مفاهيم لترشيد الجهاد (5) جهاد لا إفساد 2/1- 2/2

أّيّها الروس: سوريا مقبرة الغزاة
أكتوبر 5, 2015
العودة إلى التربية القرآنية
ديسمبر 28, 2015

مفاهيم لترشيد الجهاد (5) جهاد لا إفساد 2/1- 2/2

الكاتب: د.عماد الدين خيتي – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري 
توطئة:
تبنت عدد من الجماعات في السنوات المتأخرة عمليات تفجيرية طالت تجمعات الناس في مدنهم، وأسواقهم، وسكنهم، ووسائل مواصلاتهم، كما طالت الفنادق، والمستشفيات، والسفارات، بل وصلت حتى إلى المساجد، لم تفرق في ذلك بين مسلم من أهل السنة، وشيعي و كافر، ولم تفرق بين عسكري وغير مقاتل، سواء في بلاد المسلمين، أم الكفار، تحت شعار الجهاد والإثخان في أعداء الدين.
فما حكم هذه العمليات في الشرع؟
مقدمات مختصرة بين يدي هذه العمليات:
1- لا يشك منصف أن للدول الغربية جرائم كبيرة في حق المسلمين خصوصًا وفي حق البشرية عمومًا على مدى عقود من الزمن، وهي جرائم لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، لم تتوقف منذ أيام الاستعمار في القرن الميلادي السابق إلى الوقت الحالي، وبعض هذه الجرائم مباشر كالاستعمار والقتل، وبعضها غير مباشر بالتفريق بين المسلمين والكيد لهم، وسلب ثرواتهم، والإبقاء على النزاع والقتال وتسلط الحكام الظلمة عليهم.
فلا بد من التصدي لهذه الجرائم بالفضح والبيان، ودفع المعتدين وجهادهم، والعمل على تحصيل ما ترتب عليها من حقوق بمختلف الوسائل، بحسب كل حالة.
2- اختار بعض المسلمين القيام بعمليات تفجيرية موجهة ضد أهدافٍ لهذه الدول سواء كانت في بلادهم أو في بلاد المسلمين، وضد من يعتقدون تبعيتها لهم من الحكومات في بلاد المسلمين  وأجهزتها والعاملين فيها.
فلا عامة يلزم المسلمين التبرؤ من كل عملية من هذه العمليات، أو بيان موقف منها، فمن يقوم بها لم يستأذنهم، ولا يهتم لرأيهم، بل إنه يعتبرهم أهدافًا مشروعة له كما سيأتي، لكن يلزم أهل العلم توضيح الموقف الشرعي من هذه العمليات عمومًا؛ بيانًا للحق، وتوضيحًا لأحكام الجهاد والدفاع عن النفس؛ وحماية للشباب من الانخراط في مثل هذه الأعمال.
3- عند الحديث عن مثل هذه العمليات لا بد من الحذر من طغيان جانب على آخر، فليس من العدل ولا المروءة –فضلاً عن الجواز- المبالغة في إظهار التحسر والتألم على ما يصيب هذه الدول وأفرادها جرّاء هذه العمليات، مع الصمت أو الخجل في إظهار جرائمها في حق المسلمين، وأشد من ذلك المبالغة في نفي تهمة الإرهاب عن المسلمين إلى حدَّ الطعن في بعض شرائع الإسلام، أو المطالبة بإعادة النظر في بعض أحكامها، كحصر الجهاد بالدفع فحسب، ونفي جهاد الطلب.
4- كما أنَّ بيان الحكم الشرعي لهذه العمليات لا يعني –كما يظن البعض- الاستسلام للأعداء، أو الطغاة، أو تشريع باطلهم، أو القعود عن نصرة الدين والمستضعفين، بل هذا من أوجب الواجبات، وله مواطنه الخاصة ببيانه وبحثه.

(4)

شبهات القيام بهذه العمليات:
تستدل هذه الجماعات على جواز عمليات التفجير هذه بمجموعة من الاستدلالات تتلخص فيما يلي:
1- أنَّ ردّ عدوان الكفار المعتدين بالمثل مشروع، وبما أن هؤلاء الأعداء يقتلون نساءنا وأطفالنا وغير المقاتلين منا فيجوز لنا قتل نسائهم وأطفالهم ومن ليس من أهل القتال منهم، عملاً بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}.
2- أنَّ من يقتل في هذه العمليات ممن ليس أهلاً للقتال فهو من التّبييت أو التّرس الذين يجوز قتلهم.
3- جاء في حديث الذين يغزون الكعبة فيهلكهم الله مع أنَّ فيهم من ليس من المحاربين المقاتلين من الخدم وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم:
(يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) رواه البخاري، ومسلم، فهؤلاء الذين يقتلون في هذه العلميات من هذا الباب، وإن كانوا مظلومين فنسأل الله أن يعوضهم في الآخرة.
4- يجوز القيام بهذه العمليات في الكفار سواء كانوا في بلادهم أو بلاد المسلمين لأنهم محاربون قد نقضوا عهدهم وأمانهم مع المسلمين، ولا شيء يمنع من استهدافهم بأي نوع من أنواع العمليات.
5- تفجير السفارات خصوصًا وقتل سفراء دول الكفار جائز؛ لأنها أصبحت محل تآمر ضد الإسلام والمسلمين، ووكرًا للأعداء تدار منه مؤامراتهم ومخططاتهم.
6- التفجير في الشرطة والعساكر في البلاد الإسلامية هو قتل للمرتدين، وقتل المرتدين جائز.
7- أن في هذه الأعمال نكاية بالأعداء، والنكاية بالأعداء مشروعة.
مع التنبُّه إلى ما يلي:
ليس لهذه الجماعات في عملياتها دليل صحيح صريح من كتاب أو سنة، أو قول معتبرٍ لأهل العلم، وغاية عملهم في مصنفاتهم: جمع الكثير من النصوص الشرعية وكلام أهل العلم في مسألة ما، ثم تنزيلها على المسألة التي يبحثونها ويلتمسون لها الدليل بالقياس، أو دخولها في الدليل من باب أولى، حسب رأيهم.
وأكثر استدلالاتهم في أصل المسائل التي يعرضون لها صحيح شرعًا، لكن دخل عليه الخطأ في فهمها، أو تنزيلها على أفراد المسائل المبحوثة؛ لذا فإن الحديث لا ينصب على نقاش أصول هذه المسائل.
وسبب وقوعهم في هذا الغلط: أنهم قطعوا ارتباطهم بأهل العلم بعد أن أسقطوهم ورموهم بالعمالة للطواغيت، فخاضوا في المسائل العظيمة -مع قلة بضاعتهم في العلم- التي يتوقف فيها الراسخون من أهل العلم والفتيا، ويُجمع لمثلها أهل بدر!
وفيما يلي الإجابة عن هذه الشبهات:
أولاً: قولهم: ردّ عدوان الكفار المعتدين بالمثل مشروع، وبما أن هؤلاء الأعداء يقتلون نساءنا وأطفالنا وغير المقاتلين منا فيجوز لنا قتل نسائهم وأطفالهم ومن ليس من أهل القتال منهم:
ويجاب عن ذلك بما يلي: ردّ العدوان مشروع في الإسلام، وهو من أعظم الجهاد في سبيل الله، وهو قائم في الأمة منذ عقود، وبمشاركة أهل العلم وتوجيههم، وأحكامه مبثوثة في كتبهم معلومة، ومن أحكامه: أن ردَّ الاعتداء يكون بوسائل مشروعة.
فردُّ العدوان والمماثلة في العقوبة ليست على إطلاقها، بل هي مشروطة في الشرع بشروط، من أهمها:
1- أن يقتصر الردّ على مقدار العدوان دون زيادة؛ لذا فإن الجنايات التي يمكن القصاص فيها دون حيف: يجوز القصاص فيها، أما الجنايات التي لا يمكن فيها القصاص دون تعدٍ على مقدار الاعتداء كالجروح، والكسور، فليس فيها قصاص، بل ينتقل للدية أو الأرش (التعويض).
وهكذا فإنَّ قَتل من ليس من أهل القتال، ومن لم يشترك فيه: هو من الزيادة في رد العدوان؛ فيكون غير جائز.
2- ردُّ العدوان والمماثلة في العقوبة على الجناية تكون مع الجاني نفسه لا غيره، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}، وجميع نصوص رد العدوان هي في الاقتصاص من الجاني نفسه، ولا يراد منها الاعتداء على غيره.
قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]، قال ابن كثير في “تفسيره”: ” فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل”.
كما استدل أهل العلم بنصوص ردِّ العدوان والمماثلة في العقوبة على قتل الجاني بمثل ما قتل ما لم يكن ذلك معصية، فمن قتل شخصًا تغريقًا أو خنقاً أو بحجر فإنه يُقتل بمثل فعله.
أما من لم يكن من أهل القتال والاعتداء فليس محلاً لردّ العدوان أو القصاص، ولا يجوز التعدي عليه كما سبق في بيان شروط قتل غير المحاربين (ينظر مقال: جهاد لا إفساد- 1/2).
3- ردُّ العدوان مشروطٌ بألا يشتمل على معصية أو محرم، وليس على إطلاقه.
قال ابن قدامة في “المغني:” “وإن قتله بما لا يحل لِعينِه [أي لطريقة القتل عينها]، مثل إن لاطَ به فقتله، أو جرّعه خمراً أو سحره، لم يقتل بمثله اتفاقاً، ويعدل إلى القتل بالسيف..”.
وقال الشوكاني في “نيل الأوطار”: “وقوله: (وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُكَافَأَةُ الْخَائِنِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ فَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}“.
وقتل من ليس من أهل القتال من النساء والأطفال وغيرهم منهيٌ عليه في الشرع، فيكون الاعتداء عليهم معصيةً لا جهادًا.
استدلال وإجابة:
استدل الظواهري في كتابه “التبرئة” على جواز القيام بمثل هذه العمليات بجواز تخريب بلدان الكفار بمثل ما يخربون به بلادنا، فقال: “يجوز أن يخرب من بلاد العدو مثل ما خرب من بلاد المسلمين” ثم نقل كلام العلماء في جواز إتلاف زروع وثمار الكفار ودوابهم أثناء الحرب.
وهذا الكلام باطل؛ فالمسألة ليست في إتلاف الزروع والثمار والبنيان، فهذا جائز في حال الحاجة إليه كما دلت عليه نصوص الشرع وأقوال أهل العلم، لكن المسألة في قتل الساكنين لهذه المباني والأماكن، والفرق بين الأمرين ظاهر.
كما أنَّ من أشد ما صدر في هذه المسألة فتوى عمر عثمان (أبو قتادة الفلسطيني) باسم (فتوى كبيرة الشأن في جواز قتل الذرية والنسوان درءًا لخطر هتك الأعراض وقتل الإخوان) ونشرتها مجلة الأنصار التابعة للجماعة الإسلامية في الجزائر (الجيا)، بتاريخ شوال 145- 3 / 1995م، حيث أجاز (قتل نساء وأطفال عساكر الدولة الجزائرية المرتدين)، مستدلاً بجواز قتل نساء وذرية المشركين بالتبييت والتترس، فقال: “إذا تبين لنا هذا وعلمنا سابقًا جواز قتل الذرية والنساء توصلاً لقتل الرجال المقاتلة، فإن من باب أولى جواز قتل هذه الذرية وقتل النساء توصلاً لمنع قتل المسلمين بل المجاهدين، وهتك أعراض المسلمات.
فحقيقة المسالة أننا إن لم نستطع منع المرتدين من قتل أسارى  المسلمين من مدنيين وغيرهم إلا بتهديد هؤلاء المرتدين بقتل نسائهم وأبنائهم فهو جائز إن لم يكن واجبًا، وكذلك إن لم نستطع منع المرتدين من انتهاك أعراض المسلمين  والتلعب بالنساء إلا بتهديدهم بقتل ذريتهم ونسائهم فهو جائز ولا شك إن لم يكن واجبًا؛ إذ أن مصلحه إحياء المسلمين وحفظ أعراضهم أشد وأهم من التوصل إلى قتل المرتدين بتترسهم بنسائهم وأبنائهم”. (1)

(5)

ثانيًا: قالوا: يجوز قتل التّرس ممن ليس أهلاً للقتال في مثل هذه العمليات:
ويجاب عن ذلك بما يلي:
التّترس الذي وردت به نصوص الشريعة، وأقوال أهل العلم هو: أن يمتنع العدو بغير المقاتلين من مسلمين وغيرهم، ويتخذهم دروعاً بشرية، مثل: أن يهجمَ العدوُّ على المسلمين هجوماً يُؤدي إلى استئصالهم وهو يتترس بهؤلاء غير المقاتلين، فلا يستطيع المجاهدون الدفاع عن أنفسهم إلا بإصابة هذا الترس، أو أن يكون المجاهدون في حال التحام مع العدو في القتال، فيتترس العدو بمن لا يجوز قتلُهم، وبذلك لا يَقْدِرُ المسلمون على قتالهم إلا بإصابة هؤلاء المُتَتَرس بهم، فأجاز أهل العلم إصابة هؤلاء الترس يمكن إجمالها في شرطين:
1- أن يكون ذلك لضرورة، بحيث لا يمكن الوصول للأعداء أو دفعهم إلا إذا أصابوا الترس، وإذا ترك قتال الأعداء خيف من ضرر أعظم على المسلمين.
2- تحاشي ضرب الترس ما أمكن، وقد سبق (ينظر جهاد لا إفساد- 1/2).
أما ما تذكره هذه الجماعات من أحكام التترس في جواز عملياتها التفجيرية فهو عكس التترس المشروع، ويناقض الأدلة الشرعية وأقوال أهل العلم، وهو من بدع هذا الزمان التي أفتى عامة أهل العلم بتحريمها وتجريمها. حيث إن هذه الجماعات تقول بجواز استهداف الأعداء أينما كانوا، ولو قتل معهم من غير المقاتلين المختلطين بهم من قتل، سواء كان هذا الاختلاط بسبب وجود ثكنات الجنود أو حواجزهم أو دورياتهم في الأحياء، أو بالقرب منها، ويعدون من قتل منهم ترسًا، والفرق بين الصورتين كبير:
1- فالتترس الذي ذكره الفقهاء هو ما كان في ساحة المعركة هجومًا أو دفاعًا.
أما هذه التفجيرات: فإنها تستهدف الجنود في ثكناتهم أو دورياتهم، أو حواجزهم في غير وقت القتال أو التحام الصفوف.
بل إن جمهور أهل العلم قد منع قتال العدو في إذا تترسوا بالمسلمين في غير التحام، فكيف بمن يقتل هؤلاء المستهدفين بغير معركة،  فضلاً عن وجود التحام صفوف، وغالب ضحاياه من المسلمين؟
2- في التترس الذي ذكره الفقهاء: اتخذ الجنود غير المقاتلين ترسًا يحتمون بهم وأكرهوهم على ذلك، فوجودهم بين المقاتلين بينهم طارئ غير معهود ولا أصلي.
أما هذه العمليات: فإنها تستهدف الجنود في قواعدهم وثكناتهم الخاصة بهم، أو في نقاط تفتيشهم، وغير المقاتلين آمنون في حياتهم المعتادة، غير مختطفين ولا مرغمين، ووجود مقرات الجنود أو دورياتهم بين السكان لا يجعل السكان ترسًا حقيقة ولا عرفاً، فوجود الجنود بين السكان أمر شائع ومتعارفٌ عليه.
3- الأصل المتقرر عند الفقهاء القائلين بجواز رمي الترس أنَّه لا يجوز رميهم إلا في حال الضرورة استثناء من تحريم الاستهداف، وأن يتقى ضرب الترس ما أمكن.
أما هذه العلميات فلا ضرورة شرعية فيها؛ لأن جنود الأعداء موجودون منتشرون في كافة أراضي وطرق البلاد، وثكناتهم وأماكنهم معروفة، وهناك طرق كثيرة لاستهدافهم وقتلهم، كما هو معلوم ومشاهد من ساحات الجهاد المختلفة، وعمليات المجاهدين فيها.
أما العمليات الموجهة لغير المقاتلين بالأصل فليست من التترس في شيء؛ لأنها موجهةٌ لهم بالأصالة لا التبع.
استدلال وإجابة:
عند النظر في استدلالات هذه الجماعات نجدها خالية من أي دليل شرعي صحيح، وبتقعيدات وتقريرات غاية في الخطورة والانحراف، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره حسن قائد (أبو يحيى الليبي) في كتابه “التترس في الجهاد المعاصر” والذي أصَّل لهذا (التترس المقلوب) حيث:
1- اعتبر المسلمين المقيمين في بلاد الكفار من الترس الذين يجوز استهدافهم أثناء استهداف هذه الدول، قال: “أن يكون ضمن حصن من حصون الكافرين، أو قلعة من قلاعهم بعض المسلمين من التجار أو من أسلم ولم يهاجر أو غيرهم، بحيث يكون وجودهم في ذلك الموطن وبقاؤهم فيه اختيارياً، بمعنى أن الكفار لم يقصدوا اتخاذ من هو بينهم من المسلمين ترساً يتقون به هجمات وضربات جيوش المسلمين، وإنما وقع وجود التجار المسلمين ونحوهم بين الكافرين اتفاقاً، إلا أن رمي الكفار بما يعم يؤدي قطعاً أو بغلبة الظن إلى إصابة أو قتل من يوجد بينهم من المسلمين، وهذه الصورة أكثر وقوعاً في جهاد الطلب”.
ثم استدل على جواز هذه الصورة بأدلة نصب المنجانيق ورمي الكفار بما يعم.
وفي هذا الكلام غلط من وجوه:
أ / وجود المسلمين في بلاد الكفار لا يبيح دماءهم، بل دماؤهم معصومة محرمة، ولو كانت إقامتهم محرمة في بلاد الكفار، فهم باقون على هذا الأصل لا يتغير.
ب/ في الاستدلال خلط بين مسألة الترس بمسألة رمي الكفار بما يعم من أسلحة، فالرمي بما يعم يكون في حال الحرب القائمة بين المسلمين والكفار، ولا يستطيع المسلمون هزيمة الأعداء، أو فتح البلاد، فيجوز لهم رمي الأعداء بما يعم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بنصب المنجنيق على الطائف، وقاس عليه أهل العلم الأسلحة المعاصرة من القاذفات والقنابل والصواريخ، ونحوها، فمن قتل من غير المقاتلين أثناء ذلك  فلا شيء فيه، وهذا من طبائع الحروب ولوازمها.
أما التترس فمسألة أخرى تقوم على إكراه غير المقاتلين على الوجود في أماكن المقاتلين احتماءً بهم.
ج / هذه العمليات لا تستهدف جنود الأعداء أو معسكراتهم، بل هي تستهدف غير المقاتلين بالأصل، ولا وجود فيها لامتناع الجنود، ولا وتحصنهم.
د / أن هذا (التترس) هو عكس مسألة الترس الشرعية، والإخلال بشرط الاضطرار فيها.
وهو بهذا الاستدلال قد أباح دماء جميع المسلمين الآمنين في بلاد الكفار بزعم التترس!
2- اعتبر أنَّ المسلمين في بلاد المسلمين من الترس الذين يجوز قتلهم أثناء استهداف الأعداء المحتلين للبلاد الإسلامية، أو جنود حكوماتها (المرتدين)، حيث قال: “مما لا شك فيه أن أضرار تسلط الكفار على بلدان المسلمين شرقاً وغرباً قد بدت جلية يراها الأعمى فضلاً على البصير، وأن شرهم المستطير قد نال كل أبواب الشريعة، ولحق سائر فروعها وأصولها… هذا سوى البلدان التي علاها الحكام المرتدون ونُصِّبوا على أهليها واستأصلوا شأفة الشريعة …
فما ينبغي للمسلم الصادق المستبصر أن يماري إطلاقاً في قيام عظائم المفاسد وفدائح المضار وكبائر الرزايا من جراء تسلط الكفار على ديار المسلمين سواء تسلطاً مباشراً كما هو الحال في الديار التي داهمتها الجيوش الكافرة السافرة أم كان تسلطهم عبر وكلائهم وعملائهم … فهذه الجيوش المحتلة وأعوانهم المرتدون هم عدو صائل لا ريب فيه، وهم مفسدون للدين والدنيا ظاهرا وباطناً ومهلكون للحرث والنسل.
فهذا وغيره كثير يدلنا دلالة قطعية أن المفاسد والمضار التي ألمح إليها الفقهاء في مسألة التترس، وجوَّزا لأجلها رمي الترس وإن أدى إلى قتل من يقتل من المسلمين: كلها قائمة وموجودة شائعة ذائعة تزداد يوماً بعد يوم وتتنوع صورها حينًا بعد حين …
يصعب تحديد صور التترس المعاصرة وحصرها في حالات معينة محدودة كالتي ذكرها الفقهاء قديماً، لا سيما مع وجود العدو وسُكناهم بين المسلمين، وإقامتهم لمعسكراتهم ومراكزهم وقواعدهم في أحيائهم، وتنقلهم في طرقاتهم وتعاملهم معهم واختلاطهم بهم اختلاطاً شبه متكامل، وغدت المدن والقرى والأسواق المأهولة بالسكان هي أهم ساحات معاركهم ضد المجاهدين قصفاً واشتباكات وكمائن، وأصبحت مطارداتهم للمجاهدين واعتقالهم لأهليهم ومناصريهم لا يكاد ينفك عنها مكان ولا ينقطع زمان”.
فبما أن الدول الإسلامية تعيش إما تحت حكم الاحتلال، أو حكومات مرتدة، فجميع هذه الدول أرض معركة لهذه الجماعات، وجميع المسلمين فيها ترس لضرورة الجهاد!
وبمثل ذلك استدل الظواهري في كتابه “التبرئة” حيث أجاز هذه العمليات من عدة أوجه:
فقد ذكر حديث تبييت المشركين ثم قال: “فإن هذا الحديث يدل على أن النساء والصبيان ومن لا يجوز قتله منفردًا يجوز قتلهم إذا كانوا مختلطين بغيرهم ولم يمكن التمييز، لأنهم سألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن البيات وهو الهجوم ليلاً، والبيات لا يمكن فيه التمييز، فأذن بذلك لأنه يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً.
الوجه الثاني: أن القادة المسلمين كانوا يستعملون في حروبهم مع الكفار ضربهم بالمنجنيق. ومعلوم أن المنجنيق إذا ضرب لا يفرق بين مقاتل وغيره، وقد يصيب من يسميهم هؤلاء بالأبرياء، ومع ذلك جرت سنة المسلمين في الحروب عليه…
الوجه الثالث: أن فقهاء المسلمين أجازوا قتل (الترس) من المسلمين إذا كانوا أسرى في يد الكفار وجعل الكفار هؤلاء المسلمين ترسًا يقيهم نبال المسلمين …”.
ثم خصص فصلين كاملين في الاستدلال على مسألتي الترس، والبيات، ونقل أقوال أهل العلم فيهما، وهما مسألتان لا خلاف في مشروعيتهما من حيث الجملة، بل وقع الخطأ في تنزيل الاستدلال بهما على واقع مختلف، وخلط المسائل وإدخالها ببعض.
وبمثل هذه التعسفات في الاستدلال والتقعيد أصبح المسلمون في جميع بلاد العالم (إسلامية وكافرة) ترسًا لهذه الجماعات يجوز استهدافهم في أي مكان كانوا: بيوتهم، أسواقهم، أعمالهم، مدارسهم …إلخ؛ لزعم زعم ضرب أعداء الدين من المحتلين أو (المرتدين)، فانتهكت حرمات البلاد، واستبيحت دماء المسلمين والآمنين، وانتشر القتل والتفجير فيها.
وكان أعداد قتلى المسلمين فيها أضعاف قتلى الأعداء المستهدفين، وسيأتي الحديث عنه.

(6)

ثالثًا: قالوا: من كان غير مستحق القتل بهذه العمليات فإنه يبعث على نيته يوم القيامة.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
الاستدلال بحديث البعث على النية على مشروعية هذه العمليات خطأ وخلطٌ كبير لما يلي:
1- حديث البعث على النيات ليس في جواز قتل غير المقاتلين المختلطين بمن يجوز قتلهم، بل في بيان عموم عقوبة الله تعالى للعصاة وإن كان فيهم من ليس منهم من المكرهين أو الصالحين، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم، فالطائع يجازى بنيته وعمله، والعاصي تحت مشيئة الله تعالى، وهذا الإهلاك من فعل الله تعالى؛ فله أن يهلك من شاء من عباده، وليس للبشر أن يقيسوا أفعالهم على أفعال الله تعالى.
2- استدل عدد من أهل العلم بهذا الحديث على أنَّ من كان في جيش المعتدين مكرهًا، أو ومشاركًا بجهل أو تغرير، فإنَّه يُقاتَل كبقية الأعداء، ولا تعفيه نيته في تركنا لقتاله، حتى لا يتعطل الجهاد بسبب ذلك؛ إذ لا يخلو جيش من هؤلاء.
قال النووي في “الشرح”: “وفيه أنّ مَن كثَّر سوادَ قومٍ جرى عليه حكمُهم في ظاهر عقوبات الدّنيا”.
وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “وقد يُقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال ويُبعث على نيته…”.
وجميع هذا مما ليس له علاقة بهذه التفجيرات التي يقتل فيها الآمنون، ثم الزعم أنهم يبعثون على نياتهم!
والاسترسال في هذا الأمر يقود إلى التساهل في الدماء، وعدم التأكد من استحقاق الأنفس المعصومة للقتل، وقد وصل الأمر بالعديد من الغلاة أن يقولوا في عملياتهم تلك، أو عند قتل مسلم لمجرد الشبهة:  “نلتقي في الجنة إن كنت صادقاً”!

(7)

رابعًا: قالوا: دول هؤلاء الكفار محاربة لنا؛ فلا أمان بينهم وبين المسلمين:
ويجاب عن ذلك بما يلي:
1- كون هذه البلاد محاربة أو غير محاربة لا أثر له في حكم هذه العمليات؛ لأنه إن ثبت أنَّها محاربة مقاتلة فينصرف القتال إلى أهل القتال منها، لا إلى عموم أهلها من المقيمين في بلادهم أو بلاد المسلمين بعمليات عشواء لا تفرق بينهم.
2- من المتقرر عند أهل العلم أنَّ الكافر المحارب إن أخذ الأمان من المسلمين ودخل بلادهم فإنه يحرم على المسلمين قتله أو إيذاؤه، وكذا إذا دخل المسلم بلاد الكفار المحاربين بعقد أمان فأنه لا يجوز له نقض هذا العقد والاعتداء عليهم.
ولا يجوز بعد ذلك نقض هذا الأمان، فمن نقضه أو اعتدى على مَن أعطي أماناً فهو خائنٌ آثم، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري، والمعاهد شامل للذمي والمعاهد والمستأمن .
قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: “والمراد به: من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم”.
قال الشافعي في “الأم”: “إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم ..”
وقال ابن قدامة في المغني: “وأما خيانتهم، فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمَّنه إياهم من نفسه… فإذا ثبت هذا، لم تحل له خيانتهم، لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر”.
وقد نص أهل العلم على أن الأمان في الشرع ينعقد بكل ما يفيده لفظًا، أو كتابة، أو عرفًا؛ صريحًا أو كناية، مهما كان ضعيفًا تغليبًا لجانب حقن الدماء، ولم يشترطوا لذلك لفظًا أو صيغة أو طريقة، قال ابن قدامة في “المغني”: “وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ، فهو معلوم في المعنى”.
وقالوا ينعقد الأمان ولو بالإشارة التي يفهم منها ذلك، قال السيوطي في “الأشباه والنظائر”: “أمان الكفار ينعقد بالإشارة: تغليبًا لحقن الدم”.
كما ينعقد بما يفهم منه الكافر أنه أمان ولو لم يقصده المسلم، وينعقد ولو أُعطي خطأ، قال ابن عبد البر في “الاستذكار”: “كل ما اعتبره الحربي أمانًا من كلام أو إشارة أو إذن فهو أمان يجب على جميع المسلمين الوفاء به”…
وقال المرداوي في “الإنصاف”: “قال الإمام أحمد: إذا أُشير إليه بشيء غير الأمان، فظنَّه أمانًا: فهو أمان. وكل شيء يرى العلج أنه أمان: فهو أمان. وقال: إذا اشتراه ليقتله، فلا يقتله؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمَّنه.
قال الشيخ تقي الدين: فهذا يقتضي انعقاده بما يعتقده العلج، وإن لم يقصده المسلم، ولا صدر منه ما يدل عليه”.
ولو كان الأمان غير مكتمل وفيه شبهة فهو أمان، قال ابن تيمية في “الصارم المسلول”: “ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم”.
وعلى هذا كلام أهل العلم، قال الشافعي: في “الأم”: “أنهم إذا أمنوه فهم في أمان منه، ولا نعرف شيئا يروى خلاف هذا”.
3- من صور الأمان المعاصرة من صور الأمان المعاصرة: دخول الكفار لبلاد المسلمين بتأشيرة إقامة أو زيارة، ومثله دخول المسلمين لبلاد الكفار بتأشيرة إقامة أو زيارة أو طلب لجوء، أو كان الدخول مجرد مرور في البلد بوسائل المواصلات كالطائرات والسيارات والقطارات والسفن وغيرها؛ لأن فيها إذن دخول مشروط، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد عقد بينه وبين الكفار أماناً لا يجوز له نقضه.
استدلال وإجابة:
ومع هذا الكلام الواضح لأهل العلم لعقد الأمان بأي طريقة وبأي لفظ قال الظواهري في كتابه “التبرئة” بعد أن عرَّف تأشيرة الدخول من القواميس الأجنبية بما يدل على أنها دول، ومرور، وإقامة مؤقتة ونحو ذلك: “وبهذا يتبين من تعريف التأشيرة، ومن معناها أنها لا تتضمن أية إشارة لأمان”!
ثم يقول: “هل هناك عقد -بين المجاهدين لأمريكا من ناحية، وبينها وبين حلفائها من ناحية أخرى- يفيد هذا المعنى [أي الأمان] لفظاً أو عرفاً؟ أم أن العكس هو الواقع…
فإن قيل إن هذا العقد قام على أساس الاتفاقات الدولية حول التأشيرة والعمل القنصلي وما يتعلق بهما، فالجواب واضح أنَّ هذه الاتفاقات لا تلزمنا…
فإن قيل؛ سلمنا لكم بأن المجاهدين ليسوا في أمان من أمريكا لا لفظاً ولا عرفاً، ولكن المجاهدين -مثل المنفذين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر- دخلوا أمريكا بجوازات ليست للإمارة الإسلامية، ولكن بجوازات مصرية وسعودية ولبنانية وإماراتية، وهذه دول في أمان مع أمريكا، فهذا أيضاً خطأ، فالمسلمون من كل هذه الدول وغيرها في مصائب وكوارث بسبب أمريكا، سواء كانوا في داخلها أو خارجها…إلخ”.
وفي هذا الكلام مغالطات وأخطاء؛ إذ ليس المقصود بعقد الأمان ألا يكون بين المسلمين –جماعة أو دولة- والكفار أمان، أو أن يكون نظام التأشيرة بين بلاد المسلمين والكفار قام على أسس صحيحة شرعًا، لكن المقصود أنَّ من طلب التأشيرة –ولو كانت مزورة أو على جواز ليس بينه وبين تلك الدولة عهود ومواثيق- قد أجابه مانحوا التأشيرة لطلبه المتضمن أمن جانبه وتصرفاته حقيقة وصراحة.
وقد سبق بيان أن الأمان ينعقد بكل ما دل عليه مهما كان ضعيفًا.
قال الشافعي في “الأم”: “إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم ..”
3- دخول بلاد الكفار لادعاء الزيارة، أو الدراسة، أو غير ذلك ثم القيام بهذه العمليات هو من الخيانة والغدر ونقض الأمان، وليس من باب الخداع الجائز في الحرب؛ إذ أن هناك فرقًا بين الخداع الجائز، والغدر المحرم:
فالغدر: نقض العهد دون إعلام الآخر وقبل أن ينقضه الآخر.
أما الخداع: فهي جعل العدو يظن أمراً على غير حقيقته ثم إتيانه من حيث لا يشعر.
قال النووي في “شرحه”: “واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل”.
حادثة قتل كعب بن الأشرف:
قد يستدل بعضهم بقتل كعب بن الأشرف مدعيًا أن الصحابة أمَّنوه ثم قتلوه، وهذا غير صحيح، فليس في حديث قتل كعب أمان ثم غدر؛ بل إنَّ كعبًا نقض عهده مع المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فقال محمد بن مَسْلَمَة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نَعَم، قال ابن مسلمة: فَأْذَنْ لي أن أقول شيئًا [أي خداعًا]، قال: قُلْ، فأتاه ابن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صَدَقة، وإنه قد عنّانا [أرهقنا بما يطلبه من الصدقة]، وإني قد أتيتك أستسلفك… إلى أن اتفق معه على الرهن وفي بقية الحديث قال محمد بن مسلمة: “إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه، فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا، أي أطيب، وقال غير عمرو: قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب، قال عمرو: فقال أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه” رواه البخاري. قال البغوي في “شرح السنة”: “قد ذهب من ضلَّ في رأيه، وزلَّ عن الحق، إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكا، فأبعد الله هذا القائل، وقبَّح رأيه، ذهب عليه معنى الحديث، والتبس عليه طريق الصواب”.
وذكر النووي قول المازري: “إنما قتله كذلك [أي مخادعة]؛ لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبّه  … ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدراً .. وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد -النبي صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته، ولكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان”. وأخرج الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار أنه “: “ذُكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا. فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية، أيُغدَّر عندك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لا تنكر؟! والله لا يُظِلني وإياك سقف بيت أبدًا”.
استدلال وإجابة:
مع ما سبق من كلام أهل العلم أجاز الظواهري في “التبرئة” الغدر بالكفار بعد أخذ الأمان منهم مستدلاً بقصة كعب، معتمدًا على أمور أهمها:
أ / أن ما يدعيه الشخص عند دخول تلك البلاد هو من المعاريض! قال: “وإخواننا لما أخذوا التأشيرات لم يكذبوا، ولكنهم استخدموا المعاريض، فإنهم لم يقولوا لهم أنتم آمنون منا، ثم قتلوهم، ولكنهم قالوا جئنا للدراسة، ومقصدهم دراسة الطيران لقتلكم، وقالوا جئنا للسياحة، وسياحة الأمة المسلمة الجهاد، وقالوا جئنا للتجارة، والجهاد هو التجارة المنجية بنص القرآن” انتهى.
وهذا من التلاعب بالألفاظ التي لا يجعلها جائزة.
ب / استدل بكلام ابن تيمية في أن ما حصل مع كعب نوع من الأمان، لكن جاز للمسلمين أن يقتلوه لأنه بسبه الرسول صلى الله عليه وسلم كان من مستحقي القتل، ولم ينعقد أمانه أصلاً.
وعلى فرض التسليم بكلام ابن تيمية الذي خالف فيه غيره من أهل العلم، فإنَّ ابن تيمية أجاز فعل ذلك فيمن وجب قتلُه بعينه شرعًا، حيث قال: “وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله، ومن حلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا بعهد. كما لو أمّن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَن من وجب قتله لأجل زناه، أو أمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك.
ولا يجوز أن يعقد له عقد عهد، سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حد من الحدود، وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً”.
أما المقتولون بهذه العمليات من عامة الناس فليسوا من أهل القتل ولا القتال أصلاً، والكفار الحربيين يصح أمانهم باتفاق.
وبمثل معنى ما قاله ابن تيمية جاءت فتوى: هل يحاسب المنشق عن النظام على جرائمه السابقة؟
وفتوى: حكم استيفاء الحقوق من الأعداء بعد إعطائهم الأمان.
3- لو قيل بنقض أمان تلك الدول بسبب محاربتها للمسلمين فلا يجوز استهداف أو قتل إلا من كان أهلاً للقتال، لا عامة الناس من سكانها أو حملة جنسياتها كما في هذه العمليات.
4- أن قولهم: إن الأمان الذي تعطيه الحكومات في الدول الإسلامية للكفار المحاربين باطل؛ لأنه صادر عن مرتدين، وأمان المرتد باطل، فهذا كلام مردود؛ لأن عقد الأمان  وهذه العهود لا تبطل بردة الحاكم ولا الحكومة، وإلا لزم من ذلك  بطلان جميع العهود والعقود التي تعقدها (الحكومات المرتدة)  وهذا بيّن البطلان.
بل إن المرتد –إن صحت ردته- يجوز عقد الأمان له عند الحاجة، كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لسفير مسيلمة، وكما يعطي المسلم الأمان للمرتدين في حال القتال لتبادل الأسرى، أو غير ذلك.
وبما أنَّ هؤلاء الكفار يعتقدون أنهم آمنون فيبقى لهؤلاء الكفار شبهة أمانٍ على أقل تقدير لقصدهم الحصول على التأشيرة -ونحوها- وطلبهم لها ثم حصولهم عليها، فهم آمنون بنظرهم، وهذا كافٍ في عصمة دمائهم، وتحريم الاعتداء عليهم كما سبق من كلام أهل العلم.

(8)

خامسًا: قالوا: التفجير بالسفارات جائز؛ لأنها ممثلة لدول كافرة محاربة، وفيها موظفون محاربون للمسلمين.
ويجاب عن ذلك بما يلي:
1- مرَّ سابقًا الحديث عن حكم قتل السفراء، والنهي عن ذلك، وحتى في حال سفيري مسيلمة المرتدين المحاربين الذين جاؤوا للرسول صلى الله عليه وسلم مظهرين كفرهم وردتهم، مخاطبين له بذلك لم يقتلهم وتركهم، وقال: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا) رواه أبو داود، وأحمد؛ وما كان السفراء إلا ممثلين لدولهم.
2- على فرض صحة أن السفارة المقصودة وكر للمؤامرة ضد المسلمين، فتعتبر في جميع الأعراف دولة مستقلة، لا يحق لجماعة ما في بلاد المسلمين أن تتعامل معها كتعامل الدول، فتقتل وتدمر.
3- القتل بالتفجير العام الذي يطال جميع الموظفين والمراجعين والموجودين في السفارات محرم غير جائز، وليس هو من باب التترس في شيء، فإن أضيف إليه إصابة من هو في محيط السفارة من السكان الآمنين فهو أشد تحريمًا.
4- ليس في تفجير هذه السفارات أثر يذكر على دولها، ولو قتل فيها من قتل، بالإضافة إلى العواقب الوخيمة لهذا الفعل، كما سيأتي في الحديث عن المآلات.

(9)

سادسًا: قالوا: التفجير في الشرطة والعساكر في البلاد الإسلامية جائز؛ لأنه قتل للمرتدين.
والإجابة عن ذلك:
أ- هذه الشبهة قائمة على الحكم على بلاد المسلمين بأنها بلاد كفر، وعلى الحكومات في الدول الإسلامية بالكفر بإطلاق، ولا شك أن ذلك من الغلو، ومكان تفصيله في غير هذا الموضع.
ومع ذلك فلو ثبت كفر هذه الحكومات فإنَّ تكفير جنودها وعساكرها لكونهم طائعين لهذه الحكومات فهم مغلوط وغير صحيح، وهو أهم مواضع زلل هذه الجماعات: فليس كل من أطاع الطاغوت أو الحاكم الكافر يكون كافراً، وقد قرر أهل العلم أنّ من أطاع الطاغوت الكافر إنّما يكفر إذا أطاعه في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، مع علمه أنه بدّل دين الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابنُ العربي في أحكام القرآن: “إنّما يكون المؤمنُ بطاعة المشركِ مشركًا إذا أطاعه في اعتقادِه الذي هو محلُّ الكفر والإيمان؛ فإذا أطاعه في الفِعلِ، وعَقْدُه سليمٌ مستمرٌّ على التّوحيد والتّصديق فهو عاصٍ. فافهموا ذلك في كلِّ موضعٍ”. وقال ابنُ تيمية في “الفتاوى”: “هؤلاء الذين اتّخذوا أحبارَهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليلِ ما حرّم اللّهُ، وتحريم ما أحلّ اللّهُ يكونون على وجهين:

أحدهما: أنْ يعلموا أنّهم بدّلوا دينَ اللّه فيتبعوهم على التّبديل، فيَعتقدون تحليلَ ما حرّم اللّه، وتحريمَ ما أحلّ اللّه؛ اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دينَ الرّسل، فهذا كفرٌ، وقد جعله اللّهُ ورسولُه شركًا، وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان مَن اتّبع غيرَه في خلاف الدّين مع علمه أنه خلافُ الدّين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركًا مِثلَ هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريم الحلالِ، وتحليل الحرام ثابتًا، لكنّهم أطاعوهم في معصية اللّه، كما يفعل المسلمُ ما يفعله مِن المعاصي التي يعتقد أنّها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكمُ أمثالهم مِن أهل الذّنوب”.
ب- على فرض التكفير العام بالطاعة فإنه لا يجوز تكفير أعيان هؤلاء الجنود إلا بعد توفر الشروط، وانتفاء الموانع، كما هو معلوم من منهج أهل السنة.
ج- التعامل مع (الحاكم المرتد) وأنصاره لا بد فيه من شروط –وليس ذلك مراعاة له- بل لمصلحة المجتمع المسلم؛ لذا اشترط أهل العلم للخروج بالسلاح على الحاكم المرتد الاستطاعة، وحصول المصلحة من ذلك.
قال ابن تيمية في “منهاج السنة”: “الحكمة التي راعاها الشارع – صلى الله عليه وسلم – في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما.
لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه، صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا”.
وقال ابن القيم في “إعلام الموقعين”: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر… ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء”.
والخروج على الحاكم المرتد بعد توفر الشروط لا يكون بمثل هذه العمليات التي لا أثر لها على الحكومات، ولا تؤدي إلى عزل الحاكم ولا تغيير نظام الحكم، ولو قتل فيها من قتل، فكيف وهي لا يقتل بها إلا صغار العساكر فحسب وكثير من عامة المسلمين؟ وتاريخها شاهد منذ عشرات السنين.

(10)

سابعًا: قالوا: في هذه العمليات نكاية بالأعداء، والنكاية من الجهاد في سبيل الله، ولا يشترط فيها تحقيق كامل المقصد من هزيمتهم، بل رفع راية الجهاد فحسب، والإجابة عن ذلك:
في هذه الشبهة مغالطة كبيرة، والحاصل هو عكس ذلك تمامًا، وبيان ذلك في النقاط التالية:
1- ليس المقصود بالقدرة على نكاية بالعدو مجرد الفعل من تفجير أو قتل، فهذا يحسنه الكثيرون، بل المقصود ترتب المقاصد الشرعية على الفعل، وهذه الجماعات تغفل شرطي الاستطاعة واعتبار المآلات مع أنهما شرطان مهمَّان دلت عليهما الأدلة والقواعد الشرعية، وذكرهما أهل العلم في العديد مِن المواضع، وخاصة في باب السّياسة الشّرعية.
ففي الاستطاعة قال ابن تيمية في “منهاج السنة”: “فالشّارع لا ينظر في الاستطاعة الشّرعية إلى مجرّد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعلُ ممكنًا مع المفسدة الرّاجحة لم تكن هذه استطاعةً شرعيّةً، كالذي يقدر أن يحج مع ضررٍ يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلّي قائمًا مع زيادة مرضه، أو يصوم الشّهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك”. وفي المآلات قال الشاطبي في “الموافقات”: “النّظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعًا كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفةً، وذلك أنّ المجتهد لا يَحكم على فعلٍ مِن الأفعال الصّادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعلُ مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ”.
والنظر لمآل هذه العمليات في البلدان الإسلامية والغربية لا يرى إلا الدمار والخراب والقتل المجرد، ثم لا تلبث أن تعود على المسلمين بأبشع الآثار والنتائج من قتل، وإسقاط دول، واحتلال أخرى، وحصار، وتضييق على الأعمال الدعوية، والخيرية، وهذه العمليات لا بد من النظر في مآلاتها وعواقبها، وما تجرّه على المسلمين مِن ويلاتٍ ودمارٍ، ولا يكفي فيها زعم الصّدعِ بكلمة الحقِّ، أو الجهاد، وسيأتي مزيد تفصيلٍ لها. بل ربّما كانت بعض تلك الدول محتاجة إلى مثل هذه الأعمال لتحقيق بعض مآربها، وإنفاذ بعض سياساتها، فتغض الطرف عن المنفذين وتحركاتهم حتى تقدم لهم هذه الأعمال لها مطلوبها.. كما هو مشاهد.
2- أما الاستدلال على مشروعية القيام بأمثال هذه العمليات بأنَّ الشخص قد قام بالمطلوب منه وهو الإثخان في العدو أو التسبب بخسارتهم، وإن لم تكن النتائج كاملة، فهذا كلام باطلٌ شرعًا، وغير صحيح واقعًا، وقائله جاهل بأصول الجهاد، والسياسة الشرعية؛ فالجهاد وأحكامه ومآلاته لا تعلق لها بشخص المقاتل فحسب، بل بسائر المسلمين.
3- الأوامر الشرعية مرتبطة بمصالحها ومقاصدها؛ فمتى ما حققت المصالح المرجوة منها كانت مشروعة، وإلا فهي غير مشروعة، قال الشاطبي في “الموافقات”: “ما ثبت أن الأحكام شُرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبيّن، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والمصلحة مخالفة: فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة [لأنفسها]، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع؛ فليس على وضع المشروعات”.
والقتال من ذلك؛ فإذا ترتب على القتال مفاسد أكبر من المصالح المتوقعة منه، أو أنه تسبب بضياع مصالح أعلى، فيكون القتال حينها ممنوعًا، ومن أقوال أهل العلم في ذلك: قول ابن حجر في “فتح الباري”:” وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرّح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين”. وقال الصاوي في “حاشيته”: “الجواز المذكور [أي جواز إقدام الرجل المسلم على كثير من الكفار] بشرطين: أحدهما: قصد نصر دين الله بأن لا يكون قصده إظهار شجاعة ولا طمعًا في غنيمة، ثانيهما: أن يعلم أو يغلب على ظنه نكايته لهم، وإلا لم يجز، وإن مات يكون عاصياً وإن كان شهيداً ظاهراً”. وقال العز بن عبد السلام في ” قواعد الأحكام”: “فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة”.
4- الناظر لمآلات هذه العمليات ونتائجها، يرى أنَّ الجماعات تقوم بالعمليات منذ عشرات السنين ولم يترتب عليها إلا كل مفسدةٍ ومضرة، وكل ما تذكره هذه الجماعات عن النكاية في الأعداء غير صحيح، فمن مصر إلى الجزائر إلى أوربا والعديد من الدول الإسلامية ثم أمريكا: لم يترتب عليها سقوط دولة، ولا دفع احتلال عن المسلمين، ولا هزيمة جيش، بل جاءت بعكس ذلك تمامًا. فغالب من قتل في هذه العمليات من الكفار من غير المقاتلين الذين لا يجوز استهدافهم، ولا أثر على دولهم من قتلهم ولا قتل أضعافهم، بل قد يضحون ببعض أبنائهم ومواطنيهم لأجل أهدافٍ أعلى وأكبر، كحادثة مقتل السفير الأمريكي في باكستان.
كما أن غالب القتلى في بلاد المسلمين كانوا من غير المقاتلين، بل من الآمنين من المسلمين وغيرهم، كما هو في العراق والسعودية مثلاً، ففي العراق انتهجت (دولة العراق الإسلامية) التفجير في حسينيات الشيعة، وأسواقهم، وتجمعاتهم الدينية، كما ذكر ذلك الظواهري في مراسلاته مع أبي بكر البغدادي، بالإضافة للقتلى في صفوف أهل السنة (تترسًا) بذريعة قتل (المرتدي) من الشرطة والصحوات. وفي السعودية سقط في التفجيرات أكثر من 250 ضحية، حوالي 50 منهم فقط من الكفار، والبقية مسلمون قتلوا تترسًا!
ولو فرضنا أنه حصل في هذه العمليات قتل بضع مئات من الأعداء فإن ما قتل من المسلمين في مقابلهم عشرات أضعافهم، واحتلت بلادهم ودمرت، وانتهكت أعراضهم، وهجرت ملايين منهم، وحدثت تغييرات على الأرض لصالح المحتلين، ولا يمكن لعاقل أن يقارن بين هاتين الخسارتين.
فتفجيرات 11 أيلول / سبتمبر مثلاً جرَّت على المسلمين إسقاط إمارة طالبان، واحتلال أفغانستان، والعراق، وتسلّط الرافضة والتمكين لهم مكافأة لهم على تواطئهم مع الأعداء، وإن كان قد قتل في هذه الهجمات قرابة 3000 شخص، فقد قامت قوات التحالف في عملية واحدة بقتل 3000 أسير من الطالبان عبر جمعهم في حاويات كبيرة أثناء نقلهم عبر الصحراء، وإطلاق النار عليهم، فماتوا نزيفًا، وعطشًا بعد ثلاثة أيام، فيما عرف بقافلة الموت.. وكان أشدّ آثار هذه العمليات ما جرته من وبالٍ على المسلمين دينيًا، ودعويًا، وماليًا، فقد حوصرت الدعوة إلى الله، وأغلقت عشرات المؤسسات الدعوية في الدول الغربية والإسلامية، والإعلامية، والإغاثية، ونُحي مئات الدعاة والعلماء عن مراكز التعليم والتأثير في المجتمعات، وغُيرت المناهج التعليمية في الكثير من البلدان، وتسلط التغريب والإفساد على تلك البلاد، مما أثر على أجيال كاملة بعشرات الملايين.
كما أثرت هذه العمليات على عامة الناس؛ حيث إن أفعال هذه الجماعات زهَّدت الناس في الدين والشرع؛ لذا فإنَّ لا يخفى على الباحث والمراقب، بل عامة الناس ظهور موجات البعد عن الدين، بل الإلحاد في المجتمعات التي مرت بتجارب هذه الجماعات.
وقد استغل أعداء الدين هذه العمليات لتشويه الدين، والطعن فيه بكافة الوسائل، واستغل موجة السخط من عامة الناس لتقديم البدائل العلمانية أو المحلدة للمجتمعات.
5- بدعة استجلاب الأعداء:
مِن أخطر آثار هذه العمليات بدعة أشدّ خطرًا منها، وأعظم جرمًا، وهي دعوى القيام بهذه العمليات لاستجلاب الأعداء لبلاد المسلمين لقتالهم وإنزال الخسارة بهم، كما يزعمون. وعلى الرغم من فشل هذه الطريقة في القتال، وظهور عدم جدواها في العديد من التجارب، إلا أنها محرمة شرعًا، بل هي من أعظم المخالفات الشّرعية، والكوارث التي يمكن أن تحل ببلاد المسلمين، وذلك لما يلي:
أ/ جلب الحرب والخراب لبلاد المسلمين، مخالفة للأمر الشرعي الصريح الواضح بالدفاع عن بلاد المسلمين، وتجنيبها الأعداء، وقد بذل النبي للدفاع عن المدينة جهده تارة بالخروج للقتال، وتارة بحفر الخندق، وتارة بعقد الهدن والمصالحات، فاستجلابُ الكفّار يتضمّن تسليطهم على رقاب المسلمين بالقتل، وعلى أموالهم بالنهب، وعلى أعراضهم بالهتك، وعلى بلادهم بالتّدمير، ثمّ تكون المعركة أكبر مِن أولئك الأغرار فينحازون إلى الجبال والكهوف أو يهربون إلى بلادٍ أخرى، ويتركون المسلمين لمصيرهم! مع سلامةِ بلاد الكفار مِن كوارث هذه الحروب.
ب/مخالفة الأمر النبوي في عدم استجلاب الحرب ودفعها:
– قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيّها النّاسُ، لا تتمنّوا لقاء العدوّ ، وسَلوا الله العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبروا) رواه البخاري، ومسلم.
قال المازري في “المعلم بفوائد مسلم”: “المراد بهذا أي لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يُذهب الأنفس والأموال أو يُدرَك منه ضررٌ” .
– وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمنٍ أنْ يذلَ نفسَه، قالوا : وكيف يذلُ نفسَه؟ قال : يتعرّض مِن البلاء لما لا يطيق) أخرجه الترمذي، وغيره.
وليس هناك أعظم من تعريض البلاد بأهلها، ودينها، وأخلاقها، وخيراتها للعدو المحتل الغاصب، كيف وقد عُدَّت أزمنة الاحتلال الصليبي لبلاد المسلمين، ثم الاستعمار الحديث من أعظم البلايا التي نزلت بالمسلمين؟
وإذا كانت هذه الجماعات تشدد على أنَّ إعانة الكافرِ على المسلمِ بأي إعانة كفرٌ أكبر مخرجٌ من الملة، فكيف بتسليط الكفار على المسلمين، وتمكينهم من أرضهم، وتعريضهم للقتل، وانتهاك الأعراض، وضياع الثروات، وتغييرِ هويةِ البلاد؟ لا شك أنَّ ذلك أشدّ مِن مجرد إعانة الكفار على المسلمين!
وبالنظر لكل ما سبق فإنَّه لا يسع إلا الأخذ بما قررته الأصول العامة في الشريعة الإسلامية من (درء المفاسد مقدَمٌ على جلب المصالح) على فرض أنَّ في هذه العلميات مصالح، وبما قرره أهل العلم أنه ‏”ليس ‏كلُّ سببٍ نال به الإنسان حاجتَه يكون مشروعًا ولا مباحًا، وإنما يكون مشروعًا ‏إذا غلبت ‏مصلحته على مفسدته ممَّا أَذِن فيه الشرعُ”.‏ ولو لم يكن في هذه العمليات إلا عدم الاحتراز من استهداف مَن لا يجوز قتله، فهي محرمة لدخولها في قول الرسول ‏صلى الله عليه وسلم:(مَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، ‏يَضْرِبُ بَرّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَ مِنْ ‏مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا؛ فَلَيْسَ مِنِّي) رواه مسلم‏.‏
بالإضافة إلى أنَّ فيها انتهاكًا لممتلكات محترمة شرعًا -كليّا أو جزئيّا- تعود ‏لمعصومين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ‏كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا) متفق عليه.‏

*                  *                    *

اجتهادٌ وتجربة!
على الرغم من وضوح الحكم الشرعي في هذه المسألة، وتكرر فشلها مراتٍ ومرات، وترتب الكثير من الضحايا والخراب في بلاد المسلمين عبر عشرات السنين، إلا أن المصيبة أن تعتبر هذه الجرائم من قبيل الاجتهاد في الجهاد الذي ينال فاعله الأجر، ولا يحق لأحد نقده أو الاعتراض عليه لأنه مجاهد مجتهد قد أدى ما عليه. قال الظواهري معلقًا على الانتقادات التي توجه لأمثال هذه العمليات وأضرارها: “ونحن في جماعة قاعدة الجهاد لا نهدف للاقتتال الداخلي. نحن نهدف لطرد الغزاة من بلاد المسلمين وإقامة الدولة المسلمة، وخطتنا العملية -حسب ما أدانا إليه اجتهادنا-قد أعلنا عنها مراراً وتكراراً:
(أ) ضرب الأهداف الصليبية والصهيونية.
(ب) السعي الجاد لتغيير هذه الأنظمة الفاسدة وإقامة النظام الإسلامي”.
ومن أمثلة الاجتهادات الخاطئة التي كلفت الأمة الكثير:
1 / أنه وبعد سنوات من العمليات التي أرهقت المجتمع المصري وأفسدت فيه، خرج العديد من قادات جماعات (الجهاد) إلى أفغانستان وغيرها بعد فشل التجربة، وتراجع آخرون في السجن بما عرف باسم المراجعات.
2 / تراجع عمر محمد عثمان (أبو قتادة) عن تأييد الجماعة الإسلامية في الجزائر (الجيا) بعد أن ظهر للعالم إجرامها، واستغلال النظام لها بالاختراق، وتنفيذ أعمال وحشية في حق المعارضين لها من الصف الإسلامي عمومًا.
3 / خروج (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) من السعودية بعد سنوات ثقيلة من الدمار والقتل، وإغلاق باب التجربة والانتقال إلى اليمن.
وهكذا أصبحت الشعوب الإسلامية ودينها ودماؤها وبلادها ساحة تجارب لمشاريع فاشلة، دفعت الأمة لها ثمنًا باهظًا وما زالت.
نسأل الله تعالى أن ينجينا من الفتن.

والحمد لله رب العالمين