د. محمد سليمان الفارس
أستاذ علم الاجتماع في جامعة ماردين
مَرَّت أمة الإسلام عبر تاريخها بفترات عرفت فيها فتوحات أنقذت العالم من مشكلاته ونشرت العدل بين الناس، وبفترات أخرى واجهت فيها هذه الأمةَ خلافاتٌ داخلية أو حروب خارجية؛ فتقلصت مساحتها أو قلَّ نفوذها العالمي لكنها بقيت محافظة على مقدساتها وشعائرها، وكانت أَزَماتها تزيد وحدة المسلمين ولا تنقصها، واستمرت هذه الحالة من بداية تأسيس الميثاق الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبَنى من خلاله مفهوم الأمة المسلمة التي تضم كلَّ من آمن بالله سبحانه ورسالة نبيه صلى الله عليه وسلم بغض النضر عن جنسه وقومه، مرورًا بعهد الراشدين الكرام فالأمويين ثم العباسيين ومن تلاهم من الأيوبيين الذين فتحوا بيت المقدس وحرروه من الصليبيين، ثم المماليك الذين أوقفوا الغزو المغولي، وكذا من عاصرهم وخلفهم من العثمانيين الذين حملوا راية الدين الشريف ودافعوا عن الأمة المسلمة بمختلف أعراقها حتى عام 1923م.
لقد كان الحكام المسلمون ومواطنوهم شيئًا واحدًا لا يميز بينهم عرق أو لون أو انتماء إذ الرابط بينهم الإسلام، وليس هناك خلاف جوهري بينهم على من يتولى الحكم عربيًّا كان أم عثمانيًّا أم أندلسيًّا أم كرديًّا إذ كان الجامع بينهم هو الانتماء للإسلام لا العرق أو الإثنية، ثم جدَّت في المجتمع الإسلامي خلال الحرب العالمية الأولى دواهٍ تغيرت فيها حالة الأمة الإسلامية، فتحولت من الصدارة وقيادة العالم في طريق العلم والسلام وحماية الضعفاء وإرساء العدل إلى أمة مُستَذَلَّة ضعيفة مفككة، وكان أبرز ما أدى إلى تفككها وتشرذمها في هذا العصر الدعوة القومية، فكيف ظهرت هذه الدعوة وكيف ساهمت في تفكيك الأمة وتشرذمها؟ هذا ما جاء البحث لبيانه، ويكمن جوهر البحث وأهميته بتحديد ما يأتي:
– الظروف الموضوعية التي لعبت دورها في إثارة مشاعر القوميات المتنوعة المختلفة في جسد الأمة، وتوظيفها توظيفًا سياسيًّا لغايات مدروسة في فكر من دعموا نشوء هذه القوميات أو أثاروا تلك النعرات.
– كيف أدت هذه المشاعر المتعصبة لجنس دون آخر إلى صدع بنيان الأمة الواحدة ثم تشكيل كيانات مستقلة متناحرة.
– وكيف أثرت هذه الدعوات على حضارة المسلمين التي كانت تقود العالم عبر نشر المبادئ الأخلاقية الفاضلة وتطبيقها في العالم حتى أصابتها بالتراجع، فغدت تُصَنَّف ضمن دول العالم الثالث الضعيف المتناحر.
– أصل نشأة القوميات في الغرب، لبيان أن ما يناسب شعبًا من الشعوب ليس بالضرورة أن يناسبنا، فنحن -المسلمين- لنا خصائصنا التي تختلف عن غيرنا.
مفاهيم البحث: القومية – وحدة الأمة الإسلامية
– تعريف القومية:
إن إيجاد مفهوم محدد للقومية صعب نسبيًّا؛ ذلك أن قومية كل مجتمع من المجتمعات قد عبرت عن نفسها بشكل يخالف الآخَر، لكن سنذكر بعض التعريفات السائدة التي توافق عليها أغلب المهتمين بهذا الشأن:
يعرف الإيطالي مانشيني Mancini القومية بأنها: مجتمع طبيعي من البشر، يرتبط بعضه ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي([1]). ويعد هذا التعريف من أهم تعريفات القومية وأشهر ها لأنه حدد السمات والعناصر الأساسية للقومية. وأما المفكرون العرب فقد حاول العديد منهم خصوصًا دعاة القومية العربية وضع مفهوم محدد للقومية يتناسب مع الحالة العربية ومعطياتها، ومن هذه التعريفات تعريف جورج حنا، فقد عرف القومية بأنها: عقد اجتماعي في شعب له لغة مشتركة وجغرافية مشتركة وتاريخ مشترك ومصير مشترك، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة وثقافة نفسية مشتركة، وهذا العقد يجب أن يكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة([2]).
وإذا ما تناولنا ما يسمى بالمفهومين الألماني والفرنسي في تعريف القومية نجد عدة فروقات، فالمفهوم الألماني يركز على اللغة وأهميتها في بناء القومية، بينما ترى القومية الفرنسية أن مشيئة العيش المشترك هي محور القومية ومعيارها، ويظهر من هذين المفهومين الهدف الذي يسعى إليه دعاة كل قومية من هاتين القوميتين، فالألمانية تسعى إلى ضم جميع المتكلمين باللغة الألمانية في أوروبا -ومنهم سكان “الإلزاس”- إلى الدولة الألمانية، بينما نرى أن القومية الفرنسية التي سبقت القومية الألمانية بقرن من الزمان قد أتمت وحدتها السياسية بالاستيلاء على بعض البلاد التي لا يتكلم أهلها الفرنسية، ومنها طبعا منطقة “الإلزاس”([3]).
الأمة الإسلامية:
إن وحدة الأمة الإسلامية تعني اجتماع المنتسبين إلى الإسلام على أصول الدين وقواعده الكلية، وعملهم معًا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وبذلك يحققون معنى الأمة كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110]، وقد وصف الله تعالى المسلمين في الآية الكريمة بأنهم خير أمة، وذكر موجبات تلك الخيرية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى، وأتى على جميعها بصيغة الجمع ليدل على وجوب اجتماعهم واتفاقهم([4]).
المسلمون أمة واحدة لاتِّفاقهم على كليات العقيدة ودعائم الشريعة وإن اختلفوا في الفروع والجزئيات، فقد كوَّن الإسلام الأمة الواحدة من خلال جمعها على رابطة العقيدة، فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء/92].
من خلال تتبعنا آيات القرآن الكريم نجد فرقًا في مفهوم الأمة وما يشبهه مثل “الشعب”، فالأمة مرتبطة بالإيمان وتطلق على جماعة ذات عقيدة دينية، أما الشعب فهو لفظ يجمع أفرادًا وجماعات يربط بينهم أي رابط لغوي أو جغرافي أو ثقافي، فنستطيع أن نقول: أمة المسلمين أو أمة النصارى وأمة اليهود، دليل ذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ، وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ولا نقول: أمة العرب أو أمة الترك وأمة الفرس، بل نقول: الشعب التركي والشعب العربي والشعب الفارسي، دليل ذلك أيضا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] فجعل لفظ الشعوب جمعًا ليدل على التنوع، وأفرَد لفظ الأمة ليدل على الوحدة.
يقول المناوي رحمه الله عن الأمة: هي (كلُّ جماعة يجمعها أمر إما دين أو زمن أو مكان واحد، سواء كان الأمر الجامع تسخيرًا أم اختيارًا)([5]) فهو يميز بين أمتين: أمة تسخيرية وأمة اختيارية، مثال الأمة التسخيرية أمة الطير، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [سورة الأنعام: 38]، وكذلك أمة الكلاب، عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم))([6]) وأما الأمة الاختيارية فهي التي اجتمع أفرادها على دين أو مذهب كأمة اليهود وأمة النصارى وأمة الإسلام، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا} [سورة النساء: 41]، وجاء في حديث الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي))([7]).
نشأة القوميـة في الغرب ودواعيها
تُعد الدولة الأوربية في القرون الوسطى دولة ثيولوجية (دينية) تحكم باسم الرب؛ كون حكامها من ملوك وأمراء وقياصرة يستمدون شرعيتهم من الكنيسة الكاثوليكية، والبابا يعطي لأولئك الحكام الشرعيةَ بوصفه حامل مفتاح الجنة ووريث بطرس، وكانت الكنيسة ترى أن خضوع الملوك لها ليس تطوعًا منهم، بل هو حق لها يقتضيه مركزها الديني وسلطانها الروحي، جاء في البيان الذي أعلنه البابا “نقولا الأول” قوله: (إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا بطرس في تسلسل مستمر متصل…؛ فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكامًا كانوا أو محكومين)([8]) وظلَّ النصر حليف الكنيسة طيلة القرون الوسطى بسبب سلطتها الروحية البالغة وهيكلها التنظيمي؛ لذلك كان الباباوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة كما كان في إمكانهم -في أحيان كثيرة- خلع الملوك وعزلهم، فكان الملوك يطلبون رضاهم ويخضعون لهم ليمنحوهم الشرعية في الحكم، ومن كان يرفض الرضوخ لهم يغدو حكمه غير شرعي.
وكانت الكنيسة قد فرضت قوانين على الناس ليست من الدين في شيء، ومنعت البحث في العلوم وشؤون الدنيا بحجة أن الدنيا دار زهد، وفي بداية ما يسمى عصر النهضة بدأ صراع كبير في أوربا بين الكنيسة والشعب بدفع من العلماء المتنورين، وانتصرت إرادة الشعوب الأوربية على سلطة الكنيسة والملوك وأتباعهم، وفي حقبة الانتقال تلك من سلطة الكنيسة والملوك إلى سلطة الشعب حاول الناس أن يجدوا صيغة بديلة جامعة يتفقون عليها فيما بينهم للعيش المشترك بحيث تحفظ لهم حرية آرائهم ومعتقداتهم، وتكفل لهم المساواة فيما بينهم بصفتهم مواطنين في دولة واحدة، فظهرت القومية في أوربا وارتبطت بما يسمى (بالعلمانية) secularism، وترجمتها الدقيقة “الدنيوية” أي إن شؤون الدنيا ينبغي أن يديرها الناس بقوانين وضعية لا الكنيسة.
وأدت التطورات التي عرفتها أوروبا في العصر الذي سمي عصر النهضة بدءًا من القرن السادس عشر إلى الفصل بين الكنيسة والدولة؛ أي إن القومية في ظل التطورات الغربية التي صاحبتها كانت حركة توحيد وتحرر لأنها جمعت الشعب على مبدأ واحد بعيدا عن الخلافات الدينية، فحققت الوحدة لهم كما كانت حركة تحرير؛ فقد خلَّصت أوروبا من تسلط الكنيسة الكاثوليكية التي فرضت التخلف على العقل الغربي وحاولت التحكم في كل الأشياء، فنستطيع أن نقول: إن القومية (Nationalism) ظهرت في الغرب بوصفها مصطلحًا له أبعاده ومفاهيمه في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
إن عددًا كبيرًا من الباحثين متفقون إلى حد كبير على أن الثورة الفرنسية تعد نقطة البداية للتعبير الواضح عن الإرادة القومية عمليًّا، فيذهب “كون” في كتابه (فكرة القومية) إلى أن أول تعبير كبير عن القومية هو الثورة الفرنسية، وله مقولة: (القومية بنت الثورة الفرنسية) ثم يذهب إلى أن الشعوب المتمدنة لم تشعر بأن الولاء القومي أهم وأقدس مصادر الوحي في الحياة إلا منذ الثورة الفرنسية، ويؤكد أيضًا أن الثورة الفرنسية كانت أولى التعبيرات الكبرى عن مذهب القومية، ومن أقوى عوامل تكثيف الوعي القومي([9]).
وتوصف الثورة الفرنسية بأنها الحركة التي لعبت فيها المشاعر القومية دورًا واعيًا حاسمًا، وعبرت فيها الإرادة القومية -لأول مرة في التاريخ- عن ذاتها بإجراءات محددة تستهدف فرض (اللغة القومية) ووضع أسس (التربية القومية)، بل ظهر فيها لأول مرة ما يمكن أن نسميه (الإيديولوجية القومية)، فكانت هذه الثورة المرحلة الأخيرة في بناء الوعي الفرنسي ونضوج الأمة الفرنسية وتبلور إرادتها، وكان ذلك إيذانًا بمولد القومية الحديثة([10]).
ويظهر البعد القومي في الثورة الفرنسية من خلال الإجراءات التي تمت خلال الثورة وكانت تعبيرًا حقيقيًّا عن إرادة قومية لا عن إرادة طبقة تسعى إلى فرض نفسها على المجتمع كله، فقد أسهمت الثورة الفرنسية بعناصر كثيرة محددة بارزة صارت منذ ذلك الوقت من علامات ظهور الإرادة القومية في كل مكان تقريبًا، فقد دعمت الثورة الدولة القومية الجديدة على حساب الكنيسة، وسمحت للأفراد بمجال واسع في اختيار ولاءاتهم الدينية، لكنها غرست في نفوسهم مبدأ أن كل المواطنين ملزمون بالولاء الأول للدولة القومية وحدها، وابتكرت رموزًا جديدة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحركات القومية في جميع أنحاء العالم مثل العلم القومي والنشيد القومي والأعياد القومية واستخدام لغة واحدة هي اللغة القومية([11]).
بدايات التوظيف السياسي للقومية العربية
ثارت فكرة القومية العربية في بلداننا بوصفها نوعًا من التأثر بالتوجه القومي الأوروبي حيث نشأ دعاة القومية العربية مقلدين لذلك التيار، وغدوا يلهثون للحاق بركبه، والواقع أن الذين أثاروا القومية العربية في بلاد المسلمين وكان لهم اليد الطولى في الدعوة إليها إنما هم النصارى العرب؛ إذ إنهم يدركون فائدة التفاف العرب المسلمين على القومية بدلًا من الدين الذي لا يتوافق مع دمج المسلم وغير المسلم في أمة واحدة على حد زعمهم، فبدأ القوميون العرب من النصارى وغيرهم الدعوة إلى القومية، وأخذوا يكيلون المديح لها، وأشاعوا أن العرب في حاجة شديدة إلى قيامها إن أرادوا العزة والمنعة واحترام سائر الأمم لهم، وزينوها للناس بزخرف من القول، وهكذا أشعلوا بوادر الحركة القومية في نهايات القرن التاسع عشر مستعرةً بالحقد على الدولة العثمانية التي كان يمثل وجودها إحباطًا كاملًا لأحلامهم.
تشكلت بدايات الفكر القومي في البلدان الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها جمعيات وخلايا عدة في عاصمة الخلافة العثمانية، وكانت شاملة للترك والأرمن والعرب وغيرهم، وقد ظهرت في بلادنا علانية من خلال جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقرًّا لها، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عقده في باريس سنة 1912م أدباء ومفكرون مسيحيون من لبنان مثل «بطرس البستاني» و «أحمد فارس الشدياق» و«إبراهيم اليازجي» وغيرهم، وكانوا جميعًا مرتبطين بالإرساليات النصرانية الغربية، وقد عملوا على إبراز تاريخ العرب قبل الإسلام وإثارة الشعور القومي العربي، فهؤلاء هم أول من فَصَل في العصر الحديث بين العروبة والإسلام، ويعترف صليب كوراني بذلك فيقول: (الأثر الأول للحضارة الغربية في الحياة العربية بعث القومية العربية، وقيام الحركة الاستقلالية التي تشمل العالم العربي في الوقت الحاضر، وكانت هذه الحركة نتيجة مباشرة للتعليم الغربي)([12]).
انتشرت الجمعيات القومية السرية والعلنية مطالبة بإصلاح الوضع في الدولة العثمانية التركية، وبحق العرب في الحصول على حقوق سياسية وثقافية في إطار الدولة التركية العلمانية التي حلت بدعم أوربي محل الخلافة العثمانية، وقد كان ظهور القومية التركية الذي مثلته جمعية “الاتحاد والترقي” سببًا أساسًا في ظهور تيار قومي عربي، لكنه لم يكن في بداية نشأته مطالبًا بتفكيك الدولة العثمانية، وإنما كان يطالب بحقوق خاصة للعرب، يقول زين نور الدين زين: (إن فكرة الانفصال العربي عن الدولة العثمانية لم تظهر إلا في إطار التطرف القومي للاتحاد والترقي بعد عام 1909م). وإبَّان الحرب العالمية الأولى وبانضمام تركيا إلى ألمانيا بدأت بريطانيا توظف رغبة العرب في الانفصال عن تركيا بقطع عهود على نفسها بإقامة خلافة عربية على رأسها الشريف حسين إذا هم ساعدوا الحلفاء في الحرب، وبعد مساعدة العرب للحلفاء في حربهم ضد تركيا خدعتهم بريطانيا وقامت بتقسيم الدول العربية في الاتفاق المعروف باسم “سايكس – بيكو” بين بريطانيا وفرنسا، وهنا بدأ التوظيف السياسي لفكرة القومية، وكانت الغاية من ذلك عزل العرب عن السلطنة العثمانية الممتدة على جغرافية تمتد من المحيط غربًا إلى حدود الصين شرقًا ومن بلاد الهند إلى قلب أوربا.
وفي غَمرة موجة تأثُّرِ فريقٍ من العالم الإسلامي بالأفكار الغربية ظهرت الفكرة القومية في أوائل القرن العشرين مطلبًا أساسيًّا روجت له النخبة العلمانية، وكان نفوذ هذه النخبة يتعاظم بتعاظم التفوق الغربي في المجال الصناعي؛ إذ كانت الفكرة المهيمنة على عقول النخبة المتغربة في هذا الوقت تقول: لكي نحقق الإصلاح والتقدم في العالم الإسلامي لا بد من انتهاج خط الغرب، ونسي هؤلاء أن ما يصلح في مجتمع ما ويُنتِجُ خيرًا فيه قد يُنتِجُ شيئًا خبيثًا في مجتمع آخر؛ فليس ثَمَّة مجتمع واحد بل مجتمعات لكل منها خط إصلاح مختلف، يقول زين نور الدين زين في كتابه “نشوء القومية العربية”: (في الغرب كانت القومية السياسية جزءًا من حركة علمنة الحضارة المسيحية، وأسفرت المعركة عن انتصار القومية، أما في الشرق العربي فالإسلام لا يزال عميق الجذور، فلم تستطع الأفكار القومية أن تحدث ثغرة فيه بل استطاع الإسلام أن يقف في وجه كل محاولة للعلمنة، والمسيحيون القلائل وإلى جانبهم قلة قليلة من المسلمين ممن كانوا يحلمون بإنشاء دولة عربية علمانية تقوم على حدود جغرافية وطنية معينة لا على أساس ديني لم يلقَوْا تشجيعًا ولا تعضيدًا من قِبَل غالبية سكان البلدان الإسلامية)([13]).
إذًا إن المسلمين لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها، ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسوريَّة ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التي يتمايز بها الناس دون أدنى فائدة لكنهم يؤمنون بما قاله الله تعالى: {إِنَّ أَكْرمكُم عند اللَّه أَتقَاكُم}، وبما علمنا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- من أن معيار التفاضل الحقيقي وميزانه هو التقوى والإيمان والعمل الصالح لا عصبيات جاهلية مُثارة بالأجناس والأشكال واللغات وغيرها([14]).
بريطانيا ووعودها لتفكيك كيان الخلافة العثمانية:
عملت بريطانيا على التوظيف السياسي لفكرة القومية بكل الاتجاهات، ففي الوقت الذي كان فيه الإنجليز يتواصلون مع دعاة القومية العربية كانوا يتواصلون أيضًا مع الأكراد ويمنونهم بدولة كردية مستقلة معترف بها، فانساق الأكراد خلف هذا الحلم خاصة بعد أن خالفت جمعية الاتحاد والترقي التركية بزعامة أتاتورك مبادئ الدولة في المساواة بين المواطنين، يومئذٍ شعر الأكراد بغُبن الأتراك لهم وأرادوا الانفصال عن الدولة التركية، فاستغلت بريطانية هذه الدوافع بحكم وجودها في الجنوب الإيراني على شكل شركات تجارية مثل شركة الهند وشركة تصنيع التبغ، وكان وجودها في الشرق الأوسط يوفر لها معرفة تامة بالمنطقة تمكنها من التخطيط لإضعافها وإبعادها عن الخلافة العثمانية القوية في الشرق التي كانت تمثل تحديًا كبيرًا للتجارة الأوربية، وكانت قبل الحرب العالمية الأولى تسيطر على كل المضائق البحرية في الشرق الأوسط وتتحكم بحركة التجارة العالمية، إذ تبسط سيطرتها على معظم أجزاء المتوسط التي تضم القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا.
في عصر الدولة العثمانية كانت معابر التجارة القديمة من آسيا إلى أوروبا ترتبط بسلطة واحدة؛ ما سهل وصول التجارة المارة بسرعة أكبر وتكلفة أقل، ومن هذا المنطلق لم يتردد السلطان سليم الأول منذ أول يوم في اتخاذ التدابير اللازمة لإنعاش حركة التجارة في الطريق التقليدي القديم المار بالشرق الأدنى، فبدأ بتأمين شرق المتوسط بالقضاء على القراصنة الصليبيين، وبإرسال الحملات إلى البحار الشرقية للحد من نفوذ البرتغاليين، ولم يتردد في عقد معاهدة تجارية مع البندقية عقب دخوله إلى مصر مباشرة في 14 فبراير 1517م، تلتها كثير من المعاهدات مع دول أوروبية مختلفة مثل فرنسا وإنكلترا في عهد خلفائه، زاد على إثرها التبادل التجاري بين الشرق والغرب عبر الأراضي العثمانية الممتدة على ثلاثة أرباع البحر المتوسط([15]).
أرادت حكومة بريطانيا أن تفصل المسلمين الكرد عن دولة الخلافة بصنع حواجز اجتماعية قومية بينهما، أو على الأقل أن تحيِّد الكُرد بعيدًا عن صف الأتراك إن شنت هجوما عسكريا على الدولة العثمانية، ولعل من أهدافها إيجاد منطقة عازلة بين أتراك الأناضول والأقوام التي تتكلم اللغة التركية في آسيا الوسطى والقفقاس وخاصة أذربيجان، وكانت وسيلتها هي ترغيب الأكراد بوطن قومي لهم، وقد انتهجت بريطانية في فترة ما بين 1900 و 1914 سياسة الوعود بأوطان قومية مستقلة عن الدولة العثمانية مثل وطن قومي للكرد ووطن قومي للعرب مستغلةً ومستخدمة القومية رغبةً في الانفصال بعد انتهاج الأتراك الجدد سياسة التمييز بحق المواطنين غير الأتراك، وبذلك هيأت الأرضية لتكوين وطن قومي لليهود أيضًا.
حصلت محاولات من الكرد أنفسهم للتقرب من البريطانيين في بداية القرن العشرين، وكانت جهود الدبلوماسي الكردي شريف باشا واضحة في هذا المجال، إذ حاول الاتصال بالإنجليز عام (1914) لكي يعرض خِدْماته، لكن الحكومة البريطانية لم تستجب له، وبحلول عام (1918) يوم احتلت بريطانيا العراق طلبت وزارة الخارجية البريطانية من السفير برسي كوكس أن يلتقي بشريف باشا في مدينة مرسيليا الفرنسية للاستماع إلى أقواله([16]).
وقبل ذلك كله بدأت الدعوة في تركيا إلى القومية الطورانية التركية، والذين دعوا إلى القومية الطورانية التركية كانوا من اليهود، وهذا شيء ثابت، بل إن المؤرخ الأمريكي واتسون يقول: (إنه لا يوجد أحد في حركة الاتحاد والترقي -الحركة القومية التركية- من أصل تركي حقيقي وإنما هم من اليهود وغيرهم، أي: يدعون إلى القومية التركية وليس فيهم رجل واحد من أصل تركي)([17]).
ولو تمت المقارنة بين وضع الأمة في تلك الفترة التي يسميها بعضهم “عصر القوميات” والفترة السابقة لوجود القوميات لأدركنا سبب هذا الضعف والفرقة والهوان، فقد كان حكم الدولة الإسلامية يتنقل بين الأعراق المتنوعة في العالم الاسلامي العرب والترك والكرد والصقالبة والمماليك، ولم يكن هناك خلاف على من يحكم من أي قومية أو عرق كان، بل كان الهَمُّ الأكبر عند جموع المسلمين فيمن يحكم أن يقيم العدل بشرع الله ويكون متأهبًا للدفاع عن هيبة المسلمين وأرضهم، وسنذكر ملامح موجزة لتاريخ المسلمين قبل ظهور القوميات المتنوعة في العالم الإسلامي.
تعاقب الأعراق على الحكم في الأمة الإسلامية
لحكمة إلهية لم ينفرد بحكم العالم الإسلامي عرق معين، بل تداولته الشعوب الإسلامية من عرب وترك وصقالبة وكرد وبربر وفرس، حتى وصلنا إلى العصور الحديثة بفتح القسطنطينية عاصمة البيزنطيين عام 1453م على يد الشاب المسلم محمد الفاتح ولـمَّا يبلغ عمره حينذاك خمسة وعشرين عامًا، وبمراجعة الثقافة العثمانية مثلًا نجد أنها لم تستند إلى العرق أو روابط الدم، بل كان الإسلام سر وجودها وحياتها، ولم يكن العثمانيون في أي وقت يصفون أنفسهم «بالأتراك»، بل يعدون ذلك ضربًا من ضروب التخلف الاجتماعي، أي إن التداول الحضاري والسياسي في الإسلام لم يستند إلى العرق بل استند بشكل أساس إلى رسالة الإسلام، وأعرض هنا بشكل موجز أهم الحكومات التي تداولت حكم العالم الاسلامي وهي من أعراق مختلفة، وحافظت على مقدسات الأمة ونشر تعاليم دينها وإقامة العدل بين الناس.
الخلافة الراشدة (11 – 40هـ / 632 – 661م)
تُسمى أيضا دولةَ الخلفاء الراشدين، وهي أولى دُول الخِلافة الإسلاميَّة التي قامت عقِب وفاة الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ، (7 تموز سنة 632م)، وكانت المدينة المنورة عاصمتها، وهي دولةُ الخِلافة الوحيدة في التاريخ الإسلامي التي لم يكن الحكم فيها وراثيًّا بل كان قائمًا على الشورى، وكان الخلفاء عربًا([18]).
الدولة الأموية (41 – 132هـ / 662 – 750م)
هي دولة بني أمية، وهي ثاني خلافة وأكبر دولة في تاريخ الإسلام، كان بنو أمية أولى الأسر المسلمة الحاكمة، إذ حكموا من سنة 41 هـ (662م) إلى 132هـ (750م)، وكانت عاصمة الدولة في مدينة دمشق، وبلغت الدولة الأموية ذروة اتساعها في عهد الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك، فامتدت حدودها من أطراف الصين شرقًا حتى جنوب فرنسا غربًا([19]).
الدولة العباسية (132- 656هـ / 750 – 1517م)
الدولة العباسية أو الخلافة العباسية أو العباسيون هو الاسم الذي يُطلق على ثالث خلافة إسلامية في التاريخ، وثاني السلالات الحاكمة الإسلامية ([20]).
الدولة الفاطمية (297 – 567هـ / 909 – 1171م)
هي إحدى الدول التي نشأت في عصر الخلافة العباسية، وتسمى أيضا بالدوْلَة العُبَيدِيَّة، وهي الوحيدةُ بين دُولِ الخلافةِ التي اتخذت من المذهب الشيعي الإسماعيلي مذهبًا رسميًّا لها، شملت الدولة الفاطميَّة مناطق واسعة من المغرب إلى مصر، ثُمَّ توسَّع الفاطميّون أكثر فضمّوا إلى مُمتلكاتهم جزيرة صقلية والشَّام والحجاز، فأضحت دولتهم أكبر دولةٍ استقلَّت عن الدولة العبَّاسيَّة([21]).
وبين مؤرخي المسلمين خلاف كبير حول أصل أئمة هذه الدولة وحكامها: هل هم من آل بيت النبوة أم من اليهود؟
الدولة الأيوبية (569 – 661هـ / 1174 – 1263م)
الأيوبيون أو بنو أيوب هي أسرة مسلمة حكمت أجزاء واسعة من المشرق العربي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، تأسست الدولة الأيوبية على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي في مصر ثم امتد حكمها إلى الشام والحجاز وشمال العراق وديار بكر جنوب تركيا، وإلى شرق ووسط وجنوب اليمن في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين([22]).
الدولة المملوكية (648 – 923هـ / 1250 – 1517م)
المماليك هم سلالة من الجنود المسلمين أتراك الأصل، حكموا مصر والشام والعراق وأجزاءً من الجزيرة العربية أكثر من قرنين ونصف من 1250 إلى 1517م، تعود أصولهم إلى آسيا الوسطى قبل أن يستقروا بمصر، من أبرز سلاطينها عز الدين أيبك وقطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والناصر محمد بن قلاوون والأشرف صلاح الدين خليل الذي استعاد عكا وآخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام، ثم السلطان الشركسي برقوق الذي تصدى فيما بعد لتيمورلنك واستعاد مناطق احتلها التتار في بلاد الشام والعراق ومنها بغداد، والأشرف سيف الدين برسباي فاتح قبرص([23]).
الدولة العثمانية (698 – 1342هـ / 1299 – 1923م)
الخِلَافَةُ العُثمَانِيَّة، وتسمى أيضا بالدَّولَة العَلِيَّة العُثمانيَّة، هي إمبراطورية إسلامية أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة نحو 600 سنة، نشأت الدولة العُثمانيَّة بدايةً بصفتها إمارة حُدودية تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم وترد الغارات البيزنطيَّة عن ديار الإسلام، وبانهيار حكمها انهارت دولة الإسلام الواحدة([24]).
انعكاس القومية على المجتمع السوري
سوريا كغيرها من الأقاليم العربية تأثرت بدعوات القومية العربية، فظهرت فيها شخصيات عدة تفتتن بالتقدم الغربي وتتبنى الفكر القومي، ولاقت أفكارهم في نظام الدولة رواجًا واسعًا خاصة مع ظهور أحزاب تحمل فكرهم، منها أحزاب شمولية مجرمة قسرت المجتمع على فكرها كان من أبرزها حزب البعث، وامتد تأثير القومية إلى فترة الثورة السورية عام 2011، فكانت أكثر فترة تاريخية مُنيت باستقطابٍ للفكر القومي في سورية ما بعد الانفصال عن مصر عام 1961م، إذ ترسخت القومية أكثر بصفتها نظام دولة، وصيغت في دستور الدولة في عهد حزب البعث، الذي نشأ عام 1947م وتمكن من التسلط على مفاصل الدولة بعد انقلاب الثامن من آذار سنة 1963م.
لقد تأثر المجتمع السوري كثيرًا بسلبيات سيطرة القومية على نظام الدولة، فبرز تأثيرها السلبي بوضوح في مسألتين هما:
الدين والقومية:
بنى حزب البعث –بوصفه حزبًا قوميًّا شموليًّا- علاقته مع جماعات المجتمع السوري على أساس الهوية العربية، جاعلًا الدين شيئا سيئًا يعود بالدولة إلى الانقسامية، واتخذ من هذا الفكر ستارًا لإجبار الناس على البعد عن الدين في المواضع التي تتعارض فيها رُؤاه مع مبادئ الدين، وقد حاول من خلال فكرة ضرر الدين على الناس تسويغ النهج العلماني الذي أخذ يفرضه على المجتمع السوري بقوة السلطة والسلاح.
كانت أفكار حزب البعث ناتجة عن تصورات خاطئة عن الإسلام وتقليد أعمى للغرب في مساواتهم الكنيسة الغربية في القرون الوسطى بدين الإسلام المُكَمَّل، وهنا أورد نصًّا لأحد قادة حزب البعث يوضح تصور الحزب عن الدين، يقول ميشيل عفلق([25]): (الدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى، تجربة انتهت بالفشل، وكلفت البشرية كثيرًا من الجهود ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريبًا في أوقات متفرقة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية…، الإسلام كان المحرك للعرب، أما اليوم فالقومية وحدها هي الأساس، ولا يمكن أن يَفْهم العرب لغةً غيرَها)([26]).
الأكراد في سورية:
الشعب السوري أغلبه شعب مسلم، ويتكون من عدة أعراق يغلب عليها العرب، ويعيش معه مجموعة من أبناء الديانات الأخرى، وقد أثرت فكرة القومية سلبًا على أحد أبرز مكوناته ألا وهم “الأكراد”، فغيرت فكرة القومية نمط العلاقات السائدة بين الأعراق التي تتشارك الأرض السورية، فأقصت غير العربي وتجاهلته لأنه غير عربي فحسب، وأعلت من شأن العربي كُفُؤًا كان أم غير كُفُؤٍ لأنه عربي فقط؛ فظهرت في المجتمع السوري فئة محرومة من جل حقوقها في التمثيل السياسي وغيره لأنها غير عربية فحسب وهي “الكرد”، بينما فتح الباب لغير المسلمين على مصراعيه بوصفهم عربًا قوميين.
على مستوى الدساتير السورية نجد أبرزَها دستورَ عام 1950م، وقد قيل إنه لُخص من خمسة عشر دستورًا لدول رائدة في الديمقراطية والحرية، ورغم هذا لا نجد فيه ذكرًا لأي خصوصية للكرد، ففي المادة الأولى من الدستور عرفت الدولة السورية بأنها “جمهورية عربية، والشعب السوري هو جزء من الأمة العربية” وتقول المادة الرابعة: ” اللغة العربية هي اللغة الرسمية”، وجاء الدستور السوري الخامس الذي وضعه حزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1973م، فركز كثيرًا على عروبة سورية واشتراكيتها، ولم يعط للكرد حق تعليم أبنائهم بلغتهم الأم في مدارس خاصة بمناطقهم، فنجد دساتير الحكومات -التي تداولت السلطة في سورية بعد نشوء الفكر القومي- تبنى على فكرة الدولة القومية المأخوذة عن الفرنسيين دون خصوصيات.
واشتدت النزعة الإلغائية في سوريا بعد استلام حزب البعث للسلطة في آذار سنة 1963م، فقام بإقصاء المتدينين لأنَّ التدين منافٍ لمبادئ الحزب، وبإقصاء غير العرب من الأقوام الذين احتفظوا بأسلوب عيش توارثوه عن آبائهم، فنتج عن ذلك حرمان مئات آلاف الأكراد السوريين من حقوق المواطنة حتى عام 2012م، فكان ما يزال نحو 400 ألف شخص في محافظة الحسكة يعدون أجانب في السجلات المدنية للدولة، ويحرمون من أبسط الحقوق الإنسانية مثل البطاقة الشخصية وجواز السفر وحق السفر خارج البلاد لأنهم كرد فحسب.
نتائج القومية في البلاد الإسلامية
ضعف الأقاليم الإسلامية واحتلالها:
ما دام باب القومية قد فتح على المسلمين فقد كان طبيعيًّا أن تنتهي إلى ظهور القومية العربية والكردية، والبنغالية في باكستان، والطورانية في تركيا لإبعاد الإسلام بصفته صلة وصل وحيدة بينهم؛ فتفرقت بلاد المسلمين ووقعت تحت الاحتلال الأوربي، الذي كان سببًا أساسًا في ظهور هذه الدعوات القومية، وقد شجعت الدول الأوربية الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا ظهورَ القومية العربية في صورها العلمانية لتحقيق مطامعها في احتلال الشرق الإسلامي، وما قامت الثورة العربية على الأتراك إلا بتأييد بريطانيا ودعم حليفتها فرنسا، فقد ثبت أن عددًا من الزعماء كانوا متصلين بالقنصليات الأجنبية لتلقي هذا الدعم([27]).
الفُرقة:
يقول الدكتور غالب العواجي: (العرب بحد ذاتهم حينما مالوا إلى القومية ووالوا وعادوا من أجل العروبة ازدادوا فرقة وفقرًا وعداوة فيما بينهم، وكادَ بعضهم للبعض الآخر، بل دارت بينهم حروب شرسة حين بغى بعضهم على بعض ببركات حب القومية وافتخار كل بقومه، فقامت الأحزاب والتكتلات الصغيرة والكبيرة على حمية القومية الجاهلية، فازدادت المسافة بينهم وبين الوصول إلى السعادة المنشودة في ظل القومية)([28]) فليس الترك وحدهم من تمزقوا بهذا التآمر وإن كانوا أكثر من تضرر، وإنما الكرد أيضا تم تقسيمهم بين عدة دول قومية، وأما العرب فقد تم تقسيمهم إلى اثنتين وعشرين دولة، وأدى هذا التقسيم الجائر إلى خلق توترات دائمة في كل منطقة، وهكذا قامت الدولة القومية وفق نسق سلطة خارجية.
جامعة بروابط وهمية:
حاولت الأنظمة العربية الناشئة أن توفق بين مصالحها الخاصة ودعواتها إلى القومية فأنشأت جامعة الدول العربية، لكنها كانت شبه وهمية؛ فقد اكتفت ببضع اتفاقيات تجارية وعسكرية وثقافية هشَّة تخللها صراع واسع بين أعضائها.
إخفاقات القومية:
لم تستطع القومية العربية أن ترقَى إلى مستوى التحديات المنوطة بالشعوب العربية؛ فأخفقت في تحقيق الوحدة العربية ولم تفلح كل محاولات الوحدة حتى الجزئية، وأخفقت أيضًا في تحقيق أي مستوى من مستويات التعاون الاقتصادي، فلم تحقق التنمية، ولم تستطع أن تنجز مهمة التحرير والتحدي للهيمنة الغربية وربيبها الكيان الصهيوني.
قوميون وقومية بدوافع أجنبية:
تبين من حوادث العصر أن دخول القومية إلى البلاد الإسلامية عمومًا والعربية خصوصًا إنما كان بدافع الحقد الصليبي واليهودي والرغبة في تمزيق الوحدة الإسلامية والانتماء إلى الإسلام؛ فالانتماء إلى القومية العربية بدل الإسلام سيسهل لهم مهمة احتلال بلدان المسلمين بعد أن يفرقوا بين العرب وسائر إخوانهم المسلمين على مبدأ “فرق تسد”، وقد أثبتت الأيام علاقة القوميين العرب بالقوى العالمية وخضوعهم لها وعملهم على خدمتها حتى ولو كان ذلك يتنافى مع مبادئ القومية التي يتغنون بها، يقول جميل مطر في مقاله “مستقبل العروبة”: (لم تعد القومية قادرة بظروفها الراهنة وظروف السياسة والسياسيين في العالم العربي على ملء فراغ الفكر السياسي، وهو الفراغ الذي تدور فيه النخب السياسية والقوى الحاكمة العربية، وتجر شعوب المنطقة بأسرها لتدور معها في هذا الفراغ المدمِّر)([29]).
ولا يخفى على المتأمل لنشأة القوميات المتتبع لحركة تغيرها الدورُ الايجابي لها في الغرب في جمع شتات الأمم المتفرقة بعد صراع الكنيسة والشعب وفوضى العصور الوسطى.
وحين حاول الأوربيون لفت أنظار شعوبهم عن الخلافات الداخلية بينهم بعد الثورة الفرنسية خاصة، وتأمين سوق خارج بلدانهم لتصريف إنتاجهم الصناعي بعد تأسيس الدول الحديثة، وتأمين مصادر الطاقة الأولية لتلك العملية الإنتاجية؛ لم يجدوا أمامهم أفضل من الشرق الأوسط، لكن هذا الشرق لم يكن متاحًا لهم بهذه السهولة لوجود دولة قوية تتحكم باقتصاده وتستمد من الإسلام قوة شرعيتها رغم تنوع الأعراق الموجودة في المجتمع الذي تقوده؛ لذلك بدؤوا بدراسةٍ تحليلية لطبيعة تكوين هذه المجتمعات، وعلموا أن أفضل طريقة لغايتهم هي توظيف العرقيات الموجودة توظيفًا سياسيًّا بحيث تطالب كل جماعة ذات عرق واحد بدولة خاصة بها مستقلة عن الخلافة، فبدأ العمل من مركز الخلافة يوم ظهرت فكرة القومية الطورانية في قلب الأناضول عاصمة الخلافة العثمانية التي بدأت بالتمييز بين الأتراك وأبناء الولايات التابعة لها على أساس عرقي.
وتبعا لظهور فكرة القومية التركية ظهرت الدعوات للقومية العربية ثم الكردية وغيرها، فتكونت القوميات ودعت أتباعها للانفصال عن دولة الخلافة بعد سيطرة الاتحاديين، وكانت النتيجة أن تفرق الكُرد بين أربع دول والعرب في ٢٢ دولة والمغرب بين عرب وبربر؛ فأدت هذه الخطوات إلى احتلالِ العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، وتأخيرِ حركة نهوضه وتقدمه، وتصنيفِه عالمًا ثالثًا متخلفًا، وزرعِ دولة جديدة بدواعٍ “قومية دينية” في قلب العالم الإسلامي اسمها دولة “إسرائيل”.
إن واجب دعاة المسلمين وقادتهم اليوم أن يفضحوا دعاة القومية، ويبينوا أضرار العصبيات العرقية والإقليمية على الأمة، ويعملوا على إعادة الأمة إلى وحدتها الدينية لتتخلص من الذل والفرقة التي تعيشها أمة الإسلام.
([1]) ساطع الحصر، ما هي القومية، بيروت، دار العلم للملايين 1963م، ص (40).
([2]) جورج حنا، معنى القومية العربية، بيروت، دار الثقافة، ص (21).
([3]) ساطع الحصري، آراء وأحاديث في القومية العربية، بيروت،1959م.
([4]) موقع المسلم (وحدة الأمة الإسلامية فريضة وضرورة).
([5]) عبد الرؤوف المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب القاهرة، مصر 1900، ص (62).
([6]) رواه أصحاب السنن الأربعة.
([8]) هربرت فيشر، تاريخ أوربا الوسطى، ترجمة محمد مصطفى زيادة، دار المعارف الإسكندرية، 1969، ص (71).
([9]) عبد الكريم أحمد، القومية والمذاهب السياسية، القاهرة الهيئة المصرية العامة للنشر ، 1970، ص (61).
([10]) المرجع السابق، ص (150).
([12]) زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية، ط 4، دار النهار ، بيروت ، لبنان،1986م.
([14]) محمد الحسن، المذاهب والأفكار المعاصرة في التصور الاسلامي، ط4، دار البشير، طنطا، ١٩٩٨، ص (٢٦٤).
([15]) أحمد سالم، من جديد حول إشكالية الحُكم العثماني للعالم العربي، جريدة القدس العربي، 15 مايو 2019م.
([16]) عبدالله محمد العلياوي، جذور المشكلة الكردية، الجزيرة نت : .https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/4f935dae-8e08-4c54-83ca-16f692c7ab35
([17]) سفر الحوالي، القومية العربية.
([18]) محمد سهيل طقوش، التاريخ الإسلامي الوجيز، دار النفائس، بيروت – لبنان، 2001، ص (67) وما بعدها.
([19]) المرجع السابق، ص (111) وما بعدها.
([20]) المرجع نفسه، ص (147) وما بعدها.
([21]) المرجع السابق، ص (267) وما بعدها.
([22]) محمد سهيل طقوش، تاريخ الأيوبيين في مصر والشام وإقليم الجزيرة، ط 2، دار النفائس، بيروت – لبنان،2008، ص (7) وما بعدها.
([23]) أصل المماليك، أطلس التاريخ الحديث، الجزء الثالث، ص (311) وما بعدها.
([24]) محمد سهيل طقوش، التاريخ الإسلامي الوجيز، دار النفائس، بيروت – لبنان،2001، ص (339).
([25]) ميشيل عفلق ولد في دمشق 1908م وتابع دراسته في باريس، يعد من مؤسسي حزب البعث ومنظريه، تأثر بزكي الأرسوزي وكارل ماركس، ومات 1989م.
([26]) ميشيل عفلق، خطاب ألقي على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943م.
([27]) علي محمد جريشه وآخَر، الغزو الفكري للعالم الإسلامي، دار الاعتصام-المدينة المنورة، ط3، عام ١٩٧٩ ص (٧٧-٧٨).
([28]) غالب بن علي عواجي، المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها، المكتبة العصرية الذهبية، جدة ، ج ١، ص (٣٦).
([29]) جميل مطر، مستقبل العروبة، الهلال، يوليو 1993م، عدد ( 7).