الكاتبة: عابدة المؤيد العظم
إن ميدان تربية الناشئة والمراهقين في عصرنا أصبح أحد أعقد القضايا التربوية، وإذا كنا نتحدث في جانب التربية الدينية والأخلاقية، فإننا ندخل منطقة الألم المليئة بالمتناقضات المبنية على قابلية المراهق للشيء وضده بدرجات متقاربة، ففي ظل انفتاح الناشئة على الإعلام بكل ما فيه، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتحكم الوالدان بتربية أبنائهم أخلاقيًا أو دينيًا أو حتى مهنيًا واجتماعيًا.. ولعل من أبرز الإشكاليات التي تهدد استقرار المجتمع الإسلامي المتدين مسألتي التطرف والتفلت.
وأود هنا أن أجيب عن سؤال يكثر دورانه في مجتمعاتنا المسلمة اليوم؛ وهو: يهتم الآباء والأمهات المسلمون بأولادهم منذ الرضاعة ويحرصون على تنشئتهم تنشئة صالحة، فيعلمونهم الأخلاق الحسنة والصلاة والصيام ويحفّظونهم القرآن، وعندما يشبون عن الطوق ينحرفون عن الطريق ويبتعدون عن دينهم، حتى ترى الفتاة تخلع حجابها، والشاب يترك عبادته وحدود دينه، وقد ينحرف قسم منهم نحو العلمنة أو الإلحاد.. أين العلة وكيف نعالجها؟
إن انحراف بعض الأبناء وتَشَكُّكهم فيما تربوا عليه من استقامة وأخلاق أصبح ظاهرة مقلقة، ومشكلة حقيقية، ربما لا يكاد يخلو منها بيت اليوم، فأصبحت بحاجة إلى دراسة متعمقة، وحاجة ماسة إلى التكاتف والتعاون للخروج منها.
إن البحث في أسباب هذه المشكلة جزء كبير من الحل، وإذا كانت العملية التربوية تتكون من المربي المتمثِّل في الوالدين أو المعلم، ومتلقٍّ ممثَّلًا في الأولاد والتلاميذ، فإن الركن الثالث لها هو منهج التعامل والتخاطب بين الركنين الأولين.
لدى بحثنا في واقع التربية اليوم فإننا على العموم لا نجد إشكالية أصيلة في ذات المربي أو الناشئ، ونتيجة لذلك فإن المشكلة الأساسية تكمن في “أسلوب الخطاب“، وفي طريقة التوجيه. كلنا يعرف أن “الزمن تغير“، وكلنا يكرر مقولة؛ ربوا أولادكم لزمن غير زمنكم، ثم لا نراعي ذلك في التربية، فإذا تعددت الفتاوى نأخذ بالأشد، بحجة أنها الأقوى والأحوط، وإذا رغب الأولاد بالمشتبهات حرَّمناها عليهم بدل أن نقبلها بشروط ونراقبهم… مما أشعرهم بالحصار، فتاقوا إلى الانطلاق.
وقد يقول قائل: وهل نغير الدين لأجلهم؟! والجواب: طبعا لا؛ ولكن الدين فيه سعة، وفيه أقوال راجحة ومرجوحة، وأقوال تتصف بالشدة وأخرى باليسر.. فنأخذ بالمرجوح والأيسر – إن اقتضت المصلحة ذلك – بغية حمايتهم مما هو أخطر.
ولنا في تدرج الشرع الحكيم في تحريم الخمر على فترات عبرة وعظة، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم زواج المتعة وأحله ثم حرمه حتى اعتاد الناس على حرمته.
ولعل أكبر مشكلة أدت إلى انفلات الناشئة اهتمامنا بالظاهر، وعدم الانتباه لما يحدث بالباطن؛ فاهتمامنا بالصلاة والصيام وحفظ القرآن؛ يغلب بمراحل اهتمامنا بقوة الإيمان وربط القرآن بالحياة، وتمثل توجيهاته، وإدراك إعجازه، وتدبر آياته، واتباع تعاليمه، إننا نهتم فقط بما نراه، ولا نحاول قراءة دواخل أطفالنا، ولا نبذل وقتًا كافيًا في محاورتهم والنقاش معهم أو الإجابة عن تساؤلاتهم: فإذا صلى الصبي والتزم بالذهاب إلى المسجد ظننا فكره بخير وعافية، وإذا تحجبت الفتاة سلمنا بأنها مقتنعة بما تلبس وراضية عنه.. وهكذا نمضي بالتربية: نوجه أولادنا لأعمال كثيرة مرئية، بأوامر مستمرة وقاسية، فإذا انصاعوا وطبَّقوا ما نكرره اطمأنت قلوبنا إلى كونهم ملتزمين فلا يخشى عليهم، والواقع غير ذلك؛ إنهم يشعرون في داخلهم بالقلق والتوق إلى الانعتاق لأنهم مجبرون، فإذا سمعوا همسة تأثروا، وإذا سمعوا نقاشًا تشككوا، وهكذا.
على أن السبب في أي ظاهرة لا يكون واحدًا، وتتعدد الأسباب عادة، فيكون هناك سبب رئيس، وأسباب فرعية وثانوية، وسبب مباشر وقريب وآخر غير مباشر أو بعيد.
ومن الأسباب تغير الزمان وطروء بعض المشكلات الاجتماعية التي جاءتنا من الغرب، فلا ضير أن نعالجها كما عالجوها – فيما لا يخالف مسلمات الدين – ولكن بعض الآباء يتوسع في استيراد تلك الحلول الغربية لدرجة أن حياتنا كلها أصبحت غربية، في لباسنا وطعامنا وطقوس زواجنا.
وعلى الجهة المقابلة ترى بعض الآباء المتدينين على العكس من ذلك تمامًا، يرفضون كل ما جاء من الغرب صوابًا كان أو خطأ، فإن رأى ابنه يقتبس شيئًا إيجابيًّا مما جاءنا من الغرب تحفز له ووقف له بالمرصاد، ولو رآه يقلد في أمر ليس فيه مخالفة شرعية، ولكنه غير مألوف، منعه بحجة أنه تقليد للكفار، فيحس الأولاد بالتناقض بين حياتهم المتشددة في البيت وبين واقع الحياة خارجه، ويبدأ الناشئ بالشعور وكأن الدين عائق أمام الحياة، أو لا يصلح لكل زمان ومكان، وتتكون لديه القابلية للخروج من المبادئ الإسلامية أو التفلت من قيود الدين عند أول إغراء أو شبهة.
ومن مسببات ابتعاد الشباب عن الالتزام الديني قصور الخطاب الديني عمومًا، فإنه ما زال يتمحور في كثير من الأحيان حول قضايا هامشية أو قضايا خلافية قديمة أو أساسية مسلمة؛ بينما الشباب يعيشون كل يوم مشكلات عميقة وجديدة.
وكثر في مجتمعاتنا الدعاة التقليديون الذين يتمسكون برأي فقهي أو مذهب واحد ويعرضونه وكأنه الحكم الوحيد في المسألة، فيتعذر على بعض الشباب الالتزام به ويضطرون للمخالفة، ثم يتجرؤون بعد ذلك على الثوابت والأمور المتفق على حكمها.
وعلينا أن نعترف أننا نحن المربين قد قصرنا في إعطاء أولادنا الفكر الإسلامي متكاملًا مع الأخلاق – وإن كان تقصيرنا بدرجات متفاوتة – ومن المقصرين معنا في هذا الجانب القائمون على حلقات تحفيظ القرآن، حيث تكون الأولوية عندهم للحفظ، بدل أن تكون للتدبر على طريقة الصحابة، فكان ينبغي ألا يجاوز الحافظون الآية حتى يعرفوا مقاصد الشرع منها بما يتناسب مع أعمارهم وأفكارهم ويطبقوها في حياتهم، وعلى الشيخ والمقرئِ أن يكون مؤدبًا لتلامذته ومعينًا لهم على الاستقامة فينتبه لتعاملاتهم وأخلاقهم ويحاول الإصلاح ما استطاع.
وبرأي البعض فإن السبب الوحيد في هذا الانحراف هو الإساءة في طريقة التربية، وليس ذلك بصواب، فإن كل تربية لا تخلو من الأخطاء مهما حرصنا، فالبشرية تعجز عن المثالية، ولكن علينا ألا نظلم أنفسنا، فإننا لا ندري التأثير السلبي من أين يأتي، فقد يأتي من مواطن كنا نظنها خيرًا.
وأذكر مثلًا على ذاك صبيًا كنت أعرفه نشأ في بيئة دينية معتدلة رائعة، وفي عيشة هنية راضية، وبين والدين متفاهمين، وكانت أمه حريصة عليه أشد الحرص، ترعاه رعاية فكرية شرعية قويمة، وكانت تحلم أن يكون فقيهًا أو مفتيًا، وذات يوم سمع نقاشًا في بيته، بين عمه وهو خطيب وإمام مسجد، وأبيه وهو دكتور في كلية الشريعة، حول الآيات التي تركز على أن القلوب هي التي لا تعقل ولا تفقه.. فتساءل: كيف يكون التفكير بالقلب؛ بينما الفلاسفة والأطباء والعلم يقررون غير ذلك؟
كان ناشئًا صغيرًا، ولكنه تابع واهتمّ، وحين لم يجد إجابة تشفيه تحير، ومن هنا بدأت شكوكه – أي من أسرته الملتزمة التي تحرص عليه أشد الحرص – ولقد تغلغل النقاش في عقله وقلبه ولم ينسه، وبدأ يبحث عن الحقيقة بنفسه، وكبر وهو يتساءل، ودله ضلوعه باللغة الأجنبية على المواقع العلمانية واللادينية، فتسلط عليها وصار يبحث وحده، ثم وصل ببحثه الخاطئ إلى أن الرسالات بشرية، فخرج من الدين – مع إيمانه بوجود الله وأنه خالق الأكوان، وخالق الناس – وقد بذل الأهل جهودًا شتى في هدايته ونصحه، ولكن الشاب كان قد سلم نفسه لشكوكه ووساوسه، وإنك لا تهدي من أحببت.
الحل:
يجب أن نحاور أولادنا وننتبه، فأبناؤنا في بيوت كثيرة يصلّون لأجلنا، خوفًا منا أو طلبًا لرضانا، إن كثيرًا من أولادنا لم يقدروا الله حق قدره، ولم يتغلغل الإيمان في قلوبهم، ولم يعرفوا كيف يُصَلُّوا حبًّا في الله وطاعة لرسوله، ذلك الحب الذي يدفعهم للطاعة والامتثال والرغبة بالقرب من الله ورسوله.
ولنا في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة المكية قدوة حسنة، حيث قضى ثلاثة عشر عامًا بمكة وهو يدعو الناس إلى الإيمان، كان يعدد نعم الله عليهم ليقدروها، وكان يرقق قلوبهم ويدعوهم ليتفكروا حتى ثبت الإيمان في قلوبهم وتغلغل في كيانهم، وصاروا هم يسألونه عن أحكام الله خشية الوقوع في الحرام، حتى بدأ ينهاهم عن المسألة، خشية أن يحرم عليهم الأمر بسبب كثرة سؤالهم.. فأي إنجاز وأسلوب أعظم من هذا؟
إن الواجب علينا اليوم أن نولِي الإيمان والأخلاق الأولوية في تنشئة طفلنا المسلم، ولا تكون الصلاة والزكاة والصيام هي الهدف بحد ذاتها، إن الإيمان والاقتناع والحب سابق على الطاعة والعبادة، فإذا أحب الطفل أطاع، إن المحب لمن يحب مطيع.