الدكتور: علي محمد حسن الأزهري – قِسْمُ الْعَقِيْدَةِ وَالْفَلْسَفَةِ ـ جَامِعـــَةُ الْأَزْهَرِ
إن الحرب الفكرية على دين الإسلام لم تتوقف يومًا منذ بدْءِ الرّسالة المحمّدية وإلى اليوم، كما هو حال دعوات الحقِّ السابقة؛ دعوة نوح وإبراهيمَ وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام.
في القرن الماضي شن المستشرقون هجومًا عنيفًا على الإسلام ولكنهم خسروا حربهم على أبواب الإسلام المنيعة، وقد خلفهم اليوم أشباهُهم من الزَّنادقة والعلمانيين والحداثيّين فلا يكاد يمضي يوم إلا وتسمع منهم شبهة جديدة تعتمد الكذب والتزوير أساسًا في التضليل والتشكيك بدين الله القويم، وأنّى لهم ذلك والإسلام دين الله الخاتم الذي حفظه وهيَّأ له من أهل العلم والإيمان من يذود عنه ويفديه بالغالي والنفيس؟
ومن هذه الشبهات التي تثار اليوم ادعاءُ التضاربِ بين مبادئ الإسلام في التعامل مع أبناء الديانات الأخرى حيث تأمر السنة النبوية بإهانتهم بينما يأمر القرآن بالتعامل معهم بالحسنى مما يوجب علينا التخلي عن السنة النبوية ورميها! … فما حقيقة هذه الشبهة؟
نص الشبهة
إن الأحاديث في كتب السنة جاءت مناقضة لما جاء به صريح الإسلام، والذي أوصانا بأصحاب الديانات الأخرى خيرًا، ومن ذلك قول الله تعالى : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: آية 8]، فجاء الأمر بالإحسان إليهم طالما ليس بيننا وبينهم عداوة حرب، وقال تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة : آية 83] والمعنى كما قال أهل التفسير ومنهم ابن كثير : (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا ولينُوا لَهُمْ جَانِبًا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فالحُسْن مِنَ الْقَوْلِ: يأمُر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُق حَسَنٍ رَضِيَهُ اللَّهُ)([1])، وغير ذلك من الآيات التي تدل على وجوب الإحسان لغير المسلمين، – وبناء على ذلك يقول الطَّاعنون – ومع هذا جاءت كتب الحديث تنشرُ ثقافة الكراهية بين النَّاس، وتحث المسلمين على ظلم غير المسلمين والإعراض عنهم والتضييق عليهم حتى في الطرقات، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ))([2])، فهل جاءت السنة لتقرر استخدام الوحشية البربرية مع غير المسلمين، هذا تعنت وتمييز لم يقرهما الشَّرع، ولا يمكن لأي عاقل أن يقبل بهذا.
ويقول هؤلاء الطَّاعنون: إنّ الله أمرنا بالإحسان للجميع، فلماذا تنادي كتب الحديث بضرورة كراهية غير المسلمين والحضِّ على التضييق عليهم حتى في الطرقات، فمن هنا نقول إن هذه أحاديث غير صحيحة تم دسُّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّها تُعارض الإسلام وتدعو للكراهية والعنف مع الإنسانيَّة.
الرد على الشبهة
أولًا: لا ننكر أن الحديث صحيح وقد روي في كل من صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وفي مسند الإمام أحمد وفي غيرها من كتب السنة.
ثانيًا: إن سبب هذا الفهم الخاطئ للحديث هو الجهل بسبب وروده، فالحديث خاصٌّ بواقعة بعينها وذلك لما سار المسلمون إلى بني قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى جانب الكفار للقضاء على المسلمين، كما عند الترمذي عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي رَاكِبٌ إِلَى يَهُودٍ، فَمَنِ انْطَلَقَ مَعِي، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) ([3])، وجاء عند أحمد في روايتين متعاقبتين بلفظة ((إنا غادون))، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّا غَادُونَ عَلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) ([4])، وأورده الطبراني في المعجم عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّا غَادُونَ غَدًا إِلَى يَهُودٍ فَلَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ))([5])، وبه قال البيهقي في الشعب عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: ((إِنِّي رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ، فَمَنِ انْطَلَقَ مَعِي مِنْكُمْ فَلَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) فَلَمَّا جِئْنَاهُمْ سَلِّمُوا عَلَيْنَا فَقُلْنَا: وَعَلَيْكُمْ([6])، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ، فَلَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ))([7]).
ثالثًا: إن النهي هنا لا ينسحب على الجميع وذلك:
1- لقوة الأدلة الواردة في الأمر ببرِّ اليهود والنَّصارى وغيرهم والإحسان إليهم كما في القرآن الكريم في قول الله تعالى : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة : آية 8.]، ألا ترى أن من أوجه البرِّ السَّلام عليهم والإحسان إليهم وذلك لعموم الآية الكريمة طالما أنَّهم يعيشون معنا دون ممالأة أعدائنا علينا!.
2- ولكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة في إلقاء السلام على اليهود والنَّصارى، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: ((تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ))([8])، فالأمر عام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، قال ابن عبد البر: (وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أنهم كانوا يبدؤون بالسلام كل من لقوه من مسلم أو ذمي، فالمعنى في ذلك – والله أعلم – أنه ليس بواجب أن يبدأ المسلمُ المارُّ بالسلام على القاعد الذمي، والراكبُ المسلمُ الذميَّ الماشيَ بالسلام، كما يجب ذلك بالسنة على من كان على دينه، فإن فعل فلا حرج عليه، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم أن تبدؤوهم بالسلام) بدليل ما روى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم، قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمىّ، ويقول: هي تحيةٌ لأهل ملتنا وأمان لأهل ذمتنا واسم من أسماء الله نفشيه بيننا، ومحال أن يخالف أبو أمامة السنة، لو صحت في ذلك، بل المعنى على تأويلنا والله أعلم، وعلى هذا يصح تخريج هذه الأخبار ووجوهها، ذكر ابن أبي شبيب، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهاني، وشرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة أنه كان لا يمر بمسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام، وروي عن ابن مسعود وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد أنهم كانوا يبدؤون أهل الذمة بالسلام، وقال ابن مسعود: إن من التواضع أن تبدأ بالسلام كلَّ من لقيت، وعن ابن عباس أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك، وسئل عبد الله بن وهب صاحب مالك عن غيبة النصراني فقال: أو ليس من الناس؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله عز وجل يقول {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة : آية 83]، وقيل لمحمد بن كعب القرظي: إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: ترد عليهم ولا تبدؤوهم! فقال محمد بن كعب: أما أنا فلا أرى بأسًا أن تبدأهم بالسلام، قيل له: لم؟ فقال: لقوله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف : آية 89] ، ومن حجة من ذهب إلى هذا قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : آية 8 ]، وذهب جماعة من العلماء إلى مثل ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز في ذلك) اهـ([9]).
رابعًا: عموم الأحاديث الواردة في حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود ونهيه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن تسبهم لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم (السام عليك)، أي: الموت عليك، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ)) ([10])، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن تسترسل عليهم في الدعاء، وإن كانوا هم من ابتدؤوا بالدعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: أَمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بوجوب صلة الأرحام من المشركين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما عن صلة أمها، بل أمرها ببرّها ووجوب صلتها وما زالت على الشرك يومئذ، ففي الحديث عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: (قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: ((نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ))([11])، وقيل إنها ماتت على الشرك ولم تسلم، قال الحافظ النووي: (كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَتُهُ، وَفِيهِ : جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ، وَأُمُّ أَسْمَاءَ اسْمُهَا (قَيْلَةُ) وَقِيلَ : (قَتِيلَةُ) بِالْقَافِ وَتَاءِ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ… وَهُي قَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهَا أَسْلَمَتْ أَمْ مَاتَتْ عَلَى كُفْرِهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَوْتِهَا مُشْرِكَةٌ)([12])، ونقل ابن حجر عن الخطابي ما نصه : (وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ أَنَّ الرَّحِمَ الْكَافِرَةَ تُوصَلُ مِنَ الْمَالِ وَنَحْوِهِ؛ كَمَا تُوصَلُ الْمُسْلِمَةُ وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْأَبِ الْكَافِرِ وَالْأُمِّ الْكَافِرَةِ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا)([13]).
خاتمة: ومن هنا يمكن القول : إن هذا الحديث يختص بواقعة دون غيرها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حالة حرب معهم، وأن مسألة عدم بدئهم بالسلام والتضييق عليهم في الطرقات لم تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في حالة السلم، والآيات دلت على عكس ما ادَّعاه أصحاب هذه الشبهة وكذا السنُّة النبويَّة في ضرورة الإحسان إليهم وعدم الإساءة إليهم، وفعل الصحابة والتابعين في ضرورة السلام عليهم ومعاملتهم برفق ولين، وأن من اعتدى على معاهدٍ فلن يجد رائحة الجنة، روى البخاري بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا))([14])، فهل يُعقلُ أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة عدم ظلمهم؛ وفي موضع آخر يأمر بالتضييق عليهم ومقاطعتهم!.
وبعد هذه الإضاءة السريعة على جوانب المسألة يتضح لنا أن هذه الشبهة لا تستقيم وصريح الشرع الحنيف، إذ إن الإحسان الذي أمر الله تعالى به بقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة : آية 83]عام يشمل المسلمين وغيرهم.
([1]) ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ جـ 1 ـ صـ 317.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ السَّلَامِ ـ بَابُ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ـ جـ 4 ـ صـ 1707 ـ حديث رقم 2167، وأخرجه أبو داود في سننه ـ أَبْوَابُ النَّوْمِ ـ بَابٌ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ـ جـ 4 ـ صـ 352 ـ حديث رقم 5205، وجاء عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الشَّامِ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِصَوَامِعَ فِيهَا نَصَارَى فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَبِي لَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ»، وأخرجه الترمذي في سننه ـ أَبْوَابُ السِّيَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِ الكِتَابِ ـ جـ 4 ـ صـ 154 ـ حديث رقم 1602، وأخرجه أحمد في المسند ـ جـ 14 ـ صـ 233 ـ حديث رقم 8562.
([3]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى ـ ـ جـ 9 ـ صـ 150 ـ حديث رقم 10148.
([4]) أخرجه أحمد في المسند ـ ـ جـ 45 ـ صـ 211 ـ حديث رقم 27236 و برقم 27237.
([5]) أخرجه الطبرني في المعجم الكبير ـ جـ 22 ـ صـ 291 ـ حديث رقم 744.
([6]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ـ جـ 11 ـ صـ 260 ـ 261ـ حديث رقم 8513.
([7]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ـ جـ 1 ـ صـ 377 ـ حديث رقم 1102.
([8]) أخرجه البخاري في صحيحه ـ كِتَابُ الإِيمَانِ ـ بَابٌ إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ ـ جـ 1 ـ صـ 12 ـ حديث رقم 12، وأخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ الإِيمَانِ ـ بَابُ بَيَانِ تَفَاضُلِ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّ أُمُورِهِ أَفْضَلُ ـ جـ 1 ـ صـ 65 ـ حديث رقم 39.
([9]) ابن عبد البر ـ بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس ـ تحقيق : محمد مرسي الخولي ـ طبعة دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان ـ جـ 1 ـ صـ 752 ـ 753.
([10]) أخرجه البخاري في صحيحه ـ كِتَابُ الأَدَبِ ـ بَابُ الرِّفْقِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ـ جـ 8 ـ صـ 13 ـ حديث رقم 6024، وأخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ السَّلاَمِ ـ بَابُ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ـ جـ 4 ـ صـ 1706 ـ حديث رقم 2165.
([11]) أخرجه البخاري في صحيحه ـ كِتَابُ الهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا ـ بَابُ الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ ـ جـ 3 ـ صـ 164ـ حديث رقم 2620، وأخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ الزَّكَاةِ ـ بَابُ فَضْلِ النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَالزَّوْجِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْوَالِدَيْنِ وَلَوْ كَانُوا مُشْرِكِينَ ـ جـ 2 ـ صـ 696 ـ حديث رقم 1003.
([12]) النووي ـ المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ـ جـ 7 ـ صـ 89 ـ حديث رقم 1003.
([13]) ابن حجر ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ جـ 5 ـ صـ 234.
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه ـ كِتَابُ الجِزْيَةِ ـ بَابُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ ـ جـ 4 ـ صـ 99 ـ حديث 3166.