عامر خطاب
باحث ماجستير في التربية الإسلامية
القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي تؤخذ منه مبادئ التربية وتستمد منه القيم في الإسلام، فقد أولى القرآنُ السلوكَ البشري عنايةً خاصَّة، وبيّن أن ثمرة العبادات هي أن يرتقي الإنسان بسلوكه وأخلاقه، وفي القصص والأخبار التي أوردها الله -عزَّ وجلَّ- عن الأنبياء والأمم السابقة ما يوضِّح سنن الله -عزَّ وجلَّ- في الإنسان، فهي تغرس فيه القيم الراقية وتحمل في أحداثها مضامين تربوية سامية.
كل هذا يدعونا إلى أن نتدبر معاني سور وآيات كتاب الله عز وجل، وأن نعمل عقولنا في استنباط ما تحمله من مضامين تربوية ومبادئ أخلاقية وقيم فاضلة؛ ومن هنا جاءت هذه الدراسة التحليلية لسورة يس في فصلين، أستخلص فيهما ما تدل عليه السورة من مضامين تربوية وقيم أخلاقية ترقى بالمجتمع والإنسان.
الفصل الأول: التعريف بسورة يس ومواضيعها، والفصل الثاني: المضامين التربوية في سورة يس.
الفصل الأول: التعريف بسورة يس ومواضيعها
المبحث الأول: التعريف بالسورة
تسمية السورة
يقول ابن عاشور: “سمّيت هذه السّورة يس بمسمّى الحرفين الواقعين في أوّلها في رسم المصحف لأنّها انفردت بهما فكانا مميّزين لها عن بقيّة السّور، فصار منطوقهما علمًا عليها، وكذلك ورد اسمها عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، روى أبو داود عن معقل بن يسارٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((اقرأوا يس على موتاكم))، وبهذا الاسم عنون البخاريّ والتِّرمذيُّ في كتابي التَّفسير، ودعاها بعض السَّلف «قلب القرآن» لوصفها بذلك في قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ لكلّ شيءٍ قلبًا، وقلب القرآن يس))، رواه التّرمذيّ عن أنسٍ، وهي تسميةٌ غير مشهورةٍ”.
وهي مكّيّةٌ، حكى ابن عطيّة الاتّفاق على ذلك وقال: “إلَّا أنّ فرقةً قالت: قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهم: ((دياركم تكتب آثاركم))، وليس الأمر كذلك، وإنّما نزلت الآية بمكّة، ولكنّها احتجّ بها عليهم في المدينة”([1]).
فضل السورة
بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل سور القرآن الكريم في أحاديث كثيرة دفعت بعض العلماء السابقين إلى تصنيف مؤلفات في فضائل القرآن الكريم مثل فضائل القرآن للقاسم بن سلام([2])،وفضائل القرآن لابن الضريس([3])، وفضائل القرآن للفريابي([4])، وفضائل القرآن للنسائي([5])، وفضائل القرآن للمستغفري([6])، وفضائل القرآن وتلاوته للرازي([7])، وفضائل القرآن لابن كثير([8])، ذكروا فيها ما يتعلق بسور القرآن الكريم من فضائل في نزوله وتلاوته وفضله على غيره وتجويد التلاوة وتحسين الصوت فيه، كما ذكروا ما ورد من أخبار في فضل بعض السور ومنها سورة يس، إلا أن هذه الأخبار في مجملها ضعيفة، وبعضها مكذوب على النبي صلى الله عيه وسلم، وفيما يلي نعرض نموذجين من هذه الأخبار مع بيان درجتهما:
الأول: ((سُورَةُ يس تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُعِمَّةُ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْمُعِمَّةُ؟ قَالَ: تَعُمُّ صَاحِبَهَا بخير الدنيا والآخرة، وتكايد عَنْهُ بَلْوَى الدُّنْيَا، وَتَدْفَعُ أَهَاوِيلَ الآخرة)). رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وهو موضوع. اتهم بوضعه محمد ابن عبد بن عامر السمرقندي، ورواه العقيلي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر الجدعاني، وهو متروك، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ من طريقه، وفي إسناده مجاهيل وضعفاء([9]).
الثاني: ((مَنْ قَرَأَ يس ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله غفر له)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا، وإسناده على شرط الصحيح، وأخرجه أبو نعيم والخطيب، فلا وجه لذكره في كتب الموضوعات([10])، وهناك مجموعة أخرى من الأحاديث التي ترتقي عن الضعيف بقليل، ولا بد من مراجعتها ودراسة متونها وأسانيدها.
المبحث الثاني: موضوعات السورة
الموضوعات الإيمانية
“قامت السّورة على تقرير أمّهات أصول الدّين على أبلغ وجهٍ وأتمِّه من إثبات الرسالة والوحي ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء، وإثبات القدر وعلم اللّه، والحشر والتّوحيد وشكر المنعم، وهذه أصول الطّاعة بالاعتقاد والعمل ومنها تتفرّع الشّريعة، وإثبات الجزاء على الخير والشّرّ مع إدماج الأدلَّة من الآفاق والأنفس بتفنُّنٍ عجيبٍ، فكانت هذه السّورة جديرةً بأن تسمَّى «قلب القرآن» لأنّ من تقاسيمها تتشعَّب شرايين القرآن كلِّه، وإلى وتينها ينصبُّ مجراها”([11]).
“الموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية، وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة، فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
وإنَّ قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون لَتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه، وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية، فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}.
والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة: تجيء في أولها {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، وتأتي في قصة أصحاب القرية فيما وقع للرجل المؤمن، وقد كان جزاؤها العاجل في السياق: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ،} ثم ترد في وسط السورة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة، وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.
هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها تتكرر في السور المكية، ولكنها تُعرض في كل مرة من زاوية معينة تحت ضوء معين مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها”([12]).
الموضوعات التربوية
تعرض السورة جملة من الموضوعات التربوية على مستوى الفرد في الجانب الإيماني والسلوكي، كما تعرض جملة من الموضوعات التربوية الاجتماعية، فتعالج بعض الظواهر الاجتماعية كظاهرة التطير {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}، قال القرطبي: (قالُوا لَهُمْ {إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ} أَيْ تَشَاءَمْنَا بِكُمْ، فقالت الرسل: {طائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أَيْ حَظُّكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعَكُمْ وَلَازِمٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شُؤْمِنَا، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَعْمَالُكُمْ مَعَكُمْ، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ الْأَرْزَاقُ وَالْأَقْدَارُ تَتْبَعُكُمْ، وقال الْفَرَّاءُ: “طائِرُكُمْ مَعَكُمْ” رِزْقُكُمْ وَعَمَلُكُمْ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ)([13]).
وتتناول ظاهرة اجتماعية خطيرة، وهي عموم البلاء عند عموم الفساد، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}، فقد كان هذا نتيجة للعناد والاستكبار الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.
ومما تقدم يمكننا أن نلخّص موضوعات سورة يس بأنها موضوعات السور المكية التي تتناول قضايا العقيدة الإسلامية حول الإيمان بالله عز وجل والإيمان بالنشر والحشر ويوم القيامة، والموضوعات التي تكوّن شخصية المسلم من الناحية الفكرية والسلوكية، وتوضح بعض معالم المجتمع الإسلامي من خلال معالجة بعض المشكلات والظواهر.
الفصل الثاني: المضامين التربوية في سورة يس
“عني المفكرون بالقرآن الكريم عناية لم يظفر بمثلها كتاب سواه، وتبدو هذه العناية في كثرة المؤلفات والدراسات عن القرآن الكريم، فتعددت مناحي الأخذ منه إلا أن أعظم وجوه الأخذ من القرآن الكريم الوجه التربوي، فهو مبثوث في القرآن كله، فلا تكاد تخلو سورة منه”([14])؛ ومن هنا جاء هذا البحث لاستنباط المضامين التربوية في سورة يس، “فالقرآن الكريم كتاب شامل في التربية، وقد وضع منهجًا للتربية العقلية والنفسية والجسمية”([15]).
والمقصود بالمضامين التربوية بشكل عام: “خلاصة الفكر التربوي الذي يشتمل عليه كتاب معين بغض النظر عن المجال الرئيسي الذي ألف فيه الكتاب، فقد يكون الكتاب مرجعًا فقهيًّا أو أدبيًّا أو تاريخيًّا بالدرجة الأولى إلا أنه لا يخلو من فكر تربوي متضمن في ثناياه، ويمكن استخراجه والإفادة منه”([16]). والمضامين التربوية في هذا البحث هي ما تتضمنه سورة يس من أهداف وتوجيهات وقيم تربوية يمكن استنباطها من خلال الدراسة والتحليل في حدود اطلاع الباحث واجتهاده، ولا شك أنه يمكن استنباط مضامين أخرى تحتويها السورة غير التي أشرت إليها.
المبحث الأول: المضامين التربوية الإيمانية
دعت سورة يس إلى التأمل والتفكر في هذا الخلق وإدراك أنه لا بد له من خالق عليم حكيم، فالأرض وما فيها من زرع ونبات وخير هي آية من الآيات الدالة على عظيم صنع الله {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}.
إن تنوع ما على هذه البسيطة من زروع وأنعام وطيور وبهائم ودواب وتسخيرها للإنسان وتذليلها له يسوقها منقادة له مستسلمة لأمره ينتفع بها دليلٌ على وجود الخالق وعظيم صنعه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، وتنوع البشر في أعراقهم ولغاتهم وألوانهم من أعظم الآيات التي تدل على الخالق العظيم {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}.
وتقلب الليل والنهار وطلوع الشمس وغروبها وانتقال القمر بين المنازل وحركة الكواكب بهذا التناغم والتوازن دون أن تصطدم ببعضها أو تتقدم أو تتأخر آيةٌ من آيات الله العظيم {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وفي البحار وما تحمله من الأثقال والسفن المواخر آية على قدرة الخالق وعظيم صنعه {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، فالكون هو الكتاب المنظور الذي ينطق بوجود الخالق وعظيم قدرته: (وفي كل شيء له آية — تدل على أنه الواحد).
في خلق الإنسان من نطفة ثم وصوله إلى أرذل العمر دليل واضح على ضعفه أمام خالقه وحاجته له وافتقاره إليه، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] فمع هذه البداية الضعيفة للإنسان إلا أنه يجادل ويخاصم في وجود الخالق عز وجل، وأشارت السورة إلى حال الإنسان في حال الكبَر: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] أفلا يرون ضعفهم وقلة حيلتهم وافتقارهم إلى خالقهم؟! فمن أدرك حقيقة ذاته أيقن أن هناك خالقًا منعمًا عظيمًا لا يسع الإنسان إلا أن يؤمن به ويستسلم لأمره، ولا شك أن في عرض أدلة الإيمان بالله -عز وجل- دعوةً إلى إعمال العقل والتفكر في خلق السموات والأرض، فسائر الموجودات تحتاج إلى موجد يوجدها، ولا يمكن أن تكون قد حصلت صدفة أو عبثًا.
جاء القرآن الكريم نذيرًا وداعيًا لمن ينشد الحق ويبحث عنه، فلا ينتفع به المعاندون المصرون على الكفر والباطل {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، قال ابن كثير: (وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِنِذَارَتِهِ مَنْ هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ، مُسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: حَيُّ الْقَلْبِ حَيُّ الْبَصَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي عَاقِلًا)([17])، وقال ابن عاشور: (الإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ، وَالْحَيُّ مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النَّمْل: 80])([18]).
يذكر الله -عز وجل- أخبار الأمم السابقة للعبرة والموعظة {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس:31] يقول ابن كثير: (ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون: 37])([19]).
لا بد للمؤمن من الاستعداد الدائم وتجديد التوبة ولزوم الاستغفار {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50] يقول ابن عاشور: (أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر)([20]). وقد وصف النبي-صلى الله عليه وسلم- أحوال الناس وقت قيامها فقال: ((لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها))([21]).
إن يوم القيامة هو يوم الحساب الذي توزن فيه الأعمال وتوفَّى فيه الأجور {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، يقول ابن عاشور: (أما وقد أيقنتم أن وعد الله حق وأن الرسل صدقوا فاليوم يوم الجزاء كما كان الرسل ينذرونكم)([22]). ويوم القيامة هو دار العدل المطلق، قال تعالى: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] فلا ظلم هناك حيث يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء))([23]). وهو اليوم الذي يجازى الناس فيه على أعمالهم، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] وفي هذا دعوة للإنسان أن يحرص على صالح الأعمال ومحاسن الخصال كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
المبحث الثاني: المضامين التربوية الاجتماعية
ذكر القرآن الكريم تطير أهل القرية من المرسلين {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]، يقول ابن عاشور: (والتطير في الأصل تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يتوهم منه أحد أنه كان سببًا في لحاق شر به، فصار مرادفًا للتشاؤم، وفي الحديث: ((لا عدوى ولا طيرة، وإنما الطيرة على من تطيّر))، وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا: إنا تشاءمنا بكم)([24]). والطيرة من معتقدات أهل الجاهلية والأمم السابقة، فجاء الإسلام ونهى عنها لما فيها من سوء الظن بالله؛ لهذا (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة ويحب الفأل)؛ لأن الفأل فيه حُسن ظن بالله عز وجل، والمؤمن مأمور أن يحسن الظن بربه عز وجل.
ذكر الله عز وجل شماتة المشركين بضعفاء المسلمين فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس:47]، فكانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحّون على فقراء المسلمين، فيمنعونهم البذل تشفيًا منهم، فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون: لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه، وإذا كان هذا رزقنا من الله فلماذا لم يرزقكم، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا)([25]). فعندما يأمر الإسلام بالإنفاق فهو يأمر بتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي، وهو معاونة الفقير والضعيف ودفع حاجته بالمال؛ لذا قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215]([26]) وعلى رأس الإنفاق الزكاة الواجبة، فهي تنفرد بأنها تحقق مبدأ التكافل الاجتماعي بين الناس، فالغني بحاجة إلى الفقير، والفقير بحاجة إلى الغني([27])، وفي ذلك إسعاد الفرد والجماعة، وإشاعة الرفاه والرخاء للجميع([28]).
أخذ الله عز وجل العهد على بني آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] فكل من يعبد غير الله يتبع خطوات الشيطان، فلا سبيل إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتطهير المجتمع من أدران الإلحاد وعبادة غير الله إلا بترك عبادة الشيطان، قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:63]. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ما عبدوا الشيطان بأن سجدوا للشيطان ولا ركعوا للشيطان ولا صاموا له ولا صلوا، وإنما عبادتهم للشيطان هي اتباع ما سنّ لهم من النظم والقوانين من الكفر بالله ومعاصي الله))([29]). فلا سبيل لوقاية المجتمع المسلم من هذا الإلحاد الذي انتشر عبر وسائل الاتصالات الحديثة والقنوات الفضائية المغرضة إلا عن طريق نشر عقيدة التوحيد وغرس الإيمان في النفوس وتربية المجتمع عليه.
تذكر سورة يس ما كان عليه صاحب يس من قيم وأخلاق حيث دعا قومه بكل لطف فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وبعدما قتلوه قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}، قال ابن كثير نقلا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (نصح قومه في حياته بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته في قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}([30]). فينبغي على المسلم أن يقف على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العصاة والمذنبين، جاء في الحديث عن تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))([31]).
لقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- العصاة بكل رفق ورحمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم))([32]). قال ابن حجر: (وجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان، ويستفاد من ذلك منع الدعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله كاللعن)([33]).
المبحث الثالث: المضامين التربوية السلوكية
أقسم الله -عز وجل- في أول سورة يس بالقرآن الكريم على صحة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جاء في تفسير البغوي: (أقسم الله بالقرآن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43]([34]). والآية تشير إلى تعظيم الأيمان، وألا يحلف المسلم على أتفه الأسباب وأهون الأمور، يقول الشيخ أبو زهرة: (ومن لا يصون يمينه لا يبر بها بل يقع في الحنث الكثير، وقد يكفر وربما لا يكفر، ومن يعرض اليمين في القليل والكثير والعظيم والحقير من الأمور لا يكون متقيًا لله)([35]).
خاطب صاحب يس قومه بقوله {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} يقول الشيخ الطنطاوي: (قال لقومه على سبيل الإرشاد والنصح: يا قوم اتبعوا المرسلين الذين جاؤوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه)([36]). ولا يخفى ما في قوله {يا قوم} من التلطف في القول واللين في الكلام، وهو أدلُّ على النصح لهم والإشفاق عليهم، وأقرب إلى صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وهو مسلك تربويّ نبوي حكيم لا يرى ألطف ولا أحكم ولا أعدل مدخلا منه إلى النفس، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله))([37]).
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس:30] قال مجاهد: (يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا!)([38]) والمعنى: يا حسرة الرسل والملائكة على العباد([39])، وسبب التحسر استهزاؤهم بالرسل وتكذيبهم إياهم، وفيه إشارة إلى شفقة الداعية وحرصه على هداية الخلق وإرشاد الحيارى، وأن يطرق كل باب ويبذل كل جهد من أجل هدايتهم، وألا ييأس في سبيل إنقاذهم من عذاب الله في الآخرة، وفي الحديث: ((لأن يهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم))([40]).
ذكر الله عز وجل نعمه على عباده في موضعين من سورة يس، وأنكر على المشركين عدم شكر الله -عز وجل- على هذه النعم فقال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} قال ابن عاشور: (والاستفهام: إنكار وتعجب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة)([41])، والمعنى: (فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى)([42])، يقول البيضاوي: ({أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه)([43]). ولا يخفى أن الشكر على ثلاثة أنواع، قال النيسابوري: (وهو على ثلاث منازل: شكر القلب وهو الاعتقاد بأن الله ولي النعم، قال الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وشكر اللسان وهو إظهار النعمة بالذكر لها والثناء على مسديها، قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وشكر العمل وهو إِدْآبُ النفس بالطاعة، قال الله سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، وقد جمع الشاعر أنواعه الثلاثة فقال: (أفادتكم النعماء مني ثلاثة …… يدي ولساني والضمير المحجبا)([44]).
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، في هذه الآية (يبين تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمرًا وأراد كونه فإنما يقول له: كن -أي مرةً واحدةً- فيكون، أي فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال الشاعر:
(إذا ما أراد الله أمرًا فإنما …. يقول له “كن” قولةً فيكون)([45]).
فإذا كان أمر الله نافذًا فلا ينافي الأخذ بالأسباب لكوننا أمرنا بالتماسها، فأمر الله فوق كل أمر، فنأخذ بالأسباب ونعتقد اعتقادًا جازمًا أن أمر الله نافذ، وهذا هو التوكل على الله والاعتماد عليه والتسليم له، يقول ابن رجب الحنبلي: (وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وَكِلَةُ الأمورِ كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه)([46]).
إذا أدرك الإنسان أن أثره يكتب بعده اجتهد في ترك الأثر الصالح، قال ابن كثير عند قوله تعالى {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}: (وفي قوله {وآثارهم} قولان: أحدهما نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أَثَرُوهَا مِن بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن يَنقص من أجورهم شيءٌ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ))([47]). والقول الثاني أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، وقد ورد في هذا المعنى حديث جابر بن عبد الله قال: (خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد))، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: ((يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم))([48]).
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان يستطيع أن يطيل من عمر نفسه وأن تكون له حياة بعد الموت، وذلك بأن يترك بعده أثرًا طيبًا، وقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض هذه الآثار بقوله: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))([49]).
ختم الله عز وجل سورة يس بقوله {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ،} وهذا يناسب ما ذكره الله -عز وجل- في السورة من الآيات الدالة على عظيم صنعه وقدرته، قال في أضواء البيان: (ومن قدرته على كل شيء وتصريفه لأمور ملكه كيف يشاء أن جعل العالم كله يسبح له بحمده تنفيذًا لحكمةٍ فيه كما في قوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، فجمع الحمد والحكم معًا لجلالة قدرته وكمال صفاته)([50]). وقد أخبر أن الملأ الأعلى مشغولون بهذه العبادة العظيمة عبادة التسبيح، قال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وقد أمر الله نبيه بالتسبيح في مواطن متفرقة، منها قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [الطور: 49] فحريٌّ بالمؤمن أن يكون حريصًا على عبادة التسبيح لما تنطوي عليه من أسرار ولما لها من فوائد في تهذيب النفس وغرس اليقين وتعظيم الخالق عز وجل.
قال الله عز وجل: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون} [يس:7] أي (وجب العذاب على أكثرهم)([51]) بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم من التذكير والإنذار وغلوهم في العتو والطغيان، وتماديهم في اتباع خطوات الشيطان بحيث لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف([52])، وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه([53])؛ ففي الآية تهديد الكافرين بسوء العاقبة، وأن الله قد مضى حكمه وثبت قضاؤه في أن جعل النار مصيرهم وعاقبة أمرهم، فقد وجدوا آباءهم على الباطل وأصروا على اتباعهم في باطلهم؛ لهذا فإن المسلم مأمور أن يفكر ويعمل عقله ويتبع الحجة والبرهان.
أخيرًا لا بُدَّ أن أشير إلى ما يلي:
([1]) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج22 ص 342، الدار التونسية للنشر (1984).
([2]) هو أبو عُبيد القاسم بن سلاَّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ).
([3]) هو أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس بن يسار الضريس البجلي الرازي (المتوفى: 294هـ).
([4]) هو أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المُسْتَفاض الفِرْيابِي (المتوفى: 301هـ).
([5]) هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ).
([6]) هو أَبُو العَبَّاسِ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ المُعْتَزِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ المُسْتَغْفِرِ بنِ الفَتْحِ بنِ إِدْرِيْسَ المُسْتَغْفِرِيُّ، النَّسَفِيُّ (المتوفى: 432هـ).
([7]) هو أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي المقرىء (المتوفى: 454هـ).
([8]) هو أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى : 774هـ).
([9]) الفوائد المجموعة، باب فضائل القرآن، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، ج1 ص300، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
([10]) المصدر السابق (ج1 ص302).
([11]) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (ج22 ص 344).
([12]) في ظلال القرآن، سيد قطب ج 5 ص 2955، دار الشروق – القاهرة، الطبعة السابعة عشرة، سنة 1412هـ.
([13]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ج 15، ص16، دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية.
([14]) عماد الشريفين، مضامين تربوية من علوم القرآن: نماذج مختارة، مجلة جامعة الإمام، العدد الحادي عشر – ربيع الآخر 1430هـ.
([17]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، (ج6 ص592)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية (1992).
([18]) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23 ص 66).
([19]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص574).
([20]) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص35).
([21]) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، رقم الحديث (6506).
([22]) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص40).
([23]) مسلم، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم الحديث (2582).
([24]) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج22 ص362).
([25]) المصدر السابق، (ج23، ص32).
([26]) محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ)، زهرة التفاسير، (ج2، ص677)، دار الفكر العربي.
([27]) وهبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، ج1، ص152، دار الفكر المعاصر – دمشق، الطبعة الثانية، 1418هـ.
([28]) المرجع السابق (ج1، ص209).
([29]) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (المتوفى: 1393هـ)، العذب النمير في مجالس الشنقيطي في التفسير، تحقيق خالد بن عثمان السبت، ج5، ص486، الطبعة الثانية، 1426هـ.
([30]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص572).
([31]) مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم الحديث (205).
([32]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة، رقم الحديث (6781).
([33]) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، (ج12، ص67) دار المعرفة – بيروت، 1379م.
([34]) محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى: 510هـ)، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرين، (ج7، ص110).
([35]) أبو زهرة، زهرة التفاسير، (ج2، ص743).
([36]) محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، (ج12، ص23).
([37]) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم الحديث (6024).
([38]) التفسير الوسيط (3/513).
([39]) تفسير السمعاني (4/375).
([41]) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص 67).
([42]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص575).
([43]) ناصر الدين البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي، ج4، ص268، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ.
([44]) أبو الحسن النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)، التفسير البسيط، ج1، ص471، جامعة الإمام محمد بن سعود ، الطبعة الأولى، 1430 هـ.
([45]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص596).
([46]) زين الدين السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، جامع العلوم والحكم، تحقيق الأحمدي ج3، ص(1266).
([47]) مسلم، صحيح مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، رقم الحديث (6975).
([48]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص566)، والحديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد، رقم الحديث (1552).
([49]) أحمد، مسند الإمام أحمد، باب مسند أبي هريرة، رقم الحديث (8844).
([50]) الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، (ج8، ص195).