الدكتور أحمد السعدي – أستاذ مشارك في قسم الفقه وأصوله – عميد كلية الشريعة بأكاديميَّة باشاك شهير- إسطنبول.
مُقدِّمةٌ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاة والسّلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبهِ أجمعين، وبعدُ:
فقد دأبَ عددٌ من الباحثين على القولِ: إنَّ الفقهاء المعاصرين استطاعوا أن يجددوا في الفقه الإسلاميّ لكنهم جمدوا أمام أصوله، ودعوا إلى شمولِ حركة التجديدِ لمباحث أصول الفقه ليتحرَّرَ الفقه من ربقة قيود الأصول الذي ما زال يعيد ويكرر مسائل الشافعي الثابتة منذ أكثر من ألف ومئتي سنة.
وقد حاول هذا البحث بيانَ حقيقةٍ مفادها أنَّ ثبات مسائل الشافعي ومن سار على نهجه من الأصوليّين ليس نابعًا مِنْ تقديسٍ لقول شخص أو منهج أفراد، إنَّما هو متوِّلِّدٌ من طبيعة هذا العلْمِ الذي قام على مُسلَّماتٍ يحكم العقل بثباتِها.
وقد جهد الباحث في إيضاح حقيقة مفادها أن الاحتفاظ بالجانب الثابت من أصول الفقه لا يمنع التجديد في فروع الفقه ومسائله المبنية على هذا الجانب، ذلك لأن ثبات هذا الجانب لا يعني عدم الاختلاف في تطبيقه، والاختلاف في تطبيقه هو ما جَعَلَ بعض المعاصرين ينكرون قطعيَّتَهُ؛ لعدم ملاحظتهم أن الاختلاف في التطبيق لا يعني ظنيَّة القاعدة، فحين نقولُ: إنَّ فهم العرب لكلامهم إبان نزول القرآن هو الذي يجب تفسير القرآن على أساسه لا نعني أنَّ فهمهم واحد ثابت بينهم جميعًا، بل يعني – كما سيبين البحثُ – أنَّه لا يمكن تفسير القرآن على نسق يضاد منطق فهمهم، ويخالف عرفهم في التخاطُبِ.
ولكي يبرهن البحث على أنَّ الانضواء تحت قواعد الأصول – على اختلاف العلماء في جزئياتها – لا يحصر الباحث في خانة ترجع بالمجتمع أكثر من ألف عام إلى الوراء؛ اِختار مبحثًا خاصًّا من مباحث الفقه يكثر الجدل حوله هذه الأيام، وحكَّمَ فيه المنهجَ الأصوليَّ دون ليٍّ لقواعده، وظهرت نتيجةَ هذا التحكيم رؤيةٌ خالفت في جوانب مهمة منها ما استنبطه المتقدمون وفق المنهج نفسه، ليقول إنَّ أصول الفقه لا سبيل لتجاوزه، وإنَّ ثباتَ أُسِّهِ غير مانعٍ من تجديد الاجتهاد وتقديم رؤى تتفق ومقاصد الشريعة في رعاية مصالح البشر ومناسبة الشرع لكل زمان ومكان.
ولكَون الموضوع مشتملًا على جانبينِ: نظريٍّ وتطبيقيٍّ، فقد قسمته إلى مبحثين، تحدثت في المبحث الأول منهما عن الجانب النظري، وخصصّت الثاني للجانب التطبيقي وفق الخطَّةِ الآتيةِ:
خطَّة البحث:
يتألف البحث من مقدمة ومبحثين وخاتمة:
1 – مقدِّمة حول مشكلة البحث وخطته.
2 – المبحث الأوَّلُ: حاكميَّة القواعد الأصوليَّة على الفهم البشري للنصوص الشرعيَّة. وفيه تمهيد ومطلبانِ.
أ – التمهيد : في ضرورة فهم كلام أي لغة وفق قواعد الدلالة فيها.
ب – المطلب الأوَّلُ: الدليل القرآني على وجوب تحكيم قواعد الدلالة للغة العربية.
ج – المطلب الثاني: المنهج الأثري والمنهج المقاصدي في فهم النص الشرعي.
3 – المبحث الثاني: إعمال المنهج الأصولي في فهم آية الجزية، وفيه تمهيد ومطلبانِ.
أ – التمهيد: في ضرورة تحكيم النصِّ في حكمنا على مختلف شؤون الحياة عامها وخاصِّها.
ب – المطلبُ الأوَّلُ: اختلاف العلماء المتقدمين في تفسير آية الجزية.
ج – المطلب الثاني: موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعيّةِ.
4 – خاتمة في تطبيق نتائج البحث على الواقع السوريِّ.
وأرجو الله عزَّ وجلَّ أن يكون هذا البحث إضافة جديدة تخدم الثوابت من جانب، وتنفتح على العصر في ضوئها من جانب آخر، والله الموفِّقُ وهو يهدي السبيلَ.
المبحث الأوَّلُ
حاكميَّة القواعد الأصوليَّة على الفهم البشريِّ للنُّصوصِ الشّرعيَّة
تمهيد:
لا أظن أن عاقلًا مهما اشتطَّ به الهوى الفلسفي أو استهوته اللّامنهجيَّةُ يُفَسِّرُ لفظًا عربيًّا بالاستفادة من اشتقاق لاتينيٍّ دون أن يفترض علاقةً ما بين الجذر العربي والجذر اللاتيني في مرحلة سابقة على استعمال اللفظ.
إنَّ أيَّ عاقل لا يستطيع أن يفسر كلمة (when) الإنجليزية مثلًا بلفظها في لغتنا الدّارجة ( وِينْ ) التي تستعملها للسؤال عن المكان دون الزمان، وهذا يعني أنَّ هناك إجماعًا على أنَّ اللفظ يفسَّر وفق اللغة التي جاء في سياقها، مِمَّا يفرض الاستفادة من الأنظمة أو المستويات اللغوية عند التفسير من حيث الجملة، على خلاف في الكمِّ والكيف والتفصيل.
بدايةً يفرض علينا عقلنا البشري – ونحن تحت وطأة حكمه مهما حاولنا رفضه – جَبْريَّةً في تفسير النص مكتوباً أو مسموعاً.
نحن أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها عند إرادة بيان المعنى الكامن في اللفظ أو الكلمة ولو غابت القرينة، ألا وهي اعتماد اللغة وسيلة للفهم، وإذا سلَّمْنا هذا في تفسير النص – أيِّ نص كان – فهذا يجعلنا بمنأى عن تأكيد ذلك أو الاستدلال له في حالة تفسيرنا للنص القرآني.
المطلب الأوَّلُ: الدليل القرآني على وجوب تحكيم قواعد الدلالة للغة العربية.
ورغم ما تقدَّمَ من عدم الحاجة للاستدلال على هذه المسألة القطعيَّة بطبيعتها، فإنَّني أرى وجوب لفتِ النَّظَرِ إلى تكرار القرآن التأكيدَ على عربيَّتِهِ، فالآيات المفيدة لوجوب الاعتماد على العربية وسيلة لفهم القرآن غيرُ قليلة، بل قد يحار الإنسان في كثرتها، وربما تزول الحيرة عندما نعلم أن هذه الآيات – وهي أكثر من عشر آيات – نزلت بمكة حيث كان التحدّي بالقرآن الدليلَ العُمْدَةَ على صدق النّبوة… ولكن هل جميع الآيات المفيدة لعربية القرآن نصًّا – على المعنى الأصولي للنص – هي مكِّيَّة؟ الجواب: نعم، إذا لم نعتبر آية الرعد نصا في ذلك.
ولكن هذا المقصد، أعني حجية القرآن على صدق الرسالة يجعل تأكيد القرآن على عربيته غير متوجه إلى طريقة التفسير ابتداء، وهذا صحيح أيضاً لولا آية الرعد.
إننا إذًا أمام آية تشكِّل حكمًا استثنائيًّا لا نستطيع التعميم معه، مِمَّا يدفعنا للتأمل في هذه الآية لاستنباط معالم هذا الاستثناء وأسبابه.
يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: الآية 36 و 37].
نلاحظ في الآية الأمر بالتزام العلم مقابل الهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ولكن ما المقصود بالعلم هنا وما الهوى المقابل؟
يفسر ذلك سؤالٌ يحضر في الذهن عند قراءة الآية موازنةً بالآيات المكية، ولنأخذ على سبيل المثال الآيات المكية البادئة بكلمة (كذلك) اللفظ الذي تبدأ به هذه الآية، يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: الآية 113]. ويقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: آية 7] والآيتان بهذا الترتيب نزولًا وجمعًا.
والسؤال: لِمَ جاء لفظ العربية دائمًا مع وصف القرآن نصًّا – كما قدمنا – أما هنا فجاء مع لفظ الحُكم؟ ولماذا كانت العربية في السور المكية تلازم القرآن أما هنا فتحولت إلى الحكم؟
إنَّ مِمَّا لا يجهله مثقَّف مسلم أنَّ الآيات المدنية إنما تتحدث في مجملها عن الأحكام بخلاف الآيات المكية التي تُعْنى بتثبيت العقيدة وبيان صدق الرسالة، هذا يعني أنَّ العلم هنا: اعتبار اللفظ كما توحي به دلالته اللغوية في مجال استنباط الأحكام الشرعية.
فإذا تجاوزت الحديثَ عن الحكم الشرعي حيث اللغة هنا لغة العلم في سياق أدبي، لك أن تتذوَّق اللغة الأدبيَّة حتَّى في آيات الأحكام على النحو الذي تقدمه لك جماليات اللفظ والسياق والموسيقى والإيحاءات والصور الفنية وما إلى ذلك، فاستنباط الحكم خاضع للقواعد العلميّة كالفيزياء، اللفظ هنا لا يدل على شيء خارج الدلالة اللغوية الضيقة، كما أن القوة في الفيزياء لا يمكن أن تعني قوة البيان الأدبي مثلاً، فالتذوق الجمالي شيء واستنباط الحكم الشرعي شيء آخر، والإعجاز القرآني يتمثَّل في الجمع بين لغة العلم الصارمة وبين لغة الأدب البيانية الجمالية.
المطلب الثاني: المنهج الأثري والمنهج المقاصدي في فهم النص الشرعي.
بعْدَ هذا البيان للسِّمة الخاصَّةِ بالقرآن في جمعه بين لغة العلم ولغة الأدب، مما يُفسِّر جانبًا من أسباب عجز العرب عن مجاراتهِ، مع ما هو معلومٌ مِنْ كون القُرآنِ حمّالَ أوجه، فإنَّ سؤالًا يراود كُلَّ باحِث في تفسير القرآن أو بيان أحكامه، إذ ليس من المعقول أن يدل القرآن على الشيء وضده، فيقول للشيء مرة هو حلال ومرَّةً هو حرام، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
أقولُ: إنَّ هناك سؤالًا يراود الباحث مُفادُهُ: ما الضوابط التي تعصم النص القرآني من التعسف في التفسير أو التأويل عند انفتاح النص أمام آليات القراءة اللغوية؟ وما المنهج المتبع داخل النص وخارج النص، أعني علاقة النص بنصوص أخرى؟ هذا ما يقدمه لنا علم أصول الفقه بنسختيه الأثريَّة والمقصدية.
أمَّا النسخة الأثريَّة فيُجمل الشافعي خلاصة رؤيتها بجملته الشهيرة: (ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال)([1]). وهذا يعني أنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم – وكلامه عربي تحكمه طرق الدلالة العربيَّة – أن يحُدَّ من آفاقِ دلالة اللفظ العربي بما أعطي من سلطة التفسير، وبذلك يجعل الشافعي فصلَ المقالِ فيما يخرج عن كونه نصًّا من كلام الله متروكًا لبيان رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فالقياس.
وقد يقول قائل: إنَّ السنَّة أغنت إذن عن الاجتهاد بحصرها للدلالة اللغوية، بل بمحاصرتها لنصِّ القرآن المطلق بوجه واحدٍ لا يحتمل غيره، والحقيقة أنَّ هذا مجانب للصواب، وأظنُّ أنَّ ذلك سيتضح لاحقًا غير أنني أسارع للقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يُفَسِّر القرآن على نحوٍ تفصيلي([2]).
أمَّا النسخة الثانية – إن صحَّ التعبير- فيؤكِّد رائدها قطعية علم أصول الفقه، حيث يقول: (إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطع،. بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه أحدها أنها ترجع إمَّا إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما من الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضًا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعيٌّ، وذلك أصول الفقه(([3]).
وهذا الموقف من الشاطبيِّ رحمه اللهُ ليس حَجْرًا وِصائيَّا، بل القطعيَّةُ آتيةٌ من طبيعة هذا العلم الذي يستمد سلطته من النصِّ نفسه… العدالة مثلًا واجب قطعي على كل حاكم في ميزان العقل البشري، الحديث هنا عن العدالة من حيث هي قيمة أخلاقية عامة مطلقة، يمكن أن يرفضها عاقل داخل الحرب، والصدق قيمة أخلاقية تُرْفَضُ، أو يمكن رفضها، عندما تتعارض مع قيمة أخلاقيَّة أعلى. وكذلك القول بقطعية أصول الفقه من حيث الجملة بعيداً عن التطبيقات الجزئية، ولذلك نرى الشاطبيَّ رحمه الله يعود للقول: (فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعًا عليه بالتبع لا بالقصد الأول)([4]).
– يؤكِّد علماء الأصول ضمن المدرستين أو الرؤيتين أنَّ النَّصَّ هو المؤسِّسُ لشرعية مختلف المصادر التشريعية، حتى تلك التي تملك سلطة بيانية أو تفسيرية، والعلاقات المتبادلة بين النصِّ المؤسِّس ومجموعة الضوابط المنبثقة عن تحكيم المقاصد بصفتها سلطة تفسيرية مؤسَّسة؛ تشكِّل المنظومة الثانية التي استمدها الشاطبي من أبحاث المتقدِّمين وعلى رأسهم الشافعي الذي تحدَّث باستفاضة عن المنظومة الأولى في العلاقة بين النصِّ القرآني والنصِّ النبويِّ (الوحي بشكليه المتلوُّ وغير المتلوِّ).
نخلص من ذلك إلى أنَّ اللفظ القرآني الذي يحمل في طيَّاته اللغويَّة إمكانيات عِدَّة أو بمعنى آخر يحمل دلالات مختلفة؛ يُرجَّحُ في تفسيره ما نصَّ عليه البيان النبوي، وهذا البيان محكوم بدوره بآليات القراءة اللغوية، ومحدود بمعطيات المقاصد في رعاية مصالح البشر، وهذا ما قاله ابن القيم: (إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد… فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة)([5]).
المبحث الثّاني
إعمال المنهج الأصوليِّ في فهم آية الجزية
تمهيد:
ما قدَّمْتُهُ في المبحث الأول – وهو الجانب النظريُّ مِنْ هذا البحثِ – قد يعترف به الكثيرون، سواء دعاة التقليد أم دعاة التحديث، بل حتى بعض دعاة التغريب، لكنَّ المشكلة تكمن دائماً في التطبيق، وأودُّ هنا أن أعرض لنموذج تطبيقي وذلكَ خِدمة للمبحث السابق، إذ به يظهر المراد بتحكيم قواعد الدلالة من جانب ومقاصد الشرع من جانب آخر، ولا بُدَّ من التنبيه على قضيَّة غاية في الأهميَّة، وهي أنَّ بياننا هذا لمن يؤمن بالمرجعيَّة الشرعيَّة لأفعال النَّاس، وبالتالي فإن بيان حكم الشرع لا بد فيه من الرجوع للنصِّ، ثمَّ محاولة تنزيله على الواقع الذي يراد الحكم عليه… لدينا نصٌّ مؤسِّس عنه تصدر رؤيتنا ولدينا واقع ننظر له على أنه محلُّ الرؤية لا الحاكمُ عليها، لكنَّنا لا نهمل الطرف المحكوم عليه لا لأننا نريد التطبيع مع الواقع، بل لأنَّ الواقع هو محور بحثنا وحوله تتركز رؤيتنا، ومن غير المعقول ألا يكون طرفًا مؤثِّرًا، ولا أريد أن آتي بالأدلة على أهمية فقه الواقع في تقرير الحكم بأكثر مما قررته من أنَّ المصلحة مؤثِّرة في فهم النصِّ لا بليِّ عنقه بل بإضاءة مساحات فيه قد تكون غائبة عن أولئك الذين حكموا به على واقع مخالف.
المطلبُ الأوَّلُ: اختلاف العلماء المتقدمين في تفسير آية الجزية.
تختلف أنظار المفسِّرين في كثير من مواطن شرحهم لآية الجزية، وسأختار نماذج لتوضيح ما رميت إليه من تحكيم آليةٍ تعتمد على اللغة أولًا والأثر ثانيًا والمصلحة الحقيقية ثالثًا، على نحو ما قدَّمت في المبحثِ الأوَّلِ، يقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [سورة التوبة: آية 29].
يختلف المفسِّرون وعلماء اللغة في تحديد أصل اشتقاق الجزية، فيقول ابن منظور : (هي عبارة عن المال الّذي يعقد الكتابيّ عليه الذّمّة، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنَّها جزت عن قتله)([6]،. فهو يرى أنَّها من الجزاء.
إن الفقهاء بالاستفادة من تحديد اللغويين لأصل هذه الكلمة يترددون في معنى الجزاء هنا، يقول الماوردي:” فأما الجزية فهي موضوعة على الرؤوس واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغارًا، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقًا”([7]). ويرى بعض اللغويين أنَّ الجزية هنا ليست من الجزاء بمعنى المقابلة، بل هي من جزى بمعنى قضى، كما في قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } [سورة البقرة: آية 48] أي: لا تقضي عنها، وابن قدامة رحمه الله ينتصر لهذا المعنى حين يقول: “وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى….، تقول العرب: جزيت ديني، إذا قضيته “([8]). فإذا انتقلنا لتفسير قوله سبحانه {عن يد} زاد الاختلاف، وسأعرض لما أورده ابن القيم من تفسيرات لهذا التركيب نموذجًا لهذه الاختلافات حيث يورد خمسة أقوال في تفسيرها :
1 – يعطوها أذلاء مقهورين. 2 – المعنى من يد إلى يد نقدًا غير نسيئة. 3 – من يده إلى يد الآخذ لا باعثًا بها ولا موكلًا في دفعها. 4 – عن إنعام منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم. 5 – عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها فلا تؤخذ من عاجز عنها .
وقد صحح رحمه الله الأول ورفض الأخير([9]).
فإذا انتقلنا إلى آخر الآية لنرى معنى الصغار في قوله {وهم صاغرون}، ألفينا اختلافًا أيضًا في بيانه، فقد ذكروا في تأويله معنيين: أحدهما أذلاء مستكينين. والثاني أن تجري عليهم أحكام الإسلام([10]). أي أن يخضعوا للنظام العام للدولة.
ولنقف وقفة سريعة أمام هذا الخلاف في تفسير (الصغار)، وذلك لما يترتب على تفسيره – هنا – من أثرٍ في تطبيق أمرهم بدفع الجزية، فالذين يفسِّرون الصغار هنا بالذُّلِّ ملؤوا كتب الفقه بشروط عجيبة على مؤدِّي الجزية، وهذه الشروط نتجت عن التفسير اللغوي لكلمة الصغار، لكنها تجاوزت شرط تحكيم الأثر من جانب، وأهملت أهم مقصد من مقاصد الشرع وهو الرحمة، بل أظن أنَّها لم تتحقق من صلاحية المعنى اللغوي أيضًا، فتجاوزت المراحل الثلاث التي أقرها علم أصول الفقه.
أمَّا الجانب اللغوي فلو فسَّرنا الصَّغار بالذُّلِّ لوقفنا أمام مشكلة في تفسير آية أخرى، وأعلى درجات التفسير تفسير القرآن بالقرآن، لنقف أمام قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، ولنسأل كيف يغدو المعنى لو فسَّرنا الصَّغارَ هنا بالذلِّ، لا شكَّ أنَّ المعنى سيكون: ولنخرجنهم منها أذلة وهم أذلة، وهو معنى لا يتفق مع أسلوب القرآن وبلاغته. ولو تجاوزنا هذا الجانب وانتقلنا إلى جانب الأثر، لم نجد دليلًا من السنة أو من سيرة الخلفاء الراشدين تطبيقًا لتلك الشروط التي فسَّروا بها كلمة الصَّغار، أمَّا مخالفة ذلك لمقصد الرحمة فما أظنه يحتاج إلى بيان. ويوضِّح الإمام النووي خلاصة ذلك بقوله: ” قلت: هذه الهيئة المذكورة أوّلًا، لا نعلم لها على هذا الوجه أصلًا معتمدًا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على مَنْ اخترعها، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئًا منها مع أخذهم الجزية… قال الرافعي رحمه الله في أول كتاب الجزية: الأصح عند الأصحاب: تفسير الصَّغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد الصَّغار على المرء أن يُحكَمَ عليه بما لا يعتقده ويُضطرَّ إلى احتماله . والله أعلم([11]) .
هذا جانب مهم في تقرير المسألة، وربط للأحكام بمنظومة تؤهِّلنا للحديث عن الجزية في واقعنا المعاصر، فالحكم ينطلق من النص ليصادف واقعاً يحكم عليه، وأثناء حمل النصِّ الحاكم على الواقع المحكوم – مما يسميه الأصوليون تحقيق المناط – تتَّضح كما قدمنا مساحات قد يضيئها الواقع داخل النَّصِّ، وتطبيقاً على ذلك لا بدَّ لنا من نظرة فقهية سريعة توضِّح لنا كيف يمكن تطبيق النَّصِّ على واقعنا.
المطلب الثاني: موضوع الجزية جانب من جوانب السياسة الشرعيةِ:
تبيَّنَ لنا في المطلب السّابِقِ أنَّ بعضَ الفقهاء حين تحدَّثوا عن الجزية لم يعملوا قواعد الأصولِ في فهمهم للآيةِ، وأودُّ أن أؤكِّد في هذا المطلب أمرًا آخر، وهو أنَّهم أغفلوا – إلى جانب عدم إعمالهم للقواعد الأصوليَّةِ – أمرًا مُهِمًّا يتعلَّقُ بفلسفة الموقف الشرعيِّ – إن صح التعبير – من هذا المصطلح.
إن الجزية حسب تفسير الفقهاءِ هي “ما يؤخذ من أهل الكفر جزاءً على تأمينهم وحقن دمائهم مع إقرارهم على الكفر”([12]). وهي تؤخذ من المقاتلين، أعني مَنْ هم قادرون على القتال. وفي هذا يقول ابن قدامة – رحمه الله – :”ولا جزية على صبي ولا زائل العقل، ولا امرأة، لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في هذا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد وأبو ثور، وقال ابن المنذر، لا أعلم عن غيرهم خلافهم”([13]).
وبناء على فهمنا هذا للجزية، حيث بها حقن دماء الكفار مع إقرارهم على دينهم، مع كونها لا تؤخذ إلا ممن يقاتل، فلا تؤخذ عن صغير ولا عن امرأة، نرى أنَّها ليست عقابًا بطبيعتها، إذ لو كانت كذلك لوجبت على الأنثى كما تجب على الذكر، وإذ لم تكن عقابًا في المفهوم الشرعيِّ فلماذا تَقترِنُ بما صُورَته عِقابٌ وجزاء! أضِفْ إلى ذلك مسألة مهمَّة تتصل من هذه الفكرة بسبب، وهي أنَّ تحديد الجزية وما يتصل بهذا العقد في الجملة هو من باب السياسة الشرعيَّة، حتَّى أنَّ عمر رضي الله عنه قَبِل من بعض العرب النَّصارى دفع ضعف زكاة المسلمين بدل دفع الجزية؛ لأَنَفَتِهِم من اسم الجزية كونَهم عرباً، قال ابن قدامة: “بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا: ” نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة”، فقال عمر: “لا آخذ من مشرك صدقة”؛ فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: “يا أمير المؤمنين: إنَّ القوم لهم بأس وشدَّة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليكَ عدوَّكَ بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فردّهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، .. فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار إجماعًا، وقال به الفقهاء بعد الصحابة”([14]).
وممَّا يؤكِّد ذلك أنه روي في عقود الجزية في صدر الإسلام إسقاطها عن القويِّ إذا ضعُف، والغنيِّ إذا افتقر، فمن ذلك ما جاء في كتاب الصّلح بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل الحيرة : “وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدّقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النّفقة على عيالهم”([15]).
كما دلت هذه العقود، على أنَّ عجز المسلمين عن حمايتهم يقتضي إرجاع أموالهم التي دفعوها على أنها جزية، لأنها إنما شرعت في مقابل دخولهم تحت حماية المسلمين، ومما ورد في ذلك ما ذكره أبو يوسف من أنَّ أبا عبيدة بن الجرّاح عندما أعلمه نوّابه على مدن الشّام بتجمّع الرّوم لمقاتلة المسلمين كتب إلى كل والٍ ممن خلّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردّوا عليهم ما جُبي من الجزية والخراج ، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: “إنّما رددنا عليكم أموالكم، لأنّه قد بلغنا ما جُمِع لنا من الجموع، وأنّكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنّا لا نقدر على ذلك..”([16]). وورد من ذلك عدَّة أخبارٍ دالة على أنَّ عجز المسلمين عن حمايتهم يوجب إرجاع ما دفعوه من الجزية.
وبناء على ما تقدَّم أودُّ أن أسجِّل الملاحظات الآتية:
1 – يجب أن ينظر الإمام في مصلحة المسلمين ليحدد كيفية التعامل مع رعايا الدولة من غير المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه مع بني تغلب. وبناء على ذلك يمكنه أن يأخذ منهم مالًا باسم الضرائب أو الصدقة أو غير ذلك، مقابل ما يلزم من حمايتهم، وما يعبِّرون به عن مواطنتهم (الخضوع لنظام الدولة).
2 – يدفع المسلمون الزكاة تعبُّدًا، ويمكن أن تكون الجزية في مقابلها؛ لأنَّ غير المسلم لا تُقبَلُ منه القربات.
3 – ظاهر الأدلة تشير إلى أنَّ الجزية تؤدَّى بمقابل الحماية، فهي لا تؤخذ إلا ممن يستطيع القتال، وتردُّ في حالة عدم القدرة على حمايتهم، وهم كانوا إذ ذاك لا يقاتلون مع المسلمين.
وبناءً على هذه الملاحظات فإنَّ أهل الطوائف اليوم، ممن ثبت كفره، ينظر في الآلية التي يُثبِتُ فيها ولاءَه للدولة، بأن يدفع مبلغًا مقابل إعفائه من الخدمة العسكرية، أو أن يشترك مع المسلمين في حماية بلده، وعندها تسقط عنهم الجزية، إذ كانت مقابل حمايتنا لهم، وهم يدفعونها بشكل بَدَلٍ عن خدمة العلم على ما تسمَّى اليوم، أو يشتركون في حماية البلد أسوة بالمسلمين.
وقد ذهب إلى هذا القول عدد من العلماء المعاصرين، منهم الدكتور عبد الكريم زيدان([17]) والدكتور القرضاوي([18]).
وممَّا يدلُّ على جواز إسقاط الجزية عنهم إذا اشتركوا في حماية البلد المسلم، سوابق تاريخيَّة متعددة، ذكرها المؤرخون المسلمون كالطبري وغيره، ومن ذلك ما ذكره البلاذري في فتوح البلدان([19]) من مصالحة والي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه للجراجمة (المسيحيين) على أن يكونوا عونًا وعيونًا للمسلمين مقابل إسقاط الجزية عنهم.
خاتِمةٌ – نظرة بإنزال هذا الحكم على الواقع السوريِّ:
– لا بدّ بعد بيان الحكم من ملاحظة المعطيات الواقعيَّة الآتية:
أولاً – حال الطوائف المنتشرة في الجغرافيا السوريَّة امتدادٌ لإقرار المسلمين لها عبر القرون، منذ العصر العباسي، مرورًا بالعصر العثماني ووصولًا للعصر الحديث. فليس إقرارها اليوم بدعًا من الأمر، بل هو منهج المسلمين في التعامل مع غير المسلمين في المجتمع الإسلاميّ عبر العصور.
ثانياً – لا سبيل إلى إفناء الأقليَّات ولا إلى تهجيرهم، هناك مئات آلاف السوريين من هذه الأقليات في سوريا، بعضهم يريد التعايش بصدق، وإقرارهم ضمن تفاهمات هو السبيل للاستفادة منهم بدل معاداتهم.
ثالثاً- نصَّ الفقهاء على أنَّ عقد الجزية هو ما يحقق مقاصد الشريعة الغراء في هداية الناس وإرشادهم، فمن ذلك ما قاله ابن العربي: “لو قُتل الكافر ليئس من الفلاح ووجب عليه الهلكة، فإذا أعطى الجزية وأمهل لعله أن يتدبر الحق ويرجع إلى الصواب، لا سيما بمراقبة أهل الدين والتدرب بسماع ما عند المسلمين؛ ألا ترى أن عظيم كفرهم لم يمنع من إدرار رزقه سبحانه عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد”([20]). وما قاله القرافيّ رحمه الله : ” إنّ قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدّنيا لدفع المفسدة العليا وتوقّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه: أنّ الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتّم عليه الكفر والخلود في النّار، وغضب الدّيّان”([21]) .
ولو ربطنا كلامهم هذا بواقعنا لأدركنا أنَّ المصلحة الدينيَّة والدنيويَّة متحقِّقة بإقرارهم، ولعلنا نعلم أنَّ عددًا من العائلات النصيريَّة المشهورة اختلطت بأهل السنَّة في دمشق فكان منها علماء وتجار مؤمنون يسعون في مصالح المسلمين، ويدعمون الدعوة الإسلاميَّة كما يعرف أهل دمشق وغيرهم([22]).
رابعاً – كانت الأقليَّات – ولا تزال – وسيلة الأجنبيّ للتدخل في البلاد وذريعته للتحكُّم في قراراتها، وقد يدفع هذا بعض الناس لاعتبارهم خطرًا يجب التخلُّص منه، وهو تفكير ثبت خطؤه تاريخيًّا، والأَولى استيعابهم ضمن مواطني الدولة، وإقناعهم بصدْقِنا في الرغبة بالتعايش معهم دون مشكلات، وهذا يقطع يد التدخل الأجنبيّ بحجة مساعدتهم والدفاع عنهم، وبقاؤهم في ظل الدولة التي تحكم بالعدل مهم لطمأنتهم من جهة، ولبقائهم تحت مراقبة الدولة من جهة أخرى، وقد تقدَّم معنا أنَّ هذا ما دفع عمر رضي الله عنه لقبول الجزية باسم الصدقة من نصارى بني تغلب، وفي التاريخ شواهد مماثلة منها صنيع السلطان عبد الحميد مع بعض الطوائف في شمال سوريا، فإنَّ ضياء باشا الذي بعثه ليستكشف أمرهم رأى ميلهم لإيران ومحاولة الأمريكيين لاستقطابهم عبر المدارس، فكان أن قطع السلطانُ الطريقَ على هؤلاء بما فعله من محاولة إصلاحهم([23]).
هذا ما أراه فهمًا لإعمالِ قواعد الأصول في استنباط الأحكام من النصوص، وهي قواعد ضابطة للاستنباط منضبطة بنفسها وليست فضفاضة بحيث نقول مثلًا: (حيثما وجدت المصلحة فثمَّ وجه الشرعِ) دون تفصيل وبيان ودون النظر في آحاد النصوص على وفق قواعد الدلالة والبيان، كما أودعها الأصليون في كتبهم… بل الحقُّ في النظر في النصوص وتحكيم قواعد العربية في فهمها، والتزام بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والنظر في الجمع بين ذلك وبين المصلحة العامة، فإن أمكن الجمع دون تحريف وتغيير لمنطوق النصوص ومفهومها فحيهلا، وإن لم يمكن فالمرجعية للنص أولًا وآخِرًا، والمصلحة في مقابلة النص موهومة غير حقيقية.
إنَّ علم أصول الفقه من حيث أسسه ومنطلقاته قطعي لا سبيل لإلغاء مرجعيَّتِهِ، لكِن الجمود على كلام المتقدمين دون ملاحظة تطبيقهم لقواعده أكان سديدًا أم دخله الخطأ؛ آفةٌ علِقَت ببعض المسلمين ولا بد من اجتثاثها بالحكمة والموعظة الحسنة… والله أعلم وهو يهدي السبيل.
([1]) الرسالة للشافعي، (ص: 25).
([2]) وما نُسِبَ إلى ابن تيمية رحمه الله من أنه يرى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فسَّر القرآن كُلَّه فيه نظر، ذلك أنه رحمه الله قال في مطْلَعِ مقدمته المشهورة في أصول التفسير [ينظر: مجموع الفتاوى 13/331]: (يجب أن يُعلَم أن النبي بـيّن لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه) فَحُمِل قوله هذا على أنَّهُ يرى تفسير رسول الله لكل القرآن، وليس قوله دالاً على ذلك… على أنَّ هذا الفهم لعبارته إن كان صحيحًا فهو يخالف ما ذهب إليه الجمهور.
([3]) الموافقات، مقدمات، القسم الأول، (ص: 1/33).
([4]) المرجع السابق، الموضع نفسه.
([8]) المغني لابن قدامة، 9/ 263.
([10]) الأحكام السلطانية للماوردي، ص143.
([11]) روضة الطالبين 10 /315 ـ 316.
([12]) هذا تعريف ابن رشد ـ رحمه الله ـ من المالكيَّة، ينظر: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني 4/33.
([13]) المغني لابن قدامة، 10/572.
([15]) الخراج لأبي يوسف ص 156.
([17]) وذلك في كتابهِ: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، ص 157 ـ 158.
([18]) وذلك في كتابه: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ص 28 .
([19]) فتوح البلدان ص 217. وذكر د. عبد الكريم زيدان رحمه الله عدداً من هذه السوابق في كتابه أحكام الذميين … ص 155 وما بعد.
([20]) أحكام القرآن لابن العربي 2/482، والحديث أخرجه البخاري رقم 5634، ومسلم، برقم 5016 بألفاظ قريبة ، ولفظ البخاري، وهو الأقرب للمذكور، “ليس أحد ـ أو ليس شيء ـ أصبر على أذى سمعه من الله، إنَّهم ليدعون له ولداً، وإنَّه ليعافيهم ويرزقهم”.
([22]) كان الشيخ صافي حيدر ـ رحمه الله ـ إمامًا في صلاة الفجر في جامع منجك في منطقة الميدان من أحياء دمشق القديمة، كما كان حافظًا لكتاب الله. وهذا مثال واقعي رصدته بنفسي ، ولديَّ أمثلة متعددة في هذا الباب.
([23]) خطط الشام، (3/105_106)، (6/58)، سوريا والعهد العثماني، يوسف الحكيم، ص 70_71.