الشيخ عباس شريفة
باحث في مؤسسة رؤية
مثَّلت الثورة الخمينية انقلابًا تامًّا في واقع الشعب الفارسي وتاريخه المعاصر، ولم تقتصر نتائج هذه الثورة على تغيير الحكم وشكل النظام الإيراني من ملكي إلى جمهوري فقط، بل طالت كينونة النظام من العلماني إلى الديني المذهبي -الجعفري الاثني عشري- وَفق تفسير سياسي يتجاوز قضية الإمام الغائب إلى نظرية سياسية معدلة هي نظرية الولي الفقيه، جاء ذلك في كتاب الخميني “الجمهورية الإسلامية” إذ نصت المادة الثانية من الدستور الإيراني على أن “الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثنا عشري، وهذه المادة إلى الأبد غير قابلة للتغيير”[1].
إن المتتبع لمسيرة الثورة الخمينية يلحظ بشكل واضح اعتماد هذه الثورة على القوة الناعمة والخشنة معًا، وفي مقدمتها القوة الدينية والمذهبية والتاريخية والسلوك الطائفي في مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية، وكشفت أدبيات هذه الثورة عن رغبة إيرانية واضحة في تمثيل المسلمين وحكم العالم الإسلامي وفق نظرية الولي الفقيه؛ فالعرب والترك سبق لهم أن قادوا العالم الإسلامي وحان دور الفرس في هذه المرحلة لتسنم مركز القيادة، وبذلك أعادت إيران أمل التطلع إلى السلطة للفئات الشيعية السياسية في المنطقة العربية ولحركات إسلامية كانت في مرحلة صراع مع حكومات عربية قومية ويسارية حول صلاحية المرجعية الإسلامية لأنظمة الحكم، وخدعت كثيرًا من قيادات الحركات الإسلامية بخطاب الخميني الذي أظهر رغبة في الوحدة الإسلامية ونبذ الخلاف المذهبي بين المسلمين.
ورغم ذلك فقد أثار شعار تصدير الثورة خوفَ عدة دول عربية من تبعاتها على أنظمتها السياسية وتأثيرها السلبي على النسيج الاجتماعي العربي، وعزز هذا الخوف سعي إيران لاستقطاب الرموز الفكرية والدينية والنخب والطلاب، وتكوين مؤسسات متخصصة بهذا الشأن يشرف عليها المرشد الإيراني وتخضع لسلطته مباشرة وتعمل في المجالين المدني والعسكري، مهمتها نشر أفكار الثورة الإيرانية وشعاراتها مثل: مقاومة قوى الاستكبار والشيطان الأكبر، ومناصرة المظلومين، وتحرير فلسطين من اليهود.
ومن الملاحظ أنه بقدر ما شكل المشروع الإيراني عاملَ جذبٍ للحركات الشيعية العربية التي تدين للولي الفقيه من كحزب الله اللبناني وحركة أنصار الله اليمنية، ولبعض الحركات السنية مثل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وبعض فروع وشخصيات الإخوان المسلمين؛ كانت نتائجه عكسية سلبية على علاقات إيران بالمجتمعات العربية وأنظمتها بعد انكشاف الوجه الطائفي لهذا المشروع الخطير[2].
لم تعد الاستراتيجية الإيرانية خفيَّةً رغم محاولاتِ إيران انتهاجَ سياسة مزدوجة ذات أبعاد متعددة؛ فطابعها الحداثي يقرُّ شكل الدولة القطرية، وفي الوقت ذاته تعمل على استعادة الإمبراطورية الفارسية ومكانتها في المنطقة من خلال صناعة ميليشيات عسكرية شيعية داخل الدول، مهمَّتُها العمل للسيطرة على الحكومات مع الإبقاء على شكل الدولة الصُّوْريِّ، وإدارةُ الدولة بواسطة أذرع طائفية تدين بالولاء للولي الفقيه الإيراني، الأمر الذي سيؤهل إيران للاضطلاع بدور إقليمي ودولي، وقد طبقت هذه الاستراتيجية في لبنان والعراق واليمن، والعمل جارٍ عليها في سورية.
يقوم مشروع إيران الإيديولوجي على كون إيران دولة متفردة قادرة على طرح بديل جديد عن أنظمة الحكم المختلفة، لا يتبع للغرب الديمقراطي ولا للشرق الشيوعي، وفكرة هذا التفرد لم يستمدها الخميني من الفقه الشيعي بل هي دائمة الحضور في الثقافة الفارسية المستبطنة للتاريخ، المعتقدة بتفرد الحضارة الإيرانية الفارسية، وهنا تأتي فكرة التشيع الصفوي بصفتها معزِّزةً للعصبية الفارسية وفقًا للنظرية الخلدونية التي تعد العمران والحضارة نتيجة التزاوج بين العصبية والفكرة، والعصبية هنا هي العرق الفارسي الآري بتاريخه الحضاري القديم، والفكرة هي التشيع الصفوي بنموذجه المعدل المسمى “نظرية الولي الفقيه”.
المبحث الأول: توصيف المشروع الإيراني
أولًا: النظريات المحدِّدة للمشروع الإيراني
(لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين “العلم بالقانون والعدالة” بتأسيس الحكومة، تثبت له الولاية ذاتها التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص)، ويجب على جميع الناس إطاعته؛ فتوَهُّمُ أنَّ صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع) وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه هو توهُّمٌ خاطئ وباطل).
هذه الفقرة من كتاب “الحكومة الإسلامية” للخميني تدخل بنا مباشرة إلى ولاية الفقيه كما نظر إليها النراقي مستدلًا بأدلته مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، معتمدًا على قواعده الفكرية واجتهاداته التي أرساها بعد أن نفاه إلى العراق الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1963م.
إذًا الأدلةُ التي تدل على وجوب الإمامة هي الأدلة ذاتها التي تدل على وجوب ولاية الفقيه عنده, فهي أمور اعتبارية عقلانية توجد بالجعل والتبني والوضع الإنساني أيضًا, وذلك كجعل القيِّم للصغار, فالقيِّم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة[3]، والفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل, وهم لم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات, فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضًا[4].
وتعتقد الشيعة الاثنا عشرية المعاصرة أنَّ الولاية المطلقة للفقيه تجعل الفقيه ينتقل من الحكم الأَوَّلي إلى الحكم الثانوي في فترة معينة لإحاطته بالفقه والمصالح الإسلامية، ويعتقدون أيضًا أنَّ الحكم الثانوي قد يكون من الأحكام الإلهية نتيجةً للتنصيب الإلهي العام للولي الفقيه[5]؛ فجعل الخميني لنفسه الولاية على الأمة بوصفه ممثلًا للنيابة عن الإمام المطلق في فترة غيبته الكبرى، ومن حقِّه بل واجبه التدخل في كل شؤون الدول الإسلامية لما يمثله من الولاية العامة على المسلمين.
وعارضَ نظريةَ الولي الفقيه بعضُ الشيعة في لبنان أو من يطلق عليهم “مدرسة جبل عامل” لا سيما محمد حسين النائيني القائل بولاية الأمة على نفسها، وسار على نهجه محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ثم محمد حسين الأمين وهاني فحص وغيرهما[6].
نظرية أم القرى لصاحبها محمد جواد لارجاني هي استعارة من الاسم الذي يطلق على مكة المكرمة، قال تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]، وقد قيل: (إن مكة سميت “أمّ القُرى” لتقدُّمها أمامَ جميعِها، وجَمْعِها ما سواها)[7]، فهل أراد لارجاني من ذلك قدسيةً ما لإيران، أم المركزية وتبعية من حولها لها، أم أراد الاثنين معًا؟
إن نظرية أم القرى -حسب هذا التصور- ترشح الجمهورية الإيرانية الشيعية بوصفها دولةً جمعت الشروط اللازمة لكي تصبح أم قرى العالم الإسلامي، وهي تعد نفسها بمنزلة «القلب المذهبي والدولة المركزية للعالم الشيعي والإسلام الصحيح”، ومن يمتلك القلب المذهبي الشيعي وفق الإمكانيات والموارد المتوفرة المتاحة لإيران اليوم ينبغي عليه السعي لتحقيق هدفه المذهبي النهائي، وهو التوسع لبناء الإمبراطورية الشيعية الموعودة لتكون نواة دولة المهدي الشيعي المنتظر الذي سينقذ العالم.
لا شك بأن إيران الدولة والثورة الخمينية تسعى للانتقال من فكرة أم القرى بإطارها النظري إلى بعدها الإجرائي، فمشروع «أم القرى» لن يتحقق إلا إذا تمت السيطرة على المجال الحيوي المطلوب، وبدونه لن تقوم دولة إيرانية مذهبية عظمى إقليميًّا، وقادة أم القرى في إيران يريدون توظيف الظروف والمتغيرات الإقليمية القائمة لتصبح من خلالها إيران قائدة للإقليم كله بما فيه من مصادر القوة الكامنة، وقد مهدت إيران لجمع (عقد أم القرى) بهدف إيجادِ مجالات داعمة لهذه القوة ولنظمِ عقدِ حباتها مذهبًا وجغرافيًّا؛ فالعالم الشيعي -بحكم هذه التطورات- يتجه لأن يصبح وحدة مذهبية شيعية وسياسية بعد أن يتحقق هدفه النهائي بتكوين الإمبراطورية الشيعية الموعودة[8].
لإيران خطة عمل تسمى “الخطة الخمسينية”، تُنفَّذ خلال خمسين عامًا، وهي مقسمة على خمس مراحل:
الأولى: التأسيس ورعاية الجذور، وتعتمد على إيجاد تكتل صفوي في البلدان المستهدفة. الثانية: مرحلة البداية، وجوهر هذه المرحلة عنصران: أولهما شرعنة الوجود الإيراني في تلك الدول، والثاني الوقيعة بين حكومات هذه الدول وأهل السنة. الثالثة: مرحلة الانطلاق، وفيها توطَّدُ علاقات العملاء الإيرانيين بالأنظمة الحاكمة والمؤسسات الحكومية دون إظهار أنشطة دينية، ويزيد النفوذ الإيراني في الأجهزة الأمنية والحكومية، وكذلك التغول الاقتصادي. الرابعة: بداية قطف الثمار، وتعتمد على إحداث الوقيعة بين الحكام والشعوب بزعاماتها السنية، فعن طريق السيطرة الإيرانية على اقتصاديات الدولة يحدث الخلل الاقتصادي بين النظام والشعب، وهو ما يؤدي إلى سخط شعبي، يستغله العملاء الإيرانيون في الوصول إلى مواقع أكثر حيوية وشراء مزيد من الأراضي والمؤسسات والعقارات، بينما هم يقومون بمساندة النظام وحثِّ الناس على الهدوء.
الخامسة: مرحلة النضج، عند الوصول إلى هذه المرحلة يفترض وفق الخطة أن تكون الدولة قد فقدت عناصر قوتها، وهي الأمن والاقتصاد والهدوء، فيستغل العملاء الإيرانيون الفوضى والاضطرابات وانعدام الثقة بين الحكام والشعوب لطرح أنفسهم بصفتهم مُخلِّصين[9].
ثالثًا: مرتكزات القوة للمشروع الإيراني
تتمتع إيران بموقع استراتيجي مهمِّ بجوار المنطقة العربية من جهة الشرق، وإن هذه الطبيعة والموقع الجغرافي واتصالها بضفتي الخليج العربي حقيقة ثابتة لا يمكن تجاوزها ولا الحد من نتائجها التي تكونت عبر التاريخ، فإيران اليوم حلقة وصل بين الشرق والغرب وممر مهمّ لحركة التجارة العالمية، لكن هذه القيمة قد تضاءلت بعد فتح قناة السويس.
وهناك ثلاث دوائر جغرافية تشكل محط اهتمام إيران خارج حدودها: أ- دول القوقاز وبحر الخزر أو بحر قزوين وآسيا الوسطى، وتقع شمالي إيران. ب- منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي، وتقع جنوب إيران. ج- المنطقة الواصلة بين إيران والبحر المتوسط، وتشمل: العراق وسورية ولبنان، وتكمن أهمية هذه المناطق في كونها تشكل الامتداد المذهبي لإيران؛ لوجود أقليات شيعية فيها، ولأهمية موقعها على معابر مائية مهمة، ولما تتمتع به من ثروات نفطية غنية.
يصل عدد سكان إيران إلى 80 مليون نسمة، فهي تحتل المركز السابع عشر عالميًّا التاسع آسيويًّا من حيث عدد السكان، وتتكون إيران من مزيج قومي يبلغ 30 قومية يشكل الفرس نسبة 50% منها، ثم الأذريون الأتراك التتر، وتبلغ نسبتهم 20 %، يليهم الأكراد ويشكلون نسبة 9% من مجموع السكان، ثم العرب ويتركزون في إقليم عربستان –الأهواز/خوزستان- والأقاليم المطلة على الخليج العربي[10]، وتتضارب المعلومات عن نسبة السنة في إيران، فهم في الإحصائيات شبه الرسمية 10%، وفي المصادر السنية 30%، وفي المصادر المستقلة 15 % – 20 % من سكان إيران[11].
هذا التنوع العرقي والمذهبي في إيران عامل قوة وضعف في الوقت ذاته، فهو يهدد التماسك الداخلي بين مكونات الشعب الإيراني، وفي الوقت نفسه يشكل عامل تواصل وتمدد خارج الحدود؛ فتقوم إيران بتشجيع سكانها الشيعة على الهجرة للبلاد العربية والاستقرار فيها، وقد استقرت عوائل إيرانية كثيرة في الكويت والعراق والبحرين، وأصبحت هذه الأسر تمارس دورًا ثقافيًّا واقتصاديًّا كبيرًا في الدول التي استقرت فيها، وتنظم زيارات سنوية للدول العربية تحت غطاء زيارة الأماكن المقدسة الشيعية.
إن التاريخ الإيراني الطويل الغني المتعاقب على كثير من الدول والإمبراطوريات يدفع الإيرانيين دائما إلى التطلع خارج الحدود لبناء إيران الكبرى وريثة الحضارة الفارسية، هذا مع تركيز خاص على العرب بسبب الجوار الجغرافي والنفسية الثأرية الإيرانية تجاه العرب، فنهاية الإمبراطورية الفارسية كانت على أيدي العرب المسلمين، ويمكن رصد هذه النفسية الإيرانية المشحونة بعقد التاريخ من خلال الوقوف على تصريحات علي يونسي مساعد الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الاستخبارات السابق حين وصف بغداد بأنها عاصمة إيران كما كانت في السابق، وكذلك تصريح رحيم صفوي مستشار المرشد عندما قال: إننا وصلنا إلى البحر المتوسط للمرة الثالثة[12]. وأيضًا تجد أخبار المهدي عندهم كثيرًا ما تركز على انتقامه من العرب وإعمال السيف فيهم، معبِّرةً تعبيرًا طبيعيًّا عما يعتلج في الذهنية الفارسية الرافضية من أوهام أو أحقاد.
وجدت إيران في التشيع ترسًا يحمي هويتها الثقافية والقومية ورمحًا تطعن به وقوسًا ترمي به سهامها ووسيلة تخترق بها الدول العربية والإسلامية، وما حصل من حروب صفوية عثمانية وما تفعله اليوم في العراق وسورية واليمن يظهر بوضوح مدى اعتماد السلطات الإيرانية على هذا المرتكز، فعلى الصعيد الداخلي تُعامِل الشيعي العربي الأهوازي من منطلق قومي عنصري، وتعامل السني الفارسي من منطلق طائفي، فهي ترى في الفكر الإسلامي السني مشروعَ تعريب، وترى في الفكر العربي عدوًّا تاريخيًّا وثقافيًّا؛ أمَّا معاملتها الخارجية فتتجه إلى استغلال عواطف الشيعي العربي وربطه بإيران بخطاب طائفيٍّ لتحوِّله إلى خنجر إيراني في خاصرة بلده التي يسكنها[13].
رابعًا: الأدوات الناعمة للمشروع الإيراني
أولًا: الثقافة
نشطت إيران في المجال الثقافي والفني والأكاديمي، ووظفت حضورها في هذه الفضاءات لاختراق الإقليم العربي كلِّه، وعملت على استحداث المراكز الثقافية الإيرانية لتكون نقطة ارتكاز مباشرة لدعم الدبلوماسية الشعبية تعويضًا عن انسداد مجالات التواصل السياسي الفاعل خلال حقبة الحصار والعزلة الطويلة التي أعقبت الثورة الخمينية؛ لذلك عُدَّت إيران من أنشط دول العالم الثالث في الدبلوماسية الشعبية والاتصال بالمجتمع المدني.
ثانيًا: القيم السياسية
النظام السياسي الإيراني من أعقد الأنظمة السياسية في العالم، فهو يجمع بين الدولة الثيوقراطية والنظام الديمقراطي الحديث، علاوة على أنه يتكون من منظومة معقدة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تشارك وتؤثر في عملية اتخاذ القرار[14]، ومنذ قيام الثورة الخمينية لم يتداول منصب المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية سوى شخصين: الأول الخميني وبوفاته جاء خامنئي، وفي النظام السياسي الإيراني نجد ثنائية المحافظين والإصلاحيين التي تشبه ثنائية الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة مع الفارق الديمقراطي بين التجربتين.
ثالثًا: السياسة الخارجية
يرى عباس مالكي أن السياسة الإيرانية الخارجية مشغولة بثلاثة مستويات: الأول ضمان طريق النفط والغاز عبر طريق هرمز، والثاني تهيئة جميع السبل لدعم التنمية داخل إيران، والثالث الاستدارة شرقًا نحو الجمهوريات الإسلامية الوليدة لضخامة المصالح بينهما.
وتغاضت إيران عن المحرك العقدي تمامًا إلى درجة مخالفة الدستور لأجل مصالحها عندما وقفت مع دولة مسيحية مثل أرمينية ضد أخرى مسلمة شيعية مثل أذربيجان في الحرب التي جرت بين البلدين مطلع التسعينيات، وقامت بتسليح أرمينية وأيدت احتلالها لإقليم ناغورنيكا رابخ[15].
رابعًا: التشييع
تشكِّل إيران مركز الجاذبية للشيعة ليس على المستوى المذهبي فقط بل على المستوى السياسي أيضًا؛ فالسياسة والدين متمثلان في الولي الفقيه المرشد الأعلى الذي يمتلك قوة ناعمة هائلة بحكم الموقعَيْن لدى أتباعه المنتشرين داخل إيران وخارجها، وهم يقومون طوعًا بخدمة مصالح الدولة الإيرانية نظرًا لطبيعة العلاقة الدينية التي تربطهم بتبعية الولي الفقيه؛ وذلك لارتباط الديني بالسياسي بشكل وثيق نظرًا لكون الأخير قائدًا سياسيًّا لإيران إلى جانب كونه مرجعًا دينيًّا.
وتعمل إيران على نشر فهمها للنموذج الشيعي المتمثل بولاية الفقيه (تشيع قومي فارسي) حول العالم، وتُعلي من شأن “قم” بصفتها إطارًا مرجعيًّا مقابل “النجف” لتخريج أئمة موالين لها يعملون سفراء لقوتها الناعمة، وينشرون رسائل إيران الدينية والثورية والإعلامية والثقافية والسياسية.
وعلى عكس الأداة الثقافية فإن أداة التبشير الشيعيِّ تركز على الخليج العربي الذي يحتل الأولوية في الاستراتيجية الإيرانية العشرينية “إيران 2025″، وساعد ذلك على تقوية موقع “قم” في اجتذاب أبناء المنطقة، ويبدو ذلك واضحًا في تركيبة البيت الشيعي اللبناني الذي تحول جزء كبير منه من مرجعية النجف إلى “قم” خلال أقل من عقدين، ناهيك عن أن عدد الطلاب العرب الذاهبين إلى “قم” ازداد مقارنة بما كان عليه سابقًا؛ فعدد البحرينيين في “قم” مثلًا زاد عن نظيره في النجف بخمسة أضعاف تقريبًا عام 2009م.
وتسعى طهران لتوحيد الأقليات الشيعية تحت رايتها أينما وُجدت، وتستخدم لنشر التشيع في بيئات أخرى كل ما يساعدها على توسيع نفوذها من المصطلحات كالوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي والتسامح والحوار؛ فينعكس مكسبًا سياسيًّا لها[16].
خامسًا: المتاجرة بالقضية الفلسطينية
لا يمكن إنكار ما تقدمه إيران من دعم للقضية الفلسطينية بغض النظر عن المكانة التي تبحث عنها إيران من خلال تقديم هذا الدعم، وتنوع هذا الدعم بين الدعم المادي والمعنوي والرسمي والشعبي، ورغم ذلك كشف استطلاعُ رأيٍ للنخبة العربية أجراه مركز الجزيرة للدراسات أنَّ أغلبية العيِّنة ترى أن إيران تستغلُّ القضية الفلسطينية ولم يعد لحديثها عن فلسطين أي مصداقية، فقد وافق 88 % منها على أن إيران تستغل القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذها في العالم العربي وعارض 12 % هذه الفرضيةَ[17].
وتمتلك إيران إمبراطورية ضخمة من الشبكات الإعلامية التي تخاطب العالم العربي عبر قنوات فضائية وصحافة وإعلاميين ورموز ثقافية، وتعتمد أيضًا على المراكز الثقافية والملحقيات الثقافية.
خامسًا: القوة الصلبة الإيرانية في المنطقة العربية
تعتمد إيران في قوتها الصلبة على شبكة كبيرة من الخلايا والمليشيات الشيعية الطائفية، فهي تأتمر بأمر الولي الفقيه الإيراني وتشكل حالة مسلحة خارج سيطرة الدولة، وأحيانا تتحول هذه المليشيات إلى قوة مسيطرة حتى على الدولة نفسها، وتتم شرعنة وجود مثل هذه المليشيات بحجة محاربة الإرهاب تارةً وبحجة المقاومة والممانعة تارة أخرى، وأهم هذه الأذرع الإيرانية في المنطقة العربية:
حزب الله الشيعي اللبناني:
تأسس حزب الله عام 1982 نتيجة انشقاق التيار الخميني في حركة أمل الشيعية إثر انضمام الأخيرة إلى جبهة الإنقاذ اللبنانية الوطنية، التي تضم مختلف القوى السياسية اللبنانية التي رفضتها إيران حينذاك؛ لذلك قرر الخمينيون في الحركة الانشقاق وتأسيس الحزب، ففي بيان صادر عن الحزب في 16 /شباط/ 1985م أن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”.
إذًا إنَّ حزب الله مؤسسة عسكرية أمنية سياسية دينية من المؤسسات الإيرانية في لبنان، وعين مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي كلًّا من “حسن نصر الله” الأمين العام للحزب والشيخ “محمد يزبك” عضو شورى حزب الله والمدرس في حوزة الإمام المنتظر في بعلبك وكيلَيْنِ شرعيين لمرشد الثورة الإسلامية في لبنان، وهناك عشرات الخطابات للأمين العام للحزب حسن نصر الله يقر فيها بأنه جندي صغير في جيش ولاية الفقيه علي خامنئي، ومن أهمها قوله: “إن رواتب حزب الله وصواريخه ومصروفاته كلها مصدرها الجمهورية الإسلامية، وما دام هناك أموال في إيران فنحن عندنا أموال”[18].
ميليشيا الحوثي:
تأسست الميليشيا تحت اسم “جماعة أنصار الله” عام 1992، وبدأت نشاطًا عسكريًّا مسلحًا منذ عام 2004 بالدخول في ستة حروب ضد الجيش اليمني حتى عام 2010؛ ووجدت إيران في الحوثيين منذ زمن بعيد أداة قوية لتنفيذ مشروعها في اليمن، فأمدتهم بالسلاح حتى استطاعوا استغلال الوضع الأمني الهش عام 2014م، وانقلبوا على السلطة الشرعية المنتخبة لتدخل البلاد في دوامة من العنف.
الميلشيات الشيعية في العراق:
ويأتي على رأسها قوات الدفاع الشعبي وعصائب أهل الحق وسرايا السلام وكتائب بدر، وقد شاركت جميعها في الحرب بسورية، و”الدفاع الشعبي” هي البذرة التي خرجت من نواة كتائب حزب الله، وتنتشر الآن في مدينتي بغداد وديالَى، وتعتمد عليها الحكومة العراقية اعتمادًا كبيرًا؛ أمَّا “عصائب أهل الحق” فهي الوكيل الرسمي لتصدير الإرهاب الإيراني إلى العراق، وهي التي أعلن زعيمها الشيخ قيس الخزعلي الانفصال عن رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر؛ وأما “سرايا السلام” فهي التي تتبع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وتُسمَّى الآن بالتيار الصدري، وتنتشر في جميع أنحاء العراق بدءًا من مدينة سامراء إلى قرية آمرلي، وصولًا إلى مدينة جرف الصخر وديالَى في الشرق، وأمَّا “منظمة بدر” فهي جماعة مسلحة تحظى بدعم طهران لتطوير الميليشيات الشيعية، وتشارك في القتال بسورية حيث أسست قوة “الشهيد باقر الصدر”، وتتجه الحكومة العراقية إلى دمج هذه المليشيات داخل الجيش العراقي ليصبح وجود هذه الأذرع رسميًّا في الحكومة العراقية.
الميليشيات الشيعية في سورية:
سيأتي الحديث عنها في العنوان اللاحق ضمن توصيف المشروع الإيراني في سوريا.
سادسًا: المشروع الإيراني في سورية
يُعد الوصول إلى مياه المتوسط حلمًا تاريخيًّا كبيرًا يشغل القيادة الإيرانية منذ عصور، ولم يتبدل هذا الهدف حتى في ظل حكم الولي الفقيه الإيراني، ولتحقيق هذا الحلم ابتدعت إيران وسائل استراتيجية خطيرة، فلم يتوقف المشروع الإيراني في سورية على التدخل العسكري ضد الثورة السورية دعمًا لنظام الأسد بل امتد الأمر إلى التغلغل الإيراني في مؤسسات الدولة والجيش والمخابرات والسيطرة على الاقتصاد، هذا إضافة إلى مشاريع ثقافية وفتح مراكز التشييع في بعض المحافظات السورية، وقد بلغ حجم ما ضخته إيران في سورية من أموال في سبيل مشروعها 40 مليار دولار تقريبًا.
يؤكد قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري أن :”هناك نحو 200 ألف مقاتل يرتبطون بالحرس الثوري في عدة دول بالمنطقة منها سورية”؛ وذلك للتعبير عن خطة لتعزيز الوجود الإيراني في مناطق مختلفة من سورية أبرزها منطقة الفرات ومدينة البوكمال ودير الزور شرقًا، وحلب والغوطة الشرقية بدمشق، ومحافظتي درعا والسويداء، وتتضمن خطة الانتشار الإيرانية الجديدة في سورية عدة محاور أبرزها:
1- بسط السيطرة على ميناء اللاذقية، الذي سيشكل مصبًّا للطريق البرية الواصلة بين إيران وسورية عبر العراق.
2- إنشاء وحدة قوات خاصة في الجولان، فتولى “حزب الله” تشكيل نواة تلك القوة وتزويدها بالقدرات اللازمة وامتلاكها أدوات التصعيد والتهدئة مع إسرائيل.
3- بسط السيطرة على مطار دمشق الدولي بحيث تسيطر إيران على أهم منفذ بحري وجوي في سورية.
4- الهيمنة على قاعدة “الناصرية” الجوية الواقعة على مسافة 10 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة “جيرود” في منطقة القلمون الشرقي لاستخدامها في أغراض عسكرية سرية تخص صناعة الصواريخ.
5- الاستحواذ على حصة من مـوارد سورية النفطية، فقد أكـد يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري لعلي خامنئي أن سورية مستعدة لسداد ديونها لإيران من مواردها النفطية والغازية والفوسفات.
6- نصب منصات صاروخية في المناطق الحدودية بين سورية والعراق، وتحدثت مصادر إيرانية عن تزويد الميلشيات العراقية بقدرات صاروخية لردع الهجمات التي يمكن أن تستهدف مصالحها.
7- السيطرة على المعابر الحدودية بين سورية والـعـراق بنشر ميلشيات الحشد الشعبي عليها.
8- إنشاء ضاحية “شيعية” في دمشق على شاكلة بيروت، وتم الكشف عن شراء الحكومة الإيرانية مساحات كبيرة من الأراضي والمباني حول العاصمة السورية لتنفيذ مشروع إسكان “شيعي” ضخم بات يعرف “بحزام دمشق”.
9- تعزيز التبادل التجاري مع سورية، وذلك من خلال إنجاز 18 اتفاقية تعاون ثنائي قيد العمل في مختلف المجالات التجارية، وتتضمن إدراج 88 مجموعة سلعية ضمن قائمة التبادل التجاري بين إيران وحكومة النظام وتصفير التسعيرة التجارية بين سورية وإيران[19].
10- تغيير الهوية الثقافية للمجتمع السوري من خلال فتح عشرات مراكز التشييع وشراء ولاءات زعماء العشائر وبعض الوجوه الاجتماعية، ولتحقيق ذلك بدأت إيران توظف المقامات الشيعية في سورية كمقام عمار بن ياسر والسيدة سكينة ومشهد الحسين…، ومؤسسات التعليم الثانوي والعالي الشيعي الشرعي، والحسينيات، والحوزات العلمية المنتشرة حديثًا في سورية، وكذلك الجمعيات الخيرية والهيئات الشيعية[20].
المبحث الثاني: استراتيجية مواجهة المشروع الإيراني
يجب التأكيد على عدد من المبادئ الأساسية التي يجب أن تكوِّن محورًا ثابتًا راسخًا في أذهاننا خلال تتبع الخطوط العامة للسياسة التي نقترحها في مواجهة المشروع الإيراني في الوطن العربي، الذي يطال الشعوب بالدرجة الأولى، من هذه المبادئ:
خطوات عملية في مواجهة المشروع الإيراني[21]
إن مواجهة المشروع الإيراني لا يعني بالضرورة الانزلاق إلى المشروع الصهيوني أو مشروع الثورة المضادة، فيجب التركيز على أنَّ مواجهة المشروع الإيراني لا تعني تناسي أو تجاهل مواجهة المشاريع الأخرى الموازية أو المكمِّلة للمشروع الإيراني الصفوي، وأهمها المشروع الصهيوني ومشروع الثورة المضادة. ولمواجهة المشروع الإيراني خطوات عملية أبرزها:
استطاعت الثورة السورية وبإمكانيات بسيطة إلحاق الهزيمة بالمليشيات الإيرانية الطائفية في سورية، ولولا تخاذل العالم والتدخل الروسي في سورية لكانت إيران اليوم ترفع الراية البيضاء وتجر أذيال الهزيمة منكفئة على نفسها؛ فعلى الدول العربية والإسلامية التي تعاني من التدخل الإيراني في دول المنطقة أن تدعم الشعوب التي تواجه المشروع الإيراني في بلداننا، فلها دور مهم في مواجهة الغدر الإيراني لا يقل عن أهمية التنسيق السياسي والعسكري بين دول المنطقة.
الحرص على عدم جمع الشيعة في سلة واحدة يزيد من النِّديَّة للمشروع الإيراني، ففي الآونة الأخيرة ظهرت حالة تململ من المشروع الإيراني في بعض أوساط الشيعة العرب غير المواليين “للولي الفقيه”؛ وذلك لأسباب مختلفة منها الاستعلاء القومي[22] عبر اختراق المرجعية العربية وتنصيب إيرانيين عليها يدَّعون عدم موافقتهم على مبدأ الولي الفقيه لكنهم ينفذون أجندة إيران السياسية والطائفية والمصلحية بامتياز, وآية الله الإيراني السيستاني مثال صريح على ذلك؛ ومنها تضارب المصالح، فلا بدَّ أن نأخذ بعين الاعتبار وجود حد معين من تضارب المصالح فيما يتعلَّق بالمرجعيّة, فإيران تسعى إلى نقل الثقل الأساسي للمرجعية الشيعية من مدرسة “النجف” التاريخية إلى مدرسة “قم”، لتكرِّس إيران نفسها مرجعًا أساسيًّا لشيعة العالم.
ومن الأسماء التي بدأت تُظهر تململها من الاستحكام الإيراني الشيخ محمد الحاج حسن منسقُ التيار الشيعي الحر الذي سرَّب حزب الله فتاوى إهدار دمه مؤخرًا، والشيخ صبحي الطفيلي, ورغم أنَّه لم ينضم بعد إلى التيار إلا أنه يبقى الأمين العام الأول لحزب الله وله مكانة خاصة في صفوف الشيعة، وهو يؤكد أنّ إيران عميلة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي ومشاركة معه في العراق وأفغانستان وسورية، ومثلهما الشيخ حسين المؤيد, فمن أجرأ ما أدلى به تصريحه بأنَّ إيران أخطر على العرب من إسرائيل.
يجب عرض الأهداف الإيرانية التي تريد تحقيقها في المنطقة ومقارنتها بشكل دائم بأهداف المشروع الصهيوني؛ كي يستطيع القارئ الربط بشكل آلي فوري, وسيكون هذا سهلًا جدًّا خاصَّة أنّ أهداف المشروعين واحدة تقريبًا, وبما أنّ الأحداث تتمحور حاليًا حول العراق فلا بد من التركيز على تلاقي دور الصهاينة والصفويين في تدمير العراق وتدمير سورية، وقد رحبت إسرائيل بالتدخل الإيراني لمساعدة النظام بداية الثورة السورية.
إن التركيز على التناقضات الإيرانية في المواقف ونفاقها في مختلف الملفات الإقليمية وعرضها في إطار مشروعها له أهمية كبيرة في مواجهة الخداع الإيراني لشعوب المنطقة، فإيران ذات وجهين, ولا يقتصر تناقضها على توزُّعِهِ بشكل متعمد وماكر بين ما يسمى إصلاحيين ومحافظين بل تعداه ليصبح تناقضًا داخل كل واحد منهما، وإليك هذين المثالين:
اشتهر أحمدي نجاد بتصريحاته الشهيرة عن ضرورة إزالة إسرائيل عن الخريطة و تدميرها, ثمَّ أطلق تصريحه الشهير الآخر في 26 -آب – 2006 بمناسبة افتتاح مصنع إنتاج الماء الثقيل في “آراك” قائلًا: “إيران لا تشكّل خطرًا على الغرب ولا حتى على إسرائيل”، فهذه التصريحات توضح السياق الإعلامي الذي تندرج تحته تصريحات إيران ضد الغرب وإسرائيل.
وأعاد الإيرانيون تطمين الغرب في 11 – شباط – 2007, فقال لاريجاني: (برنامج إيران النووي لا يمثل تهديدًا لإسرائيل, وبلاده مستعدة لتسوية جميع الأمور العالقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال ثلاثة أسابيع…، وكل ما يرد بشأن رغبة إيران في تهديد إسرائيل هو كلام خاطئ).
ينبغي العمل على ذلك من الناحية البشرية والمادية والمذهبية والاجتماعية, وتحديد حلفاء إيران في البلدان العربية، وتحديد طرق وأساليب التعامل معهم من خلال إثارة نقاشات فكرية علمية لنقل الصورة الحقيقية عن إيران وعن سلبية التبعية لها، واستخدام الوسائل والأساليب والأدوات المناسبة في مخاطبة الجمهور من العامة والخاصة فيما يتعلق بالخطر الإيراني، فلكل فئة مستهدفة طريقة خاصة بالتفكير أو الاستجابة للخطاب الموجَّه إليهم؛ فمنهم من يستجيب للمحاجَّات العقلية والمنطقية، ومنهم من يتأثر بالمحاجَّات الشرعية الدينية، ومنهم يصغي للمحاجَّات التاريخية، ومنهم تقنعه الوقائع والأحداث والصور البصرية؛ وعليه فلا يجوز استخدام أسلوب واحد جامد خشبي في مخاطبة كل هذه الفئات وكأنَّها عقل واحد.
توظيف الأوضاع والتطورات الراهنة والتعامل معها بشكل ذكي لكشف المشروع الإيراني ومحاصرته والضغط عليه، ومن ذلك تسليط الضوء على تلقي إيران لضربات إسرائيلية متكررة في سورية واكتفائها بالصمت المطبق، وهي التي لطالما تبجحت برفع شعار المقاومة والممانعة.
إنشاء مركز أبحاث جامع هدفه دراسة ورصد السياسات التوسعية الإيرانية تجاه المنطقة، وتقديم الاقتراحات بشأن سبل معالجتها أو مواجهتها, والاهتمام برعاية باحثين وإعلاميين عرب، ودفعهم إلى إتقان اللغة الفارسية لما لها من أهمية في تناول ونقل وتحليل ونقد وكشف الأخبار والوثائق الإيرانية المكتوبة بالفارسية التي يستعصي على كثيرين منَّا فهمها أو ترجمتها.
كثيرًا ما تستتر إيران وهي تنجز مشروعها الطائفي وتمارس الإرهاب بشعار محاربة الإرهاب، ولا بد هنا من الإشارة إلى العلاقة الوثيقة التي تجمع بين إيران وتنظيم القاعدة الذي يقطن عدد من قياداته في إيران؛ ففي خطاب عام 2007 بعنوان “خطاب إلى كارم” يقدم ابن لادن المسوِّغاتِ التي تستوجب عدم الهجوم على إيران قائلًا: (إيران هي شرياننا الرئيس الذي يمدنا بالأموال والرجال وقنوات الاتصال، ولا يوجد ما يستوجب الحرب مع إيران إلا إذا اضطررت إلى ذلك). وينهَى بن لادن بقوة عن أي هجوم ضد إيران، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيحض عناصر التنظيم على طلب المشورة أو الإذن في أي مواجهة مع إيران.
والخطاب الذي أرسله الظواهري لأبي مصعب الزرقاوي -الذي كان يومئذٍ قائدًا للقاعدة في العراق- يطلب منه عدم التعرض للشيعة والإيرانيين، نظرًا لوجود أكثر من 100 من أعضاء القاعدة تحت قبضة النظام الإيراني، وفي خطاب لأبي محمد العدناني الناطق باسم تنظيم الدولة أكد أن عدم تعرضهم لإيران كان بتوجيه من الشيخ الظواهري؛ ولا تخفى الخيرات التي جنتها إيران من تنظيم القاعدة وفروعه في العراق وسورية خصوصًا وفي مجمل المنطقة العربية والإسلامية عمومًا.
خاتمة
إن المشروع الإيراني مشروع منظم طويل الأمد، يقوم على الإرهاب والدم فضلًا عن الوسائل الناعمة الدينية والثقافية، وإن مواجهته تقتضي إدراكًا حقيقيًّا لامتداداته وتوقعًا حصيفًا لخطواته المستقبلية، فالمواجهة الفوضوية له لا تفضي إلا إلى تمدده وتوسعه، وهذا يستدعي منَّا دراساتٍ منهجيةً حقيقية توصِّفُ أصول المشروع الإيراني وفروعَه للعمل على مواجهتها بأناةٍ وصبر وحكمة.
[1] عبد الحليم خدام، التحالف السوري الإيراني والمنطقة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص (55).
[2] إبراهيم عبد الكريم وآخرون، مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبلها، مركز دراسات الشرق الأوسط، الأردن، الطبعة الأولى، 2012م، ص (44).
[3] – الحكومة الإسلامية, الخميني، صادر عن مركز بقية الله, الطبعة الثالثة، ص (109).
[4] – البيع، الخميني ص 92, الحكومة الإسلامية له، ص (150 – 151).
[5]– موقع سماحة آية الله مصباح اليزدي، نسخة محفوظة 05 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.
[6] – القوة الناعمة في المنطقة العربية (السعودية، تركيا، إيران)، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، الطبعة الأولى 2018، صفحة (205).
[7] – تفسير الطبري، (1/108).
[8] مقولات في الاستراتيجية الوطنية شرح نظرية أم القرى الشيعية، محمد جواد لارجاني، ترجمة نبيل عتوم، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن ص (9- 10) طبعة 2013م.
[9] نشرت رابطة أهل السنة في إيران -مكتـب لندن– هذه الخطة المضمَّنة في الرسالة السرية للغاية الموجهة من شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايـات الإيرانية، راجع كتاب الخطة الخمسينية وإسقاطاتها في مملكة البحرين، د. هادف الشمري ط2، 1429هـ، ص (18).
[10] صباح الموسوي وآخرون، المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية، مركز أمية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، دار عمان للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الثانية، ص (55).
[11] بختيار أحمد صالح، الأقليات الإيرانية… ثغرات تسمح بضرب الأمن القومي، صحيفة الشرق الأوسط 6/ 8/ 2015/ العدد (13400).
[12] موقع الجزيرة نت، إيران: المسار التاريخي، رابط المقال http://cutt.us/bZAue، تاريخ الاطلاع 30 / 6/ 2019/.
[13] إيران تلعب على وتر مظلومية الأقلية، 23 يناير, 2016م، تم الاطلاع في 30 / 6/ 2019 / رابط المقال= http://cutt.us/QPKBM
[14] الدستور الإيراني.
[15] القوة الناعمة في المنطقة العربية، دراسة صادرة عن مركز التفكير الاستراتيجي، مجموعة من الباحثين، صفحة 214 .
[16] مركز الجزيرة للدراسات، علي حسين باكير, 17 أبريل, 2013، الرابط http://cutt.us/zmp6Z
[17] – إيران في ميزان النخبة العربية، http://cutt.us/wUVBr
[18] مؤسسات النفوذ الإيرانية في سورية، حسام السعد وطلال المصطفى https://harmoon.org/archives-12744/8432/
[19] التقرير الاستراتيجي السوري، العدد رقم 66 – الصادر في 21 مارس 2019، شؤون أمنية.
[20] موقع جيرون https://geiroon.net/archives/117632
[21] انظر في ذلك (كيف نواجه المشروع الإيراني بــ 13 خطوة)، علي حسين باكير، مجلة الراصد 2007م.
[22] راجع في هذا كتاب علي شريعتي: التشيع العلوي والتشيع الصفوي.