القومية ودورها في تفكيك وَحدة الأمة الإسلامية
نوفمبر 4, 2019
مفهوم التغيير عند الإمام عبد السلام ياسين
نوفمبر 4, 2019

العدوان الثلاثي على الوعي

د. عبد الجواد حردان

مدرس أصول الفقه في جامعة صوتجو إمام -كهرمان مرعش

من إنصافنا للوعي الجَمعيِّ والشخصيِّ كشفُ ماهيةِ العادِيَاتِ المُغيْرَاتِ على بنْيَتِه وتشخيصُها وتعزيزُ ما في الوعي مِن مناعةٍ مقاومةٍ وأخرى طاردة لها، ولعلِّي لا أُبعِدُ في النُّجعة إنْ زعمتُ أن من تلك العادِيَات الغلوَّ أو الإيغالَ في الحكم على الأشياء والأحداث والمواقف والأشخاص والتاريخ، وكذا المبالغة في المآلات وفي سدِّ الذَّرائع وفتحها وفي تقديرِ المصالح وعواملِ جلبها وفي حدْسِ المفاسد ومعاولِ دفعها وقِلاع درْئِها؛ فهذا الغلوُّ عاملٌ مؤثِّرٌ في جملةِ عوامل كوَّنتِ المتتاليةَ التي شكلت أزمةَ التيهِ لدى الشباب، بل أزعم أنه أحدُ الحِراب المسمومة في العدوان الثلاثي على وعي هذا الجيل.

كم وكم في المبالغات الغالية وتصوُّراتها وأحكامها المرسَلة المطلقة من مخدِّراتٍ للهمَّة وخلودٍ للرَّاحة وخداعٍ لِلذَّات وركونٍ لِلَّذَّات، أو جلدٍ للنفس وجليدٍ للمروءة والنخوة! نعم إنَّ فيها مفجراتٍ للطاقة لكنَّها تصوِّر الأوهام حقائق، وتجترُّ أحداثَ التاريخ لتتخذ منها واقعيةً مفترضة ووقائع ماثلة تورد الشباب المهالك، وتكدِّس في ذاكرتهم ضغثًا من أحلامٍ لا يَزَعُها عقلٌ ولا ضمير، ولا تهتدي بشريعة ولا قانون، ولا تبلغُ كُنهَها ريشةُ أعرق الرسَّامين والفنَّانين لتصوير عقدةِ خَبَالِها وحدْس حبكةِ أساطيرها، وما تزال توغل في نقش هذه الأحلام على قلوب الناشئة حتى تمسخ عقولهم؛ فيغدو قلب الفتى قنبلةً موقَدة بعاطفة لا يسوسها عقل، فإذا ما انقشعت ظلمات الوهم ارتدَّ على عقبيه، فاستبدل بقلبه المفعم بالعاطفة المتقد بالحماس نفسًا تكاثَرُ أَنْفُسًا تتوهج رغباتها وتنفجر بأهوائها، وعقلًا ينكر الغيب ولا يؤمن إلا بالمادَّة وعطائها، ولما كان السبب كالفاعل فلا ريب أن شيئًا من هذه الردة يحمل وزرَها قتلةُ العقولِ أربابُ المبالغات الموقدِون لنار عواطف مؤصدة بأوهامِ أخيلةٍ في عمدِ عِهْنٍ منفوشٍ ممدَّدةٍ، قاعدتُهَا فتحُ الشام وذروتُها فضاءاتٌ باقيةٌ وتتمدَّد حتى تحرر القدسَ والأندلسَ بأسياف خشبيةٍ وخطط خُلَّبيَّة، علمًا أني لا أشكُّ بأنَّ من أعدموا مشاعر الجيل وغيَّبوا أثر الإيمان والعاطفة في حياته بمحاكمات عقلية صِرْفةٍ ليسوا بأقل وزرًا ممن صرفوا أنظار أولئك الناشئة عن الواقع أو الحقيقة، فأعموا أبصارهم بمفاهيم خاطئة متولدة من نظريات زائفة قائمة على تزوير وأحابيل وأكاذيب مغْرِقة في التضليل كما الأساطير، وخرجوا عليهم في زينتهم الحضارية ببريقٍ يسحر الأعين ويذهب بالأبصار؛ كما أنهم ليسوا بأهون شرًّا ممن قتلوا العقول بنماذج متخمة بالمثالية المجافية للواقع أو بعواطف جياشة تؤجِّجها أخبار وملاحم وقصص ونوادر تفرَّقت أسبابُ ورودِها وتواريخُ حدوثها على مدى قرون، فحشدوها لهم في سياقٍ وموقفٍ واحد، إنَّ أقلَّ صنائع هؤلاء وأَدْنى مُخرجاتها تخريجُ أفرادٍ حقيق بكلٍّ منهم أن يكون دونكيشوت عصره.

 

المبحث الأول: العدوان الثلاثي مفهومُهُ وعلائقُهُ

للعدوانِ الثلاثيِّ ماصدقَاتٌ، وله جيناتٌ تنقل العدوى وتعزز عدوانيتها وتولِّد من الأمراض الحميدة أخرى خبيثة، وإنها لَتُمسي أشدَّ فتكًا إذا تلاقحت بأخرى تحمل عواملَ ضارية تزيدها عدوانيةً وافتراسًا، وإليك تحليلًا عضويًّا لهذا التفاعل:

المطلب الأول: ثلاثية العدوان

أمَّا ثلاثية العدوان فأعني بها:

أولًا: دعوَى الاستحالة في الممكنات، وتمكينها في نفوس النَّشءِ حتى لكأنها من المسلَّمات، وهدفها التيئيس واليأس أي التعجيز وإثبات العجز؛ ليتشرّبَ هذا الجيل نظرية المؤامرة، ويسلِّمَ بالهزيمة أمام النفس وشهواتها القسرية كما يُخيَّل إليه، ويوقن أنَّ ما كان وما زال ممكنًا لغيرِنا غدا مستحيلًا علينا، وهو عجزٌ متولد من قناعات أفرزَتْها عواملُ عدة، منها تصوير المبالغات للممكنات على أنها من المستحيلات عادةً وَأْدًا للهمَّةِ وللثِّقةِ بالنفس مِن قَبْل أن تستهلَّ صارخةً.

ثانيًا: دعوَى الإمكان في المستحيلات عادةً في ظرفٍ أو مكان أو زمان أو حالٍ ما، وتلغيم المستقبل بقنابل الوهم لإرغام الغَارِّين على مغامرات انتحارية ناجمة عن تضليل المبالغات وما تبثه من أوهامٍ، والمقصود بالتضليل تصوير المبالغات لجملةٍ من المستحيلات على أنها عادةً من الممكنات، كل ذلك من خلال تزييف الوعي واستثمار ترَّهات هذا الوعي الزائف سعيًا إلى تخدير الجيل بضربتين: الأولى خارجيةٌ تقذف في العقول الوهن بما فيها من تعظيمٍ غالٍ لأثرِ قُوَى الروح والمعنى والمعتقد والقيم والمبادئ، والأخرى جاهليةٌ تهوِّن من شأن قوة العلم التجريبي والإعداد والتكوين وكأنها تنكر أنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأنَّ الذي سلَّط الأعداءَ أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليس لهم إلى ذاكَ التهوين من سبيلٍ سوى التلبيس واغتيال الوعي زعمًا بأنَّ القوة هي الإيمان وحده، وكأني بهم يقاتلون عدوَّهم بصدور عارية وبالورود وأغصان الزيتون، ناهيك عن أنَّ دعواهم امتلاكهم لسلاح الإيمان وحدَهم هي نفسُها محلُّ نزاعٍ، لا سيما أنَّ تصورهم للإيمان في عزلةٍ عن مقتضياته وآثاره ومخرجاته والتكاليف الأخرى الدالة عليه ينقضُ عليهم دعواهم التسلُّحَ به، وأنَّ إيمان أهل الباطل بباطلهم له أثرٌ لا يُنكَر بل إنَّ منهم من يستمسك بعرى باطله أشد من استمساك أهل الحقِّ بحقِّهم، وليس وراء استواء كفتي الإيمان إلا استفراغ الوسع في الإعداد المادِّي والمعنوي، العلمي التجريبي وصنوِهِ النظريِّ بأجنحته الثلاثة: الإنسانية والاجتماعيّة والتنظيرية.

ثالثًا: صدارة نماذج مصطنعةٍ أَمْكَنَتِ المستحيلاتِ وهمًا وإيهامًا أو مكْرًا وخديعةً، وشيَّدت عالَمًا من الأساطير عُمْدَتُه وَعَمَدُهُ فراخُ تلك الدِّيكةِ وقوائمُها الغضة وأجنحتُها المتكسِّرة؛ فأعملت عوالمُ الأوهامِ مبضعَها في بنية الوعي مسخًا وسلخًا واستنساخًا؛ المسخ لجوهره، والسلخ لإهابه، ثم الاستنساخُ لنماذج زائفةٍ خدَّاعة ستأتي على الجوهر والمظهر واليابس والأخضر، أو لنماذج تاريخيةٍ حقيقيةٍ جذَّابةٍ لكن كانت لها -من البذور والجذور إلى أن آتت أكلها- بيئةٌ وزمانٌ وقِوامٌ ومُدخلات وعمليَّات وتفاعلات لن يتحقق منها شيءٌ اليومَ إلا إن دار زمن القرن الحادي والعشرين دوْرَات؛ ليجدِّف بكواكبه وجنِّه وإنسه وأرضه وسمائه رأسًا على عقب وهو يرجع القهقرى نحو ذلك الماضي التليد العريق، فمَن تكلَّف إسقاط نصوصٍ دينية أو نماذج تاريخية على شخصيات عصريَّة أو على وقائع تحدث اليوم دونَما تخريجٍ لمناطها وتنقيح وتحقيقٍ، وبلا شواهد ولا سياق ولا طِباق، فقد أطبق على آخر رمق في وعي هذا الجيل بجهلِه المُطبقِ في فقه النص والواقع، وليس عنه ببعيد ذاك الذي ينتزع نصوصًا أو مشاهد من سياقها وبيئتها وزمانها ليطابق بينها وبين نوازل ومستجدات يتعطش العامة لفهم أسبابها وعواملها ونتائجها، فهذا ضرب مستحدث من الوضع يذكِّر بالقصاصين الوضَّاعين وبغاياتهم الوضيعة، وهو في تزييفه للوعي ليس ببعيد عن نمطِ الوضعِ الشائعِ بين العامَّة في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، وإن أرهبَك وضَّاعو الوثَّابِ مثلًا بأَنَّك إن لم تشاركهم جريرتهم فستلقى حتفك أو يهلك مالك وولدك أو يحل بك ما لا يعلمه إلا دجَّالو عصر تقنيات القرن الحادي والعشرين، فقد يُرغمك أولئك على الركوب معهم زاعمين أنك إن لم تركب غرِقْت وحملت وزرَ غرق سفينة الإسلام إن كانت الكرَّة عليهم في ذاك السِّجال.

المطلب الثاني: بين الغلو والعدوان الثلاثيِّ

إليك شيئًا من البيان لتفسيرِ علاقة الغلو في المبالغات وإطلاق الأحكام بالعدوان الثلاثي:

أ_ انفردت المبالغاتُ الغالية بصناعةِ أوسطِ الأعمدة في خيمة الوعي، لقد صنعَتْها مِنْ أحلام الفروسية الدونكيشوتية وأوهامها، مستغلَّةً جيلًا آذانُه متخمةٌ بأخبار الفروسية وعيونُه جائعةٌ ما رأت فارسًا قطُّ.

ب_ وزعمتْ تلك المبالغات أيضًا أن بعض المستحيلات عادةً غدتْ من الممكنات، فأوردت الشعوب في هذا العقدِ مهالكَ ليالٍ مظلمةٍ وغاباتِ تيهٍ مهلكة على غِرار معركة دون كيشوت وطواحين الهواء وغبار المواشي، وطارت بالعامَّة والمستضعفين بأجنحة الحماس، وغفلت أو أغفلت التاريخَ وطبائعَ الاستبداد والسُّننَ الاجتماعية وشروطَ سنة التغيير ودراسةَ الجدوَى وتغوُّلَ العالَم المادي اليوم وتأهبَه للانقضاض على أية صحوةٍ قد تهدِّد أو تمسُّ كيانه أو لا تسير في رِكابه.

ج_ وعَكَسَت مغالاةُ المبالغات وإطلاقُ الأحكام الأمرَ، فبثت سموم اليأس لما صورت الممكناتِ مستحيلاتٍ. وستبقى كذلك ما دامت عقبات الأوهام التي أرسَتْها تلك المبالغاتُ حجابًا يحول دون رؤيةِ الأذهان لأي أمرٍ على حقيقته، ثم ولَّدَ اليأسُ لدى الشباب كلَّ ما ترى من عجائب الدهر وكبائر العصر في القرن الحادي والعشرين.

وأمَّا ثنائية العدوان على حصون شبابنا من داخلها فتلك ثنائية لها بحثٌ آخر مغايرٌ لموضوع البحث، لكن تجب الإشارة إليها لئلا يوهم السكوت عنها خلاف المراد من هذا البحث، وتلك الثنائية هي:

1_ سذاجة فريق من الشباب الغارِّين أو جهالتهم أو جاهليتهم أو غيبوبتهم أو انخداعهم.

2_ وجمود فئةٍ من قادتهم أو خداعهم لهم أو حماقتهم أو قصورهم أو قصر نظرهم، أو تجهيلهم للناشئة أو تعطيلهم لعقولهم بإدمان اللهو والعبث والترف وتغييب الهدف، أو قتلهم لمواهبهم وطاقاتهم بحرمانهم من أدنى مقومات الحياة ومن تلبية الغرائز الجبلية ليشغلوهم بما رخُصَ وهان عما يكون أو قد كان.

 

المبحث الثاني: العدوانُ الثلاثيّ على الوعي الفرديِّ والجَمْعيِّ

سيقتصر هذا المبحث على دراسة غلو المبالغات وإيغال أحكامها وتصوُّراتها للوقوف على مدى تأثير هذا الغلوِّ على وعي الفرد والمجتمعِ بصفتِهِ غائلةً وسهمًا مسمومًا من سهام العدوان الثلاثي وغوائله.

المطلب الأول: العدوان الثقافي على الوعي الجمعي

جليٌّ أنَّ هذه المشكلة ليستْ حديثةً في بابها، وإنما الجديد هو قياسُ مدى تأثيرِها في الوعي الفرديِّ والجمعيِّ وفقًا لنتائج الدراسة الميدانية؛ فالمغالاة في المبالغةِ وإطلاق الأحكامِ قديمةٌ قِدَمَ اللغات وما فيها من مجاز وألقاب وصفات، كثيرةٌ أنواعُها وأمثلتُها في حياة الأمم عبرَ تاريخها كثرةَ الصفاتِ وأضدادها والأرقامِ وجموعِها، وهي متجذِّرةٌ في خلايا الناس مُغرقةٌ في ثقافتهم إغراقَ النفس الإنسانية في ميولِها وجنوحها ورغباتِها وطموحاتها وظنونِها ساذجها أو خبيثها، وفي دعاويها العريضة وغرامها بأساطير الحبِّ وملاحم الكره أو بطقوسِ التقديس والولاء والانتماء أو بحروبِ الكراهية والتمرد والعصيان، إنها لظاهرةٌ غنيةٌ عن الرصدِ والإحصاء، ما زال الأجدادُ يورِّثونها للأحفاد، تسودها ثقافة التهويلِ والهوسِ بالتعميمِ والغلوِّ في نُطُقٍ عدَّة ضُربت عليها سبعُ عقدٍ لك أن تطلق عليها “سُباعيَّة عِلَلِ الثقافة العامَّة”:

1_ الإفراط، ومنه القدحُ والمدح، والهدمُ والنقضُ والطعن، ومنابرُ الإعلام والفكر والنقد، وتأويلُ النصوص ومدلول الكلام، وتكبيرُ الصغائر وتصغيرُ الكبائر وإطلاقُ الأحكام حتى أودت المعارضة والولاءُ لأمرٍ ما إلى خصومةٍ وبغضاء جعلت المسلمَ أشدَّ عداوةً لأخيه من عداوته لعبَدَةِ النارِ والصليبِ واللات.

2_ تَبَعِيَّة سانشو، ومنها سادِيَّةُ السادات ونرجسيةُ الذَّات ومازوخيتُها، وتِيْهُ النَّفْعِيين والرَّعاعِ الهمَجِ أَتبَاعِ كلِّ ناعق في عبوديِّتِهم للمستبدِّين والفراعنة والْمِثالِيين، وتقديس العادات والأهواء والنَّزَواتِ في لَبوسٍ من الثقافاتِ والحضاراتِ والمذاهبِ والأفكارِ والمشاربِ والمشاعرِ.

3_ اختلالُ الموازين، ومنه تقديرُ الأمورِ والمصالحِ والمفاسدِ والحقوقِ والمظالمِ، وحَدْسُ الأزمنةِ والأوقاتِ، وتجاهلُ الواجباتِ والأولويات، وتضليل الجيل في تأخير ما حقه التقديم وتقديم ما حقه التأخير للتنصل من المسؤوليات، وفرضُ المثاليات في تجاهلٍ مُذهِلٍ للممكناتِ والمستحيلاتِ والطاقاتِ والقابلياتِ والثوابتِ والمتغيراتِ.

4_ الدونكيشوتية، ومنها تخمينُ حجمِ المشكلات والقدرات والطاقات والمشاق والعقبات والحلول والقطع بما سيكون في إصرارٍ على النهجِ ذاته وإلحافٍ في السير عليه دون اعتبار بما قد كان، وكذلك إحلالُ اليقين محل الظنون في مكابرةٍ ومعاندةٍ لما تراه كل العيون من أشباهٍ ونظائر تكررت وأسبابٍ وعوامل تحققت، وكل منها يقطع بخلاف ما يؤملون ويقطعون.

5_ الاندفاعية والمظلوميَّة، ومنها أبعادُ القدرةِ على التغيير وآمادها ومَدَدُها ومِدادها، والمواقفُ أو المشاعرُ الإيجابية والسلبية، وردودُ الأفعال الفردية والجماعية وانعكاساتُها في كل حالٍ تُستثار فيه نوازع النفس البشرية لا سيما وقتَ الفرحِ والغضبِ والنزاعِ وتحولاتِ الأفراد الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعيَّة والانتمائية.

7_ غُلَوَاءُ الوَلاء والبراء، ومنها الإطراء والتعظيمُ والتقديس والتحقير، ومقاماتُ الوداد وميادينُ العداء، والإطلاقُ والتعميم المغرق في الحكم على الأعداء، وهكذا بل أشدُّ مِن هذا أحكامُ أطرافِ المنافسة أو النزاع الفكري أو المذهبي أو العَقدي أو السياسي أو الاجتماعي أو المهني أو التخصصي أو غيرها من المجالات.

إنَّ مردَّ الخشية من إجهاز سُباعية العلل الثقافية على الوعي يكمن في قوة التأثيرِ وسرعة التأثُّرِ، وهذا عادةً يقتضي قيام علاقة بين طرفين أحدُهما فاعلٌ مرسِل والآخر منفعل مستقبِل، ولا تتخلف هذه الفرضية إلا في عدوَى الجماهير عندما ينماث الفردُ في الجماعة كما في المظاهرات الشعبية، فيغدو فاعلًا منفعلًا مرسلًا مستقبلًا معًا.

هذا ولعل منابرَ العلم والإعلام أشدُّ تأثيرًا في بنية الوعي وأقوى أثرًا وأبقى، وجلُّها -إن لم نقل كلها- بيد الغزاةِ وعمَّالِهم الطُّغاةِ المستبدين؛ فكم وكم من أُمَّةٍ قد احتُلَّتِ ثُمَّ تحررَّت ونهضت لكن حالَ أمَّتِنا يشهدُ أنَّ غزو الوعي والفكر واللغة أبلغُ وأنكَى، فهيهات هيهات أن نتحرر ما دامت عقول أبنائنا ترزح في أغلال أولئك الغزاة والطُّغاة!

المطلب الثاني: الوعي مِن منابرِ التعليم إلى الناشئين

إنَّ الانحراف في ريشة الكاتب وكلمة المثقف المشهور ليطير بمبالغاته عبر الأثير والشبكة، فلا تدع كلماته قلبًا أو أذنًا أو عقلًا غُفْلًا إلا غزته، ومن يدري ما يفعل توالي أمثال تلك المبالغات في وعي أناس غارِّين أو غُرٍّ أو مغرورين منخدعين أو آخرين مثقفين لكنهم غير مختصين ولا يملكون ما يكشفون به زيف الكَلِمِ من جواهره؟!

هذا وكلّما طرحت قضية تخلف أمتنا عن ركب الحضارة في مؤتمرٍ تخصصي أو محفل علمي أو مناقشة رسالةٍ جامعيةٍ تجد الأساتذة المناقشين لا يكادون يعثرون في اللغات على ما يصف قتامة ما نحن فيه وسوداويته، ولكنهم يغفلون عما تفعله مبالغاتهم في تقييم الأبحاث والرسائل وتقويمهم لها، ويتجاهلون أثر هذه المبالغات والحماس والحفلات الوهمية أثناء المناقشة على تخلفنا الحضاريِّ وعلى وعيِ ناشئةٍ لا همَّ لهم إلا استحصال الألقاب الفارهة بالدعاوى الفارغة كما يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

وللكشف عن جوهر مشكلة المنابر العلمية ومدى إضرارها بالوعي إليك واقعةً كنت عليها من الشاهدين:

في مؤتمر عن تطوير مناهج تعليم العربية للناطقين بغيرها عام 2018م رأيت أستاذًا جامعيًّا عربيًّا متخصصًا في المناهج يجود بالثناء على أبحاث في المؤتمر، لقد كان كالبحر يكيل المديح بلا عدٍّ ولا حساب، بل طابت له المبالغة لِما رأى من الحفاوة، فمضَى في فيوضاتِ مديحه على مواقع التواصل الاجتماعي مدَّعيًا أن الأبحاث المقدَّمة في المؤتمر “ينبغي أن تكون دستورًا لدى تأليف أي سلسلة تعليمية جديدة؛ وذلك لجودتها وعمق تحليلها، وحضور الجديد فيها”. علمًا أنها كانت وصفية لا تحليلَ فيها ولا جودةَ أيضًا وفقًا لمعايير جودة أبحاث تحليل المناهج وتطويرها، لكنها المبالغات في إطلاق الأحكام كما ترى، وقال: “أبارك النجاح الباهر الذي حققه المؤتمر الدولي الثالث على أكثر من صعيد، أهمها وأبرزها جودة الأوراق العلمية المقدمة وقيمتها العلمية وعمليتها” وبلغ به غلو المبالغة أنْ عَدَا على منهجية البحث العلمي، فنسفها واجتثها من الجذور مخاطبًا طالباته المشاركات: “وهذه دعوة للشباب لخوض تجربة التعليم والبحث في آنٍ؛ حيث ثبت بالبرهان الساطع أنكنَّ أقدر على إيصال الرسالة ممن يحملون الدرجات العلمية ويُنظِّرون من أبراجهم العاجية”.

ولا إخالك قد نسيت أن مغالاتِه هذه ترسِّخ لدى المشاركين من شباب وشوابّ صوابَ المنهج الأبتر الذي بنوا عليه أبحاثهم وخطأَ المنهج العلمي شبه التجريبيّ الذي بُنيت عليه السلاسلُ الأجنبيةُ المتطوِّرة موضوعُ المؤتمرِ، وما نُظِّم المؤتمر إلا لتحليلها والإفادة منها! وحسبنا غلوه في مبالغاته هذه لرصدِ أحد عوامل تخلفنا عن ركب الحضارة والعدوانِ على الوعي الجمعيِّ، بل إنَّ غُلَواءَ هذا الأستاذ صدٌّ عن سبيلِ الحضارةِ وكفرٌ بالعلمِ التجريبيِّ وتخديرٌ لوعي الناشئين من طلبة العلم بما منحهم من ألقابٍ تستخفُّ بالعلم التجريبي وسدَنتِه: (مِمَّا يُزَهِّدُني في أَرْضِ أَنْدَلُسٍ — أسَماءُ مُعْتَمدٍ فيها وَمُعْتَضِدِ) (أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْرِ مَوْضِعِها — كالْهِر يَحْكي انْتِفاخاً صَوْلَةَ الأَسَدِ)

ورأيتُ في المؤتمرِ ذاتِه أستاذًا جامعيًّا أعجميًّا متخصصًا في المناهج أيضًا حضر ليرأس جَلسةً، كان ساخطًا على الأبحاث المقدَّمة، فصال وجال وأرعد وأزبد وحمل حملة ضارية على الأساتذة المشرفين على هؤلاء الشوابِّ والشباب المشاركين في هذا المؤتمر: “لِمَ لَمْ يعلموكم أصول البحث العلمي في البحوث التربوية والنفسية وشبه التجريبية منها خاصَّةً؟” فالأبحاث المقدمة في جلسات المؤتمر التي حضرها هذا الأستاذ -ومنها بحث الشابة الذي حاز على شهادة أفضل بحث بتصويت المشاركين والحاضرين، وجلُّهم من المؤسسة الراعية للمؤتمر- هذه الأبحاث كما قال: “شأنها شأن كل ما تخزِّنه عقولنا من معلومات نظرية سردية في ميدانٍ كلُّ علومِه تجريبيةٌ أو شبه تجريبية، فكلُّ ذلك ليس سوى كومة زبالة تُزاحِم ما تراكمَ في عقولنا من زبالة المعرفة” على حدِّ تعبيره هو! وتاهَ المشاركون ومنهم الأستاذ المغالي المذكور أوَّلًا والحاضرون جميعًا في صخب التصفيقِ لكلماته، فما علمت وما زلت لا أعلم: أكان تصفيقهم تأييدًا، أم ضربًا من الصخب الكوميدي، أم استحسانًا منهم لبلاغة تصويره للمعارف النظرية التي لا تطبيق فيها ولا تجريب؟ وأيًّا كانت العلة فالتصفيق للمبالغة والغلو غلوٌّ أيضًا لا سيما من ذاك الذي غالى في مبالغته غلوًّا يضادُّ ما يصفق هو له.

ومضى الأستاذ الساخط على أبحاث المؤتمر يبرهن على وجهة نظره بأنَّ أبحاث المؤتمر التي حضرها هو في اليوم الثاني كانت وصفيَّة بينما كانت طبيعة قضية المؤتمر التحليل والتطوير “تحليل سلاسل تعليم اللغات الأجنبية لتوظيفها في تطوير سلاسل تعليم العربية”، فهو شبه تجريبيّ، وجلُّ المشاركين من مدرِّسي اللغة العربية للناطقين بغيرها؛ لذا كان “ينبغي على أساتذتهم أن يدربوهم على البحث لتكون أبحاثهم شبه تجريبية، يستند التحليل فيها إلى أداة بحثية يصممها الباحث ويعرضها على المحكّمين، ثم يقوم باحث آخر بتحليل السلسلة ذاتها، ويقارن الباحث بين نتائج تحليله وتحليل زميله ليتأكد من صدق النتيجة…”.

هذه خلاصة حربه الضروس على أعمال الشوابّ والشباب المشاركين في المؤتمر وعدوانه على انبعاثةِ وعيهم بأهمية البحث وعلى محاولاتهم المبتدئة، فأنت ترى ما في النظرتين من تباينِ ومبالغةٍ فيها من الإفراط والتفريط والعدوان على بنية الوعيِ ما لا تخطئه عين.

المطلب الثالث: الوعيُ بين منابرِ الوعظِ والعامَّة

فيما مضى كان يُلتمس العذر للمتشددين أو المتساهلين في الجرح والتعديل بأن الأولين كانوا في حرج من أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وبأنَّ لدى الآخرين خشيةً ووجلًا من ردِّ كلامٍ يحتمل أنه من كلام الرسول احتمالًا ليس بواهٍ ولا يندرج في باب الكذب، فهذا الاحتياط هو مسوغ مبالغات كلا الفريقين في جرحِ راوٍ أو تعديله، وهي مبالغات متناقضة لا ينتهي عجب الناظرين فيها من غير المختصين، ولم يُسلِّم بغلوِّها النقاد والباحثون في سِير الرجال؛ فقد تقرَّر أنَّ “التوسع في تفخيم الألقاب وتضخيمها ليس من سيرة السلف المشهود لهم بالخيرية”([1])، وهذا ما حملهم على تقسيم علماء الجرح والتعديل إلى متساهلين ومتشددين ومعتدلين.

إننا وإن كنا نعذر فوارس هذا السَّاح بيد أنَّ هذا الاعتذار لم يكن ليحملنا على أن نغضَّ الطرف أو نغضي عن غلوٍّ مبالغ فيه على نحوٍ لا تستسيغه العقول أحيانًا، فهذا صوفيّ سمعته في مجلسٍ يقول: إنَّ ابن تيمية من المفسدين في الأرض، وذا سلفي زرته مستنصرًا للثورة السورية المباركة، فوجدتُه في مجلس علمٍ، وسرعان ما صكَّت كلماتُه أذني وهو يقول: الأشاعرة أكفر من اليهود والنصارى بل أكفر من البوذية بل أكفر المجوس، و(بعدما تكلم الشيخ تاج الدين السبكي بشيخه الإمام الذهبي ختم كلامه بقوله: “فهو مطبوع على قلبه”، فاستدرك الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قائلًا: لقد أسرف الشيخ تاج الدين في حق شيخه الإمام شمس الدين الذهبي لقباً ومعنىً، وبالغ حتى أفرط، ومال حتى قَسَط، ووقع في الشطط والغلط، وكيف ساغ له التعبير بهذه الكلمة الكبيرة، وإنها لكبيرة؟! وإذا كان الإمام شمس الدين الذهبي مطبوعًا على قلبه -وحاشاه من ذلك- فمن الذي أعاذه الله من الطبع على قلبه! نسأل الله العدل في الرضا والغضب، والعافية من الإفراط والتفريط)([2]).

وليس عن هذا ببعيد أنك ترى قومًا حملهم هوى المذهب والمشرب والطريقة على إغراق وعي العامة بفتاوى ضلَّ بها القومُ في غياهب التيه، فغالٍ يجعجع: كشف المرأة وجهَها مثل كشفها لفرجها، وزوج السافرة عن وجهها ديُّوث يرى القبيح على أهله ويسكت، ولاهثٌ يسخر ناعقًا: ستر المرأة وجهها عادةٌ جاهليةٌ والإسلامُ منها بريء!

واليوم كان يُتوقع لدى تقييم أيّ أمر وتقويمه أن يستبدل الباحثون والمثقفون والدعاة عدالةَ النقد والتقييم والتقويم بأوهامِ المبالغات وإيغالِها وغلوِّها وإفراطِها وتفريطها، وكان الظنُّ الحسن بهم يشي بأنَّهم أمناءُ على الوعي؛ فالكلمة أمانة، بل إن كلا من صناعة الوعي وتقويمه أو تزييفه ومسخه منوط بالكلمة والقلم، لكن الواقع المشهود يبرهن على أنَّ وطأة الجينات المجتمعية الوراثية للمبالغات المتولدة من البيئة والمجتمع والعادات كانت أقوى من أن ينعتق غير قليلٍ منهم من ربقتها ويتحرر من أسرها، ناهيك عن أن يسعى العبيد في عتق أرقاء يرسفون في مثل أغلالهم، وزاد في طنبور العويل نغمةً تمويهٌ أو سطوٌ ومسخٌ للمصطلحات، فألبسَت فئةٌ من المتحدِّثين المشهورين كلًّا من الغلو والمغالاة والإيغال في المداهنة والمجاملة والاستجداء والتزلُّف والخنوع والتصنُّع والكذب المقنَّع لباسَ المبالغة المحمودة والكياسة واللطافة والدماثة واللين المحبوب، بل إنَّ ضروبَ النقدِ البنَّاء والنصحِ ولو في الخفاء وأعلى الأساليب المثالية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما والدعوةِ إلى الفضائل بالحكمة والموعظة الحسنة لا تكاد تخرج في تصنيف تلك الفئة عن واحدةٍ من ثلاثِ شُعَب، فهي عندها إمَّا:

أ_ فظاظة وغلظة وجفاء إنْ كانت موجَّهة إلى العامة.

ب_ وإمَّا سماتٌ خَوَارِجيَّةٌ تجعل الآمرَ الناهيَ خارجيًّا وكلمةَ الحقِّ خروجًا مسلَّحًا على الحاكم إن كان المخاطَب بذاك النصح أو النَّقدِ ملِكا أو مسؤولًا.

ج_ وإمَّا تخلُّف وإخلال باللياقة واللباقة أو شيءٌ من هذا القبيل إنْ كان المخاطَب ثريًّا أو وجيهًا.

هذا وعمدت فئاتٌ أخرى من المدرجين في قوائم المثقفين والدعاة إلى تقمص شدة الأعراب وغلاظ الأكباد، فأغرقت مصطلح الأنفة والعزة والاستغناء وبذل النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمياه آسنة من الجهالة العمياء المركبةِ من خليطِ مصطلحاتٍ متنافرة ليس لها جامع، أهمها البراء والجفاء والصراحة والمواجهة والصَّدْعُ بالحق وكشف الحقيقة والتكبر على المتكبرين وإعزاز الحقِّ والدِّين، وكفى بهذا عدوانًا يقترفه يَراعُ أربابِ الفكرِ ولسان المنبر والتعليم والإعلام يسومون به وعيَ جيلِ هذا القرنِ قرنِ الخلايا الصابئةِ الصادَّةِ عن سبيل الله والعقل والعلم.

ومن تشويه المبالغات للوعي ما صوَّره أولئك الغلاة حقًّا وحقيقة مقدَّسة، حملَتْهم على أن يستبدلوا بالمبالغة في حديثٍ له سياقٌ خاصّ وفي سنده خلاف غلوًا لا يصح في الأذهان شيء إن صح أنَّ الرسل أتت به، فالمبالغة الهادفة في حديثِ حاكم الضرورة لئلا تخلو الأرض من خليفة: ((ثم ينشأ دعاة الضلال، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك؛ فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض على جِذل شجرة))([3]) استبدلوا بها فتاوى لغلاة الخنوع تقول: فإن كان للإلحاد في الأرض رئيسٌ سفكَ دمَك، واغتصبَ عرضك، وغصبَ مالك، وفعل بالملايينِ مثلِك أكثر من ذلك، فاسمع وأطع، ولا ينبسنَّ فمك ببنت شفة.

إنه كما ترى غلوٌ فعل فعلته في الوعي، فسمَّى الكلمة طلقة، والخطبة قنبلةً، وجماهير الهُتاف جيشًا إرهابيًّا، وأغصان الزيتون أسلحة كيماوية، فهذا كله عند غلاة التأويل أنصار المستبدين السفاحين خروجٌ مسلَّحٌ على حاكمٍ حقّ بغير حقٍّ.

إن الحاكم المسلمٍ العادل خليفة لله في أرضه، لكنه قد يُخطِئ فيظلمك بجلد ظهر أو أخذ مالك، فاسمع وأطع، فذاك خيرٌ من خلو الأرض من خليفة قائمٍ لله في خلقه بحكمه ومقصده من خلق الخلق؛ ولكن الغلو في تكييف النوازل وتنزيل النصوص عليها قد أوقع على مدى عقودٍ مضتْ جيلًا برُمَّته في براثنِ ردِّ الفعل اليومَ، فمن غلوٍ إلى غلوٍ وهكذا دواليك، ومنشأُ ذلك الغلو كلِّه إحلال تأويل النص محلَّ النص رغم أنَّه تأويلٌ لا يحتمله اللسان ولا ينهض به البيان، ولا تصححه مناسبة النص ومقاصده ولا سياقه وسباقه، وتردُّه بداهة العقول وترفضه الجبلَّةُ والفطرة، وحسبك أن تتأمل كيف صوَّر هؤلاء الغلاة الشهيدَ -نصير المظلومين، الآمر للسلطان الظالم، الناهي عن ظلمه بالكلمة- منتحرًا! بل الأدهى الأمرّ قطْعُ قطيعٍ من أنصار هذا المؤول الغالي بأن ذلك التأويل الغالي الرخيص هو وحدَه المعنى المقصود بالنص، وإضفاؤهم عليه قداسةَ النصِّ وزيادة، ثم عدُّهم من أنكره منكرًا للنص، ويمضون في غلو تلك المبالغات ليجعلوا من المؤول رمزًا مقدَّسًا لا يحتمل كلامه أو تفسيره نقدًا، بينما تجد غلاة التأويل على الحافَّةِ الأخرى يوجبون مع نقض التأويل ونقده الإجهاز على ذاك المؤوِّل لا إجهاض فكره وفضح عوار تدليسه وغلوه في التأويل وكفى، فماذا أبقت حروب الغلاة هذه من وعي هذا الجيل!

وهذا الغلو فيه ما فيه من المصادرة على أي مطلوب يريده الرمز المقدَّس ناهيك عن سدِّه لبابِ الاجتهاد والتفكير وطلب الدليل، وثالثة الأثافي أن تتكشف دواهي الحوادث وحالك النوازل عن جوهر هذا الرمز المقدَّس في عين العامَّة فإذا به غَويٌّ مُبين وداعيةٌ على أبواب جهنم، وإذا هو خنجرٌ مسموم يَجَأُ عقول العامة، ويقتلهم حسرةً وجزعًا على ما ضاع من عقولهم وما فات من أعمارهم وأموالهم في مجالسه وخدمة مشاريعه ليستيقنوا أنَّ من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، فكيف بمن حسبهم الناس كذلك والأمر على خلاف ذلك!

ومن تشويه وعي العامَّة أن جماعات غلو المبالغات والمغالاة في الأشخاص والأعلام والرموز إطراءً أو طعنًا يسومون الوعي خسفًا ومسخًا يبلغ بهم أن يعدُّوا إغراق فردٍ في الغلو والمغالاة -ولو كان جاهلا أو مجهولًا- عربونَ محبتِه وولائِه وصدقِ اتباعه لرمزهم المقدَّس المعصوم شخصًا كان أم حركةً أم فكرةً، أما مغالاة ذاك الفرد في الطعن بالمخالف للرمزِ المقدَّس تشنيعًا وتبديعًا وتضليلًا وتسفيهًا وتكفيرًا فيجعلونه عنوانَ جحدٍ وَخَلْعٍ وبراء، وبرهانَ زيادة إخلاص وإيمانٍ ويقينٍ يعلو بها ذاك المغالي على رتبة أعلى الأمة من غير المنتسبين لهذا الرمزِ ولو كان أفسق الأمة وأجهلها، ومن مخرجات هذا التشويه أنَّ الغلوَّ والمغالاة على هذا النحو يغدوان من أسهل المسارب والسراديب والمخاتل التي يخْتِلُ بها المنافقون والمرجفون والمخابرات، ويُدلِجون منها إلى تلك الجماعات والحركات والثورات؛ ليوقعوا بين أفرادها ويتحكموا فيها ويعتلوا قمة هرمها، ثم ينقضوا عليها فإذا هي كأمس الدابر، ويأتوا على بنيان وعيها الجمعيِّ المشوَّه مسخًا وسلخًا، ويستنسخوا صورًا صهيونيةً ماكرة يطبعون بها وعي تلك الجماعات المشوَّه، فإذا بتلك الجماعات جملةً وتفصيلا قد غدت أدواتٍ للمخابرات والغزاة والصهاينة من حيث لا تدري، ومنه نُدرِك كيف انحرف فريقُ التنسيق الأمنيّ مع المحتل الصهيوني عن هدفه -وهو التعاون الأمني لإقامة دولة فلسطين المستقلة في إطار حل الدَّولتين- حتى قضى على حلم الدولة عندما تحول إلى تنسيق جاسوسي يقتل المقاومة ويخدم المحتل الصهيوني وحدَه بأجرٍ سياسي ومادِّي معلوم، وهو ما مُنيتْ به بعض فصائل المصالحة في الثورة السورية.

وليس ببعيدٍ عن ضلالات تضليل الوعي أن ينبعث قومٌ من كهوفهم ليرسخوا في أذهان البُلهِ أن الشريعة ليست سوى بضعة حدود لا يقوم الإسلام إلا بها، فإذا بالوسائل والفروع والظنيَّات مقاصد وأصول وقطعيَّات، نعم “هذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، لا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه، لكن المبالغة في المطالبة به والحديث عنه واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه كان لها آثار سيئة على التفكير الإسلامي والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، فالقوانين وحدها لا تصنع المجتمعات ولا تبني الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجا وحماية”([4]).

إن أمثلة تضليل وعي العامَّة كثيرة يعسر حصرها، فأنت في غنى عن ذِكرها، وليس يخفى منها أمرُ فريق من العامَّة المتصدِّرين وقادتهم الجهلة الغلاة الذين ضيَّعوا المستضعفين وذراريهم بمغالطات أشبعوها مبالغةً وغلوًا ووهمًا؛ ليقنعوهم أنّ طيور أولئك المستضعفين مجتمعةً ستهزمُ أسراب الطائرات والدُّولَ العظمى التي تقاتلهم بوغدها السفَّاح وعيونه التي تحصي أنفاسهم، وأن حجارتها ستجعل من المغيراتِ عصفًا مأكولًا بلا صولات ولا جولات، وحسبهم السجِّيل والطير الأبابيل دليلًا على ما يؤملون أو يحلمون، فما إن يطلقوا أول رصاصة حتى يبدأ إعلامهم بتضليل وعي العامة بحديثه عن انتصارات وهمية يعقبها خراب البصرة، وكأن آيات الأمر بالإعداد والحذَر وشرط النصر بالنصر منسوخة! فكان ما كان وما أغنتْ عن المستضعفين تلك الدعاوى أو الأكاذيب ولا الألقاب العريضةُ من شيءٍ، وباتوا يرزحون في أغلالهم مكبَّلين في سجنِ وطنٍ كبيرٍ كأنَّ عليه أبابيلَ من الطير تَنْعَبُ، كما قال الأعشى الأعمى الذي لم يخطئه ذاك المشهد كما ترى، فقد ألقى السمع فإذا به شهيد على مآلاته، فترنم متحسِّرًا يحدوه الألم وحسرة الخسران والأماني.

نعم لقد ضرب الوعاظ والقصاص والشعراء والأدباء من الغلو في المبالغة وتضليل الوعيِ بسهمٍ حتى قيل: أعذب الشعر أكذبه أي أشده مبالغة، وحسبك الكناية عن أبلغ الشعر بالأكذب دلالةً على أن في المبالغة الغاليةِ ما فيها، وأسوأ ما فيها أنها قد تنسب إلى العبد صفة الألوهية، فمن نسب إلى فردٍ ما لا طاقة به للمئات أو الآلاف من البشر فقد نسب إلى مخلوق عاجز ما لا يقوم به إلا الخالق سبحانه كما يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورسيّ رحمه الله تعالى، وأمثلة ذلك ليست سرًّا لدى الشيعة وبعض مشايخ الطرق والهَتَّافين باسم الحكام المستبدين، ولعلَّ هذا الغلو هو سرُّ الهلاك الأخروي والعقليّ المشهود في رعاع القومِ حتى اليوم: “يَهلك فيَّ رجلان: مفرطٌ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ”([5])، وكأنَّه هو لغزُ خذلان الله لعامَّتهم ولعلمائهم الذين يعرفون الحق أكثر مما يعرفون أبناءَهم لكن الفريقين أبوا إلا صراط المغضوب عليهم والضالِّين: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله»([6])، فهذا رسول الله ينهى عن سلوك النصارى في شخصه فما الظنُّ بسيدنا علي وبالأولياء والمشايخ والمرجعيات الدينية؟! ولعله هو أيضًا تفسيرُ طرد الله للغلاة من أبواب التوفيق العقلي والهداية القلبية، وكأن هذا الطردَ استجابةٌ لازمة لطبيعة تجاهل الحقّ وإجابةٌ لدعاء العارف بحقيقة الغلو ومآلاته إذ دعا رضي الله عنه: “اللهم العن كل مبغض لنا، وكل محب لنا غال”([7]).

ومن خفي غلو المبالغات خلط البشري بالمقدَّس، وهو ما ضلَّ به قوم في عزير وعيسى والأحبار والرهبان والأولياء والأشراف والأعراق والأنساب، وهذا أمر لا تكاد تخلو منه جماعةٌ أو تجمع أو مذهب أو مدرسة، دعك من الذين لا يؤمنون بهذا المقدَّس، فإنما أحدثك عن المؤمنين به، فليس معنى ثبوت العصمة للأنبياء وحدهم أن تُعصم عاداتهم وبشريتهم عن حكم الطبائع، فإذا كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض نسائه بوحي معصوم لتعلق ذلك الزواج بأمر من أمور الدين كتحريم التبني فمن غلو التقديس سحب ذلك الحكم على كل أزواجه أو على طلاقِه لإحداهنَّ أو همِّه بطلاق أخرى، إنه غلو التقديس الذي برئ منه عصر الصحابة كما تبرأ من غلو تعميم صفة البشرية إنكارًا للقدسية والعصمة، عن ابن عباس قال: “خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجْعَلْ يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الآيةَ…، قال: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز”([8]) وهذا ليس بسرٍّ في حدس عائشة لَمَّا رأتْ جويريةَ بنت الحارث وقد جاءت تستعين رسول الله في كتابتها، قالت: (وكانت امرأة حلوة مَلَّاحة، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن وقفت على باب الحجرة فرأيتها، كرهتها، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل ما رأيت)([9]) فهذا ليس من غيرة الضرائر فحسب بل هو مقتضى الطبائع “لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه”، وهذه أمُّ هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذرت إليه، فعذرها([10])، ويشهد لرَشَاد وعيهم هذا بالفصل بين البشريِّ والمقدَّس آيتا سورة الأحزاب: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] فالحكم بمقتضى البشرية في الآية الأولى وبالقدسية والعصمة والوحي في الثانية من الجلاءِ بمكانٍ، أمَّا من سوى الرسل فأيّ ادعاءٍ لصفةٍ سوى البشريةِ فيهم فهو غلو في مبالغات الولاء والمحبة من شأنه أن يمسخَ الوعي والفطرة ويستبدل بهما تيهًا ربما لا تهتدي الأجيال التالية إلى سبيلٍ للخروج منه، وفي تهود النصرانية ومجوسية التشيع وهندوسية بعض جهلةِ الصوفية عِبَرٌ في هذا الباب ليس من العسيرِ على ذي الفطرةِ أو العقلِ الخام تتبعُ آثارها في الأجيال على مدى قرون.

المطلب الثاني: الوعي بين منابرِ الإعلامِ والعوامِّ

كلُّ ما رأيتَ من ضروب المسخ البنيوي يُنبئُ بأن للعدوان الثلاثيّ على الوعي جراثيم هجوميّة وأخرى ناشرة، منها المعلوم ومنها المجهول، وكلها تتآزر لتبث سمومها بمخلبين أو نابَيْنِ هما من أخطر أسلحة تلك الجراثيم صناعةً ونشرًا وانتشارًا وحراسةً:

الأول: الإضرامُ المستمرّ بغلوٍ وإيغالٍ في رُهَابِ الثنائيات، وتأجيج نيرانها بوَقودِ المغضوبِ عليهم الذين أنبتَهم أو استنبَتَهم المفسدون في الأرض وعيونُهم وعملاؤهم ووكلاؤهم ومخابراتهم وإعلامهم، والشيء من معدنه لا يُستغرَب؛ فهؤلاء دأبهم وديدنهم الغلوّ في تشبيبِ أُوار النيران بين المختلفين في تبنيهم لفكرٍ أو رؤيةٍ أو تصوُّرٍ أو مذهبٍ أو دينٍ أو عرقٍ أو سياسة، وبين المتنازعين جرَّاءَ انتمائهم إلى حزبٍ أو مدرسةٍ أو حضارةٍ أو تجمُّعٍ أو جماعةٍ دينية أو دنيوية.

والآخَر: غلوُّ الإعلام التقليدي والرقمي وبرامجه وكتَّابه ومتحدِّثيه وسَدَنَةِ سادتِه المستثمرينَ تجارَ الدمِ والدِّين، لا سيما أولئك الإعلاميين الذي يستغلون مبدأ حرية الإعلام لتجنيد ألسنتهم وعقولهم وأقلامهم ومصوِّراتِهِم ومهاراتهم الفنية وأحكامهم المطلقة خدمةً للمفسدين في الأرض ومخابراتهم، بل إنَّ غلوَّ هؤلاء لطالما تجاوز المبالغة إلى الكذبِ الصريح باستعلاءٍ وصفاقة، فحقيقٌ بأحدهم لقب الكذَّاب الأشر لا الغالي في مبالغاته إحقاقًا للحق بتسمية الأمور بأسمائها، وهذا ليس من الجفاء والفظاظة في شيء كما سيأتي في الحديث عن تزييف المصطلحات؛ فعلى قدر الجريمة يكون التوصيف (وقد أثبت علم نفس الجماهير كما أكدت الخبرة أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار الملح لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع، وتنظر سيكولوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص باعتباره وسيلةً ليس لإخضاع الإنسان فحسب، بل للتأثير في الجوانب الغريزية والعاطفية بحيث تخلق فيه الشعور بأن الآراء المفروضة عليه هي آراؤه الخاصة، وهكذا أصبح التليفزيون تهديدًا للحرية الإنسانية أكثر خطرًا من البوليس والسجون ومعسكرات الاعتقال السياسي، وأعتقد أن الأجيال القادمة -ما لم تكن قدرتها على التفكير قد دُمِّرت تمامًا- سوف تُصدم باستشهاد الجيل الحالي المستهدف بدون عائق لتأثير هذه القوة الضاربة التي لا رابط لها؛ فإذا كانت الدساتير في الماضي توضع للحد على سطوة الحكام فإن دستورًا جديدًا سنحتاج إليه لكبح جِماح هذا الخطر الجديد الذي يُهدِّد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع)([11]).

في عصر الإعلام الرقمي بدأنا نرصد ظاهرةً عُجابًا مضتْ سنةً في شبكات التواصل والفضاء الإعلامي الغادر بالوعي بسيفٍ ماضٍ مسمومٍ؛ فاليوم نشهد (رحلة انتقال “الحمقى والمغفلين” من كتب الأخبار إلى شاشات الأخبار، فما رواه كُتَّاب الأخبار والأمثال والطرائف في كتب الأدب وأخبار الحمقى والمغفلين لم يعد يُقال الآن للتندُّر والضحك ومجالس الفكاهة، بل صار يقال في وسائل الإعلام على أنَّه حقائقُ جادة، وحين ينتقل الحمقى والمغفلون من خانة النوادر إلى منافذ التوجيه والتأثير ينتقل معهم الناس من النور إلى الظلمات، يشترون الضلالة بالهدى وهم لا يبصرون)([12]).

روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن أبا حية النميري -وكان مشهورًا بالجُبن والكذب والكِبر- سمع يومًا صوتًا فظنَّه لِصًّا، وأقنع نفسه ومن حولَه بذلك، ومضى يهدِّده بسيفه الخشبيِّ ويتوعَّد (ثم فتح الباب فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخكَ كلبًا وكفاني حربًا)([13]). (واليوم يُبعث أبو حية هذا إعلاميًّا له قناة، يستطيع إقناع الناس حقًّا بأن الذي في يديه كان سيفًا صقيلًا، وأن الذي حاول التهجم عليه كان بشرًا وقد مسخه الله كلبًا!)([14]) وإنك مهما تكن قاطعًا بهول أساليب تثبيتِ الكذب المزيِّف للوعي فإنك على أهوال القطع بتكذيب الحقيقة المعاينةِ أقوى وأشد {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]، وتلك هي سنة كُبراء الجاحدين الذين يستهدفون تزييف الوعي: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].

في الإعلام يمتاز خوارجُ الفكر وبُغاةُ الوعي بسرعة البداهة واستمراء الكذب إلا أنَّ بغاياهن أمهر من بغاتهنّ، فلا عفة لهنَّ في لسانٍ ولا فكر، ولا حياءَ يَزَعهنَّ ولا سيِّد يُكرِهُهنَّ، شعارهنَّ: أَلِّف، ولا تقل: لا أعرف، ولا أصْدقَ في هذا الضرب من قول الكاتب الساخر جلال عامر: “كان بالإمكان أن أكون خبيرًا استراتيجيًّا لكني فضّلتُ أن أُكمِلَ دراستي”، فهم من فرط الجهل بمكانٍ، وإنِّما يبرِّح بنا الأسى لعجز أهل الحق عن مقاومتهم وتصديق العامة لهم حتى إنَّ تصديقهم لهم في شأن محرقة رابعة وكيماوي بشار أغرب وأعجب من تصفيق قومٍ وإشادتهم بعلمِ من سُئل: متى وُلِدت؟ قال: وُلِدتُ غُرَّةَ الهلالِ في نصف رمضان بعد العيد بأسبوع، فاحسبوا كيف شئتم! وسُئل: ماذا تشتهي؟ فقال: رأس كبشيْن، فقيل له: ذلك لا يكون، فقال: فَرَأْسَيْ كبشٍ!.

ومن أخفى أضراب الغلوِّ في الأحكام وإعلام الحكَّام أن تَجْمعَ في موضعٍ واحد أو في مقامٍ وخطابٍ واحد كلَّ ما قيل عن معنى أو شخص أو أمرٍ ما أو واقعة علمًا أنك إن نظرت في مفردات ما جمعتَ لم تر فيها مبالغة، لكن جمعها وسوقها في مقامٍ أو خطاب واحد يغدو كذلك.

إن للغة الإعلام المشبعةِ بالمبالغة في الأحكام والتصورات أثرًا اجتماعيًّا لا يكاد يجهله أحد، بل يمكن القول إنها حالة مَرَضية غير مُرضية لأحد وما من أحد إلا وبه منها لوثة، فهي أحدُ عوامل الحروب وتضليل العامة في تبيُّنِ الحقائق، والباعثُ على تكفير قوم لشخص وتقديس آخرين له، ومؤشِّرٌ على الانحطاط الحضاري لدولةٍ ما كما تشهد على ذلك أحوال دول التخلف والانحطاط.

هذا وقد اعتاد الإعلام على تضليل وعي العوامِّ، فأغرى مجتمعنا بحروب المثالية والواقعية، وغدا فريقٌ من مجتمعنا حالِمًا بالمثاليات الفرضيات، فهو ينسج له صورًا خيالية ومثاليات من العسير تحقيقها، لذا تجد مجتمعنا لا يتفق على شخصية تمثله، لأنه ينزع إلى شخصية خيالية الأوصاف والقدرات لن يجدها في بني البشر.

خاتمة

غالبًا ما تلفي المغرم بالمبالغة قد انعدمت ثقته بنفسه، وعاش تجارب خاسرة فاشلة؛ فيجد في إطلاق الأحكام والصفات عوضًا عما فات، وكأنها منظومة دفاعية يستر بها سوءة خسارته وهزيمته فإذا به يؤكِدها من حيث لا يعلم([15])، وفاتَه أن من قَتَل الوعي بسهام الغلو في إطلاق الأحكام فقد أحيا في نفوسِ مرضَى القلوبِ أدواءً، وبعث فيها أمراضًا تجمع للفرد والمجتمع: الوهمَ والإيهامَ، والغَيَّ والعِيَّ، والمراء والنفاق، والاستكبار والتعالي والمكر، والتمادي في الباطل وتنكب طريق الحق، والموازين المختلَّة والطبائع المنحلَّة؛ كما أنَّ من أماتَ بحراب صفاته المطلقة وأحكامه المثبِّطة قلوبَ نَشْءٍ تنبض بالحياة فقد أتى على قِمَمِ هِممٍ من قواعدها، وقضى على حلم جيلٍ يستهدف إحياء أمجادِ أمَّةٍ كانتْ يومًا ما رائدةً قائدةً.

وإذا كان توازن الثنائيات ينبغي أن يعد مؤشِّرًا دالًّا على سلامة بنية الوعي، فإنه يلزم أن يكون لغلو المبالغات كبيرُ الأثر في ظاهرة اختلال موازين الثنائيات هذه، وحسبك في ذلك أن تتأمَّل الحريات بين طرفي كلٍّ من زنازين الاستبداد الاجتماعي أو السياسي أو الفكريِّ أو الدِّيني المحرَّف أو الوضعيّ وبين غابات الانفلات المطلق على الآخَرين تجسسًا وتلصُّصا وهتكًا لحرماتهم وخصوصياتهم واعتداءً على حقوقهم، وقل مثل ذلك في كفاية الذات بين طرفي تعذيبِ الجسد جوعًا وحَرًّا وقَرًّا ورهبانيةً وتعذيبِ العقول بحَجْر التفكير وإعدام المفكرين وبين النَّهم والإفراط في السِّمنة وإشباع الشهوات والإدمان هدْرًا للطاقات والعقول والأوقات وتضييعًا للشباب وقتلًا للطفولة ووأدًا للفطرة.

أمَّا يوم أن كانت سوق توازن الثنائيات رائجة فقد كان الممدوح يحثو في وجه المدَّاحين التراب، وأنى لك أن تقف يومئذٍ على واحدة فقط من دونكيشوتيات العجرفة والتطرُّف في المغازي والسِّير على مدى ثلاثة وعشرين عامًا؟! وأنت خبير أن قانون السببية سنَّةٌ لم تتخلف ولو مرَّةً واحدة اللهم إلا أن يكون للمعجزة مقتضٍ يستدعيها لتحقيق غرضها وإصابة هدفها في سياق التحدِّي بشقيه: تحدي المنكرين للنبوة، والتحدي في مواجهةِ بقاءٍ أو فناء.

ولو أنَّ للدونكيشوتية أدنى وجود في هدي نبيِّنا لَما أثنى على جيش مؤتة بأنهم كرَّار، هذا بينما كان الْحُمْسُ من الناس للجيش يلومون قائلين: يا فرّار! لأنَّهم كانوا يعدون الإخفاق في الفتح فرارًا، ولو أنَّها وجدت إلى عقول صحابته صلى الله عليه وسلم من سبيلٍ لَمَا تريثوا وتداولوا الأمر قبل مؤتة، ولَأوردَ خالدٌ -بعد استشهاد الأمراء الثلاثة- الجيشَ المهالكَ، مُعرِضًا عن عوامل النصر والهزيمة، موغلًا في غلو عقائد وهمية تنتظر النصر بالعقيدة دون أن تعد له العدة التي يأمرها بها كتاب العقيدة الذي وعد بالنصر لمن نصر مبادئه وعقائده جملةً واحدةً لا لمن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وإنَّ في بدر وأحد وحنين ومؤتة دروسًا وعِبَرًا لا إِخَالك بجاجةٍ إلى استفصالها.

([1]) الرفع والتكميل، اللكنوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص٣٧٤.

([2]) أربع رسائل في علوم الحديث، السبكي والسخاوي والذهبي، جمع وتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص٤٦.

([3]) مشكاة المصابيح: التبريزي، رقم (5396)، (3/ 1484).

([4]) يوسف القرضاوي في صفحته الرسمية على «فيس بوك».

 ([5]) فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل، (2/ 571).

([6]) صحيح البخاري، 3445.

([7]) مصنف أبي شيبة، (6/ 374) رقم (32138).

([8]) مسند أبي داود، رقم (2805) (4/ 403)، سنن الترمذي: رقم (3040) (5/ 99).

([9]) صحيح ابن حبان: (4054) (9/ 361).

([10]) المستدرك للحاكم، رقم (2754)، (2/ 202)، قال الذهبي: صحيح.

([11]) علي عزَّت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ص 108_109.

([12]) https://ar.islamway.net/article/17563/

([13]) ابن قتيبة: عيون الأخبار (1/ 260).

([14])  https://ar.islamway.net/article/17563/

([15]) إياد الزهيري: لغة المبالغة وأثرها الاجتماعي، http://www.almothaqaf.com/qadayaama/qadayama-16/902389