألا تُهلِكَ نفسَك، وكلّنا نكرَهُ عملَهُ، ولكن لم نجد منه بُدًّا، فقال الإمام: لو أراد مني أن أعدّ أبواب مسجد واسطٍ لم أعدّ له، فكيف وهو يريد منّي أن يكتبَ في دم رجلٍ وأختمَ له؟ والله لا أدخل في ذلك. فقال ابن أبي ليلى: دَعُوه؛ فإنّه مُصِيبٌ. فحبسَهُ الشرطيّ جمعتين وضربَهُ أربعة عشر سوطًا، وفي رواية ضربَهُ أيّامًا متواليةً، ثمّ جاء الضاربُ إلى الأمير وقال: إنّه يموتُ، فقال: قل له يخرجُ من يميننا، فقال: لو أمرني أن أعدّ له أبواب المسجد لم أفعل، ثمّ اجتمع مع الأمير، فقال: ألا ناصحٍ لهذا أن يستمهلني؛ فاستمهلَهُ، وقال: أشاورُ إخواني، فخلاّهُ فهربَ إلى مكّة، في سنة مائةٍ وثلاثين، إلى أن صارت الخلافة للعبّاسيّة، وقام بها؛ فقدم الكوفة في زمن منصور، فعظّمه وأمرَ له بجائزة عشرة آلاف درهم، وجارية، فلم يقبلهما.([13])
المطلب الثاني: الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك الثورة.
لقد ترسّم أبو حنيفة في المواقف المؤيّدة للحقّ خطى عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، إمام أهل الكوفة، الذي كان لا يهاب قولَ الحقّ، ويعدُّ العلمَ موجِبًا للجهر بالحقّ في وجه الظالمين، فقد كان يقول رضي الله عنه: (اغدُ عالمًا، أو متعلّمًا، ولا تغدُ إمّعةً فيما بين ذلك)([14])، فالإمّعة لا يستحقّ وصفَ العالم، ومن تمام علمِ العالِـــــمِ ألا يميل مع الريح حيثُ مالت، فإنّ هذا علامةٌ على نقصان علمِهِ، وموجبٌ لعدم الثقة فيه.
ومن المقرّر تاريخيًّا أنّ ثورةَ زيد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنهم بدأت سنة 121هـ، و كان حينها هشام بن عبد الملك هو الخليفة، وقد كانت ثورةُ زيدٍ هي الثورةَ الثالثةَ على بني أميّة، فقد كان أوّلُ مـن حاربهـم عبدَ اللهِ بن الزبير، والخروجُ الثاني كان لسيّدِ الشهداءِ الإمامِ الحسين بن عـلي، والخروجُ الثالثُ هو لزيد بن عليّ([15]).
وسنتحدّث عن هذه الأحكام في فرعين:
الفرع الأوّل: في السرد التاريخيّ لأحداث الثورة وشيء ممّا يتعلّق بها.
الفرع الثاني: في الأحكام المستفادة من تلك الروايات المختلفة.
الفرع الأوّل: في السرد التاريخيّ لأحداث ثورة الإمام زيد وموقف الإمام أبي حنيفة منها:
يحسُنُ أن نذكر -باختصار- أهمّ ما تذكرُهُ كتبُ التراجمِ والتاريخ عن هذه الثورة، وهي أحداثٌ متعارضةٌ في بعض الأحيان، غير مرتّبة تاريخيًّا بشكلٍ يفي بغرض البحث العلميّ، وسنقتصر على حكاية بعض الروايات المتعلّقة بتلك الثورة، ونخصّ قصّةَ إمامِنَا النعمانِ بشيءٍ من الاختصار في الأسانيد، مع البيان السرديّ، والشرحِ والتفصيلِ الواقعيّ، لننتقل بعدها إلى التحليلِ المنطقيّ والنظر الفقهيّ. ومن أبرز النصوص الواردة:
عن عبدة بن كثير الجرمي، قال: (كتب زيد بن علي إلى هلال بن حباب، وهو يومئذ قاضي المدائن، فأجابه وبايع له)([16]).
عن سالم بن أبي الحديد، قال: (أرسلني زيد بن عليّ إلى زبيد الإماميّ أدعُوه إلى الجهاد معه) ([17]).
عن أبي عوانة، قال: (فارقني سفيان على أنه زيديّ) ([18]).
وأمّا الحادثة التي وقعت بين الإمام أبي حنيفة والإمام زيد بن عليّ، فممّا ورد في حكايتها:
عن الفضل بن الزبير، قال: (قال أبو حنيفة من يأتي زيدًا في هذا الشأن من فقهاء الناس؟. قال: قلت سُلَيْمَةُ بنُ كهيل، ويزيدُ بن أبي زياد، وهارونُ بنُ سعدٍ، وهاشمُ بنُ البريدِ، وأبو هاشمٍ الرّمانيّ، والحجاجُ بن دينار، وغيرهم. فقال لي: قل لزيدٍ لك عندي معونةٌ وقوّةٌ على جهادِ عدوّكَ؛ فاستعِنْ بها أنتَ وأصحابك في الكراعِ والسلاحِ، ثمّ بعثَ ذلكَ معي إلى زيدٍ، فأخذه زيدٌ)([19]).
كما رُوِيَ عن عبد الله بن مالكٍ بن سليمان، قال: (أرسل زيدٌ إليه يدعوه إلى البيعةِ، فقال: لو علمتُ أنّ الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدتُ معَهُ، لأنّه إمامٌ حقٌّ، ولكنّي أعينُهُ بمالي، فبعث إليه بعشرةِ آلافِ درهمٍ، وقال للرسول: ابسط عذري عنده. وفي رواية: اعتذَرَ إليه بمرضٍ يعتريه). ولا منع من الجمع بين الروايتين([20]).
وذلك بأن يُقال إنّ الإمام اعتذر عن الخروج بسبب مرضٍ يعتريه، واعتذر بأنّ أهل الكوفة يخذلونه كما خذلوا أباه، وهو ما حصل فعلاً، حيث تخلّوا عن نصرته، ولم يكن معه إلا نحو مائتي رجل أو أكثر قليلًا، والجمع بينهما بأن يُقال إنّ العذرين قد يوجدان حقيقةً، فقد يكون الإمام مريضًا، وهو في الوقت ذاتِهِ يخاف أن يخذله أهل الكوفة، بل لعلّه متأكّدٌ من خذلانهم له، رضي الله عنه([21]).
ويُذكرُ أنّ الإمام ذكرَ سببًا آخر لعدم الخروج، فقد سُئل عن خروجِ الإمام زيدٍ وسبب تخلّفه عن الخروج معه، فقال مبيّنًا أهمّيّة خروج الإمام زيد: ضاهى خروجُهُ خروجَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومَ بدر، ولمّا قيل له: لِمَ تخلّفتَ؟ قال: حبسني عنه ودائعُ الناس، عرضتُها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخِفتُ أن أموت مُجهّلاً، وكان كلّما ذكر خروجَهُ بكى([22]).
ولعلّ الإمام كان يُدرك أنّ الثورة تمرّ بمراحل ثلاثة من أهمّها([23]):
ولمّا كانت هذه المراحل لم تمرّ بها تلك الثورة، بل كانت مجرّدَ تجميعٍ لقوّةٍ بسبب الغضب الشعبيّ العارم، وكانت في بعض ملابسات قيامها بسبب خلافات ماليّة بين بعض آل البيت وبعض الحكّام الأمويّين؛ فقد رأى الإمام أن ينأى بنفسِه عن خوض هذه التجربة التي يعتقدُ فسادَها سلفًا كما مرّ معنا.
الفرع الثاني: الأحكام الفقهيّة والسياسيّة المستفادة من روايات تلك الحادثة:
في هذه الواقعة برواياتها جملةٌ من الأحكام التي ينبغي أن نقف عندها، من أهمّها:
المبحث الثاني
موقفه من تولّي قضاء القضاة.
وسنتحدّث في هذا في مطلبين:
المطلب الأوّل: القراءة التاريخية والتحليل السياسيّ لأحداث هذه المحنة.
سنتحدّث في هذا المطلب -إن شاء الله تعالى- في فروع:
الفرع الأوّل: في الرؤية التاريخيّة لتلك الفترة.
الفرع الثاني: في طلب الإمام لتولّي القضاء في كتب التاريخ.
الفرع الأوّل: الرؤية التاريخيّة لتلك الفترة:
لقد كانت الفترة الأخيرة من حكم بني أميّة مليئة بالانقلابات بين الخلفاء، ولم يكن يستقرّ لأحدهم الأمر إلا في محيط دار الخلافة، بينما كانت كلّ دارٍ وناحيةٍ من ديار الإسلام تعيش وفق رؤية أميرها، ولم تعد هناك فتوحات واسعة كالتي حدثت أيّام الوليد، وإنّما كانت غزوات يحدث فيها تقدّم قليل ثمّ يعود المسلمون إثرها إلى ثغورهم، أو يحدث قتال محدود بسبب نقض العهد
([25]).
وقد كان لابتداء العبّاسيّين القلاقل والحركات منذ أكثر من عشر سنين قبل نهاية الدولة الأمويّة أثرٌ كبيرٌ في إضعافها تدريجيًّا، وذلك منذ عام 121 للهجرة حين بدأ الإمام زيد بن الحسين حركته ضدّ الأمويين([26]).
الفرع الثاني: أبو حنيفة الإمامٌ يُطلبُ للقضاء في كتب التاريخ:
لا ريب أنّه كانت للإمام أبي حنيفة في ذلك العصر شهرة ومكانة استحقّها باستغنائه عن الحكّام والأمراء وحاجتهم إليه، وإن اتّسمت العلاقة بين الإمام وبعض معاصريه بالحسد، لكنّ تلك المحاولات كانت تبوء بالفشل، وينتصر فيها الإمام على مخالفيه جملةً واحدة([27]).
وقصّص طلبه للقضاء مشهورة، وقد وردت في عددٍ من المصادر التاريخيّة، ومن أشهر ما نُقِلَ في ذلك:
ما روي (عن عبد الله بن الحسن عن بشر بن الوليد، قال: كان أبو جعفر أمير المؤمنين أشخص أبا حنيفة إليه، وأراده على أن يولّيه القضاء، فأبى، فحلف ليفعلنّ، فحلف أبو حنيفة لا يفعل، فقال الربيع بن يونس الحاجب لأبي حنيفة: ألا ترى أميرَ المؤمنين يحلف؟ فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين أقدرُ مني على كفّارة أَيمانِهِ، فأبى أن يَلِيَ، فأمر به إلى السجن، فمات في السجن ودُفن في مقابر الخيزُران رحمةُ الله عليه)([28]).
وذكر بعضهم أنّ (العوام يدّعون أنه تولّى أيامًا، ولم يصحّ هذا من جهة النقل) ([29]).
وقال الربيع: (رأيتُ المنصورَ يُكلّم أبا حنيفة في أمر القضاء، وهو يقول [أي: أبو حنيفة]: اتّق الله ولا تُرعِي في أمانتك إلا من يخافُ الله، والله ما أنا بمأمونِ الرضى، فكيف أكونُ مأمونَ الغضب؟ ولو اتّجَهَ الحكمُ عليّك ثم تهدّدني على أن تُغرِقَني في الفرات أو أُزِيلَ الحُكْمَ لاخترتُ الغرقَ. ولك حاشيةٌ يحتاجون إلى من يُكرمهم لك، ولا أصلحُ لذلك، فقال له المنصور: كذبتَ! أنت تصلح، قال: قد حكمتَ لي على نفسك، فكيف يحلّ لك أن تُولّيَ القضاء من يكون كاذبًا؟)([30]).
قال الخطيب أيضاً في بعض الروايات: إنّ المنصور لمّا بنى مدينة بغداد ونزَلَها، ونزل المهديّ في الجانب الشرقيّ وبنى مسجد الرصافة، أرسل إلى أبي حنيفة فجيء به، فعرض عليه قضاء الرصافة؛ فأبى، فقال له: إن لم تفعل ضربتك بالسياط. قال: أوَ تفعلُ؟ قال: نعم، فقعد في القضاء يومين فلم يأتِهِ أحد، فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفّار ومعه آخر، فقال الصفّار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق، ثمنُ تور صفر. فقال أبو حنيفة: اتّق الله وانظر فيما يقول الصفّار، فقال: ليس عليّ شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال: استحلفه لي، فقال أبو حنيفة: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلمّا رآه أبو حنيفة مقدامًا على اليمين؛ قطع عليه، وأخرج من صرّةٍ في كُمّه درهمين ثقيلتين، وقال للصفّار خذ هذا عوض ما لَكَ عليهِ، فلمّا كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة؛ فمرض ستّة أيام، ثمّ مات([31]).
المطلب الثاني: الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك المحنة.
وسنتحدّث في هذا المطلب في فرعين:
الفرع الأوّل: طلبُ أبي حنيفةَ للقضاء، ورفضُه له، في كتب الفقه الحنفيّ.
الفرع الثاني: الأحكامُ المستفادةُ من هذه الحادثة.
الفرع الأوّل: طلبُ أبي حنيفة ليَلِيَ القضاء في كتب فقهاء الحنفيّة:
يبدو أنّ أحد مبرّرات فقهاء الحنفيّة لترك التوسّع في الحديث عن واقعة طلبه للقضاء أنّه إذا كان يجوز لمثل الإمام أن يرفض تولّي القضاء فمعنى هذا أنّه يجوز لكلّ أحدٍ أن يرفضَ تولّي القضاء، وهم مجمعون على أنّ القضاء يتعيّن أحيانًا على شخص ما فيكون فرضًا في حقّه، فهذا لا يستقيم مع ما يقرّرونه فقهيًّا!
قال الكاسانيّ في بدائع الصنائع: (وأمّا جواز الترك؛ فلِمَا رُويَ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال لأبي ذرّ رضي الله عنه: (إيّاك والإمارة) ، ورُويَ عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: (لا تتأمّرنّ على اثنين)، ورُويَ أنّ أبا حنيفَةَ عُرِضَ عليه القضاء، فأبى حتّى ضُرِبَ على ذلك ولم يقبل، وكذا لم يقبلْهُ كثيرٌ من صالحي الأمّة)([32]).
وقال في العناية: (“ويُكره الدخول فيه لمن يخاف العجز” من خاف العجز عن أداء فرض القضاء ولا يأمن على نفسِهِ الحيفَ، وهو الجور فيه، كُرِهَ له الدخول فيه، كيلا يصيرَ الدخولُ فيه شرطًا: أي وسيلةً إلى مباشرةِ القبيحِ، وهو الحيف في القضاء، …. وكَرِهَ بعضُ العلماء أو بعضُ السلف الدخول فيه مختارًا، سواء وثِقُوا أنفسَهم أو خافوا عليها، وفسّر الكراهة هاهنا بعدم الجواز.
قال الصدر الشهيد في أدب القاضي: ومنهم من قال لا يجوز الدخول فيه إلاّ مُكرهًا؛ ألا ترى أنّ أبا حنيفَةَ رحمه الله دُعِيَ إلى القضاء ثلاث مرّاتٍ فأبى، حتّى ضُرِبَ في كلّ مرّة ثلاثين سوطًا، فلمّا كان في المرّة الثالثة قال أستشير أصحابي، فاستشار أبا يوسف رحمه الله فقال أبو يوسف: لو تقلّدتَ لنفعتَ الناس، فنظرَ إليه أبو حنيفةَ نظر المُغضَبِ، وقال: أرأيتَ لو أُمِرتُ أن أعبُرَ البحرَ سِباحةً؛ أكنتُ أقدِرُ عليه؟ وكأنّي بك قاضيًا([33])، وكذا دُعِيَ محمّد رحمه الله إلى القضاء فأبى حتّى قُيّد وحُبِسَ، فاضطُرّ ثمّ تقلّد)([34]).
وقد ذُكرَ (أنّه ضرب فِي كل مرّة ثَلَاثِينَ سَوْطًا)([35]).
ومن الملاحظ أنّ بعض الفقهاء انفرد بذكر بعض التفاصيل التي لم تُذكر في الكتب الأخرى، فمن ذلك ما انفرد به عن الفقهاء خاتمة المحقّقين ابن عابدين فقد حكى بعضَ التفاصيل التي لم توجد إلا في بعض كتب التراجم متناثرة حول هذه الواقعة مع تحليله لها، وهذا أحد ثمار كونه متأخّرًا، قال رحمه الله تعالى([36]):
(وتوفّي ببغداد، قيل: في السجن لِيَلِيَ القضاءَ: أي قضاءَ القضاةِ لِتَكُونَ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ من تحت أمره، والطالبُ له هو المنصور، فامتع فحبَسَه، وكان يخرج كلّ يوم فيضرب عشرة أسواط، وينادى عليه في الأسواق، ثمّ ضُرِبَ ضربًا موجِعًا، حتّى سال الدم على عقِبيه، ونودي عليه وهو كذلك، ثمّ ضُيّق عليه تضييقًا شديدًا حتّى في مأكلِهِ ومشرَبِه ، فبكى وأكّد الدعاء! فتوفّي بعد خمسة أيّام.
وروى جماعةٌ أنّه دُفِعَ إليه قَدَحٌ فيه سمّ فامتنع، وقال: لا أعين على قتل نفسي، فًصُبّ فيه قهرًا، وقيل: إنّ ذلك كان بحضرَةِ المنصور!! وصحّ أنّه لمّا أحسّ بالموت سجَدفمات وهو ساجد.
قيل: والسببُ في ذلك أنّ بعضَ أعدائِهِ دسّ إلى المنصورِ أنّه هو الذي أثار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم الخارج عليهِ بالبصرَةِ، فطلبَ منه القضاءَ مع علمِهِ بأنّه لا يقبلُهُ؛ ليتوصّل إلى قتلِهِ …) ([37])
فما ورد في الرواية من أمرِ السمّ لم يُذكر في كتب الفقه الأخرى، وقد ذكر الذهبيّ أنّه (توفي شهيدًا مسقيًّا في سنة خمسين ومئة)([38]) أي مات من شربة مسمومة، ويقال: قدّمها له المنصور بنفسه([39]).
كما يظهر من عبارة ابن عابدين أنّ المنصور كان يعلمُ سلفًا أنّ أبا حنيفة رضي الله عنه لن يقبلَ القضاء، وأنّه يُريدُ من عرضِ القضاءِ عليه أن يتوصّل إلى قتلِهِ.
وأمّا ارتباط ذلك بدعمِ أبي حنيفة لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فهذا ممّا لم يكن يخفى، وممّا لا يحتاج إلى إذاعةٍ أو دسٍّ إلى المنصور، بل كان خلفاء بني العبّاس يعلمون موقف الإمام من دولتِهم، وأنّه يؤثر عليهم آل عليٍّ رضي الله عنهم، وقد بدأت ثورة إبراهيم بن عبد الله وأخيه في عام 145 هـ([40])، وذلك في قمّة عنفوان الإمام أبي حنيفة وتمكّنه العلميّ وتأثيره الاجتماعيّ والفقهيّ بين الناس، ولم يكن من الحكمة أن يتعرّض الخليفة لرجلٍ في هذه المكانة، بمثل هذه الطريقة.
الفرع الثالث: أهمّ الأحكام الفقهيّة المستفادة من تلك الحادثة:
من أهمّ الأحكام الفقهيّة التي يُمكن أن نستفيدها من تلك الحادثة ما يلي:
والحمد لله ربّ العالمين.
الخاتمة
وسنذكر فيها أهمّ ما توصّلنا إليه من النتائج، وأبرز التوصيات:
أهمّ النتائج:
أهمّ التوصيات:
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصادر والمراجع
* القرآن الكريم.
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات
([1]) انظر بعض هذه الميّزات والتفاصيل في كتاب: منهج كتابة التاريخ الإسلاميّ وتدريسه، لمحمّد بن صامل السُّلَميّ، (ط1، 1408 هـ – 1988 م)، دار الوفاء، القاهرة. وانظر: نحو تأصيل منهج إسلاميّ للتاريخ: منهج كتابة التاريخ الإسلاميّ، لماذا؟ وكيف؟ للدكتور جمال عبد الهادي محمّد مسعود، والدكتورة وفاء محمد رفعت جمعة، (ط3، 1414 هـ – 1994 م)، الفصل الأوّل: 15-21. وانظر: كتاب: في التاريخ فكرة ومنهاج، لسيّد قطب، دار الشروق.
([2]) كُتِبَت بعض الملاحظات حول آراء أبي حنيفة السياسيّة، كما فعل الإمام محمّد أبو زهرة، انظر: أبو حنيفة حياتُهُ وعصرُه، آراؤه وفقهه، للإمام محمّد أبو زهرة، دار الفكر العربي، 180.
([3]) تاريخ الإسلام ووفيّات المشاهير والأعلام، لشمس الدين، أبي عبد الله، محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبيّ، (ت 748 هـ)، بتحقيق: عمر عبد السلام التدمريّ، (ط2، 1413 هـ – 1993 م)، دار الكتاب العربيّ، 8/311.
([4]) انظر: مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لأبي محمّد اليافعيّ، 1/207.
([5]) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحيّ بن أحمد بن محمّد، ابن العماد العَكريّ، الحنبليّ، أبي الفلاح، (ت 1089 هـ) (ط1، 1406 هـ -1986 م)، دار ابن كثير، دمشق، 2/108.
([6]) تاريخ الإسلام للذهبيّ 8/312.
([7]) هذا على اعتبار أنّه ولد سنة سبعين للهجرة، وليس كما هو شائع منتشر أنّه ولد سنة ثمانين! وهو ما رجّحه الإمام الكوثريّ في كتابه مناقب أبي حنيفة 7، وقد ذكر لذلك جملة من الأسباب الوجيهة المعتبرة، وانظر: المدخل إلى الفقه الإسلاميّ، د. صلاح أبو الحاج، 122-123.
([8]) تاريخ الإسلام، للذهبي، 7/349.
([9]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للحسين بن عليّ بن محمّد أبي عبد الله، الصميريّ، الحنفيّ، (ت 436 هـ)، (ط2 1405 هـ -1985م)، عالم الكتب، بيروت، 21. وانظر: تاريخ ابن الوردي، لعمر بن مظفّر بن عمر بن محمّد ابن أبي فارس، أبي حفص، زين الدين ابن الورديّ، المعرّيّ، الكنديّ، (ط1، 1417 هـ – 1996 م)، دار الكتب العلميّة، لبنان، 1/188.
([10]) الانتقاء في فضائل الأئمّة الثلاثة الفقهاء، مالك والشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله عنهم، لأبي عمر، يوسف بن عبد الله بن محمّد ابن عبد البرّ بن عاصم النمريّ القرطبيّ، (ت 463 هـ) ط دار الكتب العلميّة، 160.
([11]) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، لعبد القادر بن محمد بن نصر الله القرشي، أبي محمد، محيي الدين الحنفي (ت 775هـ) طر: مير محمد كتب خانه – كراتشي، 485، 486.
([12]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصميريّ، 68. وانظر: تاريخ الإسلام للذهبيّ، 9/307.
([13]) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، للقرشيّ، 2 / 505 – 506. وانظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للصميريّ، 74.
([14]) شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر، أحمد بن محمّد بن سلامة بن عبد الملك الأزديّ الحجريّ المصريّ، الطحاويّ، (ت 321 هـ)، بتحقيق شعيب الأرناؤوط، (ط1 1415 هـ -1994 م)، مؤسّسة الرسالة، 15/407، وهو في جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر، يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ بن عاصم النمريّ القرطبيّ، (ت463 هـ)، (ط1، 1414 هـ – 1994 م)/ دار ابن الجوزي، 1/142.
([15]) يُنظر: مناقب أبي حنيفة، للشيخ الإمام حافظ الدين محمد بن محمد بن شهاب، ابن البزّاز الكردريّ، الحنفيّ، (ط1، دائة المعارف النظاميّة بالهند، حيدر أباد، 1321 هـ)، 1/55.
([16]) مقاتل الطالبيّين، عليّ بن الحسين بن محمّد بن أحمد بن الهيثم المروانيّ القرشيّ، أبو الفرج الأصبهانيّ، (ت 356 هـ)، تحقيق: السيّد أحمد صقر، ط1، دار المعرفة، بيروت، 141
([20]) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، للقرشيّ، 1/496.
([21]) انظر: وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العبّاس، شمس الدين، أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكرٍ، ابن خلّكان، البرمكيّ، الإربلّيّ، (ت 681 هـ)، دار صادر بيروت، 5/406-407.
([22])الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، للقرشيّ، 1/496، وانظر: المصدر السابق نفسه.
([23]) انظر: النظريّة الهيكليّة لتفسير الثورات، لثيدا سكوكبول، ولماذا تثور الأمم، لتيد غور، حيث نصّا على هذه المراحل، ولعلّ وعي الإمام بهذه المراحل وعدم بلوغ الإمام زيد لها، وعدم وجود أتباع أكفاء، هو الذي دفعه إلى عدم المشاركة عمليًّا، كما يُصرّح هو في بعض الروايات.
([25]) انظر: التاريخ الإسلاميّ، (المجلّد الرابع) العهد الأمويّ، لمحمود شاكر، (ط7، 1421 هـ – 2000م)، المكتب الإسلاميّ، 4/250.
([26]) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، للقرشيّ، 1/496 – 497.
([27]) وفيّات الأعيان، لابن خلكان، 5/406 – 407.
([28]) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبد البرّ، 171، وانظر: الوافي بالوفيّات، لصلاح الدين بن أيبك بن عبد الله، الصفديّ، (ت 764 هـ)، (ط1420 هـ – 2000 م)، دار إحياء التراث، بيروت، 27/90.
([29]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للصميريّ 67. وانظر: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفةِ ما يُعتبَرُ من حوادث الزمان، لأبي محمّد عفيف الدين، عبد الله بن أسعد بن عليّ بن سليمان اليافعيّ، (ت 768 هـ) (ط1، 1417 هـ -1997 م)، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1/ 243.
([30]) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة، للقرشيّ، 1/504، وانظر: مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعيّ، 1/243، ووفيّات الأعيان، لابن خلكان، 5/406 -407.
([31]) تاريخ بغداد، لأبي بكر، أحمد بن عليّ بن ثابت بن أحمد بن مهديّ الخطيب، البغداديّ، (ت463 هـ) (ط1 1422 هـ – 2002 م)، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، ت: بشار عواد معروف، 15/451 -452.، وانظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه، للصميريّ، 1/72، وانظر: مرآة الجنان وعبرة اليقظان، لليافعيّ، 72. وانظر أيضًا: وفيّات الأعيان، لابن خلّكان، البرمكيّ، 5/407.
([32]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين، أبي بكر بن مسعود بن أحمد الكاسانيّ، (ت 587 هـ)، (ط2، 1406 هـ -1986م)، دار الكتب العلمية، 7/4.
([33]) وفي رواية: (أراك أن تُبتلى بالقضاء)، فعدّه الإمام ابتلاء! انظر: البناية على الهداية، لأبي محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابيّ الحنفيّ، بدر الدين العينيّ، (ت 855 هـ)، (ط1، 1420 هـ – 2000 م)، دار الكتب العلميّة، بيروت، 9/11-12.
([34]) العناية شرح الهداية، لمحمد بن محمّد بن محمود، أكمل الدين، أبي عبد الله ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين الروميّ البابرتيّ (ت 786 هـ)، دار الفكر، 7/261-262. وانظر المرجع السابق نفسه.
([35]) لسان الحكام في معرفة الأحكام، لأحمد بن محمّد بن محمّد، أبي الوليد، لسان الدين ابن الشحنة الثقفيّ الحلبيّ، (ت882 هـ)، (ط2، 1393 هـ -1973م)، 218.
([36]) ردّ المحتار على الدرّ المختار، لابن عابدين، محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين، الدمشقيّ، الحنفيّ، (ت 1252 هـ) (ط2، 1412 هـ -1992 م)، دار الفكر، بيروت، 1/166.
([38]) سير أعلام النبلاء، لشمس الدين، أبي عبد الله، محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، (ت 748 هـ) (ط3، 1405 هـ – 1985 م)، مؤسّسة الرسالة، 6/403.
([39]) الانتقاء، لابن عبد البرّ، 170.
([40]) تاريخ الرسل والملوك، لمحمّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، الآمليّ، أبي جعفر، الطبريّ، (ت310 هـ)، (ط2، 1387 هـ)، دار التراث، بيروت. وبهامشه: صلة تاريخ الطبريّ، لعريب بن سعد القرطبيّ (ت369 هـ)، 7/517.
([41]) يُنظر: توضيح المشتبِهِ في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم، لمحمّد بن عبد الله، أبي بكر، بن محمد ابن أحمد بن مجاهد، القيسيّ، الدمشقيّ الشافعيّ، شمس الدين، الشهير بابن ناصر الدين، ت 842هـ ، ت: محمّد نعيم العرقسوسيّ، (ط1 1993م) مؤسسة الرسالة، بيروت، 8/26.