تحميل البحث كملف PDF
د. محمد محمود كالو – أستاذ مشارك في جامعة أديامان التركية
اختار الله تعالى لهذه الأمة خير نبي مرسل، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وتكفَّل الله بحفظ دين نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وسخّر له على مرِّ العصور من كان همهم حفظ الدين والدفاع عنه، وقد قام الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع الصحابة بجمع القرآن وتدوينه، ثم قام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بنسخ القرآن في مصحف واحد، وأرسل به إلى البلدان، وبقي أمر السنة النبوية المطهرة محفوظًا في القلوب والعقول وكُتِبَ بعضها في صحف حتى ظهرت بذرة التدوين الشامل، وبزغ عصر الصحيحَيْن والسنن والمسانيد وغيرها من المصنفات وما رافقها من أجواء الحفظ والنقد والتدقيق والتحقيق، وما نتج عن ذلك من تصفية لكتب السنة التي بقيت حتى عصرنا هذا حاملة في طياتها الكلام المصفَّى للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد اهتم المسلمون بالسنة النبوية اهتمامًا فائقًا، وقدموا في سبيل خدمتها جهدًا كبيرا، ولعل من أبرز جهود المعاصرين في خدمتها دفع الشبهات وكشف مفتريات الحداثيّين العرب، الذين كان لهم عدة محاولات آثمة تهدف إلى العبث بها ونبذها ومحاولة إلغائها وجعلها قابلة للطعنِ والردِّ.
والحداثة العربية في حقيقتها تمثل امتدادًا للحداثة والاستشراق الغربيَّيْن، فقد رددت شبهات الغرب حول السنة وزادت عليها أحيانًا، فأنكرت صفة الوحي عن السنة، وادّعت عدم حجيتها، وشككت في طريقة تدوينها، وزعمت أنها سبب تخلُّف المسلمين، وطعنت في المحدِّثين ومصنفاتهم، وانتقصت من المناهج التراثية كعلم مصطلح الحديث، واستبدلتها بنماذج من مناهج الغربيين الغريبة عن التصور الإسلامي، وشتان ما بين المناهج الإسلامية العلمية المعرفية والمناهج الغربية التشكيكية التحريفية.
ولم يكتف الحداثيون العرب بذلك بل تطاول بعضهم على مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفوه بأوصاف شنيعة، محاولين زعزعة مكانته في قلوب الأمة، والتقليل من هيبته في النفوس، وها هو كبير الحداثيين محمد أركون الجزائري المفَرْنَس يقول: (وتتمُّ عمليَّة التوصيل عن طريق وسيط ذي مكانة متميزة وسلبية في آن معًا هو محمد، إنه مجرد ناقل للوحي… وقد استمرت عملية تشكيل الصورة الرمزية والقدسية المثالية لمحمد على هذا النحو طيلة أكثر من قرن)([1]). وقد تركت القراءة الحداثية أثرها السيئ على السنة، وانخدع بها جملة من الشباب المسلم، فاستوجب هذا بذل الجهد للصد والرد وتعرية هذا الفكر المنحرف.
هذا وقد قسمت البحث بعد هذه المقدمة إلى مبحثيْن وخاتمة شاملة لأهم النتائج.
المبحث الأول: أول ظهور بذور الطعن في السنة النبوية
أول بذور الطعن في السنة النبوية كان في أواخر عصر الصحابة، فقد جاء عن الْحَسَنِ البصري (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُونَاهَا وَتَرَكْتُمُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ الْقُرْآنَ، مِنْ أَيْنَ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ عِدَّتُهَا كَذَا، وَصَلَاةَ الْعَصْرِ عِدَّتُهَا كَذَا، وَحِينَ وَقْتِهَا كَذَا، وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ كَذَا؟ وَالْمَوْقِفَ بِعَرَفَةَ وَرَمْيَ الْجِمَارِ كَذَا، وَالْيَدُ مِنْ أَيْنَ تُقْطَعُ أَمِنْ هَاهُنَا أَمْ هَاهُنَا أَمْ مِنْ هَاهُنَا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَفْصِلِ الْكَفِّ وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْمِرْفَقِ وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْمَنْكِبِ، اتَّبِعُوا حَدِيثَنَا مَا حَدَّثْنَاكُمْ، وَإِلَّا وَاللَّهِ ضَلَلْتُمْ)([2]) وعَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا وَحَدِّثْنَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ)([3]).
وقد يقال: إن أول ظهور لحركة منكري السنة كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يقال له ذو الخويصرة حين قال: (اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ: ((وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟))([4])، لكن هذه البداية كانت فردية، فالإنكار لم يظهر بشكل جماعات وفرق إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة، قال الإمام الشافعي في كتاب الأم، باب جماع العلم: (بَابُ حِكَايَةِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي رَدَّتْ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا)([5])، ولفظ (الطائفة) في لغة العرب معناها الجماعة والفرقة من الناس، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
ثم بدأ الشقاق بين جماعة المسلمين، وانقسم المفارقون لجماعة الإسلام إلى خوارج وروافض، وردَّ الخوارج أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة لرضاهم بالتحكيم، وبهذا أبوا أن يتخذوا السنة أساسًا للتشريع، كما ردت الرافضة أحاديث جمهور الصحابة إلا ما زعموا أنه من رواية أشياع عليٍّ رضي الله عنه، وقدحوا في عدالة الصحابة.
وفي عهد الحركة العلمية ترجمت الكتب الفارسية وكتب منطق اليونان، فوجد الأعداء لهم فيها أكبر معين فقاموا بقدح أعلام السنة، وقبحوا أهل الحديث وعابوا طريقتهم ليقللوا من شأن الحديث وأهله، ومضى الزمان حتى برز من الدارسين من تناول نصوص الكتاب والسنة بقراءات معاصرة باسم الحداثة، وهي قراءة تأويلية خارجة عن المنهج العلمي المقبول، مستمدّين آلياتها من تجارب غربية في فهم النصوص المقدسة، مستخدمين نظريات عقلية وليدة من صراع الحداثة في الغرب مع الدين، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إلغاء الدين برمته.
ومن المؤسف أن هؤلاء الدارسين أثاروا شبهات عدة حول السنة المطهرة بقصد الانتقاص من قيمتها ومنزلتها الرفيعة، وبدعوى معارضتها للقرآن أو للعقل أو للعلم، أو بدعوى أنه دخلها الوضع بسبب التأخر في التدوين، وغير ذلك من شبهات تحتاج إلى ردود علمية وفق المنهج العلمي الصحيح القائم على البحث والتقصي والموضوعية لإظهار شناعة تلك الشبهات وتفنيدها.
ومن الطاعنين في السنة بعض المستشرقين الذين تكمن أغلب جهودهم في إنكار الوحي والنبوة وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع ادعائهم الموضوعية والأمانة العلمية والتجرد عن الأهواء والبحث عن الحقيقة المجردة، فموّهوا بهذه الشعارات البراقة على كثير من البسطاء والمستغربين، حتى لقيت كتبهم رواجًا عند من تأثر بهم من أبناء المسلمين، فساروا على آثار من سبقهم من المستشرقين الغربيين، واقتنعوا بأفكارهم، وأخذوا يرددونها ويبثونها في كتبهم كأنها حق لا غبار عليه ولا دخَن، ونلحظ أن آراءهم وآراء المستغربين من المسلمين متوافقة في موضوع إنكار السنة، ومنهم أبو رية الذي ألف كتابًا أسماه “أضواء على السنة المحمدية”، وهو مليء بالطعن في السنة النبوية، فردَّ عليه كثير من العلماء كمحمد عبد الرزاق حمزة في كتابه (ظلمات أبي رية)، وعبد الله المعلمي في كتابه (الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة)، ومصطفى السباعي في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع).
وقد أكد المستشرق الألماني رودي باريت (ت1983) Rudi Paret أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية هو التنصير وإقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى النصرانية([6])، إلا أن هذه الأهداف اكتسبت أبعادًا أخرى مع مرور الزمن، فترافق معها أطماع اقتصادية وعلمية واستعمارية([7]).
ثم نشأ تيار بين أهل السنة عرفوا بالقرآنيين أو أهل القرآن، الذين يعتمدون في تدبر القرآن على المنهج العقلي المجرد، وينبذون السنة برمتها، وما هؤلاء القرآنيون الذين ينكرون السنة ومعهم تيارات الحداثة المعاصرة إلا تبع لهؤلاء المستشرقين وأذناب لهم، وقد تبين أن أغلبهم له صلات مشبوهة مع مدارس معادية للإسلام في الشرق والغرب.
وإنَّما اشتدَّ هجومهم على السنة النبوية (لأنها تمثل -عندهم- عنصرين من عناصر القوة في الإسلام وهما: الثروة الحديثية النبوية، وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم العملية، وهذه الأولويات وضعها خصوم الإسلام للقضاء عليه)([8]).
(وقد هادنوا القرآن ليأسهم من النيل منه، واستسهلوا الهجوم على السنة لأنهم يعلمون أنهم إن أسقطوا السنة من حياة المسلمين فقد أسقطوا معها القرآن دون أن يمسوه بقول؛ لأنَّ المسلمين لا يستطيعون أن يقيموا القرآن إلا بإقامة السنة، فهي البيان الذي لا بد منه لما جاء في القرآن)([9]).
المبحث الثاني: الرد على الطاعنين في سند الحديث ومتنه
ذكر المستشرقون شبهات أكثر مما ذكره مقلدوهم من المستغربين، ومن تلك الشبهات والمزاعم التي ساقها المستشرقون قولهم: (كما أنه كان من السهل وضع حديث ما فقد كان من السهل اختراع سند ولصقه بذلك)([10]).
وزعم جولد تسيهر (ت1921) Ignaz Goldziher أن المحدثين نقدوا السند دون المتن فقال: (نقد الأحاديث عند المسلمين قد غلب عليه الجانب الشكلي منذ البداية، فالقوالب الجاهزة هي التي يحكم بواسطتها على الحديث بالصحة أو بغيرها، وهكذا لا يخضع للنقد إلا الشكل الخارجي للحديث، ذلك أن صحة المضمون مرتبطة أوثق الارتباط بنقد سلسلة الإسناد، فإذا استقام سند حديث لقوالب النقد الخارجي فإن المتن يصحَّح حتى ولو كان معناه غير واقعي أو احتوى على متناقضات داخلية أو خارجية، فيكفي لهذا الإسناد أن يكون متصل الحلقات وأن يكون رواته ثقات اتصل الواحد منهم بشيخه حتى يقبل متن مرْويه، فلا يمكن لأحد أن يقول بعد ذلك: إني أجد في المتن غموضًا منطقيًّا أو أخطاء تاريخية لذلك فإني أشك في قيمة سنده)([11]).
وهذا افتراء محض؛ لأن المحدثين وضعوا أصولًا وضوابط قوية لقبول الروايات، وكانوا يهتمون بالأسانيد قبل كل شيء، امتثالًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، ولأن الحديث إذا ما تخطى مرحلة نقد سنده سليمًا كان احتمال وقوع الخطأ في متنه قليلًا، فلا يقبل الحديث إلا من ثقة حتى اشتهر بين المحدثين أن السند للخبر كالنسب للمرء، والحديث الذي ليس له سند ليس بشيء، وقد قال عبد الله بن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء مَا شاء)([12]) لكن هذا لا يعني أنهم لم يهتموا بالمتون، فقد نقدوها كما نقدوا الأسانيد، ووضعوا قواعد وضوابط تساعدهم في عملية نقدهم، بل إن القواعد التي تتعلق بنقد المتن أكثر من قواعد نقد السند.
يقول غوستاف ويت (ت1946) Gustav Witt: (لقد نقل لنا الرواةُ حديثَ الرسول مشافهة، ثم جمعه الحفاظ ودونوه، إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن؛ ولذلك لسنا متأكدين من أن الحديث وصلنا كما هو عن رسول الله من غير أن يضيف عليه الرواة شيئًا عن حسن نية في أثناء روايتهم، ومن الطبيعي أن يكونوا قد زادوا شيئًا عليه في أثناء روايتهم لأنه كان مشافهة)([13]).
ولقد جانبه الصواب في ذلك كما جانب يوسف شاخت (ت1969) joseph schacht حين قال: (وصِيْغَ الجزء الأكبر من نتائج هذه الأفعال والأقوال في شكل أحاديث نسبت إلى النبي… ومن المهم أن نلاحظ أنهم أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه)([14]).
ومدح المستشرق البريطاني نورمان كولدر (1993) Norman Calder نظريةَ شاخت فقال: (إن شاخت كسر لنا العلاقة التاريخيَّة بيَن الحديث والفقه.. والذي بيَنه لنا هو أن الفقه كان في بداية ظهوره منفصلًا عن الحديث، وأصول الفقه الإسلامي الحقيقية عنده ترجع إلى العادات الحية السائدة للمدارس الفقهية المحلية)([15]).
وقال جب (ت1971) Hamilton R. A. Gibb: إن نظرية شاخت (ستصبح أساسًا في المستقبل لكل دراسة عن حضارة الإسلام وشريعته على الأقل في العالم الغربي)([16]).
إن أدلة شاخت في معظمها تعتمد على مغالطات فكرية أو فهم لغوي خاطئ، أو على حالات شاذة عمَّمها على كل الأحاديث، وقد أظهرت آراء الأعظمي أن شاخت كان يحاول أن يعطي إيحاء كاذبًا باستخدامه لبعض الأمثلة الاستثنائية التي انتقدها علماء الحديث ليدعم نظريته، وأثار الأعظمي نقاطًا وتساؤلات عندما نقض الأمثلة التي اعتمد عليها شاخت في نظريته، منها: (لماذا كان رواة الأحاديث ينسبون أحاديثهم كذبًا –حسب رأي شاخت– إلى رواة ومصادر ضعيفة بدلًا من رواة ثقات؟ وإذا كانت كل الأحاديث موضوعة بهدف دعم المذاهب الفقهية والعقدية فلماذا نجد أحاديث مشتركة عند أصحاب المذاهب العقدية كالسنة والشيعة والخوارج والزيدية وغيرهم؟)([17])
والسبب الرئيس في أخطائهم برأي الأعظمي هو أن المستشرقين لم يختاروا أمثلتهم الحديثية من مصادر الحديث الأساسية بل اختاروها من كتب السيرة أو كتب الفقه، والفقهاء لم يكونوا مهتمين بذكر كل السند بل كانوا مهتمين بالمتن وما يمكن أن يستنبطوا منه من أحكام، لذا قال الأعظمي: (لقد قام البروفسور شاخت بدراسة كتاب الموطأ لمالك والموطأ لمحمد بن الحسن الشيباني وكتاب الأم للشافعي، وغنيٌّ عن القول أن هذه الكتب أقرب ما تكون إلى الفقه من كتب الحديث، وعلى الرغم من ذلك فقد عمم نتيجته التي وصل إليها في دراسته لتلك الكتب، وفرضها على كافة كتب الحديث، وكأنه ليست هناك كتب خاصة بالأحاديث النبوية، وكأنه ليس هناك فرق بين طبيعة كتب الفقه وكتب الحديث، ويبدو أنه لم يتنبه لأسلوب الكتب الفقهية لأنه من المعلوم أن المفتي أو المحامي أو القاضي عندما يحكم في قضية أو يفتي في مسألة لا يكون مضطرًا لأن يعطي السائل كافة حيثيات الحكم أو الفتوى مع ذكر كافة الوثائق التي تعضده)([18]). وما زالت نظرية شاخت وللأسف تلقى قبولًا واسعًا في الغرب رغم كل ما تعرضت له من نقد علمي محكم.
ولعل أول من تطرق إلى نقد الأحاديث عند علماء المسلمين هو كايتاني (ت1935) Caetani Leone حيث عقد في كتابه (الحوليات الإسلامية) فصلًا عرض فيه للحديث سنده ومتنه، فكان مما جاء في نقد المتن قوله: (كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في واد جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروي، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه)([19]).
وكل هذا الكلام حول عدم نقد المتن بعيد عن الحقيقة والواقع؛ لأن المحدثين قسموا علم الحديث إلى علميْن: علم الرواية الذي يهتم بالراوي والرواة من حيث القبول والرد، وعلم الدراية الذي يهتم بنقد المتن ووضع القواعد الخاصة لذلك، فعلم الحديث يهتم بالسند والمتن معًا ليعرفوا بذلك ما يقبل وما يرد من الأحاديث، والذي ينظر في الكتب الستة يتيقن أن علماءنا قد نقدوا المتن أيضًا، فالبخاري مثلًا قد اختار صحيحه من بين مئات الآلاف من الروايات.
ولما كان المتن هو الغاية والهدف تتبع المحدثون متون الأحاديث، وعرضوها على أصول الشريعة ومقاصدها، وقاسوها بمقياس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأخضعوها للنقد الذاتي داخليًّا وخارجيًّا، فكانت ثمرة ذلك ضوابط وعلامات تميز الصحيح من الباطل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أول من سنَّ سنة نقد المتن ونمَّى هذه الملكة، ودعا إلى ترسيخها بقوله وفعله وإقراره، وقد قام الصحابة الكرام بالنظر في النصوص ونقدها ولم ينكر عليهم، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لهم الوجهة الصحيحة للنقد، وكم في الأحاديث من تصحيح لمفاهيم خاطئة علقت في أذهان الصحابة من أيام الجاهلية، فهذا نقد وتمحيص للمعلومات التي يحملها أصحابه، وتوجيه لها نحو الوجهة الصحيحة، وقرن تصحيحه للمفاهيم بالبديل الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))([20]).
ووجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم يقرون أن المفلس هو من لا درهم له ولا متاع، وهو ما استقر في النفوس لغة وعرفًا، فانتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وبيَّن خطأه وخطله، وأوضح لهم أن هذا ليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا الأمر يزول وينقطع بموته كما ينقطع أيضًا بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، فيستطيع أن يتدارك ما وقع فيه من الفلس، وبيَّن لهم أن حقيقة المفلس هو المذكور في الحديث…، فالرسول صلى الله عليه وسلم نقلهم من تصور الفلس الدنيوي الآني إلى تصور الفلس الأخروي الباقي الذي يجب أن يكون عليه في فكر المؤمن([21]).
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ينتقد بعضهم مضمون روايات بعض، فمثلًا انتقدت السيدة عائشة مضمون روايات بعض الصحابة، وكذلك تعرضت بعض رواياتها للنقد من بعض الصحابة الآخرين، وقد ألف الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (794هـ) كتابًا جمع فيه الروايات التي انتقدت فيها السيدة عائشة مرويات بعض الصحابة، وسماه: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة.
أما المستشرق (رودي باريت) Rudi Paret فقد تعامل مع السنة المطهرة معتمدًا على الروايات الموضوعة، أو ليِّ أعناق النصوص وتحريفها، أو تأويلها بشكل خاطئ، أو انتقاء ما يشاء مما يتوافق مع أغراضه، من ذلك قصة الغرانيق الموضوعة التي ولع بها، وقد ثبت اختلاق هذه القصة بما لا يبقي مجالًا للشك، فلا تصح شرعًا ولا عقلًا، بل سئل ابن خزيمة عن قصة الغرانيق فقال: (هذا من وضع الزنادقة، وصنَّف فيه كتابًا)([22])، وقال القاضي ابن العربي: (ذُكِر فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا)([23]) بل إن مترجم كتاب (رودي باريت) الدكتور رضوان السيد ردَّ على المؤلف قائلًا: (وهي أسطورة ما صدَّقها أكثرية المستشرقين، فلماذا يصدقها باريت الذي ترجم القرآن وهو يعرف استحالة التوفيق بين الوحدانية وشفاعة الآلهة الوثنية؟)([24]).
لقد بحث المحدثون في علل المتون وشذوذها، وجُمعت أبحاثهم هذه في علل المتون والأسانيد في مصنفاتهم من كتب العلل وهي كثيرة، ومن أجل ذلك نشأت علوم لا تكتفي بدراسة الإسناد بل تعنَى بدراسة الإسناد والمتن جميعًا، فمن ذلك: الحديث المقلوب، والمضطرب، والمدرج، والمعلل، والمصحَّف، والموضوع، وزيادة الثقة، كما أنشئت علوم تتعلق بدراسة المتن خاصة، من ذلك غريب الحديث، وأسباب وروده، وناسخه ومنسوخه، ومُشْكِله، ومُحْكمه.
وعلم مختلف الحديث خير شاهد على اعتناء العلماء بنقد المتون، فهذا العلم يعنى بالأحاديث النبوية الشريفة التي ظاهرها التعارض، وبدأ هذا العلم مبكرًا ابتداء من الإمام الشافعي في كتابه: اختلاف الحديث، وكتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ومشكل الآثار للطحاوي.
وانتقد بعض المستغربين من المسلمين المعاصرين طريقة معرفة صحة الحديث عند المحدثين، يقول هؤلاء المستغربون: إن صحة أي حديث يجب أن تبنَى أولًا على صحة متنه وليس على صحة إسناده، وممن تبنَّى هذا الرأي أحمد أمين ومحمود أبو رية من مصر، وسيد أحمد خان من الهند، والمولوي شراغ علي، وغلام أحمد برويز، زعيم فرقة (أهل القرآن) وغيرهم.
ويعد محمد عبده أول عالم مسلم نقد بعض الأحاديث الصحيحة، والسبب في زعمهم أن بعض الأحاديث تخالف العقل والعلم، ويستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قالها، وأن الحديث دوِّن في وقت متأخر خلال القرن الثاني الهجري فوضعت أحاديث كثيرة واختلطت بالأحاديث الصحيحة، وأنَّ بعض الصحابة روى الحديث بالمعنى، ولا يمكن الاعتماد على علم الجرح والتعديل لأنه علم متناقض علاوة على أن معظم الأحاديث رويت عن طريق الآحاد([25]).
ليس صحيحًا أن صدر الإسلام خلا من تدوين السنة، فقد دوِّن أجزاء من السنة في حياة الرسول نفسه وبتوجيه منه مباشرة، ومن ذلك كتبه ورسائله للرؤساء والمعاهدات والمصالحات التي جرت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذه الوثائق جانب من جوانب السنة، وسبب قلة التدوين حينها أنَّ السنة حاضرة ماثلة أمامهم، فلم تدْعُ ضرورة إلى تدوينها([26]).
ثم إن الأصل المجمع عليه عند المحققين أن رواية الحديث النبوي كانت باللفظ والمعنى معًا، ورواية الحديث بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة، وكانوا إذا لجؤوا إلى الرواية بالمعنى نبهوا على تلك الرواية، ومن يجرؤ على الكذب وقد جاء في الحديث المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))([27]) فهذا تحذير شديد ووعيد قاس لمن بدَّل لفظًا مكان آخر مع التعمد([28]).
أما شبهة وضع الأحاديث فلم يغفل عنها علماء الأمة، بل فطنوا إلى وجود هذه الآفة وحاصروها من كل جهة، وأبطلوا مفعولها تمامًا حيث درسوها دراسة فاحصة ونصوا على أسباب الوضع فأحكموا القول وأصابوا، ومن المعروف أن ظاهرة الوضع ظهرت متأخرة عن بدء التدوين، ولما فشا أمرها شمَّر لها العلماء عن ساعد الجد، ونتج عن ذلك علم الجرح والتعديل، وفيه رصد العلماء أحوال الرواة جرحًا وتعديلًا، وحسموا أمر هذه الآفة، وصنفوا فيها كتبًا([29])، ووضعوا علامات وضوابط يعرف بها الحديث الموضوع من غير الرجوع إلى سنده كركاكة اللفظ ومخالفة الحديث لنص القرآن أو السنة المتواترة، أو ما اشتمل على إفراط كالثواب العظيم على العمل القليل أو الوعيد الشديد على فعل يسير، أو ما يخالف البدهي في الطب والحكمة، أو ما يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع، أو مخالفًا للحقائق التاريخية، أو أن يروي الراوي الداعي إلى بدعته ما يوافق بدعته ويخالف به الثقاتِ، وغير ذلك من الضوابط.
خاتمة:
تبيَن مما سبق أن الله تعالى حفظ سنة نبيِّه كما حفظ كتابه، فقام الجهابذة من علماء الحديث وغيرهم بوضع قواعد علمية دقيقة في نقد السند والمتن معًا للحكم على صحة الحديث من عدمها، وأما افتراءات المستشرقين والمستغربين فهي بعيدةٌ عن الصواب والإنصاف، مخالفةٌ لمناهج البحث العلمي والموضوعية، وقد جنت الحداثة على السنة النبوية جنايات كبيرة كثيرة، ومارست عليها أشكالًا من التشكيك والتشويه وضروبًا من النقد المنفلت والتأويل المنحرف والقراءات التعسفية، ولا عجب فمن مقاصد الحداثةِ الثورةُ على الدين وإبادتُه، ومما يميز أعمالَهم المراوغةُ والمكر والغموض اللغوي والدلالي، فهم أشد خطرًا وأكثر ضررًا من المستشرقين.
وإليك أهمَّ النتائج:
-أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا قد خضعت لمنهج نقدي دقيق في مراحلها كلِّها، ووصلت سليمة من الشوائب، وهذا ليس له نظير عند غير المسلمين.
-كل ما ساقه الطاعنون في الحديث النبوي وتوثيقه من مزاعم لا يمكن قبوله، فهو منقوض بالأدلة العلمية الدامغة.
-نقد المتن عند المحدثين كان جزءًا رئيسًا في عملية الحكم على صحة أي حديث، فلا يقبلون حديثًا إلا بخلوِّه من أية علة أو شذوذٍ في المتن أو الإسناد.
-نقد المتن سبق نقدَ السند، وقد نمَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الملكة ودعا إلى ترسيخها بقوله وفعله وإقراره، وقام الصحابة بالنظر في النصوص ونقدها دون إنكار.
-وضع العلماء علامات في المتن لكشف الحديث الموضوع، وهذا ما يدلنا على عنايتهم بنقد المتن عناية فائقة.
-النقد الموجه من الطاعنين في الاعتماد على الإسناد ليس نقدًا علميًّا، ولا يرقى إلى الشبهة العلمية، بل هو محض أوهام.
-ليس صحيحًا أن صدر الإسلام خلا من تدوين السنة، فقد دوِّن أجزاء من السنة في حياة الرسول نفسه وبأمرٍ منه.
-الأصل المجمع عليه عند المحققين أن رواية الحديث النبوي كانت باللفظ والمعنى معًا، ورواية الحديث بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة.
-آفة وضع الأحاديث لم يغفل عنها علماء الأمة، بل فطنوا إلى وجودها، وحاصروها من كل جهة، وأبطلوا مفعولها تمامًا.
([1])– الفكر الإسلامي قراءة علمية: محمد أركون، مركز الإنماء القومي، لبنان، والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1996م، 72-75.
([2])– الكفاية في علم الرواية: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تحقيق: أبو عبد الله السورقي وآخر، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، د.ت: 15.
([4])– سنن ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، بَابٌ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ، برقم: 172.
([5])– الأم: محمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة، بيروت، 1410هـ، 1990م، 7/287.
([6])– الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية (المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه): رودي باريت، ترجمة: مصطفى ماهر، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م، ص11.
([7])– المستشرقون الناطقون بالإنجليزية دراسة نقدية: د. عبد اللطيف الطيباوي، ترجمة: قاسم السامرائي، جامعة الإمام محمد بن سعود، السعودية، 1991م، 19.
([8])– الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض: الدكتور عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة في القاهرة، الطبعة الأولى، 1420 هـ، 1999م، 15.
([10])– الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية: رودي باريت، 16.
([11])– دراسات جولد تسيهر في السنة ومكانتها العلمية: عبد الناظر محسن، دكتوراه دولة مخطوطة بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين، 1/238.
([12])– قرة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج: محمد بن علي بن آدم الإثيوبي المولوي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1424هـ، 2/79.
([13])– التاريخ العام للأديان (الإسلام)، غوستاف ويت، 366.
([14])– أصول الفقه: يوسف شاخت، لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981م، 63-64.
([15])– الرد على مزاعم المستشرقَين إجناتس جولدتسيهر ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين: د. عبد الله عبد الرحمن الخطيب: 47.
([17])– دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: محمد الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي 1400ه/1980م: 2/389.
([19])– المستشرقون والحديث النبوي: الدكتور محمد بهاء الدين، دار النفائس، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1420 هـ، 1999م:129.
([20])– رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، برقم: 2581.
([21])– الرد على مزاعم المستشرقَين: د. عبد الله عبد الرحمن الخطيب، 29.
([22])– نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة: 1417هـ – 1996م، 46.
([23])– أحكام القرآن: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، تعليق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1424 هـ – 2003 م: 3/307.
([24])– محمد والقرآن: رودي باريت، ترجمة رضوان السيد، ذكر ذلك في هامش ص 25-26.
([25])– الرد على مزاعم المستشرقَين: د. عبد الله عبد الرحمن الخطيب: 12-13.
([27])– رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، برقم (1291)، ومسلم في المقدمة، باب في التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (3).
([28])– الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية: عبد العظيم المطعني، 50-51.