مفهوم التغيير عند الإمام عبد السلام ياسين
نوفمبر 4, 2019
نحو قيادة رشيدة للعمل الثوري
نوفمبر 4, 2019

وثيقة المدينة ودورها في إرساء المواطنة

د. عبد العزيز محمد الخلف

أستاذ الحديث النبوي الشريف

تقول بعض المصادر: إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قَدِمَ المدينة المنورة كَتَب صحيفةً أو كتابًا أو وثيقةً بينه -بصفته ممثلًا لمسلمي المدينة- وبين بقية سكان المدينة من عربٍ ويهود، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه: هل صحت هذه الحادثة، وهل لهذه الوثيقة أي أصول مثبتة في كتب السنة المطهرة؟ وفي الجواب عن هذا نجد أن أقوال العلماء قد تباينت تباينًا شديدًا بين من يقول: إن الخبر قد تواتر، ومن يقول: هذه الوثيقة موضوعةٌ مكذوبةٌ.

هذه الوثيقة -إن صحت- تحوي كثيرًا من المبادئ الدستورية التي تسهم بشكلٍ كبيرٍ في تأسيس حياةٍ مدنيةٍ تعطي حقوقًا متساويةً لكل سكان المدينة بعيدًا عن أعراقهم وأديانهم، وسنحاول في هذا البحث تسليط الضوء على هذه الوثيقة ودراستها من ناحيتَي الإسناد والمتن، ولا بد من الإشارة إلى أن هناك بضع دراسات تناولت هذا الموضوع منها:

  • “مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية، صحيفة المدينة المنورة نموذجًا”، للدكتور علي نديم الحمصي. تحدث فيها عن مفهوم المواطنة ومضمون صحيفة المدينة، والمبادئ التي كرستها الصحيفة، ولم يتطرق لثبوت الصحيفة كما لم يتناول معالم المواطنة.
  • “وثيقة المدينة، دراسة في المصادر المبكرة وآراء المستشرقين”، محمد جواد فخر الدين ومشتاق الغزالي. ورغم أنهما تعرضا لذكر كثير من المصادر التي ذكرتها تامة أو مجتزأة إلا أنهما أغفلا الحديث عن سندها في كلٍّ من شكلَي إيرادها، ولم يعتنيا بالحديث عن مضمون الوثيقة وإبراز معالم المواطنة فيها.
  • “صحيفة المدينة بين الاتصال والإرسال”، للدكتور حاكم المطيري، قصر دراسته على تخريج الوثيقة والحكم عليها.

والجديد الذي تقدمه هذه الدراسة أمران؛ الأول: البحث عن أصول وثيقة المدينة في كتب السنة المعتمدة، وصولًا إلى إثبات أصل هذه الوثيقة وصحة قيام النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها، وإيضاح بعض المقتطفات التي أوردتها هذه الكتب الأصول منها. والثاني: التركيز على معالم المواطنة في هذه الوثيقة، وبيان دور هذه الوثيقة في إرساء المواطنة في مجتمع المدينة.

يهدف هذا البحث إلى تحقيق جملة من الأهداف منها: دراسة طرق هذه الوثيقة وأسانيدها المختلفة، وبيان مدى صحة هذه الوثيقة ودرجتها في علم الحديث، وتوضيح معالم المواطنة في الإسلام، وكشف دور هذه الوثيقة في إرساء التعايش بين مكونات المجتمع المدني. وتتضمن هذه الدراسة مبحثين رئيسين، أحدهما عن أسانيد الوثيقة والآخر عما انطوت عليه من مفاهيم، وفي النهاية خاتمة تتضمن أهم نتائج البحث.

المبحث الأول: دراسة الوثيقة إسنادًا

أولًا: نصُّ الوثيقة

وردت وثيقة المدينة في عدة مصادر، تنوعت بين من ساقها بطولها كابن إسحاق، ومن اقتصر على مقاطع منها، ونورد هنا سياقة ابن إسحاق لها لأنه ذكرها كاملةً، قال ابن إسحاق:

(وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهودًا وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم،

  • هذا كتاب من محمد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس.
  • المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا([1]) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
  • وأن لا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونه.
  • وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم.
  • ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر.
  • ولا يَنْصُر كافرًا على مؤمنٍ.
  • وإن ذمة الله واحدةٌ، يجير عليهم أدناهم.
  • وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
  • وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
  • وإن سِلْمَ المؤمنين واحدةٌ، لا يسالَم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم.
  • وإن كل غازيةٍ غزت معنا يعقب بعضها بعضًا.
  • وإن المؤمنين يَبِيءُ بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
  • وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
  • وإنه لا يجير مشركٌ مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمنٍ.
  • وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينةٍ فإنه قَوَد به إلا أن يرضى ولي المقتول.
  • وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيامٌ عليه.
  • وإنه لا يحل لمؤمنٍ أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنْصُر مُحْدِثًا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرفٌ ولا عدلٌ.
  • وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
  • وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
  • وإن يهود بني عوف أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسَه وأهل بيته.
  • وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
  • وإن جفنة بطنٌ من ثعلبة كأنفسهم.
  • وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن البر دون الإثم.
  • وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
  • وإن بطانة يهود كأنفسهم.
  • وإنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
  • وإنه لا ينحجز على ثأر جرح.
  • وإنه من فَتَك فبنفسه فَتَك وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبرِّ هذا.
  • وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
  • وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
  • وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
  • وإنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه.
  • وإن النصر للمظلوم.
  • وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
  • وإن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة.
  • وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
  • وإنه لا تُجَارُ حرمة إلا بإذن أهلها.
  • وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
  • وإنه لا تُجَار قريش ولا من نصرها.
  • وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
  • وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
  • وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة([2]).
  • وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
  • وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
  • وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.
  • وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.
  • وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم”([3]).

هذا نص الوثيقة كما عند ابن إسحاق، وقد ذكر نص هذه الوثيقة ابن زنجويه في كتابه الأموال بمثل ما ذكرها ابن إسحاق، مع بعض الخلافات في بعض الكلمات([4]).

ثانيًا: المصادر التي أخرجت الوثيقة

بعد البحث والتقصي وجدتُ أن هذه الصحيفة قد رويت بأسانيد متعددة، منها ما رواها كاملة ومنها ما روى بعضها أو أشار إليها فقط.

1- روايتها تامة:

  • رواها ابن إسحاق بغير إسناد([5])، ورواها البيهقي في سننه الكبرى من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق، قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا الكتاب. فلعل طريق البيهقي هي الطريق التي أخذ ابن إسحاق الحديث عنها([6]).
  • رواها ابن أبي خيثمة فأسندها: حدثنا أحمد بن جناب أبو الوليد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار، فذكر نحوه([7]).
  • رواها ابن زنجويه في كتابه الأموال مرسلةً فقال: حدثني عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب([8]).
  • رواها القاسم بن سلَّام في كتابه الأموال مرسلةً فقال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب([9]). وسند هذه الطريق مثل سند ابن زنجويه إلا أن القاسم يرويه عن شيخيه: يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح، بينما يرويه ابن زنجويه عن شيخه عبد الله بن صالح فقط.
  • رواها البيهقي من طريق ابن إسحاق فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق، قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الكتاب، كان مقرونًا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال…([10]).

هذه هي الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق كبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات أو اختلاف بعض المفردات أو زيادة بنودٍ قليلةٍ، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام.

أما من روى أجزاء منها فهم:

  • عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كتابه الذي كتبه بين قريش والأنصار: «لا يتركون مفرحًا أن يعينوه في فكاك أو عقل»([11]) وهي روايةٌ مرسلةٌ.
  • مسلم في صحيحه قال: حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: كتب النبي صلى الله عليه وسلم: «على كل بطن عقوله»، ثم كتب: «أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه»، ثم أخبرت أنه لعن في صحيفته من فعل ذلك([12]). وهذا إثبات لأصل الصحيفة، حيث نص على أنه لعن في صحيفته من والى مولًى بدون إذن مواليه.
  • أحمد في مسنده قال: حدثنا سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار: “أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين”([13]). ورواه أيضًا عن نصر بن باب عن حجاج بالسند ذاته([14]). وهذا إثبات لأصل الصحيفة أيضًا حيث قدَّمَ بأن هذا من كتابه المكتوب بين المهاجرين والأنصار.
  • أحمد في مسنده قال: حدثني سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله([15]).
  • أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [آل عمران: 186] الآية، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة، وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: طُرق صاحبنا فقتل، «فذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامةً صحيفة»([16]). هذه هي طرق هذه الوثيقة عند من رواها كاملة أو اقتصر على أجزاء منها.

ثالثًا: دراسة أسانيد الوثيقة والحكم عليها

دراسة أسانيد الوثيقة:

من خلال ما سبق يتبين أن لهذه الوثيقة ثلاث طرق هي:

الطريق الأولى: طريق الإمام الحافظ الحجة في الحديث والمغازي محمد بن شهاب الزهري، رواها مرسلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواها عن الزهري عقيل بن خالد، وعن عقيل أخذها الليث بن سعد الفهْمي، وعن الليث أخذها كل من يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صال. وهذه الطريق مع جلالة رواتها إلا أنها ضعيفة لأنها مرسلة.

الطريق الثانية: طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن كثير أخذها عيسى بن يونس، وعنه أخذها أحمد بن جناب أبو الوليد، وعنه أخذها ابن أبي خيثمة. وهذه الطريق ضعيفة، فكثير بن عبد الله ضعيف، رماه بعضهم بالكذب، لكن التحقيق أنه ضعيف لا كذاب([17]).

الطريق الثالثة: طريق إمام المغازي محمد بن إسحاق بن يسار، رواها في كتابه بغير سندٍ، ورواها البيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني: عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق، قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا الكتاب. وهذه الطريق التي رواها ابن إسحاق من غير إسنادٍ ضعيفةٌ أيضًا لأنها مرسلة، وليس في رواية البيهقي من طريقه ما يقتضي الجزم بأنها عند ابن إسحاق بالإسناد نفسه، فلا يمكن تصحيح كامل الوثيقة، وأمَّا الطرق المختصرة فهي:

الطريق الأولى: الزهري مرسلًا، الطريق الثانية: جابر بن عبد الله رضي الله عنه، الطريق الثالثة: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، الطريق الرابع: ابن عباس رضي الله عنه، الطريق الخامسة: عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنه، وهذه الطرق فيها الصحيح وفيها الضعيف، ولسنا بصدد نقدها واحدة واحدة لأن مجموعها يثبت أصل الوثيقة.

رابعًا: الحكم على الوثيقة

بعد أن ذكرنا طرق هذه الوثيقة سواء من رواها تامة أو مختصرة نستطيع القول بأن:

  • من ادعى أن هذه الوثيقة متواترة فقد بالغ مبالغة كبيرة، ولعله خلط بين التواتر والشهرة النسبية.
  • لقد أخطأ من ادعى وضعها لثبوت بعضها بأسانيد صحيحة ومجملها بأسانيد ضعيفة.
  • لا شك أن للوثيقة أصلًا، وهي ثابتة، ولكن الخلاف في مضمونها.
  • يمكن القول بأن إسناد هذه الوثيقة حسنٌ، وهو من باب الحسن لغيره، وقد صحت أجزاء منها بطرق صحيحة.

خامسًا: تاريخ كتابة الوثيقة

يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: “الراجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان ثم جمع المؤرخون بينهما، إحداهما تتناول موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود، والثانية توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم، ويترجح عندي أن وثيقة مواعدة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى، أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فكتبت بعد بدر، فقد صرحت المصادر بأن موادعة اليهود تمت أول قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة…، أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فقد كتبت بعد وثيقة موادعة اليهود في السنة الثانية من الهجرة”([18]).

وهناك رأي آخر مخالف لذلك يقول: “أما القول بأن الوثيقة في الأصل وثيقتان ثم جمع المؤرخون بينهما فهو قول ضعيف يفتقر إلى الدليل والبيان”([19]).

والذي يترجح -والله أعلم- أن هذه الوثيقة وثيقتان كما قاله العمري، لأن الوثيقة تتحدث عن أمرين منفصلين: الأول علاقة الدولة المسلمة بمن جاورها من اليهود، والثاني علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، ولا شك أن الأمرين مختلفان خاصة أن بعض المحدثين نصَّ مرات على وثيقة المهاجرين والأنصار دون ذكر اليهود.

 

المبحث الثاني: مفهوم المواطنة ودور وثيقة المدينة في إرسائه

أولا: تعريف المواطنة

المواطنة لغةً:

قال ابن فارس: “الواو والطاء والنون كلمة صحيحة، فالوطن محل الإنسان، وأوطان الغنم مرابضها، وأوطَنتُ الأرضَ اتخذتها وطنًا”([20])، وقريب منه قول الجوهري([21])، وقال ابن منظور: “الوطن المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله”([22]).

المواطنة اصطلاحًا:

عَرَّفَت دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها: “علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة”. وتُعَرِّفُهَا موسوعة كولير الأمريكية بأنها “أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالًا”. وهذان التعريفان يتضمنان أهم مقومات المواطنة، وهي المساواة بين أفراد الوطن الواحد في الحقوق والواجبات وضمان العدل بينهم بالتحاكم إلى قانون واحد([23])، فالمواطنة هي الانتماء إلى أمة أو وطن أي العضوية الكاملة المتساوية في التمتع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري([24]).

وتشتمل المواطنة في مفهومها المعاصر على الانتماء والولاء، وامتلاك المواطن حقوقًا اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية يتكفل بها النظام كالرعاية الصحية مثلًا، وتُحَمِّلُ المواطنَ واجباتٍ تجاه الدولة والمجتمع مثل احترام الدستور والقانون والنظام ودفع الضرائب والمشاركة بأبعادها السياسية والاجتماعية([25])، لكن مصطلح المواطنة لا وجود له بهذا للفظ في الأدبيات الإسلامية، أما من حيث المفهوم فهي حاضرة في تراثنا الإسلامي، ولا أدلَّ على ذلك من وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أطياف الناس الذين كانوا يتقاسمون العيش في المدينة ذاتها([26]).

ثانيا: معالم المواطنة في وثيقة المدينة

المحور الرئيس في الوثيقة أنها جاءت ضمانًا لعدم الظلم أو البغي، وتناولت التحالف الوثيق بين أهلها ضد العدوان الخارجي، كما أن من أهداف الصحيفة نشر الأمن والتشجيع على التكافل الاجتماعي([27])، وتضمنت الوثيقة أهم معالم المواطنة، ونجملها فيما يأتي:

  • الخضوع للنظام العامِّ: جاء في نصِّ الوثيقة: “هذا كتابٌ من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس”. إذًا أساسُ تشكيل الدولة الإسلامية ليس دينيًّا، وإنما الخضوع للنظام العام هو الأساس؛ لذلك ضمَّت هذه الدولة بين رعاياها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من قريش أي المهاجرين، والمسلمين من يثرب أي الأنصار، ومَن دخل في حلفهم وهم اليهود ومشركو يثرب الأوس والخزرج الذين لم يُسلموا بعد حتى ذلك الوقت.

وليس غريبًا أن يكون النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون أمة واحدة، لكن كيف يكون اليهود مع المؤمنين أمة واحدة؟ والأغرب من ذلك كيف يكون وثنيو الأوس والخزرج الذين لم يُسلموا بعدُ أمةً مع المؤمنين من دون الناس؟ يقول الدكتور عماد الدين الرشيد: “إنَّ هذا التشكيل في الواقع قام على فكرة المواطنة وليس تشكيلًا دينيًّا، فليست الدولة الإسلامية دولة الصالحين والأتقياء، هي دولة من يخضع للنظام الإسلامي، وحتى نفهم هذه الفكرة تحديدًا ينبغي أن ندرك أن الإسلام ليس مجرد دين، ومَن نَظَر إلى الإسلام بوصفه دينًا فحسب فقد أساء إليه ولم يفهمه، الإسلام من جوانبه الدين، وله جوانب أخرى، له جوانب قانونية، وهذا الجانب القانوني -بوصفه نظامًا- هو الذي يَدين به غير المسلمين للدولة الإسلامية، ومع تقدم الزمان أصبح له جانب ثقافي وحضاري يدين به للدولة غير المسلمين الذين يَحيَون في هذه الرقعة الجغرافية… الرقعة الإسلامية”([28]).

  • التكافل الاجتماعي: ورد في نصِّ الوثيقة: “هؤلاء المسلمون جميعًا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين” “وإن المؤمنين لا يتركون مُفرَحًا بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل”. في هذين البندين ما يدل على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين في كل أشكاله، فهم جميعًا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم، وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس المسؤولية التكافلية([29]).
  • المساواة في الانتماء: جاء في الصحيفة: “هذا كتاب من محمد رسول الله بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس”. عبرت الصحيفة عن هذه المساواة بكلمة (الأمة) للدلالة على أن جميع قاطني هذه الدولة هم أمة واحدة ضمن دولة واحدة، وما داموا أمة واحدة فهم متساوون في الانتماء لها دون تمييز، وهذا شامل للمسلمين وغيرهم، أما دلالته على شمول المسلمين فواضح حيث نصَّ على دخول المؤمنين من قريش وهم المهاجرون وأهل يثرب وهم الأنصار، ثم أردف فأضاف إليهم من لحق بهم فجاهد معهم، أي ولو لم يكن على دينهم، وهذا يُدْخِل اليهود([30]).
  • المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الوطن الواحد: جاء في الصحيفة: “ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس”. وهذا يدل على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين، وأن ذمة المسلم محترمة بغض النظر عن اختلاف اللون أو الجنس أو المنزلة، والدليل أن مكانتهم في الجوار واحدة، فمن أدخل من المسلمين أحدًا في جواره، فليس لغيره أيًّا كانت سلطته أن ينتهك حرمة هذا الجوار، هذا من جانب الحقوق، وأما من جانب الواجبات فقد ألزمت الجميع بضرورة الإسهام في حماية الدولة والحفاظ على أمنها، يستوي في ذلك المسلم واليهودي، جاء في الصحيفة: “وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة… وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين”.
  • سيادة القانون: إذا حصل خلاف بينهم فإن فيصل التفرقة بينهم هو كتاب الله وسنة رسوله، جميعهم في ذلك سواء، فقد جاء في الصحيفة: “كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله”، فهذا يدل على أن المرجع لحل أي خلاف هو كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
  • المشاركة في الدفاع عن الوطن: فما داموا يتقاسمون أرض هذا الوطن، فإن عليهم جميعًا مسلمهم وغير مسلمهم أن يتشاركوا في الدفاع عنه، جاء في الوثيقة: “وإن عليهم النصر على من دهم يثرب” “وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة”. فكل من رضي بهذا العقد الاجتماعي فإنه يجب عليه أن يسهم في الدفاع عنه مسلمًا كان المواطِن أو غير مسلم.
  • مسؤولية الدولة عن كل رعاياها: لا فرق بين مسلم وغيره، فقد نوّهت الصحيفة إلى مسؤولية الدولة والمجتمع تجاه الرعايا اجتماعيًّا، فلا يُترَك من ثقلت عليه الديون وكثر أفراد أسرته دون مساندة ومساعدة، يقول النص: “وإن المؤمنين لا يتركون مفرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل”.
  • حرية العقيدة في الإسلام: نصت الوثيقة على ذلك صراحة: “يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم”. وهذا متوافق تمامًا مع قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فللمسلمين دين ولليهود دين، ويتمتع اليهود بموجب هذه الوثيقة بحرية ثقافية وحقوقية كاملة، وهذه الحرية حق ثابت لهم لا يتغيَّر، فحرية الإنسان في الاعتقاد حق تكفله الدولة له.
  • استقلال الذمة المالية: ليس معنى أن يكون اليهود تحت حماية الدولة الإسلامية ويستظلون بظلها أن تسلب أموالهم أو ينتقص منها؛ لذلك نصت الوثيقة على أن “على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم”، أي إن لهم حرية التملُّك ما داموا على عهدهم مع المسلمين داخل الدولة الإسلامية.
  • العدل التام: كانت المجتمعات الجاهلية تقوم على نُصرة القريب ظالِمًا كان أم مظلومًا بدافع العصبيَّة والقَبَليَّة، فلمَّا جاء الإسلام هذَّب هذه القاعدة بِإقرار نُصرة المظلوم وجَعْلِ نُصرة الظالم بالأخذ على يديه ومَنْعِهِ من الظلم؛ ومن ثَمَّ فقد كان أحد البنود في هذه المعاهدة: “وإن النصر للمظلوم”، فالعدل هو أحد مقوِّمات الاستقرار في المجتمعات، وبدونه يُصبح الضعيف مغلوبًا على أمره فاقدًا لحقوقه، بينما يرتع القوي في حقوق الآخرين دون وجه حقٍّ، وفي عموم لفظ المظلوم: “وإن النصر للمظلوم” ما يدل بوضوح على المساواة التامة والعدل المطلق بين الرعية، لا فرق بين مؤمنهم ويهوديهم ومشركهم، فلو أن مسلمًا ظَلَم يهوديًّا فإنه يُعَاقَب على هذا الظلم ويُرَدُّ الحقُّ إلى اليهودي، وكذلك لو ظَلَم يهوديٌّ مسلمًا فإنه يُعَاقَب ويُرَدُّ الحقُّ إلى المسلم.

وتدل الوثيقة على عدم تعدي المسؤولية عن الجرائم، بل على كل طرفٍ أن يتحمَّلَ مسؤولية ما يقوم به من أعمال: “وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه”، فلو أنَّ إنسانًا ارتكب إثمًا أو خطًا ما متعمِّدًا فإنه وحده يتحمَّل مسؤولية عمله كاملة، وليس على حلفائه الذين لم يشاركوه في هذا العمل أدنى مسؤولية.

  • حرية التعبير: نصت الوثيقة على التعاون والتناصح وحفظ الوطن: “وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم”‏؛ أي إنه بموجب هذا العهد يكون على الأطراف المتعاهدة التناصح فيما بينها، ويشمل هذا الأمر إسداء النصح للأطراف الأخرى بصدق وإخلاص وقبول النصيحة منهم، وأن يحمل كلُّ طرفٍ النصائحَ التي يُسديها إليه الآخرون محمَلًا حسنًا، ويُؤَكِّد هذا البند أيضًا على أن بين الأطراف المتعاهدة البرَّ دون الإثم، أي التعامل بالإحسان والتعاون على الخير دون التعامل بالسوء([31]).

ثانيًا: دور الوثيقة في إرساء المواطنة في المجتمع المدني

غدت المدينة نموذجًا يحتذى به في التعايش بين أبناء الوطن الواحد، وقد كان للصحيفة التي كتبها النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مواطني الدولة الجديدة أعظم الأثر، وقد روت كتب السير والتاريخ كثيرًا من القصص التي تدل على عميق الأثر الراسخ في نفوس ساكنيها، وامتد هذا الأثر ليطال سائر البلدان الإسلامية، نذكر من ذلك:

1- ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ شهداء وقتلى غزوة أحد، فقال: كان من بين قتلى أُحد يهودي ومشرك، فقد قُتل رجل اسمه (قزمان) بعد أن قاتل قتالًا شديدًا، وجرح جرحًا بليغًا في المعركة، فلما قال له المسلمون: “أبشر قزمان! قال بمَ أبشر وأنا ما قاتلت إلا على أحساب قومي؟!” وقتل رجل يهودي في المعركة يُدعى (مُخَيريق) اليهودي، وقد حاول بعض قومه أن يمنعه من الذهاب إلى المعركة بدعوى أنه يوم سبت، فقال لهم: لا سبت، وحمل سيفه وعُدَّته، وقال: إن قتلت فمالي لمحمد يصنع به ما يشاء، ثم غدا إلى الحرب فقاتل حتى قُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مُخيريق خير يهود”([32]).

هاتان الحادثتان تدلان بوضوح على أن سكان المدينة من مسلمين ويهود ومشركين كانوا يشعرون بانتمائهم لهذه المدينة، وأنهم مواطنون فيها؛ لذلك بادروا بالدفاع عنها، ولم يمنعهم من ذلك اختلاف دينهم عن دين سائر سكان المدينة.

2- روى البخاري ومسلم أنَّ أم هانئ بنت أبي طالب جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرته؛ فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ))([33]). وهذا دليل على المساواة بين جميع المواطنين، فإجارة أحدهم تسري عليهم جميعًا.

3- ورد في قصة منزل النبي صلى الله عليه وسلم في بدر: حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: (يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: (يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنزل…)، ثم أشار عليه أن ينزل منزلًا آخر([34]). ولولا جوُّ الحرية الذي يسمح بمناقشة ولي الأمر في قراره لما أقدم الحباب على ذلك.

4- تولية أسامة بن زيد بن حارثة أميرًا على الجيش الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتال الروم، فتوفي رسول الله قبل خروجه، ثم أنفذه أبو بكر رضي الله عنه، وقد كان في الجيش كبار الصحابة كأبي بكر وعمر إلا أن أبا بكر استأذن أسامة في إبقاء عمر عنده ليستعين برأيه([35]). وأسامة لم يكن بالحسيب عندهم، لكن الإسلام لا يفرق بين حسيب أو غيره، فالكل سواسية عنده.

5- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وردت فيها كثير من الآثار الدالة على ذلك، حتى بوَّب له البخاري بقوله: “باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار”، وهي دليل واضح على التكافل الاجتماعي بين مواطني الدولة الإسلامية، روى عبد الرحمن بن عوف جانبًا من هذا التكافل فقال: “لما قدموا المدينة آخَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأَقسِم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتَها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن…”([36]).

  • لما ضَرب ابنٌ لعمرو بن العاص أحد الأقباط وبلغ عمر شكواه حكم بالقصاص للقبطي، وخاطب عَمْرًا بعبارته المشهورة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)([37]). وهذا دليل واضح على الحرية في الإسلام كما أن فيه دليلًا على المساواة بين المواطنين، فلا فرق بين مسلم وغيره، فالكل يستوون في المواطنة والانتماء لبلد واحد.
  • روى البيهقي القصة الشهيرة في النصراني الذي سرق درع الإمام علي وأراد بيعها ثم احتكما إلى القاضي شريح، فلم يفرق بينهما بسبب الدين أو المكانة الاجتماعية.

وهذا غيض من فيض، وإنما ذكرناها نماذجَ على عمق تأثر المسلمين بمبادئ دينهم الداعي إلى المساواة والعدل بين أفراد الرعية، وهي المبادئ التي صيغت وثيقة المدينة وَفقها لتنظِّم حياة رعايا الدولة.

نتائج الدِّراسة:

  • ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كتب هذه الوثيقة.
  • وقع بعض الباحثين في المبالغة والمجازفة بادعاء تواتر الصحيفة أو وضعها، والصواب التوسط.
  • صحت أجزاء من هذه الوثيقة بطرق صحيحة، بعضها في صحيح مسلم.
  • الوثيقة بتمامها حسنٌ إسنادها، وهو من باب الحسن لغيره؛ لأن طرقها الضعيفة قد اعتضدت وتقوت.
  • تناولت الوثيقة كثيرًا من القضايا الدستورية والإدارية، فكانت من أهم وأُولى الوثائق الدستورية التي تنظم حياة رعايا دولة ما في التاريخ الإنساني.
  • من أهم القضايا التي تناولتها الوثيقة المواطنة.
  • ذكرت الوثيقة أغلب مقومات المواطنة، وكانت معبرة بحق عن مبادئ الإسلام ومقاصده في الحرية والعدالة والمساواة.
  • لهذه الوثيقة عميق الأثر في رسم حياة الناس وفق مبادئها؛ لتصدر عنهم أفعالٌ حُقَّ لها أن تكون قدوة لكل أمم الأرض، وليتشكل من خلالها مفهوم المواطنة في الإسلام.

وأخيرًا: نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يأخذ إلى الحق بنواصينا، وما جهدنا هذا إلا اجتهاد من ضعيف، فإن أصبنا الحق فذاك محض فضلٍ من الله تعالى، وإن يك غير ذلك فهو من ضعف نفوسنا ووسوسة الشيطان.

([1]) قال ابن هشام: الْمُفْرَح المثقل بالدين والكثير العيال، قال الشاعر: (إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة … وتحمل أخرى أفرحتك الودائع).

([2]) قال ابن هشام: ويقال “مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة”.

([3]) عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ط2، (مصر: مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1375هـ/1955م)، (1: 501-504).

([4]) حميد بن مخلد بن زنجويه، الأموال، ط1، (السعودية: مركز الملك فيصل، 1406هـ/1986م)، (2: 466-470).

([5]) ابن هشام، السيرة النبوية، (1: 501).

([6])  أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، ط3، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424هـ/2003م)، (8: 184).

([7]) هكذا ذكر ابن سيد الناس في كتابه عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، 1: 229. وقد روى جزءًا منها البيهقي في سننه الكبرى من طريق كثير هذا (8: 185).

([8])  ابن زنجويه، الأموال، (2: 466).

([9]) القاسم بن سلام، الأموال، د. ط، (بيروت: دار الفكر، د.ت)، (260).

([10]) البيهقي، السنن الكبرى، (8: 184).

([11]) عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، ط2، (الهند: المجلس العلمي، 1403ه)، (9: 408).

([12]) مسلم بن الحجاج، الصحيح، د. ط، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت)، العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه، حديث رقم (1507).

([13]) أحمد بن حنبل، المسند، ط1، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1421هـ/2001م)، (4: 258).

([14]) ابن حنبل، المسند، (11: 504).

([15]) ابن حنبل، المسند، (4: 258).

([16]) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، د. ط، (بيروت: المكتبة العصرية، د.ت)، الخراج، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة، حديث رقم (3000).

([17]) محمد بن أحمد الذهبي، ميزان الاعتدال، ط1، (بيروت: دار المعرفة، 1382هـ/1963م)، 3: 406، وأحمد بن علي بن حجر، تهذيب التهذيب، ط1، (الهند: مطبعة دائرة المعارف النظامية، 1326ه)، (8: 421).

([18]) أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ط6، (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 1415هـ/1994م)، (272).

([19]) محمد الدوشن، ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية، د. ط، (الرياض: دار طيبة، د.ت)، (91).

([20]) أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، د. ط، (بيروت: دار الفكر، 1399هـ/1979م)، (6: 120).

([21]) إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، ط4، (بيروت: دار العلم للملايين، 1407هـ/1987م)، (6: 2214).

([22]) محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، ط3، (بيروت: دار صادر، 1414هـ)، (13: 451).

([23]) وزارة الأوقاف السورية، المواطنة في الإسلام، مفهومها ومقوماتها، (http://mow.gov.sy).

([24]) ياسين السيد، المواطنة في زمن العولمة، د. ط، (مصر: المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، (2002)، (22).

([25]) سامر عبد اللطيف، المواطنة وإشكالياتها، العدد 7، (العراق: مجلة الفرات، 2011).

([26]) عماد الدين الرشيد، المواطنة في الإسلام، (منشور على الإنترنت).

([27]) كمال الشريف، حقوق الإنسان في صحيفة المدينة، د. ط، (الرياض: أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، 2001)، (1: 68-70(.

([28]) الرشيد، عماد الدين، المواطنة في الإسلام.

([29]) انظر: علي نديم الحمصي، مفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية، (مقال منشور على موقع المعارف: www.almaaref.org).

([30]) زيد سلطان، المواطنة في الدولة الإسلامية، (مقال منشور في موقع قصة الإسلام، islamstory.com).

([31]) راغب السرجاني، ما هي وثيقة المدينة أو معاهدة المدينة التي كانت بين الرسول واليهود؟ (مقال منشور على موقع قصة الإسلام، Islamstory.com).

([32]) علي بن أبي الكرم ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ط1، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1417هـ/1997م)، (2: 50-51).

([33]) محمد بن إسماعيل البخاري، الصحيح، ط3، (بيروت: دار ابن كثير، 1407هـ/1987م)، الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد، حديث رقم (350)، ومسلم، الصحيح، الحيض، باب تستر المغتسل بثوب ونحوه، حديث رقم (336).

([34]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، (2: 17).

([35]) محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ط2، (بيروت: دار التراث، 1387)، (3: 225).

([36]) البخاري، الصحيح، فضائل الصحابة، باب إخاء النبي بن المهاجرين والأنصار، حديث رقم (3569).

([37]) عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، مناقب عمر بن الخطاب، د. ط، (الإسكندرية: دار ابن خلدون، د.ت)، (99).