الأخذ بالعزائم منهج القدوات
أبريل 8, 2020
الإسلام السياسي “النشأة والهدف”
أبريل 8, 2020

بديع الزمان سعيد النُّورْسِي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا

د. حسين عبد الهادي آل بكر

التحديات التي واجهت أمتنا منذ القرن الرابع الهجري كبيرة وعميقة، فقد أدت إلى إسقاطِ الخلافةِ وعاصمتِها السياسيةِ إسطنبول وعاصمتِها العلميةِ القاهرةِ، ولم تكن الاستجابة في البداية بمستوى تلك التحديات، فعادت نتيجة الصراع على أمتنا بالخسارة؛ لأن قوى الغزو العالمي والثقافي والفكري والسياسي تمكنت من الأمة حتى كادت تستسلم عقيدةً وشريعةً وسلوكًا لولا امتلاكها قواعد انطلاقٍ قوية في الأعماق تجدد أصالتها وتحتفظ دائمًا ببذور اليقظة والمقاومة، فأمتنا قد تضعف لكنها لا تستسلم ولا تموت لأنها أمة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

إن الانطلاق من القرآن الكريم والسنة النبوية رسم لأمتنا أسس الحركة والتغيير التي دفعت الأمة إلى المقاومة حتى تخلصت من الاحتلال العسكري، وهي الآن في طريقها إلى التحرر من الغزو الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي بعد أن جددت لها المفاهيمَ صحوةٌ إسلاميةٌ عصرية مباركة، وفي خضم المآسي الدامية والصراع الحضاري بين الأمم ينبعث رجال عظماء وعلماء ربانيون ومفكرون فطاحل، يُصنَع كل منهم على عين العناية الإلهية ليمسكوا بناصية أمتهم ويحولوا بينها وبين السقوط الحضاري؛ من هؤلاء العلماء الربانيين والمفكرين العظماء والمجاهدين بالسيف والقلم بديع الزمان سعيد النُّورْسي، فهو من تحمل مسؤولية النهوض بالأمة وتجديد الحياة بالإيمان الراكد في القلوب والتصدي لتيار جارف كاد يسلخ الأمة من عقيدتها ودينها وأخلاقها وقيمها وتاريخها، وقد أيقن النورسي منذ البداية أن الغرب مقدم على هجوم كبير على الأمة تحت راية الحداثة والتنوير والحرية والديمقراطية؛ فكان لا بد من تجديد الإيمان في القلوب ورفع مستوى الوعي في العقول والاستقامة في السلوك لمواجهة هذه الهجمة الشرسة في مرحلة التأخر والتشرذم والخواء الإيماني التي تمر بها الأمة.

لقد أدرك بديع الزمان أن الإسلام في خطر إيمانًا وعقيدةً وشريعةً وأخلاقًا وقيمًا وحضارةً، فقرر المواجهة، ولكن كيف؟

المطلع على رسائل النور -وهي تراث النُّورْسي في الدعوة والفكر والتجديد- يصل إلى قناعة أنه كان برسائله مجددًا للعَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، وأنه استطاع أن يقود الرَّكْبَ بحكمة وعقل ومنطق، فتجنَّب خلافات العلماء والطرق الصوفية، وكانت معركته موجهة إلى الخارج وسماسرة الداخل، فالناس عنده فئتان متقابلتان خندقُ الإسلام وخندقُ أعدائه، فقد أيقن أنه لا يمكن المواجهة بجبهة متفرقة، وهو إنما ظهر في هذا المنعطف الخطير من حياة الأمة ليحمل همومها ويقف في الميدان عالِمًا ومفكرًا وقائدًا ومجاهدًا يقوم بأعباء رسالة نذَر لها نفسه وحياته، فرسائل النور بحر لا ساحل له جمعت ثلاثة تفاسير؛ تفسير الكتاب المسطور، والكتاب المنظور في الكون وآيات الأنفس والآفاق، والقرآن الناطق الذي تجلى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا بد لرسائل النورسي وتراثه العلمي والفكري والسلوكي من دراسات متنوعة حول تجديدها الإسلامي وأسلوبها التربوي وعمقها الفكري، فأتى هذا البحث على جوانب عدة من حياة الشيخ النورسي، شملت نشأته وتعلُّمه وأسفاره ومدارسه وسجنه ومنهجه في مجموعة من قضايا الدين والحياة والعلم، وتحدَّثتْ عن أثر ذلك في طلابه وتلامذته.

مولده ونشأته

ولد النُّورسي في قرية {نُورْس} في ولاية بتليس شرق تركيا سنة 1293ه/1877م، لغته الأم الكردية، وأجاد التركية لغة الخلافة العثمانية، توجه في بداية حياته إلى الكتاتيب في منطقته، وكان متميزًا بين أقرانه صاحب ذكاء خارق قوي الحافظة، وتنقل بين عدة مدارس في المنطقة لأنها لم تكن تلبي رغباته، وكان يناقش العلماء وهو طالب، فسموه {سعيد المشهور}، حفظ كتاب {جمع الجوامع} في أصول الفقه لابن السبكي خلال أسبوع، وألفية مالك وكتاب “{الجاحي}([1]) في مدة قليلة، وفي مدينة بتليس حفظ {القاموس المحيط} للفيروز آبادي حتى باب السين، وحفظ كتبًا أخرى عن ظهر قلب، ولذكائه الخارق ذاعت شهرته فأطلق عليه لقب {بديع الزمان}، ولم يكتف بالعلوم الدينية والعربية بل طالَع الكتب العلمية كالفلك والجيولوجيا والرياضيات والفلسفة الحديثة والتاريخ والجغرافيا حتى أفحمَ أساتذتها المتخصصين([2]).

محطات في حياة الأستاذ النورسي

زيارة إسطنبول

وصل إلى إسطنبول سنة 1907م، وسكن في منطقة الفاتح، وعلق على باب غرفته لوحة كتب عليها: (هنا يجاب عن كل سؤال، وتحل كل مشكلة دون أن يسأل هو أحدا من الناس)، كان هذا إعلانًا غريبًا وادعاءً مثيرًا زاد شهرته ورغب كثيرون بلقائه، وتوالى عليه ثناء العلماء الذين زاروه، قال العلامة حسن أفندي: (لم أشاهد مثله أبدًا، إنه من نوادر الخلق).

في إسطنبول قدَّم النورسي عريضةً إلى السلطان يطلب فيها فتح مدارس للعلوم الحديثة مع العلوم الدينية في شرق تركيا حيث يخيم الجهل والفقر على السكان، وانتقد حاشية السلطان ونظام الأمن والاستخبارات في قصر يلدز؛ فأثار حاشية السلطان، فأحالوه إلى المستشفى لفحص قواه العقلية، وأصدرت لجنة الأطباء قرارًا بوضعه في مستشفى “طوب باش للمجاذيب”، وعندما فحصه أحد الأطباء كتب في تقريره ما يلي: (لو كانت هناك ذرة واحدة من الجنون عند بديع الزمان فمعنى ذلك أنه لا يوجد على وجه الأرض كلها عاقل واحد)([3]).

في سلانيك

سافر إلى سلانيك وعرَف كبار شخصيات الاتحاد والترقي، ولكونه شخصًا يدعو إلى الحرية والشورى الإسلامية رحَّبَ به قادة الاتحاد والترقي، لكنهم لم يستطيعوا التأثير عليه ولا جعْلَه تابعًا لهم، فبقي مستقل الفكر والشخصية، وهناك طلب اليهودي المشهور عمانوئيل قرصو([4]) رئيس المحفل الماسوني وعضو مجلس النواب العثماني مقابلته طمعًا في التأثير عليه، فقابلَه لكن ما لبث أن خرج اليهودي من عنده قائلًا: (لقد كاد هذا الرجل العجيب يزجني بحديثه في الإسلام)([5]).

في أول محكمة عرفية

في الجو المتوتر المشحون ضد جمعية الاتحاد والترقي وقعت حادثة 31 آذار 1325ه الموافق 13 نيسان 1909م في ساحة السلطان أحمد: نشب عصيان بين أفراد الطابور العسكري الذي أرسله الاتحاديون من مدينة سلانيك إلى إسطنبول لحماية المشروطية، فثار الجنود وأعلنوا العصيان وطالبوا بتطبيق الشريعة، وانتهت الحادثة بوصول جيش الحركة إلى إسطنبول في 23 نيسان 1909م، فسيطرت وعزل السلطان عبد الحميد في 27 نيسان 1909م، وأُعلِنت الأحكام العرفية، وشُكِّلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن العصيان، وكان الشيخ النورسي ممن قدموا إلى أعواد المشانق في تلك المحكمة العسكرية، وبدأ القاضي العسكري خورشيد باشا بمحاكمة النورسي في المحكمة أمام منظر خمسة عشر معدمًا في الساحة كان النورسي يشاهدهم من النافذة، فقال له: وأنت أيضًا تدعو إلى تطبيق الشريعة؟ إن من يطالب بها يعدم هكذا مشيرا بيده إلى المعدمين في الساحة، فقام النورسي وألقى على سمع المحكمة كلامًا رائعًا نقتطف منه ما يأتي:

(إنني طالب شريعة؛ لذا أرى كل شيء بميزان الشريعة، فالإسلام وحده هو ملتي، خطابي ليس موجهًا إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر، فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة {يوم تبلى السرائر}، فمن كان أجنبيا غير محرم فلا ينظر إليها، إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد إلا أنها الآن تحارب الحياة بأكملها، فإذا كانت الحياة على هذا الشكل فليعش الجنون وليعش الموت ولتعش جهنم مثوى للظالمين، لقد كنت آمل أن يُهيَّأ لي موضع لأبيِّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث فيها أفكاري وأقول لكم: لو كان لي ألف روح لكنت مستعدًّا لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة؛ إذ الشريعة سبب السعادة، وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة)([6]).

النورسي مجاهدًا وأسيرًا

كان الأستاذ سعيد النورسي معارضًا لدخول الدولة العثمانية في الحرب، لكن عندما اندلعت أسرع إلى جبهة القتال وشارك في فنون الجهاد، وشكل من طلابه ومن المتطوعين فرقًا للجهاد والدفاع عن البلاد ضد الغزو الروسي والعصابات الأرمنية، كانت روسيا تحاول الاندفاع نحو الأناضول، وفي 16 شباط 1916م دخلت الجيوش الروسية مدينة أرض روم، وكان الأستاذ النورسي مع طلابه يقاتلون الجيش الغازي بكل بسالة، وعندما دخل الجيش الروسي بتليس كان هو وطلابه يدافعون عن المدينة في قتالٍ شديدٍ في شوارع المدينة إلا أن القوة الروسية كانت متفوقة على القوة الصغيرة المدافعة عن المدينة، وخلال المعركة جرح النورسي جرحًا بليغًا، وأسره الروس، وأرسل إلى أحد معسكرات الأسر في “قوصترمة” شرق روسيا([7])، وفي أحد الأيام عُرِض على محكمة عسكرية لأنه لم يقم احترامًا للضابط نيفولافيج في زيارته للأسرى، فأصدرت المحكمة قرار الإعدام بموجب إهانته القيصر والجيش الروسي، فطلب من أحد الضباط أن يسمح له بخمسة عشر دقيقة فقط ليتوضأ ويصلي، وفي هذه الأثناء حضر الضابط نيفولافيج وقال له: أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنك لم تقم لي بقصد الإهانة، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم؛ لذا ألغيت قرار الحكم بحقكم([8]) ثم هربَ من الأسر مارًّا بوارسو وفيينا حتى وصل إلى إسطنبول([9]).

في دار الحكمة الإسلامية

بعد وصوله إلى إسطنبول من الأسر عُيِّن عضوًا في دار الحكمة الإسلامية، وكان من أعضائها الشاعر المعروف محمد عاكف والعالم إسماعيل حقي والمفسر حمدي يازر وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم، لكن الشيخ لم يشارك في اجتماعات دار الحكمة لحاجته إلى الراحة بعد ما قاساه من عناء أيام الأسر، وعندما تكرر غيابه أرسل طلبًا يرجو فيه إعفاءه من هذه العضوية، وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد خصصت له مرتبًا، لكنه لم يأخذ منه سوى ما يقيم به أَوَده وطبع بباقيه بعض الرسائل لتوزَّع مجانًا على المسلمين، وقال لابن أخيه عبد الرحمن: يا ابن أخي، الحكومة أعطتنا مرتبًا كبيرًا، وليس لي الآن أن آخذ منه إلا كفاف النفس، وما زاد فعليك أن ترده إلى بيت المال.

هكذا يكون العالم قدوة للناس بالعمل لا بالمظهر والقول فقط، فقد قضى عمره كله هكذا نصفه شبعان ونصفه جائع؛ إذ كان يتناول في اليوم طبقًا صغيرًا من الحَساء مع كسرات من الخبز، وكان شعاره الذي طبقه على نفسه أن لا يأخذ شيئا من أحد بدون مقابل([10]).

في قلب المحنة

 توالت المصائب على الدولة العثمانية، وتدخلت جيوش الاحتلال في تركيا، وعقدت معاهدة سيفر، فأحس النُّورْسي بهذه الطعنات وكأنها موجهة إلى قلبه، يقول: (لقد كنت أحس بأن هذه الضربات التي وجهت إلى العالم الإسلامي كأنها وجهت إلى أعماق قلبي)([11])، واحتلت قوات الاحتلال البريطاني إسطنبول في 16 آذار 1920، فألف بديع الزمان كتابه {الخطوات الست}، وأخذ ينشره سرًّا بمساعدة طلابه وأصدقائه، هاجم فيه الإنجليز بلهجة قوية رادعة، ودحض الشبهات التي أثيرت آنذاك ببراهين قاطعة مفنِّدًا حججهم، ولفَت أنظار المسلمين إلى أطماعهم، وحارب اليأس الذي تسلط على كثير من النفوس ورفع العزائم([12]).

وفي سلسلة المؤامرات على الإسلام وجه الإنجليز عن طريق كنيسة “إنجليجان” ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية لتجيب عنها بست مئة كلمة، فوجهت المشيخة هذه الأسئلة إلى بديع الزمان، وكان جوابه: (إن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بست مئة كلمة ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة بل ببصقة واحدة على الوجه الصفيق الإنجليزي اللعين)([13]). وبدأت حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي في الأناضول، فأصدر شيخ الإسلام عبد الله أفندي تحت ضغط المحتلين الإنجليز فتوى ضد حركة المقاومة والقائمين عليها، ولكن سرعان ما قام ستة وسبعون مفتيًا ومعهم ستة وثلاثون عالِمًا وأحد عشر نائبًا بإصدار فتاوى مضادة، فأيدوا الحركة وشجعوا على قتال المحتلين، وكان بديع الزمان أحد هؤلاء العلماء، يقول: (إن فتوى تصدر عن مشيخة وإدارة تحت ضغط الإنجليز لا بد أن تكون غير سليمة، ولا يجوز الانصياع لها ذلك؛ لأن الذين قاموا بمقاومة المحتلين لا يمكن اعتبارهم عصاة، لذا يجب سحب هذه الفتوى)([14]).

في هذه الفترة دعا مصطفى كمال الأستاذ النُّورْسي إلى أنقرة، فسافر إليها سنة 1922م، واستقبل في المحطة استقبالًا حافلًا، لكنه صدم عندما وجد معظم النواب لا يؤدون الصلاة، فقرر أن يكتب هذا البيان إلى النواب يعظهم ويذكرهم بالإسلام مستهلًّا بقوله: (يا أيها المبعوثون… إنكم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ. ولم يرض مصطفى كمال عن هذا البيان، فاستدعى النورسي وحدثت بينهما مشادة، وكان مما قاله مصطفى كمال: لاريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك، لكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة، فبثثت الفرقة بين المبعوثين، فأجابه النورسي مشيرًا إليه بأصبعه {باشا باشا، إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، إن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود)([15]).

فكر مصطفى كمال بإبعاده عن أنقرة لتعيينه واعظًا للولايات الشرقية بمرتب مغرٍ، لكن الأستاذ النورسي رفض هذا الطلب، وغادر إلى مدينة وان بعد أن لمس عن قربٍ نيات خفية سيئة يكنها للإسلام كثير من المسؤولين، وفي هذه الأثناء نشبت ثورة في شرق تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران، وكانت هذه الثورة موجهة ضد سياسة الكماليين المعادية للدين، فرفض الأستاذ النورسي المشاركة فيها؛ لأنه لم يكن يثق بالوعي الإسلامي للناس الذين سيشتركون فيها ومدى قدرتهم على فهم الإسلام وتطبيقه، لكن موقفه هذا لم يُنجه من غضب حكومة أنقرة، فأرسلت مفرزة اعتقلته في مدينة وان سنة 1925م، ونُقِل إلى إسطنبول ثم صدر الأمر بنقله إلى مدينة (بوردو) ومن ثَمَّ إلى مدينة (إسبارطة ) ثم إلى مدينة (بارلا)، فوصل إليها في شتاء سنة 1926م، وقضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتكون من غرفتين.

في هذه الفترة كانت تركيا تعيش حالة من الاستبداد والطغيان والعداء الصريح للدين باسم التمدن والتحضر، واستمرت هذه الفترة مدة ربع قرن حتى سنة 1950م يوم جاء عدنان مندريس إلى الحكم بالانتخابات، كان الهدف هو قطع صلة الشعب التركي بإسلامه جذريًّا من خلال تجفيف الينابيع التي تغذي روحه وعقله، فمنعوا تدريس الدين وبدلوا الحروف اللاتينية بالعربية، وأعلنوا علمانية الدولة، وشكلوا محاكم تبث الخوف والإرهاب في البلاد، فنصبت مشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة، فاعتُقل الأستاذ النورسي ونفي إلى مدينة (بارلا) لكي يجمد فكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض، لكن شاء الله أن تكون هذه البلدة مصدر إشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا([16])، فقضى النُّورْسي فيها ثماني سنوات ونصفًا في الإقام الجبرية، ألف فيها معظم رسائله، فكانت هاتان الغرفتان (أول مدرسة ثورية)، ويصف النورسي عزلته وغربته فيقول: (حينما كنت في منفاي في ذلك الأسر بقيت وحدي منفردًا منعزلًا عن الناس على قمة جبل (جام) المطلة على مراعي بارلا، وكنت أبحث عن النور في تلك العزلة).

كان أهالي بارلا يرون هذا العالم وهو يخرج من سكنه متوجهًا إلى الجبل أو عائدًا، فلا يجرؤ أحد أن يكلمه؛ فهو شخص غير مرغوب لدى السلطة ومراقب، فلم الدخول في مشكلات؟ لكن في أحد الأيام وهو راجع من الجبل سقطت الأمطار بغزارة، فتخرَّق حذاؤه، فدخل المدينة وهو يحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء، وكان هناك بالقرب من نبع الماء جمع من الأهالي شاهدوا هذا المنظر المؤثر منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه، فانطلق شخص اسمه سليمان نحوه، وأخذ الحذاء من يده ونظفه، ثم رافقه إلى سكنه وصعد معه إلى غرفته، كانت هذه بداية التعارف، ظل سليمان تلميذًا وفيًّا للأستاذ يساعده ويعاونه ويتتلمذ على يديه ثماني سنوات، وكان هو أول حلقة بينه وبين الآخرين، وبدأت حلقات التلاميذ تتسع شيئًا فشيئًا، وبدأ الأستاذ بنشر رسائله باسم (رسائل النور) سرًّا، ثم يستنسخها تلاميذه لنشرها في كل أرجاء تركيا متحملين تبعات هذا العمل من اعتقال ومطاردة وتعذيب([17]).

قرر النورسي مواجهة الزلزال الكبير، فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية وبأقلام المنافقين والمتزلفين والمتسلقين من الكتاب والصحفيين، وقد كممت فيه أفواه المصلحين وحيل بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم؛ لذلك مُنِيت أسس الإسلام وأصوله بالشك والإنكار في نفوس كثير من الشباب الذين لم يكونوا يجدون أمامهم مرشدًا أو موجهًا، فقرر النُّورْسي أن يحمل الأمانة الكبرى على كاهله لقضية إنقاذ الإيمان، فهي مسألة لا تحتمل التأجيل والتسويف؛ لذلك نرى مِن أولى الرسائل التي ألفها رسالة (الحشر)، فالبعث ويوم القيامة أو يوم الحشر في نظر العلمانيين خرافة لا سند لها من دليل عقلي أو علمي.

لم يكن لدى النورسي أي كتب أو مصادر يرجع إليها أثناء التأليف سوى القرآن الكريم، وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على الحفظ، وكانت الحروف اللاتينية قد استبدلت بالعربية التي حظر الطبع والنشر بها، وأُغلقت مطابعها، فكانت طريقة الاستنساخ باليد سرًّا هي الطريقة الوحيدة العملية لنشر رسائل النور لرجل غريب منفي مراقب، فبدأت الأيدي تتداول هذه الرسائل سرًّا وتتدارسها، وتهرب بها إلى المدن والقرى البعيدة، فبدأت تكسب قلوبًا جديدة وأرواحًا عطشى إلى الهداية والنور في تلك الصحراء المحرقة المظلمة الحالكة، وأخذت الحكومة تطارد طلبة النور وتداهم منازلهم وتفتشها، فتقبلوا هذه المضايقات بصدر رحبٍ، فالسجن هو أقل ما يمكن أن يدفعوه من ضريبة الإيمان وهو ليس سوى مدرسة يوسفية، وأسهمت النساء في هذه الحملة إسهامًا فعالًا، فأتت بعض النسوة إلى الأستاذ وقلن له: يا أستاذنا، إننا لكي نشارك في خدمة رسائل النور قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا ليتفرغوا كليًّا لكتابة رسائل النور([18])، وبقيت رسائل النور عشرين سنة تنتشر بهذه الطريقة، ولم تطبع كاملةً في المطابع إلا سنة 1956م.

المدارس اليوسفية

المدرسة اليوسفية الأولى

بعد نقل الأستاذ النورسي إلى مدينة إسبارطة عام 1934م اعتُقِل مع مئة وعشرين من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن (أسكي شهير) بتهمة تشكيل جمعية سرية تعادي نظام الحكم وتسعى لتغييره، وُضِع الأستاذ في حبسٍ انفراديٍّ مع مضايقات كثيرة تهدف للتأثير على روحه المعنوية، لكن رغم ذلك كان الأستاذ مستمرًّا في تأليف رسائل النور، ولم يسفر التحقيق معه ومع طلابه عن شيء من الإدانة إلا أن المحكمة حكمت عليه بالسجن أحد عشر شهرًا بسبب رسالة الحجاب، وبعد أن قضى الحكم في سجن أسكي شهير نُفي إلى مدينة قسطموني عام 1936م، فقضى في مخفر الشرطة ثلاثة أشهر، ثم نُقل إلى بيت صغير أمام مخفر الشرطة حتى يكون تحت المراقبة الدائمة، قضى الأستاذ في هذا المنفى سبع سنين استمر خلالها في تأليف رسائله ومراسلة طلابه بشتى الوسائل، فكانت رسائله تنقل سرًّا ثم تستنسخ باليد ثم توزع على النواحي والقرى والمدن، بهذه الطريقة استنسخت ست مئة ألف نسخة، وانتشرت في أنحاء تركيا  كلها.

كانت الحركة النورسية في توسع دائم ونشاط مستمر، ففشلت كل التدابير الحكومية في بناء سد يُعيق هذه الحركة أو يُوقف تقدمها، لكنها استمرت في إلصاق التهم بها، ففي 31 آب 1943م داهمت الشرطة بيته بحثًا عن أدلة تدمغه، لكنهم لم يعثروا على شيءٍ، ومع ذلك نُقل الأستاذ مع مائة وعشرين من طلابه إلى أنقرة([19])، وكانت التهمة الموجهة إليهم تأليف جمعية سرية وتحريض الشعب على الحكومة العلمانية ومحاولة قلب نظام الحكم وتسمية مصطفى كمال بالدجال والسفياني([20]).

المدرسة اليوسفية الثانية

نقل الأستاذ من أنقرة إلى مدينة (دنيزلي) ووضع في سجن، وشكلت الحكومة لجنة تدقيق لرسائل النور لينظروا: هل فيها موضوعات سياسية أو أية أفكار أخرى ضد الحكومة، فاعترض النورسي على تكوين هذه اللجنة لأنه رآها تكونت من أشخاص جهلاء غير مؤهلين للحكم على رسائله، فشكلت الحكومة لجنة أخرى، وكانت النتيجة أنهم لم يعثروا فيها على شيء فيه إدانة للنورسي، وبقي النورسي موقوفًا في سجن دنيزلي في زنزانة انفرادية، وكان طلابه مسجونين في السجن نفسه، فعقدت محكمة العقوبات الكبرى عدة جلسات للمحاكمة ألقَى فيها الأستاذ دفاعًا رائعا نورد جزءًا منه، قال الأستاذ:

(نعم نحن عبارة عن جمعية تحوي في كل عصر أربع مئة مليون من الأعضاء المنتسبين إليها، وهم يتسابقون دائما إلى تحقيق أهم شعارها ألا وهو {إنما المؤمنون إخوة}، فنحن من أفراد هذه الجمعية العظيمة…، بأي وجه تريدون إيقاف حركة رسائل النور التي هي عبارة عن خدمة حقائق القرآن، من يستطيع أن يقف في وجه حقيقة ترتبط بعرش الله تعالى؟([21]) إنني لا أتوجه في بياني هذا إلى أعضاء هذه المحكمة فقط بل إلى تلك الجماعة المتآمرة في (إسبارطة) أيضًا، أيحق لمارق مثل (د دوزي) أن يفتري على القرآن وحقائقه في وقاحة وإصرار، ويُعد ذلك أمرًا مقدسًا لأنه حرية للرأي والفكر، أهذه حرية الرأي والفكر؟

أما عن الجمهورية العلمانية فنحن نعلم أنها تلك التي لا تتعرض للدين في خير أو شر، ولكنكم تفسحون الطريق أمام كل جريمة وفاحشة خلقية وكذب على الله باسم الحرية الوجدانية والفكرية، إن دعواكم ليست إلا استغلالًا ووسيلةً لإعدام الدين باسم المحافظة على الأمن، فاسمعوا يا من بعتم دينكم بدنياكم وهويتم في الكفر المطلق، إنني أقول لكم: افعلوا كل ما يمكنكم فعله، فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء لأصغر حقيقة من حقائق الإسلام، إن السجن الخارجي على هذه الحال أسوأ مئة مرة من ذلك السجن الداخلي في ظل هذا الاستبداد، لا يمكن أن يقال: إن هناك حرية؛ حرية العلم أو حرية الضمير أو حرية التعبير أو حرية الدين، على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون؟! إن الزنادقة والمنافقين غرروا بكم وانحرفوا بالدولة عن وظيفتها الأساسية، إنهم اتخذوا من الاستبداد جمهورية ومن الردة نظامًا ومن الجهل والسفه مدنيةً ومن الظلم قانونًا؛ وبذلك خانوا وطنهم وضربوه ضربة ما كان لأجنبي أن يضربه مثلها)([22]).

ورغم صدور قرار المحكمة في 15/6/1944م ببراءة الأستاذ النورسي إلا أنه لم يطلق سراحه، وجاءت التعليمات بنفيه إلى قضاء أميرداغ، فنُقل ووضع في إقامة جبرية، ووضع على الباب حارس على الشيخ، فكتب الشيخ رسالة إلى رئيس قوى الأمن قائلًا له: (لماذا تعاملونني معاملة غير قانونية وأنا شخص أعاني من الغربة والمرض والشيخوخة؟ إن على هؤلاء الذين يقولون إنهم لا يريدون ظلمي ويحكمون ببراءتي أن يردوا إلي قبل كل شيء حريتي، إنني أتمكن أن أعيش بدون طعام لكن لا يمكن أن أعيش بدون حريتي([23]). إذا استطاعوا أن يسكتوني أمام الناس فلن يستطيعوا إسكات رسائل النور التي تصل إلى شغاف القلوب، إن كل نسخة تقوم مقامي، ولن تسكتها أية قوة على الأرض)([24]).

المدرسة اليوسفية الثالثة

هل كان مرور اثنتين وعشرين سنة على حياة النفي والإقامة الجبرية والمراقبة والترصد لشيخ بلغ الخامسة والسبعين يكفي جلَّادِيه القساة؟ كلا، ففي 3 كانون الثاني سنة 1948م داهمت الشرطة بيت الشيخ وبيوت خمسة عشر من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن مدينة أفيون، واعتُقل أربعة وخمسون طالبًا من طلاب النور أيضًا، والتهم الموجهة إليهم هي التهم السابقة نفسها، وهي الاتهام بتشكيل جمعية سياسية أو السعي ضد نظام الحكم، استمرت جلسات المحكمة مدة طويلة وصدر القرار أخيرًا في 6 كانون الأول 1948م بالحكم على الشيخ بالسجن عشرين شهرًا، وبالحكم مددًا مختلفة على عدد من طلابه، وعومل الشيخ في هذا السجن معاملة قاسية؛ وضعوه في غرفة كبيرة في الشتاء القارس، وتركوه بدون مدفأة، وبعد انقضاء مدة الحبس اضطرت المحكمة إلى إخلاء سبيله([25]).

واستبشر المسلمون سنة 1950م بمجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم لا لأن هذا الحزب كان إسلاميًّا بل لسببين:

الأول: أنه أزاح من الحكم أشرس عدو للإسلام.

الثاني: أنه أعطى بعض الحرية للنشاط الإسلامي وأعاد الأذان الشرعي، لذلك أرسل الأستاذ برقية لرئيس الجمهورية الجديد جلال بيار تمنَّى فيها أن يوفقه الله لخدمة الإسلام، ورد عليه الرئيس ببرقية شكر.

ملامح من منهج الأستاذ النورسي

الشيخ النورسي والتجديد

تمثل رسائل النور التراث النورسي العلمي والفكري والتربوي، فالمطلع عليها يصل إلى قناعة أنه بهذه الرسائل جدد العَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، واستطاع أن يقود السفينة بعقل ومنطق وحكمة، فكان أسلوبه في أصول العقائد مخاطبة الأمة بخواصها وعوامها ورجالها ونسائها، وكان يؤمن أن فهم القرآن والاطلاع على حقائقه في عالم الأنفس والآفاق يرسم الموازنة الكاملة في فكر العالم المسلم؛ لذلك كان يأخذ بيد المسلم ليقرأ بنفسه حقائق التوحيد على لوحة الوجود([26])، ولم يكن أسلوبه ترفًا فكريًّا كما أنه لم يأت من فراغ ولا من ثقافة باردة بل نبع من مواجهته لتطورات الفكر في عصره، وكان قد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة وغيرها لكنه لم يقتنع بأنها وسيلة مجدية في إنقاذ الإيمان، فاتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله لأنه أقرب الطرق إلى الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة عن الحق والقلوب العامرة بالتوثب الدائم، وأكثر الطرق انطباقًا على آيات الأنفس والآفاق، فهل كان النورسي مجددًا فريدًا في عصره؟

نعم لقد كان النورسي مجدِّدًا في مسلكه وطرحه وفكره؛ فقد كان مفكرًا بحق، عاش آلام أمته وتحمل في سبيلها كثيرًا من العنت والمشاق، وكان مشعلًا لها في دياجير الظلام التي خيمت عليها([27])، فمضى النورسي في صراع حضاري مرير محاولًا صياغة الناس صياغة ربانية في إطار إنقاذ الإيمان والدعوة إلى النظام الإسلامي، فهدفه تجديد حياة المسلمين في إطار الزمن الحاضر والصراع الحضاري الحاضر في حدود الدائرة القرآنية ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقيم الرفيعة التي صاحبت الجيل الأول، فكسر الحدود المصطنعة التي وضعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا في القرون الأخيرة لفصل الدين عن العلم؛ لذلك دعا إلى تأسيس جامعة تجمع بين العلمين، لأنه أدرك بعمق أن تلك المناهج الفكرية التراثية لن تستطيع الوقوف أمام الإغراءات الفكرية لمناهج الحضارة المادية، فترك منهج علم اللام القديم ولجأ إلى منهج الكتاب المسطور والكتاب المنظور والقرآن الناطق المطبَّق لتتفق حقائق العلم مع حقائق الوحي، فحول النورسي إعجاز القرآن إلى معركة مُنتجة يتحدى فيها كفر الكافرين ونفاق المنافقين وردة المرتدين الذين ضللتهم فلسفات الغرب، فأردتهم إلى الحضيض وأفسدت كيانهم وحيرت عقولهم([28]).

منهج البناء عند النورسي

يقول النورسي: هناك أصول أربعة للعروج إلى عرش الكمالات وهو معرفة الله عز وجل:

أولها: منهج الصوفية المؤسس على تزكية النفس والسلوك.

ثانيها: منهج علم الكلام.

ثالثها: مسلك الفلاسفة.

رابعها وأَوْلاها: طريق القرآن الكريم الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق إلى الله وأشمله لبني الإنسان، وهو يُدلِّل على أن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده([29])، فوضع النورسي منهجا شاملًا مستفادًا من القرآن والسنة والسيرة، وقد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة، غير أنه لم يقتنع بها في دعوته لإنقاذ الإيمان وإنما اتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله.

استطاع النورسي بإيمانه وعزة نفسه وصلابة شخصيته الدخول في معركة مع الحكام ومواجهتهم، لكنه كان مقتنعًا بأن هذا الأسلوب ليس من مصلحة الأمة، وكان يدرك تماما أن الأمة في صراعها الداخلي لم تكن بحاجة إلى الشهداء، بل هي بأمس الحاجة إلى العلماء العارفين والدعاة العاملين والحكماء المفكرين لإنقاذ الإيمان والوقوف أمام الردة الحضارية والزحف الجاهلي متمثلًا بالحقد الصليبي والتآمر اليهودي وخيانة المنافقين([30]).

كان يؤمن بالنظام في حركة التغيير الاجتماعي ويرفض الفوضى، ويعتقد بالتدرج والانتقال من المقدمات الصحيحة إلى النتائج الصحيحة، وفي ضوء ذلك يدعو الإنسان إلى تغيير اجتماعي منظم من القاعدة إلى القمة لا العكس، ولإيمان النورسي بالتغيير في إطار الوعي الاجتماعي والدعوة السلمية والتخطيط الهادئ فإنه لا يبيح الثورة المسلحة داخل المجتمع الإسلامي؛ لأن ذلك لا يخدم من وجهة نظره إلا العدو الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي، غير أنه لا ينكر أن استخدام الهراوة قد يُحتاج إليه في المراحل الأخيرة من بناء المجتمع الإسلامي الجديد لأن من لا يقيده النصح والإرشاد يقيده الهلع والإبعاد؛ فهو يعتقد أن التغيير الشامل في الحياة الإسلامية لا بد أن يبدأ من البنى التحتية المعنوية والمادية لا من وصفات مؤقتة؛ وذلك لملء الثغرات الخطيرة في البنيان الفوقي، وهناك ناحية أخرى يتسم بها منهجه وهو عدم الدخول في الصدامات الداخلية مع التيارات الإسلامية الأخرى لتوجيه الجهود الدعوية كلها إلى الجاهلية المعاصرة([31])؛ لذا لم يدع إلى الثأر للنفس رغم الظلم الذي مُنِيَ به هو وطلابه، وما كان يدعو للثأر للإسلام بالقوة والغضب بل بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة لتبليغ الدعوة وإنقاذ الإيمان، ومن المعلوم أن إنقاذ الإيمان عنده يعني إنقاذ الإسلام -من حيث هو كل لا يتجزأ- من مخططات العلمانيين وبالانطلاق من حسن الظن بالمسلمين وتجنب تكفير أي أحد منهم([32]).

ويرى أن الجهاد في العالم الإسلامي هو جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة والعلم والنصيحة لإعادة الأمة إلى حظيرة الإسلام حسب قانون التدرج، ويؤمن بأن المجتمع الذي يفقد أسس الإيمان وحرارة الانتماء لا فائدة من الحديث معه عن تفاصيل الشريعة، فالقاعدة الإيمانية إذا تكونت صار تطبيق شرع الله خطوة طبيعية نحو الوصول إلى المجتمع بحكم نظام الإسلام، ويرى الابتداء بالإيمان للانتقال إلى التربية فالشريعة، لكن ليس معنى ذلك أنه طبق هذه الخطوات منفصلة دون ترابط جامع([33])، ولا شك أن النورسي وصل إلى هذا الرأي بعد أن استقرأ جميع الثورات الاجتماعية في العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقول: إن الجهاد في أي مجتمع مسلم إنما هو جهاد معنوي يوصَل إليه عن طريق تنوير الأقطار وإصلاح القلوب والأرواح، وبذلك يكون جهادا إيجابيا بناء([34])، وقد طبق هذا عمليا أثناء ثورة الشيخ سعيد بيران، وامتنع عن المشاركة فنجح أسلوبه بينما فشل أسلوب الآخرين، وبنى مدرسة ثقافية إسلامية روحية انتهت إلى إحداث وعي إسلامي قوي، وبه جاهدَ الكفر والإلحاد وهوَى بمعاول التوحيد الحق على مراكز الثقافة الفكرية والاجتماعية التي تفرعت عن المدارس المادية، فظهرت نتائجه عام 1950م بفوز عدنان مندريس في الانتخابات وتأييد طلاب النور له، وبعد نجاحه قام بتغييرات كثيرة في الدولة والمجتمع، وتبع هذا ظهور الصحوة الإسلامية في تركيا وبدء عودة المجتمع في كثير من مظاهر حياة أفراده إلى عقيدته وحضارته الإسلامية.

النورسي والسياسة

هل ترك النورسي السياسة وانسحب من الحياة عندما قال: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة، ولم يهتم بشؤون المسلمين، ولم يواجه الحكام بكلمة الحق والدفاع عن الدين خصوصًا أنه قسم حياته إلى سعيد القديم وسعيد الجديد وسعيد الثالث؟

الحقيقة؛ أنه لم يخالط الحكام ولم يدخل في أتون السياسة الميكافيلية التي تجسد التزلف والنفاق والمصالح الذاتية، ولم يكن طالبًا للمال والجاه والمنصب، بل لعن كل هذه المظاهر لعنَهُ لإبليس واستعاذ بالله منها، لكنه مع ذلك دخل السياسة الحقيقية من أوسع أبوابها، ولم يترك الأمة تعاني القهر وحدها في الميدان، ولم يتوانَ عن قَدْح سلاحه في وجه الزندقة والعلمنة، فواجه الضالين بالإيمان وواجه القانون الغربي بشريعة الإسلام والمخطط العلماني بالمخطط الإسلامي، فضحى لإنقاذ الجيل من التغريب بكل شيء راحةً ومالًا ومنصبًا وسجنًا وتشريدًا وإقامةً جبرية في المنفى، وهكذا ارتقى إلى الأفضل والأحسن والأصلح لقضايا الأمة.

كان سعيد القديم يخالط الناس في المجتمع ويسمع ثرثرتهم ويتحمل تفاهاتهم، فانسحب سعيد الجديد ليتفرغ لنفسه أولا، وكان سعيد القديم معتزًّا بمظاهر الدنيا ليثبت أنه علامة الزمان ومثقف العصر، فكان يظهر أمام المجتمع مجادلًا عنيدًا، فعاد سعيد الجديد إلى نفسه ليرى أن كل ذلك طريق الغرور وسبيل إلى بلبلة الفكر وضياع الشخصية وابتعاد عن منهج القرآن الكريم، وتحول إلى باحث عن الحقيقة قائد للمسيرة الطاهرة لإنقاذ الأمة من الكفر والنفاق والفصام، وكان سعيد القديم مفكرًا، لا حول له ولا قوة، لا يحسب له المتآمرون على الدين والوطن حسابًا، أما سعيد الجديد فخاض غمار السياسة سابرًا لمخاطرها قائدًا حركيًّا خطيرًا، يقود الركب وينقذ الإيمان ويهيئ صفوف الدعاة ليوم المواجهة، أَوَبْعد هذا كله يقال: إن سعيد الجديد ترك السياسة؟

وعندما تطوِّف في رسائل النور ترى أنه ينتقد الحكام بأنهم يدفعون الأمة إلى هاوية المدنية الدنيئة، فاللمعة الثانية والعشرون كلها سياسة، وأجوبة عن أسئلة سياسية، يبين فيها استهانة الدولة ورجالها بالحق وظلمَهم للدعاة وكذبهم على الناس، ويصفهم بأنهم طغاة متجبرون متكبرون بلغوا الفرعونية…([35])، ويصف الطاغية في زمانه بالمبتدع الملحد المفسد الضال، ويصف الذين يأتمرون بأمره بالمنافقين ويقول: إن زمان الإمساك بالهراوة لم يأت بعد لأنه مشغول بإنقاذ الإيمان وإحداث الوعي أوَّلًا، ويدعو طوائف الأمة إلى الائتلاف فيقول لهم: إن لم تزيلوا هذا النزاع فإن الزندقة الحاكمة الآن حكمًا قويًّا ستستغل أحدكم ضد الآخر وتستعمله أداة لإفنائه([36]وصرح بأن القومية التي تتبناها الدولة سم قاتل ومرض أوروبي خبيث، ألقته أوربا للمسلمين ليسهل عليها ابتلاعهم قطعا متناثرة، وهاجم الفكر القومي العلماني مهاجمة شديدة، وبيَّن جذوره الأوربية، وهاجم علماء السوء الذين يصدرون فتاوى لتسويغ أعمال الدول في تغيير الشعائر الإسلامية، وينتقد رجال الدولة فيقول: (أخاطب أولئك الرؤساء المتفرغين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهوائهم، وأنتقد بشدة تدريس الفلسفة المادية الإلحادية للشباب)([37])، ويبين أنهم يرتكبون هذه الأفعال تحت ستار الإفرنج والتمدن بمدنية فرعونية، تلك المدنية التي تزيل حجاب الحياء وتُشبع نزوات أغنياء سفهاء، وتكون وسيلة لشهرة طغاة ظلمة، وتزيد بأس البائسين وألمهم، ويقول: (أيها الملحدون المتفرنجون الذين يسعون لصرف إخواني الحقيقيين عني بدعايتهم أي نفع تسدونه لهذه الأمة؟ إنكم تطفئون نور أهل التقوى والصلاح)([38]).

هكذا كان النورسي في تلك الفترة، فإذا لم تكن هذه سياسة وعملًا بشؤون الدنيا والسياسة فيا ترى كيف تكون السياسة؟ إن ترك السياسة عند النورسي يعني عدم الاتصال بالحكام وعدم ذكر أسمائهم، والابتعاد عن الصدام معهم صدامًا حركيًّا مباشرًا، والامتناع عن الكتابة في صحفهم والنأي عن التهريج بكلمات جوفاء لا تفيد القضية، هكذا كان مخططه الإسلامي بدايةً صحيحة معاكسة مقاومة للمخطط العلماني([39]).

بعد سقوط الخلافة وظهور الأعداء علنًا وبيدهم القوة الغاشمة بدأ النورسي يدخل السياسة من باب آخر، يعتمد على التخطيط والمواجهة الذكية وتحويل المعركة من أسلوب إعلامي فاضح إلى مخطط فكري عميق لصياغة الأمة المنكوبة من جديد، وكان للنورسي من قوة الإيمان والشجاعة ما يستطيع به المواجهة ويضحي بنفسه شهيدًا، لكن كان يعلم جيدًا أن هذا ليس من مصلحة الأمة، وكان موقنًا أن الأمة لم تكن يومئذ بحاجة إلى شهداء، بل إنها بأمس الحاجة إلى العلماء والدعاة المفكرين كي ينقذوها من السقوط الإيماني والردة الحضارية والهمجية الجاهلية([40]).

وعندما بدأ نصب التماثيل في الميادين قال النورسي: (النصب الذي يجب على المسلمين إقامته هو المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام والأقسام الداخلية للطلبة ودور العبادة وشق الطرق)([41])، وظل النورسي في عهده القديم وفي عهده الجديد هو هو، لم يتغير لكنه أدخل التغيير في خططه وأسلوبه السياسي في كتابة رسائله، فنشر الوعي الصحيح في ظل قاعدة التدرج والأخذ بنظام الأولويات دون حاجة إلى استعمال العنف، ولو لم يكن النورسي شخصية سياسية مؤثرةً لَمَا قضى جل حياته في السجون والمحاكمات والمنفى والإقامة الجبرية، ولَمَا مُنِعت رسائله من النشر بينما لم يفعلوا ذلك بغيره من العلماء؟ فما فعلوا ذلك بالنورسي وحده إلا لأنهم كانوا يعلمون أنه بصدد مشروع نهضوي حضاري شامل؛ لذلك عدوه سياسيًّا خطيرًا([42])، وأشار النورسي إلى أن سبب تخلف الدولة العثمانية فئات ثلاث تتحمل قسطا كبيرًا من مسؤولية تأخرها:

الأولى: فئة العلماء.

الثانية: فئة المتعلمين المثقفين الذين لم يفهموا حقيقة الغرب.

الثالثة: فئة أصحاب الزَّوايا، وبيَّن أن كل فئة من هذه منغلقة على نفسها وتتهم الآخرين بالكفر أو الجهالة.

موقفه من الاجتهاد

كان موقف النورسي من حركة الاجتهاد ردَّ فعلٍ واقعي على حركة التغريب التي أرادت أن تصبغ المجتمع الإسلامي بصبغة الحياة الأوربية جملةً وتفصيلًا، فرأى أنه لا معنى للدعوة إلى الاجتهاد في جو كهذا لم يبق لضوابط الإسلام فيه أية قيمة، فأي نوع من الاجتهاد سيجري الآن سيكون في فلكِ الحياة الغربية، ومن المنطقي أن كل فلسفة لها أسسها وقواعدها، ومعالجة أية قضية تتفرع منها لا يمكن أن تتم إلا في إطارها؛ فرأى النورسي أن بعض العلماء الذين لا يتحلَّون بأي شرط من شروط الاجتهاد يسوغون كل التطورات الإلحادية التي جرت في تركيا باسم الاجتهاد، فهو يؤمن أن باب الاجتهاد مفتوح لكنه يعتقد أن هناك موانع تحول دون الدخول فيه الآن:

أولها: فتح باب الاجتهاد في قطر الإسلام المنيف أو فتح الثغرات التي هي وسيلة لتسلل المخربين؛ خيانةٌ في حق الإسلام.

ثانيها: إن الاشتغال بتقوية أصول الإيمان وما هو قطعي الثبوت من النصوص التي مُنِيت بالتشكيك أفضل من الانشغال بأمور نظرية جزئية؛ لأن العقائد الإسلامية وأصولها التشريعية غدت في خطر كبير فما فائدة الحديث في الفروع؟

ثالثها: تحكُّمُ الفلسفة المادية ومظاهر الحياة الغربية في حياة المسلمين اليوم أنستهم رضَا الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإن أي حديث عن الاجتهاد في مثل هذا الجو لا يكون مبنيًّا إلا على أسس بعيدة عن الورع والتقوى.

رابعها: إن حركة الاجتهاد في العصر ليست ناشئة عن رغبة داخلية أو حاجة اجتماعية منسجمة مع التطور الطبيعي، وإنما متأثرة بمشكلات الحضارة الغربية التي تضغط على مجتمعنا؛ لذلك فهي لا تكون إلا وسيلة لتخريب المجتمع الإسلامي.

خامسها: إن الاجتهاد لا بد أن يجري في إطار الشريعة مهما تغيرت الحياة، ولكن تطور الحياة في عصرنا تطور مقلِّد يسير بمعزل عن ضوابط الشريعة؛ ومن هنا فإن الاجتهاد لن يكون في إطار ضوابط الشريعة بل في إطار غير منضبط بضوابط الشرع، لذلك تكون هذه الاجتهادات وفق قوانين أرضية وليست سماوية([43]).

النورسي وتجديد علم الكلام

إن ظروف مجتمع النورسي القاسية التي فرضت الإلحاد والزندقة بقوة الحديد والنار على المسلمين دفعته إلى التركيزِ على اتجاه آخر وصرفِ حياته كلها في سبيل توضيحه وتفهيمه، وهو تجديد علم الكلام تجديدًا واضح المعالم قوي الأركان، فأوجد علمَ كلام قرآنيًّا جديدًا استطاع به نقل علم التوحيد من نظريات فكرية مجردة يفهمها الخاصة إيمانًا عقليًّا مجردًا إلى سلوك في الحياة؛ ينفعل به العقل وتثور العاطفة ويتحول إلى ممارسة يومية، تحدد خط السير المستقيم للإنسان المسلم، وتحول بينه وبين الوقوع في الحرام.

إن علم الكلام استطاع في فترات الجدال العقلي بين الخاصة أن ينقذ الإيمان العقلي لكنه لم يستطع أن يصوغ حياة المسلم صياغة ربانية تحقق المعنى الحقيقي لعبودية الإنسان لرب العالمين، أي إنه لتأثره الواضح بالمنهج الفلسفي الجاف لم يستطع أن يتحول إلى مدرسة للتربية الاجتماعية؛ لذلك فإن مجرد إعلان الإيمان بالله لم ينقذ سلوك المسلمين في العصور الأخيرة من كارثة البعد والشرود التي أدت إلى انحدارهم وسقوطهم وفقدانهم حقيقة التوحيد من حياتهم، وقد استطاع النورسي أن يحدد المرض الخطير في جسم الأمة، ثم عالجه معالجة قرآنية خالصة، فحول عقيدة التوحيد إلى حياة مفعمة بمعاني الإخلاص والاستقامة والتضحية والسلوك([44]).

كان أسلوب النورسي في الحديث عن أصول العقائد الإسلامية فريدًا في بابه؛ فهو يعتمد على الأسلوب التفصيلي الذي يدخل قارئه إلى جذور القضايا بعكس علماء الكلام السابقين الذين كانوا يخاطبون الفلاسفة وتلامذة العلم العقلي التجريدي، فكانوا يعتمدون على الإيجاز الشديد والمقدمات العقلية والمصطلحات العلمية المعروفة لا يتجاوزونها، بينما كان النورسي يخاطب أمة كاملة بخواصها وعوامها وقعت في براثن خدعة حضارية مادية شاملة، فتكت بعقول أبنائها وقلوبهم وسلوكهم، ودخلت في تفاصيل حياتهم بطرائق مغرية([45]).

النورسي والفلسفة

اطلع النورسي على مدارس الفلسفة المتنوعة منذ عصر اليونان إلى زمانه، لكنه رفضها ورفض مناهجها المخالفة للإسلام إلا إذا استجابت للدين وانقادت له فحينئذ تنتعش الإنسانية بالسعادة وتعيش حياة اجتماعية سليمة، والحق أن كثرة المدارس الفلسفية وتنوع آراء الرجال فيها دليل على عدم عصمة الفلسفة، فهي اجتهادات العقول البشرية خارج الوحي، وسببَّ هذا انحرافًا في فهم ماهية (أنا) في الإنسان، فقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، فالفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها لأنها تجاهلت نظام الكون وأسراره، ولا تجيب على أسئلة العقول وتتجاهلها([46])؛ وبذلك حصل الطغيان في (أنا) الإنسان عندما تحول الوهم إلى الحقيقة في جانب الخير، فأنكر ربوبية الخالق، وبدل أن يدرك بعلمه الجزئي علم الله المطلق لم يعترف بوجوده أصلًا، وهكذا نسي (أنا) حكمةَ خالقه معتقدًا بنفسه أنه المالك الحقيقي ولا مالك غيره([47]).

ويدخل النورسي في مقارنة واقعية بين نتائج حكمة القرآن وحكمة الفلسفة وما يعطيه كل منهما من تربية للمجتمع الإنساني فيقول: إن حكمة الفلسفة ترى (القوة) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية، وتهدف إلى (المنفعة) في كل شيء، وتتخذ الصراع دستورًا للحياة، وتلتزم (بالعنصرية) والقومية السلبية رابطة للجماعات؛ أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى، ومن المعلوم أن شأن القوة هو (الاعتداء)، وشأن المنفعة هو (التزاحم)، وشأن (الصراع) هو (النزاع والجدال)، وشأن (العنصرية) هو (الاعتداء) إذ تكبر بابتلاع غيره وتتوسع على حساب العناصر الأخرى؛ ومن هنا نرى لماذا سلبت السعادة من البشر.

أما حكمة القرآن الكريم فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلًا من (القوة)، وتجعل رضا الله – سبحانه – ونيل الفضائل هو الغاية بدلًا من (المنفعة)، وتتخذ دستور (التعاون) أساسًا في الحياة بدلًا من دستور (الصراع)، وتلتزم برابطة الدين والوطن لربط فئات الجماعات بدلًا من العنصرية والقومية السلبية، وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية، وشأن الحق هو (الاتفاق)، وشأن الفضيلة هو (التساند)، وشأن دستور (التعاون) هو إغاثة الكل للآخر، وشأن الدين هو الأخوة والتكاتف، وشأن إلجام النفس وكبح جماحها وإطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين)([48]).

وليس موقف النورسي من الفلسفة عدائيًّا، وإنما هو يميز بين الفلسفة الخادمة والفلسفة الكافرة الجاحدة التي ترفض مبادئ الدين الحق (الوحي الإلهي).

والأستاذ النورسي لا يرفض الفلسفة المادية فقط وإنما يرفض ما يسمى بالفلسفة الإلهية القديمة التي تحولت إلى أبواب من الشرك ممثلة بروادها اليونانيين وتلامذتهم من المسلمين كالفارابي وابن سينا، وإذا كان الإشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهمًا يتفوهون بالسخف من الكلام فكيف يكون -يا ترى- كلام من هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين([49])؛ لكل ذلك يعتقد النورسي أن الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا لن ينالوا إلا أدنى درجات الإيمان لأنهم اتخذوا (الفلسفة اليونانية) أستاذًا لهم([50]).

موقف النورسي من الحضارة الغربية

كان النورسي مفكرًا إسلاميًّا يؤمن بتطور الحياة وتجددها، لكنه يرفض الأسس الثقافية الناتجة عن الفلسفات المادية في الحضارة الغربية، وقد حدد النورسي خمسة أسس مادية تقوم عليها الحضارة الغربية:

أولها: هذه الحضارة تؤمن بالقوة ولا تؤمن بالحق، والقوة بدون الحق تؤدي إلى الاعتداء والتجاوز على الأمم الأخرى ومخالفة الموازين العادلة والمعاهدات الصادقة والتصرفات المستقيمة.

ثانيها: إيمانها بالمنفعة (البراغماتية) التي تستوجب الرذائل في الأخلاق والقضاء على الفضيلة؛ لأن الأخلاق تكون تابعة لمصلحة المنفعة التي شأنها التخاصم الذي ينتهي إلى الجناية بحق الأفراد والجماعات والأمم.

ثالثها: دستورها في الحياة التصادم بدل التعاون لأنها قائمة على الصراع الحيواني في المدافعة والمنافسة.

رابعها: لم تؤمن بغير رابطة القومية والعصبية التي تنمو على حساب غيرها وتبتلع الآخرين، وهذا يؤدي إلى العنصرية التي تؤدي إلى التصادم، فينشأ منه الدمار والهلاك.

خامسها: أنها تحتوي على مغريات رهيبة جذابة كتشجيع الأهواء والنزوات وإشباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع دائما مسخ الإنسان وتغيير فطرته وحياته؛ ولذلك فهي بدورها تمسخ إنسانية الإنسان وتحولها إلى مجرد الحيوانية([51]).

ويتحدث النورسي في هذا المجال عن أثر الإباحية الغربية في النساء، فقد أطلقتهن من أعشاشهن وامتهنت كرامتهن وجعلتهن متاعًا مبذولًا، واستباحت بهوى الشباب الطائش أعراض النساء والعذارى الفاتنات ودفعتهنَّ إلى الاختلاط الماجن البذيء([52])، ويؤكد أن المسلمين لم يقبلوا هذه الحضارة باختيارهم وإرادتهم بل فرضت عليهم مبادئها ونتائجها فرضًا؛ لأن الحضارة التي عاشوا فيها وانطلقوا منها إلى بناء الحياة تختلف في أصولها ونتائجها عن هذه الحضارة، فنقطة استنادها الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائما العدالة والتوازن، ومن هنا ينشأ السلام ويزول الشقاء، وهدفها الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة المحبة والتقارب، ومن هنا تنشأ السعادة وتزول العداوة، ودستورها في الحياة التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات، وخدمتها للمجتمع بالهدى بدل الأهواء والتنازع، وشأن الهدى الارتقاء بالإنسان ورفاهه وتنوير روحه، ورابطتها بين المجموعات البشرية رابطة الدين والانتساب الوطني وأخوة الإيمان، وشأن هذه الرابطة أخوة خالصة وطرد العنصرية والقومية السلبية([53])، ويحذر النورسي المسلمين أن يكونوا كتلك الأقوام التي ضحت بكل مقدساتها في سبيل الغرب للأسباب الآتية:

1 ـ إن دين المسلمين هو دين التوحيد الحق الذي يتساوى في ظله الناس جميعا، انبعث من نظام حضاري متكامل يستند إلى الإيمان والعلم والعقل ومعالجة حياة الفقر والتأخر الاجتماعي.

2 ـ إن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام بيد ظالمين يسحقون شعوبهم كما حصل في أوربة.

 3 ـ من الخطأ قياس الإسلام على النصرانية، فأهل الغرب لم يتقدموا إلا عندما تركوا التعصب الديني، أما المسلمون فلم يتأخروا إلا عندما تركوا التمسك بحقائق الإسلام.

4 ـ من الخطأ الاعتقاد أن ساسة الغرب قد تركوا التعصب الديني تجاه المسلمين حتى يفكر الساسة المسلمون في تقليدهم في ذلك.

5 ـ إن الفلسفة والدين لا بد أن يكونا في خدمة الدين الحق الإسلام حتى تكون الحياة متوازنة.

6 ـ إن وضع اللغة والوطن والعنصر بمواجهة الإسلام خطر عظيم على الأمة لأنه يمزق وحدتها، أما إذا اتحدت تلك العناصر فستنتهي إلى صنع أمة قوية.

7 ـ إن الإسلام عبر التاريخ هو الذي صاغ القيم العليا للأمة، وبها استطاع أن يثبتَ قرونًا من الزمان أمام الطامعين الاستعماريين([54]).

ويتوقع النورسي أن البشرية في هذه الحضارة بعد أن أصابتها الانحرافات السلوكية والعقدية والحروب المدمرة ستبحث عن حقائق القرآن الكريم لإنقاذها من أمراضها الفتاكة ومحنتها الحضارية المدمرة([55])، أما موقف النورسي من الجوانب العلمية في الحضارة الغربية فهو موقف المسلم الذي فرض عليه الإسلام أن يتحرك لاكتشاف قوانين الحياة والاستفادة منها لإقامة الحضارة وبناء التقدم؛ لذلك دعا المسلمين للأخذ بأسباب الحضارة الصناعية لأنها من ضرورات إقامة الحياة القوية، ويؤكد النورسي أن تجديد المجتمعات الإسلامية يحتاج إلى تبني التقنية الحديثة مع المحافظة على الأصالة والقيم الذاتية، فينبغي اتخاذ اليابان مثلًا في أخذهم الحضارة الغربية مع احتفاظهم بمقوماتهم القومية([56]).

إن منهج العلاقة بالغرب وأسس حضارته في سياق هيمنته عند النورسي الاستثناءُ بدلَ التعميم في الحكم على الآخرين، والاستفادة منهم وضرورة التمييز بين دائرة الاعتقاد ودائرة المعاملات في التعامل مع تلك الحضارة، فخذ ما صفا ودع ما كدر، وتتنوع أساليب خطابه في سياق التدافع الحضاري وتحريك المشترك الإنساني العام في الحوار مع عقلاء الحضارة الغربية؛ لذلك لم يكن يقصد في خطابه لحضارة الغرب إظهار الغلبة والانتصار للذات، وإنما كان يسعى إلى الدفاع عن قضية الإنسان المعاصر وإنقاذه من فتنة الطغيان المادي الذي فرضته الحضارة الغربية حتى أضحت خطرا يهدد البشرية، يقول سعيد النورسي:

(فهذه المدنية الخبيثة التي لم نر منها غير الضرر هي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتها على حسناتها، فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية إلى أحضان الشقاء، وأخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة، وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك)([57]).

والإنسان في فكر النورسي هو المحور الأساس لتحديد رؤية شاملة نحو حضارة معينة، فكل حضارة احترمت حقوق الإنسان وحافظت على أبعاده الروحية والمادية هي حضارة إيجابية نافعة، وكل حضارة استعبدت الإنسان وقضت على إنسانيته هي حضارة ضارة، فقد اعتمد السعادة البشرية معيارًا لتحديد معالم الحضارة الإيجابية، وهو ما جعله يقسم المدنية الحديثة إلى ضارة ونافعة.

رسائل النور

عدد أجزاء رسائل النور يتجاوز (130) رسالة باللغة التركية جمعت في مجلدات من الحجم المتوسط، وهي الكلمات والمكتوبات واللمعات والشعاعات والملاحق أعني ملحق بارلا وقسطموني وأميرداغ، وجوهر هذه الرسائل كلها هو الإيمان وخصائصه ووسائله، وفي بعضها حديث عن قضايا الأستاذ النورسي وبعض تلاميذه أمام المحاكم فضلا عن المواضيع الدقيقة التي تمس التوحيد والآخرة وسائر أركان الإيمان.

والملاحق مجموعة رسائل توجيهية في أساليب الخدمة للقرآن الكريم وفي أمور متفرقة من المسائل التي تواجه الفرد المسلم في دعوته، كان الأستاذ يوجهها خفية إلى تلاميذه من السجون، وهناك رسائل خاصة في مسائل كلامية دقيقة أو لتثبيت الجماعة المؤمنة لم يكن -رحمه الله- يرغب في أن تنشر في أوساط ليست مؤهلة لقراءتها، ثم إن كثرة المراقبة والتفتيش والمحاكم أخرجت هذه الرسائل وكشفتها؛ لذا ضمنت بعضها في الملاحق، وطبع بعضها بشكل مستقل في مجلد واحد مثل (ختم التصديق الغيبي)، وهو عبارة عن موضوعات ورسائل لتثبيت أهل الإيمان أمام تحديات الكفر والضلالة استخرجها من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، وهناك رسائل أخرى مستقلة في كتب صغيرة منها (المدخل إلى النور) و (مفتاح لعالم النور)، وهي آخر رسالة كتبها الأستاذ، ورسالة (محاكمات) و (سنوحات) و (مناظرات).

وثمة رسائل ليست سوى بضع صفحات بينما هناك كتاب كامل يعد رسالة واحدة، وكان الأستاذ يشير إلى تلاميذه بوضع هذه الرسالة في اللمعات مثلًا ووضع الأخرى في الشعاعات؛ وهكذا، وكان يأخذ رأي طلابه في ذلك، أما الرسائل باللغة العربية فقد سبقت الرسائل المكتوبة باللغة التركية؛ فقد انقطع التأليف باللغة العربية بانتهاء الدولة العثمانية إلا أن الأستاذ ضم مؤلفات سعيد القديم إلى رسائل النور أيضا، ثم عدَّها نوى وشتلات لرسائل النور، ومن المعلوم أن جميع هذه الرسائل باللغتين التركية والعربية كانت بالحروف العربية حتى 1955 يوم أذِن الأستاذ بنشر التركية منها بالحروف اللاتينية حتى لا يحرم طلاب المدارس الحديثة من رسائل النور([58]). قال الأستاذ إحسان قاسم الصالحي: (ورغم أن الأستاذ من أصل كردي إلا أنَّه لم يكتب في الرسائل فقرة كاملة باللغة الكردية لأن اللغة التركية يومئذ كانت لغة الدولة ورعاياها ولغة الحضارة العثمانية)([59]).

هل استطاع النورسي أن يحقق في طلابه الهوية الإسلامية؟

لم يمر على المسلمين زمن كانوا بحاجة شديدة إلى تحديد هويتهم الإيمانية والاجتماعية والحضارية كحاجتهم إليه في القرن العشرين، فقد تكدست عوامل التأخر، وتكالبت عليهم جموع الأعداء ليبثوا فيهم أفكارهم المادية وفلسفاتهم الجاحدة وقيمهم النسبية وأنماط حياتهم الاجتماعية لإدماجهم في نسيج الحضارة المادية المعاصرة، وذلك من خلال الانقلابات الإلحادية التي استعملت العنف والقوة في فرض ثقافة مستوردة للقضاء على الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا وحضارة تحت مظلة الاحتلال الغربي والشرقي لمعظم بلاد المسلمين، فقد تحول التغريب الملحد بمرور الزمن إلى ثقافة مقدسة ملأت حياة المسلمين الفارغة، وأبعدتها عن إدراك السنن الإلهية لقيام المجتمعات وسقوطها أو لعوامل النصر والهزيمة في حياة الشعوب والأمم، لكن بقدر ما كانت معركة الفرض الدموي للتغريب مروعة ومأساوية في مركز الأمة الإسلامية وموطن خلافتها الأخيرة كانت الاستجابةُ ثورةً عقديةً فكرية إسلامية فخمة عميقة، لكنها في الوقت نفسه كانت هادئة حكيمة سليمة، واستطاع النورسي العالم الرباني الصلب أن يقود ركب إنقاذ الإيمان بوعي واقتدار وفكر نير وإيمان راسخ لتجديد هوية الأمة في الإيمان والإسلام والأصالة والانتماء والاعتزاز والمنعة.

وأدرك النورسي عندما واجه أمراض أمته أنَّ الشخصية الإسلامية قد فرغت من جذورها، فلو كانت الأمة سالمة من الأمراض لما سقطت أمام المخطط الإلحادي، فبدأ الإمام النورسي بناء الإيمان الخالص بإيقاف المسلم أمام خالقه تمهيدًا لإعادته إلى الانطلاقة الأولى عندما حركه القرآن متدرجًا من عالم الحس إلى عالم العقل ثم الارتقاء إلى مستوى الوحي الإلهي الحق.

وأدرك الملحدون أن الهجوم الكاسح على قلعة العقيدة من شأنه أن يسلب المسلمين قاعدتهم التي ينطلقون منها إلى بناء الحياة في ظل الإسلام، فإذا انحرفت العقيدة وسلب منهم إيمانهم فسيذوبون في مبادئ الغرب وقيمه النسبية والأخلاقية، فسحب النورسي البساط من تحت أقدام العلمانيين، وتوجه إلى قلعة الإسلام، فكان هذا المنهج مباركا لأنه حدد هوية المسلم بما يأتي:

1 ـ حوَّل عقيدة المسلم من التجريد العقلي إلى التربية الإيمانية.

2 ـ استطاع أن ينقذ هوية الإنسان المسلم من الذوبان في التلمذة على أسس الفلسفات الغربية الجاحدة ومنهجها في العلم المفضي إلى الإلحاد، ويوجهها للتلمذة على القرآن الكريم، فحررها من ضغط الغرائز والخضوع للهوى المضل وانحراف العقل، وأنقذها من التيه والخرافة التي حطمت شخصية الأمة الإسلامية في العصور الأخيرة.

3ـ أدار رسائله كلها في دائرة كبيرة، منها حياة القدوة العظمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعادة هوية المسلم في العصر الحديث تتطلب الانضمام النهائي إلى موكب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته الكرام وصحابته، فينبغي بناء جزئيات السلوك بناءً ربانيًّا محكمًا، وهكذا عادت هوية المسلم أخلاقيًّا إلى مكانها الطبيعي؛ عبادةً لله في المساجد، وصدقًا في المعاملة في عالم التجارة، وخلاصًا من البخل والتبذير، وتوجهًا إلى اقتصاد القناعة والبذل في سبيل الله، وفي الدعوة والإخلاص لأداء مهمات الخلافة الإنسانية في جزئيات الحياة الكثيرة، والعمل في إطار أخوة إسلامية حقيقية وفي بناء الأسرة بناءً إسلاميًّا لجيل يعتز بانتمائه الإسلامي إلى أمته ويتوجه نحو إنقاذ الآخرين من الركوع المهين أمام الطاغوت الإلحادي، يقول النورسي:

(أيها المسلم أنت موضع تجليات أسماء الله الحسنى لأنك تلميذ القرآن، فكيف تذوب في حضارة لادينية؟ أتريد أن تخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر المطلق والشرك المظلم وتتنكر لخلافتك العظمى في الوجود التي صنعت منك إنسانًا كونيًّا صديقًا للكائنات جميعًا؟).

إن هوية الإنسان المسلم في رسائل النور هويةٌ كونيةٌ قرآنيةٌ إنسانيةٌ موحدة ربانية عابدة؛ فهي هوية متميزة شاهدة على الناس جميعًا، وإذا كان ذلك كذلك فإن أي هوية أخرى نتقمَّصُها -نحن المسلمين- ستَكتب علينا صكَّ الذلِّ والعبودية لغير الله، فإن فعلنا ذلك خسرنا أنفسنا وآخرتنا، ودفنَّا كياننا في ظلمات النسيان المطلق.

وبعدُ فهل استطاع النورسي أن يحقِّق عمليًّا مثل هذه الهوية في عالم الإنسان المسلم؟ أقول: استطاع النُّورْسي أن يربي طلاب النور على هذه الهوية الربانية، فنحن نجدهم في أرض الواقع قد تجلت على وجوههم عبادةٌ خالصة فأدبٌ قرآني، وتحكُّم بالمال ونظافة في البدن واللسان، وحبٌّ للمسلمين جميعًا ووفاء منقطع النظير لأستاذهم النورسي، وإنكار للذات وتواضع شفاف، وتقدُّم في العلم والعرفان وإتقان للعمل، وحركة دائمة لا تتوقف ولا تفتر في خدمة الإيمان ونشر حقائق القرآن، وحكمة في التصرف ووعي بالحياة وهدوء في الشخصية بعيد عن الصخب والجدال والادعاء والتعالي والثرثرة؛ فجديرٌ بالصحوة الإسلامية الحاضرة أن تستفيد من دراسة شخصية الإمام النورسي ومنهجه الإسلامي القويم لتتخلص من الشروخ التي أحدثتها ظروف المواجهة في السياسة والثورة والعنف([60]).

([1]) آخر سلسلة كتب النحو المقررة في تلك المدارس.

([2]) إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان سعيد النورسي، ص6.

([3]) المرجع السابق، ص2.

([4]) هو أول صهيوني ماسوني عمل على قلب الخلافة وخلع السلطان عبد الحميد.

([5]) المرجع السابق ص22.

([6]) بديع الزمان سعيد النورسي، ص27.

([7]) سيرة ذاتية، ص122.

([8]) الشعاعات، ص571.

([9]) اللمعات، ص359.

([10]) سيرة ذاتية، ص135.

([11]) سيرة ذاتية، ص137.

([12]) بديع الزمان النورسي، ص36 نقلا عن نجم الدين شاهين أر، ص212.

([13]) سيرة ذاتية ص145.

([14]) بديع الزمان سعيد النورسي، ص37، نقلا عن نجم شاهين أر، ص210.

([15]) السيرة الذاتية، ص 142، 186.

([16]) بديع الزمان سعيد النورسي، ص45.

([17]) سيرة ذاتية ص259.

([18]) سيرة ذاتية، ص246.

([19]) المرجع السابق، ص 57، 246.

([20]) المرجع السابق، ص62.

([21]) المرجع السابق ص67.

([22]) عاصم الحسيني: سيرة إمام مجدد، ص56.

([23]) نجم الدين شاهين أر، ص331.

([24]) بديع الزمان سعيد النورسي ص69.

([25]) المصدر السابق ص71

([26]) الكلمات ص173.

([27]) اللمعات ص167.

([28]) الكلمات ص422.

([29]) المثنوي العربي، ص 428، المكتوبات، ص425.

([30]) من معالم التجديد عند النورسي، ص10.

([31]) الشعاعات، ص424.

([32]) الشعاعات، ص424.

([33]) اللمعات، ص 160، المكتوبات ص 362.

([34]) الملاحق، ملحق أميرداغ ص72.

([35]) الشعاعات، ص421.

([36]) اللمعات، ص38.

([37]) المكتوبات، 79 ـ 415 ـ 510 ـ 544 ـ 553.

([38]) المكتوبات، 548.

([39]) المكتوبات، ص 76.

([40]) المكتوبات، ص 58.

([41]) المرجع السابق، ص27.

([42]) مرجع سابق، محسن عبد الحميد، ص59،  المكتوبات، ص59، النورسي متكلم لعصر الحديث، ص239.

([43]) النورسي متكلم العصر الحديث، ص239.

([44]) المرجع السابق، ص105.

([45]) المرجع السابق، ص78.

([46]) الكلمات، ص639.

([47]) المرجع السابق، ص640.

([48]) المرجع السابق، ص146.

([49]) الكلمات، ص644.

([50]) النورسي متكلم العصر الحديث، ص188 ـ 195.

([51]) الكلمات، ص855.

([52]) المرجع السابق، ص164 ـ 874.

([53]) الكلمات، ص855.

([54]) المكتوبات، ص416.

([55]) الكلمات، ص172.

([56]) صقيل الإسلام “المحكمة العسكرية”، النورسي متكلم العصر الحديث ص197 ـ 201.

([57]) صقيل الإسلام، ج8 ص357، اللمعات، ج3 ص162.

([58]) بديع الزمان سعيد النورسي، ص132 ـ 133

([59]) المصدر السابق، ص135.

([60]) من معالم التجديد عند النورسي، ص85 ـ 95.