د محمد تركي كتوع
دكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله، مدرس في أكاديمية باشاك شهير
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: فقد أنزل الله الشرائع وأمر رسله وأنبياءَه بتبليغها للناس وحثِّهم على تطبيقها والامتثال لها، ولئلا يظنَّ ظانٌّ أن هذه الشرائع مجرَّد معلومات وأحكام نظرية أو أنها غير قابلة للتطبيق؛ قام الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- بترجمة هذه الشرائع في سلوكهم وتصرفاتهم لتسهيل فهْمِ هذه الشريعة ورؤيتها واقعًا حيًّا أمام أنظار الناس، إعذارًا لهم لئلا تكون لهم حجة في الإعراض عنها أو عدم العمل بها، فأمرنا الله عزَّ وجلَّ بالاقتداء بأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} [الأحزاب: 21]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] والعلماء ورثة الأنبياء في أداء هذه المهمة والقيام بها، فنحن مأمورون باتباعهم والاقتداء بهم، وهؤلاء هم الأشخاص المقتدَى بهم المقصودون في هذا البحث، قال الشاطبي: “وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره”([1]).
والنفس البشرية إما أن تؤثِّر وإما أن تتأثَّر، ولن تخرج عن هاتين الحالتين، يقول الإمام الغزالي: “الطباع مجبولة على التشبُّه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرِّك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهِّدُ في الدنيا؛ فلذلك تكره صحبة طلَّاب الدنيا ويستحبُّ صحبة الراغبين في الآخرة”([2])، ويقول الإمام الشاطبي: “التَّأَسِّيَ بِالْأَفْعَالِ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُعظَّم فِي النَّاسِ- سِرٌّ مَبْثُوثٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهُ بِوَجْهٍ وَلَا بِحَالٍ”([3])، فعملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل، بل هي غريزة فطرية مغروسة في النفس البشرية، يغذِّيها ما طُبِعَ عليه الإنسان من التأثير والتأثُّر بين المقتدِي والمقتدَى به سواء كان رئيسًا أو مرؤوسًا، فحاجة الناس إلى القدوة نابعة من هذه الغريزة التي تعبِّر عن رغبة الإنسان في المحاكاة والاستعداد النفسي للتقليد، وهي رغبة ملحَّة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل والقوي والرئيس، وسبب هذه الرغبة -كما أوضحنا- الحقيقة الثابتة ألا وهي: “تأثير الطباع في الطباع”.
عندما يصبح الإنسان قدوة للآخرين ينظرون إلى أفعاله ويراقبون تصرُّفاته ويُحاكون سلوكه، فينبغي أن يدرك عِظَم هذه المسؤولية وأهميتها وأثرها، فأَنْ تكون قدوة هذا يعني أنَّ تكليفًا خاصًّا جديدًا أُلقيَ على عاتقكَ، فإنْ لم تكن أهلًا لهذه المسؤولية فلا تتصدَّر لها، نعم إنَّ من يملك مؤهِّلات القدوة الحسنة ومن لا يملكها سواءٌ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لكنهما يفترقان بِالتَّكْلِيفِ اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ومما يفترقان فيه العمل بالعزيمة والرخصة.
المطلب الأول: مشروعية تخصيص المقتدَى به ببعض الأحكام في الاجتهاد التنزيلي
إنَّ الباحث في ثنايا التشريع الإسلامي وفروعه وجزئياته يجد بما لا يدع مجالًا للشك أن الفقهاء والمجتهدين قد لاحظوا الشخص المقتدَى به أثناء الاجتهاد وتنزيل الأحكام، وخصُّوه بمزيد من التكاليف التي تتناسب مع مكانته وموقعه وأثره في المجتمع، فهذا المعنى كان حاضرًا في أذهان المجتهدين عند تنزيل الأحكام على الوقائع وتكييفها، والأمثلة على هذه الرعايةِ كثيرة، أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
*ما رويَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ -رضي الله عنه- رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ نَهْيِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَأَتَاهُ عُمَرُ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ تَمِيمٌ أَنِ اجْلِسْ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَجَلَسَ عُمَرُ حَتَّى فَرَغَ تَمِيمٌ، فَقَالَ لِعُمَرَ: لِمَ ضَرَبْتَنِي؟ قَالَ: لِأَنَّكَ رَكَعْتَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَدْ نَهَيْتُ عَنْهُمَا، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ صَلَّيْتُهَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَيْسَ بِي إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَمُرُّوا بِالسَّاعَةِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا كَمَا يُصَلُّوا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَدْ رَأَيْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعَصْرِ»([4]).
نظرَ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى تميم الداري نظرة اجتهادية خاصة، وحمَّلَهُ من التكليف ما يليق به بوصفه قدوةً للآخرين إذ أوجب عليه ما لم يوجبه على بقية الناس، ونهاه عن الركعتين بعد العصر حتى لا يقتدِي به مَنْ لا علم عنده، خشية أن يصلِّي بعد العصر أولًا ثم يستمرَّ به الحال ويتمادى بعد ذلك فيصلِّي في الوقت المنهي عنه، وعندما ضربه بالدرة أوضح له أنه لم يضربه لسبب متعلِّق بذاته حيث قال: “إِنِّي لَيْسَ بِي إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ”، يعني أنا لا أقصدكم أنتم بالذات ولكن أقصد الذين يقتدون بكم، فأنتم موضع للاقتداء، ولو كان بقية الناس مثلك -يا تميم الداري- في مرتبة القدوة يميّزون بين أوقات الكراهة وغيرها ويضبطون ذلك مثلك، لَمَا ضربتك ونهيتك عن الصلاة في هذا الوقت، وهذا ما صرَّح به عمر بن الخطَّاب كما في رواية الإمام أحمد التي جاء فيها: “خَرَجَ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ يَضْرِبُهُمْ عَلَى السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى مَرَّ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَقَالَ: “لَا أَدَعُهُمَا، صَلَّيْتُهُمَا مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” فَقَالَ عُمَرُ: “إِنَّ النَّاسَ لَوْ كَانُوا كَهَيْئَتِكَ لَمْ أُبَالِ”([5]).
خرج هذا النهي على سبيل قطع الذريعة؛ فلو رُخِّص في النافلة بعد العصر لم يؤْمَن التمادي فيها إلى اصفرار الشمس وغروبها، ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ رَآهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ -وَهُوَ خَلِيفَةٌ- رَكَعَ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، فَمَشَى إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ زَيْدٌ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللهِ لَا أَدَعُهُمَا أَبَدًا بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا” قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: “يَا زَيْدُ بْنَ خَالِدٍ، لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُلَّمًا إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى اللَّيْلِ لَمْ أَضْرِبْ فِيهِمَا”([6]).
*ومن هذا الباب ما ذكره الشاطبي من ضرورة تركِ المقتدَى به لبعض المندوبات في بعض الأوقات خشية أن يظنَّ العوام وجوبها، فقال: “لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبةً يفهمُ الجاهلُ منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقًا أو مظنَّةً لذلك، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يُعلَم أنها غير واجبة؛ لأنَّ خاصية الواجب المكرَّر الالتزام والدوام عليه في أوقاته بحيث لا يتخلَّف عنه كما أنَّ خاصيّة المندوب عدم الالتزام، فإذا التزمه فَهِمَ الناظرُ منه نفس الخاصيَّة التي للواجب فَحَمَلَهُ على الوجوب، ثمَّ استمرَّ على ذلكَ فَضَلَّ”([7]).
*وجاء في القاعدة الثامنة والسبعين من قواعد المقرِّي: “يتأكَّد أمرُ المندوب في حقِّ مَن يُقتدَى به على الصحيح، فإن أمِنَ الاطِّلاع فقولان، والتأكيد لئلا يُطَّلع عليه كما قال مالك في الفطر إذا لم يثبت العيد، أو لئلا يترك حيث يُطَّلع([8])، وعن مالك: لا أحبّ المرَّةَ إلا من العالِم([9])، وظاهره مخالفة القاعدة، وعنه: لا أحبّها من العالم، وهو وفاق القاعدة”([10]).
المطلب الثاني: عمل القدوات بالعزيمة “حكمه ومشروعيته”
موقع القدوات في المجتمع يحتلُّ مرتبة عظمى ومكانة كبرى، فالقدوة ملحوظٌ ومراقبٌ من قِبَل الناس الذي ينظرون إليه دائمًا نظرة التميُّز والتفوُّق، وأنَّ له قصب السبق في مجال التحلِّي بالفضائل والتخلِّي عن الرذائل؛ لأجل هذا كلِّهِ ينبغي أن يكون سلوكه وفعله متناسقًا ومتناسبًا مع هذه المرتبة دينيًّا ودنيويًّا، فيكون دائمًا في الصفِّ الأول، ولا يُقبَل منه أن يكون في مؤخرة القوم، ومن هنا قيل: «إذا أردتَّ أن تكون إمامي فكنْ أمامي» و «مَن يقدِّم نفسه للناس على أنَّه قائد لا يُقبَل منه أنْ يتصرَّف بصفته فردًا».
وبناءً على هذه المنزلة التي يتمتَّع بها كان الأجدر والأحرى به أن يكون آخذًا بالعزيمة في خاصّة نفسه لأنَّه من أصحاب العزم والخصوصية؛ لهذا جاء خطاب الله تعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35]. أي أُولو الجِدِّ والحزم والصَّبْر والثَّبَات، فالعمل بالعزيمة كما هو مقرَّر عند علماء الأصول تجري عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون الأخذ بالعزيمة والعمل بها واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو حرامًا([11])، يقول الإمام الشاطبي: “فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ وَتَارَةً تَكُونُ من باب الوجوب، والله أعلم”([12]).
وأفرد الشاطبي في الموافقات فصلًا تحت عنوان: (قَدْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مَا هُوَ فَوْقَ الْوَسَطِ)([13])، وهذا ما يستدعيه حال القدوة الحسنة، فَإِنَّهُ يأخذُ من الأعمال والتكاليف الشرعية ويُفْتِي أيضا بِمَا تَقْتَضِيهِ منزلته ومَرْتَبَتُهُ، وأدلَّة مشروعية هذا المسلك وضرورة العمل به في حياة الشخص المقتدَى به كثيرة منها:
الأول: قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ([14]) يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقا كَرِيما * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفا} [الأحزاب:30-31-32].
وجه الاستدلال: دلَّت هذه الآيات الكريمات بشكل واضح صريح على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين أثناء الاجتهاد وتنزيل الأحكام، وأنَّ المقتدَى به ليس كغيره من عامة الناس؛ لذلك كان حكم نساء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مختلفًا عن حكم بقية النساء في الثواب والعقاب وفي بعض الأحكام، وذلك لما بين الفريقين من فروق، قال الفخر الرازي: “فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ»، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ”([15])، قال الشوكاني: “وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ تَضَاعُفَ الشَّرَفِ وَارْتِفَاعَ الدَّرَجَاتِ يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَصَى تَضَاعُفَ الْعُقُوبَاتِ”([16]).
فعلى قَدْرِ عُلُوِّ المقام يكون المَلَام، وبقدر النعمة تكون النقمة، إذ كُلَّمَا كَانَتِ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ وَأَقْبَح، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ — وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ([17])
قال القرطبي: “يُضَاعَفْ لَهنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ -فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ- أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتِ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتِ الْعُقُوبَاتُ، وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، والثيب على البكر، وقيل: لما كان أزواج النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَفِي مَنْزِلِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، قَوِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ وَلَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ مَكَانَتِهِنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ”([18]).
هذا ولقد ذكر الشيخ الشعراوي وجهًا آخر للفرق بين نساء النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهنَّ من النساء، فقال: “ذلك لأنهنَّ بيتُ النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنَّ من نساء المسلمين، وكلَّما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة لأنه سيكون أُسْوةَ فعلٍ، فإنْ ضَلَّ فلن يضلّ في ذاته فقط بل سيضلُّ معه غيره”([19]).
الثاني: عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: عُدْنَا أَبَا وَاقِدٍ الْبَكْرِيَّ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: “كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً عَلَى النَّاسِ، وَأَطْوَلَ النَّاسِ صَلَاةً لِنَفْسِهِ“([20]).
وجه الاستدلال بالحديث: دلالة هذا الحديث واضحة، إذ كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في صلاته لنفسه يأخذ بالعزيمة وهي تطويل الصلاة، وعندما يكون إمامًا بالناس يأخذ بالرخصة وهي التخفيف مع التمام، فقد كان يأخذ بالعزيمة ليتناسب ذلك مع المقام الذي أكرمه الله تعالى به والنِّعَم التي أسبغها عليه، فكان في مرتبة تفوق مرتبة غيره من البشر إذ بوَّأه منصب القدوة الحسنة للبشرية جمعاء، وفي هذا المعنى تروي لنا السيدة عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ»([21]).
الثالث: عن جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»([22]).
وجه الاستدلال بالحديث: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالْعَزِيمَةِ، فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالرُّخْصَةِ وهي تقديم الطعام على الصلاة؛ لِأَنَّ غيرَه لَا يَقْوَى عَلَى مُدَافَعَةِ الشَّهْوَةِ قُوَّتَهُ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟([23]).
الرابع: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ»([24]).
وجه الاستدلال بالحديث: أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- غضبَ من ردِّ أبي بكر لأنَّه من الخواصّ المقتدَى بهم، وكان الأولى به الأخذ بالعزيمة من الصبر وعدم الانتصار للنفس، وهذا هو الْكَمَالُ الْمُنَاسِبُ لِمَرْتَبَتِهِ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ، مع أنَّ الأخذ بالرخصة جائز في هذا المقام ولكنه من رتبة العوام، فدلَّ ذلك على أنَّ العمل بالعزيمة هو الأليقُ في حقِّ الخواص الذين يُقتدَى بهم([25])، والأصل في هذا التقسيم قول الله تعالى: { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 41-42-43).
الخامس: ما رويَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَقَالَ: “مَا بَالُ هَذَا الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكُمْ -أَيُّهَا الرَّهْطُ- أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ، وَإِنَّ جَاهِلا لَوْ رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: طَلْحَةُ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمَصْبُوغَةَ في الإحرام، فَلَا يَلْبَسْ أَحَدٌ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الرَّهْطُ- مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ شَيْئًا وَهُوَ مُحْرِمٌ“([26]).
فِي هَذَا الحديث مِنَ الفِقْهِ: قَطْعُ الذّرَائِعُ التِّي تُلَبِّسُ على النَّاسِ، وذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِعُلَمَائِهِمْ في كُلِّ مَا رَأَوْهُمْ يَصْنَعُونه، فَمَنْ كَانَ إمَامًا مُقْتَدًى بهِ لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ أَحْوَالِهِ وتَرْكُ مَا يَلْتَبسُ عَلَى النَّاسِ([27])، قَالَ ابن عبد البر: “وَأَمَّا إِنْكَارُ عُمَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَهُ الْمُصَبَّغَ بِالْمَدَرِ، فَإِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ طَرِيقِ رَفْعِ الشُّبَهَاتِ؛ لِأَنَّهُ صَبْغٌ لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَظَنَّهُ صَبْغًا فِيهِ طِيبٌ، وَلِلْأَئِمَّةِ الِاجْتِهَادُ فِي قَطْعِ الذَّرَائِعِ”([28])، فالْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهِ طِيبٌ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ لَا الْمَصْبُوغُ مُطْلَقا.
يقول الباجي: “الْإِمَامَ الْمُقْتَدَى بِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحِ الْمُشَابِهِ لِلْمَحْظُورِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ الْكَفَّ عَنْهُ”([29])، ويقول الشيخ ملَّا علي القاري: “إنَّ فساد العالَم لفساد العالِم، فإنَّ العلماء مع رتبة الكمال إذا طلبوا الحلال وقع الجهَّال في الشبهة على كلِّ حال، وإذا وقع المشايخ العِظام في شُبَهِ الطعام وقع العوامُّ كالأنعام في أكل الحرام، وإذا ارتكب المشايخ والعلماء ما حرَّمه الله من بعض الأشياء كفرَ الأغبياء من الأغنياء والفقراء حيث يقولون: لولا لأنه من الحلال لما ارتكبه العلماء وأرباب الأحوال”([30]).
السادس: رويَ عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي وقَّاص أنه قَالَ: «كَانَ أَبِي إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ تَجَوَّزَ وَأَتَمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَإِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالصَّلَاةَ»، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ إِذَا صَلَّيْتَ فِي الْمَسْجِدِ جَوَّزْتَ، وَإِذَا خَلَوْتَ فِي الْبَيْتِ أَطَلْتَ؟ فقَالَ: «يَا بُنَيَّ إِنَّنَا أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِنَا»([31]).
وجه الاستدلال بهذا الأثر: أَنَّ سعد بن أبي وقَّاص -رضي الله عنه- أخذ نفسه بالعزيمة وهي تطويل القراءة والقيام في الصلاة، بينما سلك مع الناس طريق الرخصة والتخفيف دون خللٍ في السنن والأركان، وعلَّل سلوكه هذا المنهج بأنه من الأئمّة الذين يقتدِي بهم الناس.
السابع: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما «يَعْمَلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالشَّيْءِ لَا يَعْمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ»([32]).
الثامن: كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيها حَتَّى يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ لَا يَرَاهَا عَلَى النَّاسِ وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهَا»([33]).
التاسع: قال رويم بن أَحْمَد([34]): “مِنْ حِكَمِ الْحَكِيمِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى إِخْوَانِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُضَيِّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهَا؛ فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الْعِلْمِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُكْمِ الْوَرَعِ“([35])، وعلَّقَ محمَّد الخَضِر الشنقيطي([36]) على هذا قائلًا: “قلت: أدركتُ والدي رحمه الله تعالى جاريًا على هذا السَّنن في عباداته، آخذًا على نفسه بالتضييق، لا يترخَّص في شيءٍ منها بل يعمل دائما بالأشقِّ… ويفتي الناس دائما بما فيه لهم رخصة مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأسًا”([37]).
العاشر: ومن هذا الباب ما قد يجده الباحث والقارئ في بعض كتب المالكية من استعمالهم لمصطلحي: (مذهب الإمام مالك) و(طريقة الإمام مالك)، وقد فرَّق علماء المالكية بين هذين المصطلحَين من وجوه كثيرة، ذكروا منها:
*مذهب الإمام مالك: المراد به مَا يُفتِي بِهِ، وعادةً ما يكون الأيسر والأسهل على الناس من الرخص الشرعية أو القول الأخفِّ في المسائل التي تتعدَّدُ فيها الأقوال.
*طريقة الإمام مالك: المراد بها مَا يأخذ بِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بَعْضَ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيُفْتِي الْغَيْرَ بِخِلَافِهَا؛ من العزيمة والورع([38])، وعمِلَ الإمام مالك بهذا المسلَك في خاصّة نفسه في كثيرٍ من الفروع والأحكام، منها على سبيل المثال:
*الوضوء والاستقاء في جلود الميتة إذا دُبِغَت، فقد كرهه مالك في خاصّة نفسه، ولم يحرّمه على الناس([39]).
*ومنها ما رويَ عنه: أنه كَانَ لَا يَرْكَبُ بالمدينة دابةً، وكان يقول: “أستحيي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- بِحَافِرِ دَابَّةٍ”([40]).
*ومنها أيضا ما روي عنه: أنَّه كَانَ لَا يُحَدّثُ بِحَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ إجْلَالًا لَهُ([41])، ففي هذه المسائل وغيرها أخذ الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في خاصة نفسه من العزيمة والورع والاحتياط ما لا يفتي به عامة الناس، فالْمَشَاقُّ كما ذكر الإمام الشاطبي تختلف بالقوة والضعف وبحسب الْأَحْوَالِ وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبَ الْأَزْمَانِ وَبِحَسَبِ الْأَعْمَالِ([42]).
وهكذا نجد أنَّ الشخص المقتدَى به يأخذ نفسه بالأشد والأثقل على النفس، ويفتي غيره بالأسهل والأيسر، وهذا منهج أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية، وعلى هذا المنهج كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، يَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاس، وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهِ، وَيَقُولُ: «لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِما حَتَّى يَعْمَلَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاسَ وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهِ، بِمَا لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ إِثْمٌ»([43]).
واليوم بسبب اتباع الهوى وضعف الوازع الديني تمادى وتجرّأ بعض من ينتسب للعلم حتى وصلَ بهم الحدُّ أنْ قَلبُوا هذه القاعدة وعَكَسُوا هذا الأصل، فتراهم يتشدِّدون في الفتوى مع الناس الضعفاء، ويتساهلون مع أنفسهم أو مع الأغنياء وأصحاب المناصب والجاه، يقول ابن القيّم: “وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ بِالرُّخْصَةِ وَغَيْرَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ -إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ- أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ قَوْلَ الْجَوَازِ وَلِغَيْرِهِ قَوْلَ الْمَنْعِ”([44]).
*يحكي الباجيُّ عمَّن يثقُ به أنَّهُ اكترى جزءًا من أرض على الإشاعة، ثمَّ إنَّ رجلًا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أنه لا شفعة في الإجارات، قال المكتري الأول: فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين عن مسألته- فقالوا: “ما علمنا أنها لك، إذا كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضَى لي بها”([45]).
المطلب الثالث: عمل القدوات بالعزيمة “أسبابُه وتطبيقاتُه”
لاحظنا أنَّ لوجوب أخذ القدوات بالعزيمة عدَّةَ أسباب منها:
الأول: أنَّ الشخص المقتدَى به يجتهد في تقديم حقِّ الله تعالى على حقِّ نفسه وتقديم مصالحه الدينية على مصالحه الدنيوية، وهذا مقام أصحاب العزيمة القوية والهمَّة العالية، وقد فصَّل الإمام الشاطبي القولَ في بيان وجه هذا الطريق فقال: ” العَزِيمَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ كَانَتِ الْأَوَامِرُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا وَالنَّوَاهِي كَرَاهَةً أو تحريمًا، وتركُ كلِّ مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْآمِرِ مَقْصُودٌ أَنْ يُمْتَثَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِذْنُ فِي نَيْلِ الْحَظِّ الْمَلْحُوظِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ رُخْصَةٌ؛ فَيَدْخُلُ فِي الرُّخْصَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا كَانَ تَخْفِيفًا وَتَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَالْعَزَائِمُ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّخَصُ حَظُّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ، فَتَشْتَرِكُ الْمُبَاحَاتُ مَعَ الرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَعا تَوْسِعَةً عَلَى الْعَبْدِ وَرَفْعَ حَرَجٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتًا لِحَظِّهِ، وَتَصِيرُ الْمُبَاحَاتُ -عِنْدَ هَذَا النَّظَرِ- تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْأَوْقَاتِ؛ فَيُؤْثِرُ حَظَّهُ فِي الْأُخْرَى عَلَى حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُؤْثِرُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ رَافِعًا لِلْمُبَاحِ مِنْ عَمَلِهِ رَأْسًا أَوْ آخِذًا لَهُ حَقًّا لِرَبِّهِ؛ فَيَصِيرُ حَظُّهُ مُنْدَرِجًا تَابِعًا لِحَقِّ اللَّهِ، وحق الله هو المقدَّم المقصود؛ فَإِنَّ عَلَى الْعَبْدِ بَذْلَ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَعْتَبِرُهُ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَيَعْتَبِرُهُ أَيْضا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَقَى عَنِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَيْهِ يُرَبُّونَ التَّلَامِيذَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ وَاجْتِنَابَ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى آلَ الْحَالُ بِهِمْ أَنْ عدُّوا أصل الْحَاجِيَّاتِ كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا مِنَ الرُّخَصِ”([46]).
الثاني: قطع الطريق على العامَّة وسدُّ الذريعة أمامهم لما قد يحصل في نفوسهم من الاغترار بفعل القدوات وأخذهم بالرخصة، وربما يتوهّمون أنَّ الأصل في هذه الحالات والمسائل الجواز والمشروعية، فيقتدون بهم دون تمييز وبصيرة، فكان لا بدَّ من سدِّ هذه الذريعة من خلال إيجاب العزيمة عليهم؛ لأنَّ تناولهم للرخصة في هذه الحالة يلحق ضررًا عاما بالأمَّة “فالرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين، فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها”([47])، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: “احذروا زلَّةَ العالِم لأنَّ قدْره عند الناس عظيم، فيتَّبِعُوه على زلَّتِهِ”([48]).
ومن خلال الاستقراء للفروع والأحكام المتعلِّقة بمَن هم في موضع القدوة نجد أنَّ الأخذ بالعزيمة قد يصبح واجبًا في حقِّهم في بعض الحالات، بل هذا هو الأصل الذي ينبغي مراعاته في سلوكهم الذي يتناسب مع علو مرتبتهم ورفعة شأنهم، لهذا قد يجبُ على الشخص المقتدَى به الأخذ بالعزيمة ويحرُم عليه الأخذ بالرخصة في بعض الحالات، وذلك لعِظَم المصالح المترتبة على أخذه بالعزيمة وفدْحِ المفاسدِ المترتبة على أخذه بالرخصة، وهذا ملحَظٌ مهم ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهنِ الشخص المقتدَى به، وأسوق المسائل التالية للدلالة على هذه الحالة:
المسألة الأولى: الإكراه على التلفُّظ بكلمة الكفر
قال الإمام النووي: “لو أكْرَهَ الكفارُ مُسلمًا على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئنّ بالإِيمان، لم يكفر بنصّ القرآن لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (النحل:106) وإجماع المسلمين، وهل الأفضل أن يتكلَّم بها ليصونَ نفسَهُ من القتل؟ فيه خمسةُ أوجهٍ لأصحابنا:
الأول: الصحيحُ أن الأفضلَ أن يصبرَ للقتل ولا يتكلّم بالكفر، ودلائلهُ من الأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورةٌ.
والثاني: الأفضلُ أن يتكلَّمَ ليصونَ نفسَه من القتل.
والثالث: إن كان في بقائه مصلحةٌ للمسلمين بأن كان يرجو النكايةَ في العدوِّ أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضلُ أن يتكلَّم بها، وإن لم يكن كذلك فالصبرُ على القتل أفضلُ.
والرابعُ: إن كان من العلماء ونحوهم ممّن يُقتدى بهم فالأفضلُ الصبر لئلا يغترَّ به العَوَامُّ.
والخامسُ: أنه يجبُ عليه التكلُّم؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195) وهذا الوجهُ ضعيفٌ جدا”([49]).
فإذا كان المكرَهُ على الكفر قدوةً للناس حيث يقتدِي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فالحكم أنه يَحرُمُ عليه الأخذ الرخصة دفعًا للفساد، والمآل الذي يؤول إليه أمر العوام؛ إذ قد يؤدِّي تصرُّفه ذلك إلى فتنتهم في عقيدتهم، لا سيما من ذوي الجهالة ممن لا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ من غَيْرِهِ، يقول أبو جَعْفَرٍ الأَنْبَارِيّ([50]): ” لَمَّا حُمِلَ أَحْمَدُ بن حنبل إِلَى المَأْمُوْنِ أُخبرتُ، فَعَبَرْتُ الفُرَاتَ، فَإذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الخَانِ، فَسَلَّمتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ تَعَنَّيْتَ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا، أَنْتَ اليَوْمَ رَأسٌ، وَالنَّاسُ يَقتدُوْنَ بِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ أَجبتَ إِلَى خَلقِ القُرْآنِ لَيُجِيْبَنَّ خَلقٌ كثير، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُجِبْ لَيَمْتَنِعَنَّ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيْرٌ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنْ لَمْ يَقْتُلْكَ فَإِنَّك تَمُوتُ، لاَ بُدَّ مِنَ المَوْتِ، فَاتَّقِ اللهَ وَلاَ تُجِبْ، فَجَعَلَ أَحْمَدُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَعِدْ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ”([51]).
ومثله ما روي عن مُحَمَّدِ بنِ نُوْحٍ([52]) الذي امتُحِن بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن فَثَبت على السّنة، فقد حمله الْمَأْمُون وَمَعَهُ أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى الرقة على بعيرٍ متزاملين، فَمَرض مُحَمَّد بن نوح فِي الطَّرِيق، فأوصى الإمام أَحْمَد بهذه الوصية: “يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اللهَ اللهَ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي، أَنْتَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الخَلْقُ أعنَاقَهُم إِلَيْكَ لِمَا يَكُوْنُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهَ وَاثبُتْ لأمرِ اللهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا”([53]).
فإذا أُكرهَ العالم المقتدَى به في موطن تحتاج الأمة فيه إلى أنْ يُظهِرَ الحق إما لخفاء هذا الحقِّ أو لالتباسه على الأمة، وجَب على هذا العالم أن يبيِّن الحق ولا يكتمه؛ لأنَّ مصلحة الأمة أولى من المصلحة الخاصة للعالم بحفظ النفس، ولأن الضرر المترتِّب على اتباع الأمة له على الباطل أشدُّ من الضرر الذي يلحقه في نفسه إن أخذ بالرخصة وترك العزيمة بإظهار الحق، وهذا من الصبر الواجب ومن الجهاد في سبيل الله عز وجل.
المسألة الثانية: البيعة لخليفتين في زمنٍ واحد:
من الشواهد على مراعاة هذا الأمر النظر إلى مآلات تصرفات القدوة الحسنة وكيفية تفسيرها من العوام، رويَ عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أنَّه دُعِيَ لِلْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ بَعْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: «لَا أُبَايعُ اثْنَيْنِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» فَقِيلَ له: ادْخُلْ مِنَ الْبَابِ وَاخْرُجْ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ، فقَالَ: «وَاللهِ لَا يَقْتَدِي بِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ» فَجُلِدَ مِائَةً وَأُلْبِسَ الْمُسُوحَ بسبب رفضه ذلك([54]).
فمن المقرّر في أحكام الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز عقد البيعة لخليفتين في زمن واحد؛ فرفض سعيد بن المسيّب دخول باب القصر والخروج من الباب الآخر لئلا يَتوهّم العوام أنه قد بايع الخليفتين في وقت واحد، فيقتدوا به في فعله؛ إذ إنه عندهم موضع قدوة، فرأى بموجب اجتهاده الفقهي أنه من الواجب عليه قطع هذه الذريعة وتحمُّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
المسألة الثالثة: مؤاكلة صاحب البدعة
ورويَ عن الْفُضَيْل بن عياض أنَّه قال: «لَأَنْ آكُلَ عِنْدَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلُ عِنْدَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، فَإِنِّي إِذَا أَكَلْتُ عِنْدَهُمَا لَا يُقْتَدَى بِي، وَإِذَا أَكَلْتُ عِنْدَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ اقْتَدَى بِي النَّاسُ”([55])، فالعوام يعلمون أنَّ أكله عند اليهودي والنصراني لا يعني ذلك إقراره لهم على ديانتهم ورضاه بها، ولكن إذا أكل عند صاحب البدعة فقد يظنّ الناس أنّه يقرُّه على بدعته ويرضى بها بدليل مؤاكلته، ومن ثمَّ يقتدون به في فعله، ويستسيغون البدعة من هذا الرجل ويؤمنون بها بدل أن ينكروها؛ فمراعاةً لهذا الأمر وسدًّا لهذه الذريعة أعلن الفضيل بن عياض امتناعه عن مؤاكلة صاحب البدعة، وهكذا نجد أنَّ الأخذ بالعزيمة قد يصبح واجبًا في بعض الأحوال للأسباب آنفة الذكر، ولدى الاستقراء نجد أنَّ النظام الإسلامي رسم المنهج ووضع الأصل في أخذ الشخص المقتدَى به بالعزيمة والرخصة، وهذا المنهج يلحظ المأخذ التالي:
1- مَن هم في موضع القدوة فتكليفُهم الأصلي قائم على الأخذ بالعزيمة.
2-ومَن هم في موضع الاقتداء من العوامِّ فتكليفُهم الأصلي قائم على الأخذ بالرخصة.
وفي ذلك رعاية لحالِ كلا الفريقين؛ فلا يصح أن يُعكس هذا النظام بأنْ يكون الأمر واجبًا على العوام مندوبًا للمقتدَى بهم، فيصيرَ العامي آخذًا بالعزيمة والمقتدَى به آخذًا بالرخصة بعكس النظام الذي رعاه التشريع الإسلامي في تكاليفه وأحكامه. والله تعالى أسأل أن يلهمنا الرشد والسداد والصواب في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، وأن يكرمنا بالإخلاص والقبول، والحمد لله رب العالمين.
([1]) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، “الاعتصام”، 2/597.
([2]) أبو حامد الغزالي، “إحياء علوم الدين”، (بيروت: دار المعرفة)، 2: 173.
([3]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 5: 262.
([4]) رواه الطبراني في المعجم الأوسط ((8684)).
([5]) رواه الإمام أحمد في مسنده ((16943))، وقد رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح في الكبير والأوسط.” انظر: (الهيثمي، “مجمع الزوائد”، 2: 222).
([6]) رواه الإمام أحمد في مسنده ((17036)) وإسناده حسن، انظر: (الهيثمي، “مجمع الزوائد”، 2: 223).
([7]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الشريعة”، 2: 222.
([8]) يشير بهذا إلى المسألة الفقهية المشهورة، وهي: “مَن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، سواءٌ أمِنَ أن يطَّلِع عليه أحدٌ أم لا”، وهذا حماية للذريعة لئلا يطلع عليه غيره فيفطر. انظر: القرافي، أحمد بن إدريس، “الذخيرة”. 2/492.
([9]) مقصوده من “المرَّة” هنا: غسل أعضاء الوضوء مرَّةً مرَّة دون زيادة، وقد نُقِلَ عن الإمام مالك أنه قال في غسل أعضاء الوضوء مرَّة واحدة: “لا أحب ذلك إلا من العالِم”، يريد بذلك أنَّ غير العالِم لا يحسن الإسباغ، انظر: اللخمي، علي بن محمد الربعي، “التبصرة”، 1/9).
([10]) المقرِّي، أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد، “القواعد”، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد، السعودية: معهد البحوث
العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى”، ص: 303.
([11]) سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، “شرح التلويح على التوضيح”. (مكتبة صبيح بمصر)، 2: 255.
([12]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 1: 516.
([13]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 5: 279.
([14]) لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ المقصود بالفاحشة المبيِّنة في هذه الآية النشوز وعُقُوقُ الزَّوْجِ وَفَسَادُ عِشْرَتِهِ كما قال ابن عبَّاس، وَلَا يُتوهّم أنها الزنا لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالتَّبْيِينِ والزنا مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ.
([15]) التفسير الكبير “مفاتيح الغيب” لفخر الدين الرازي 3/460.
([16]) فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ لمحمد بن علي الشوكاني 4/318.
([17]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي 3/179.
([18]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/174.
([19]) تفسير الشعراوي “الخواطر” للشيخ محمد متولِّي الشعراوي 14/8692.
([20]) رواه الإمام أحمد، رقم الحديث (21899)، والطبراني في الكبير، الحديث (3310)، والبيهقي في السنن الكبرى، (5279).
([21]) رواه البخاري، الحديث (4837)، ورواه مسلم، الحديث (2820).
([22]) رواه البخاري، الحديث (675).
([23]) ابن حجر العسقلاني، “فتح الباري “. عناية: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار المعرفة، 1379ه)، 2: 162.
([24]) رواه الإمام أحمد، رقم الحديث (9624)، ورواه أبو داود، كتاب الأدب، بابٌ في الانتصار، رقم الحديث (4896).
([25]) القاري، “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح”. (ط1، بيروت: دار الفكر، 1422هـ)، 8: 3185.
([26]) رواه الإمام مالك في “الموطَّأ” برواية محمد بن الحسن الشيباني، رقم الأثر (425).
([27]) القنازعي، “تفسير الموطَّأ”، 2: 603.
([28]) ابن عبد البر “الاستذكار”. تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1421ه)، 4: 20.
([29]) أبو الوليد الباجي، “المنتقى شرح الموطأ”، (ط1، مصر: مطبعة السعادة، 1332 هـ)، 2: 197.
([30]) “مجموع رسائل العلَّامة الملَّا علي القاري”. تحقيق: مجموعة باحثين، (ط1، اسطنبول: دار اللباب، 1437ه)، 4: 187.
([31]) رواه الطبراني في المعجم الكبير، رقم الأثر (317)، ورجال هذا الحديث رجال الصحيح.
([32]) رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، رقم الأثر (34644).
([33]) الخطيب البغدادي، “الفقيه و المتفقِّه”. تحقيق: عادل بن يوسف الغرازي. (ط2، السعودية: دار ابن الجوزي،1421ه)، 2: 339.
([34]) رُوَيْم بن أَحْمد بن يزِيد، أَبُو مُحَمَّد، من أجلِّ مشايخ الصوفية في بغداد، كَانَ فَقِيهًا مقرئًا، توفي سنة (303ه). انظر: “طبقات الصوفية”. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1419هـ)، ص (147).
([35]) بدر الدين العيني، “عمدة القاري شرح صحيح البخاري”. (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، (1: 300).
([36]) الشّنْقِيطي: محمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الملقَّب بــــ (ما يأبى) لكرمه وسخائه حيث كان لا يرد سائلا ولا يأبى، و(الجكني) نسبة إلى قبيلة من شنقيط، هاجر إلى المدينة المنورة، فتولى الإفتاء بها، توفي سنة (1353ه) انظر: “الأعلام” للزركلي. (ط15، بيروت: دار العلم للملايين، 2002 م)، 6: 113).
([37]) الشنقيطي، “كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري”. (ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1415 هـ)، (2: 382).
([38]) النفراوي، “الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني”.(دار الفكر، 1415هـ)، 1: 24.
([39]) الصقلي، “الجامع لمسائل المدونة”. تحقيق مجموعة باحثين، توزيع دار الفكر، 1434 هـ،، 15: 44.
([40]) القاضي عياض، “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”. (دار الفكر، 1409هـ) 2: 128.
([41]) “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، 2: 44.
([42]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 1: 484.
([43]) الخطيب البغدادي، ” الفقيه والمتفقِّه”، 2: 339.
([44]) ابن القيّم الجوزية، “إعلام الموقعين عن رب العالمين”. تحقيق محمد إبراهيم، (ط1، دار الكتب العلمية،1411هـ) 4: 162.
([45]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 5: 90.
([46]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 1: 472.
([47]) عبد القادر بن ملَّا حويش، “بيان المعاني”. (ط1، دمشق: مطبعة الترقي، 1382ه، 1965)، 5: 332.
([48]) الغزالي، “إحياء علوم الدين”، 1: 64.
([49]) النووي، “الأذكار”. تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، (بيروت: دار الفكر، 1414هـ)، ص 568.
([50]) محمد بن عبد الله، أبو جعفر الحذاء الأنباري، سمع من الفضيل بن عياض وسفيان بْن عُيَيْنَة وشعيب بن حرب، وروى عنه أحمد بن حنبل. انظر: “تاريخ بغداد”. تحقيق: د بشار معروف، (ط1، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1422ه)، 3: 414].
([51])الذهبي، “سير أعلام النبلاء”. تحقيق شعيب الأرنؤوط، (ط3،بيروت: مؤسسة الرسالة،1405هـ)،11: 239.
([52]) مُحَمَّد بن نوح بن مَيْمُون بن عبد الحميد بن أبي الرِّجَال الْعجلِيّ، صَاحب الإِمَام أَحْمد، يُعرف وَالِده بالمضروب، كَانَ عَالما زاهدًا ورعًا، توفي سنة (218هــ). انظر: [“تاريخ بغداد”، 4: 517].
([53]) الذهبي، “سير أعلام النبلاء”، 11: 242.
([54]) الأصبهاني، “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”، (السعادة، بجوار محافظة مصر،1394هـ)، 2: 170.