الباحث الإسلامي: عباس شريفة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين، وبعد:
عندما تطورت المناهج التاريخية واللغوية تطورًا كبيرًا في أوروبا، وخصوصًا في ألمانيا، إبان القرن التاسع عشر، وبعد أن طبقوا منهجية النقد التاريخي على الآداب اليونانية والرومانية، وخرجوا بنتائج باهرة، قالوا: لماذا لا نطبقها على النصوص الدينية؟ فهي أيضًا مُشَكَّلة من حروف وألفاظ، وجمل وعبارات، ومرتبطة بظروفها وعصرها.
ونتيجة لذلك بدؤوا يطبقونها على التوراة والإنجيل، أو العهد القديم والعهد الجديد، وفوجئوا بأشياء عجيبة لم تكن تخطر لهم على بال، فقد اكتشفوا مثلًا: أن التوراة ليست من تأليف النبي موسى عليه السلام، كما يعتقد اليهود والمسيحيون منذ آلاف السنين، بل هي من تأليف متأخر، لأنها تحتوي على إشارات ومرجعيات وألفاظ ما كان يمكن أن توجد في عصر النبي موسى عليه السلام، وبرهنوا بالأدلة القاطعة على أطروحتهم هذه، عندئذ أصيب الوعي الإيماني المسيحي في الصميم.
لكن الليبراليين قبلوا بالنتيجة، وقالوا: إن العلم لا يدمر الإيمان، كما يزعم الأصوليون المتحجرون بل يضيئه وينعشه!
وهنا بدأت معركة تأويل النص عند الغرب، وهي المعركة التي يريد أن يستورد العلمانيون العرب أدواتها، (المنهج التاريخاني([1]) واللسانيات)كمحمد أركون([2])، والمهندس محمد شحرور([3])وغيرهما، لإجراء العملية الجراحية الغربية نفسها، لكن مع فارق وحيد أنهم يجرونها على العضو السليم وهو النص القرآني الذي ثبت قطعًا أنه نص إلهي، ليس لبشر فيه يد؛ حتى النبي المبلغ له عليه الصلاة والسلام.
وشكلت موجة ما يسمى (القراءة المعاصرة) آخر موجات الصراع المستمرة حول تأويل النص القرآني.
فلا يزال الوحي والنص المقدس ساحة صراع بين من يحاولون امتلاك ناصية الفهم الحق، والتعبير عن مراد الله تعالى من الخطاب الإلهي، وبين مقلدة الغرب من أصحاب القراءة المعاصرة، وكثيرًا ما تتأثر هذه المعارك الفكرية بالأحداث السياسية، وتكون رجعًا للصراعات الاجتماعية.
فبعد كل حالة من الانكسار التي تتعرض لها الأمة تعلو بعض الدعوات التي تحاول إعادة تفسير الإسلام من جديد، على صورة تحل فيها معضلة التناقض التي يتصورها الشباب المسلم الحائر بين النص والوحي من جهة، وبين التجربة والواقع من جهة أخرى.
وقد ظهرت في سوريا قديمًا دعوة الأستاذ جودت سعيد لمذهب ابن آدم الأول بعد الصراع الدامي بين الإسلاميين والبعثيين، وكانت قراءة جديدة متأثرة بالواقع الغائم والنكبة المرة.
وكذلك بعد وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي ظهرت كثير من الدعاوى التي تدعو إلى تفسير النص القرآني والإسلام تفسيرًا جديدًا يحل الإشكالية التي أفرزتها الحالة السياسية والصدمة الحضارية، كما فعلت البهائية([4]) في إيران، والقاديانية([5]) في القارة الهندية.
وإن كان بعضهم يكتفي بتفسير مثل هذه الدعوات بأنها صنعة إنكليزية محضة، أو مؤامرة استعمارية بحتة، فإنني هنا أريد تناول الموضوع من وجهة نظر أخرى، تتجاوز عقدة المؤامرة، إلى المحاكمة العقلية لهذه المناهج المحدثة.
ونجد أن المفكر والشاعر الهندي الكبير محمد إقبال([6]) شرح تلك الدعوات بناء على المؤدى والنتيجة منها بشكل عميق ودقيق، وأشار إلى أنها تلغي مفهوم العبودية والربوبية التي هي جوهر الأديان كلها، لأنها تحرر الإنسان، وتستعبد الدين فيصبح الدين مقلوبًا رأسًا على عقب، ويتحول العبد معها – وهو الإنسان هنا – إلى سيد، والدين إلى عبد خاضع؛ يلبي شهوة الإنسان ورغباته، وقد عبر عن ذلك إقبال شعرا فقال:
وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب ** فجدد لنا شرعًا يلائمه العصر
رأيت بأرض الهند أيَّ عجيبة! *** فإسلامها عبدٌ ومسلمها حر([7])
واليوم نعود لنلحظ هذه الشنشنة التي نعرفها من أخزم، تشرئب مجددًا، وتحاول أن تقدم تفسيرًا جديدا للنص، يكاد يكون فهمًا بديلًا عن الإلحاد، وإن كان في أصله نوعًا من الإلحاد في آيات الله.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة فصلت: آية40] والإلحاد هنا كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما هو: أن يوضع الكلام في غير موضعه([8])، لينتهي الأمر إلى إفراغ الدين من محتواه، والذي قد يجتذب كثيرًا من الشباب المصدوم بالخطاب التكفيري، الذي مثلته داعش، أو الناقم على الخطاب الانهزامي أو الخرافي الذي أشاعته الفتاوى الجامية، وبعض منحرفي المتصوفة.. كما شكل خطاب المؤسسات الدينية الحكومية حالة من الصدمة لدى الشباب المسلم من خلال موقفها من الظلم الممارس على الشعوب المسلمة في فترة الربيع العربي، مما أدى إلى فقدان الثقة بكل من يمثل الدين، أو حتى الشك بالدين نفسه.
وبين دعوات الجمود على التراث، وبين دعوات تجديده، تستبطن العلمنة تارة والإلحاد تارة، وبين السقوط الأخلاقي لبعض الدعاة في معركة الحرية والظلم؛ تجد مثل هذه القراءات رواجًا بين الشباب بما تضفي على نفسها من مسحة عقلانية تستهوي البعض.
وهنا أذكر المهندس محمد شحرور نموذجًا في قراءته المعاصرة للقرآن في عدد من كتبه والتي يعد من أهمها كتابه ((الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)) والذي حدد فيه منهجه اللساني في تناول تفسير آيات القرآن الكريم([9]).
وهنا لا أريد الغوص في النوايا كما يفعل البعض، فأمر ذلك لرب العالمين، ولا يهمني إن كان شحرور عميلًا صهيونيا، أو شيوعيا ماركسيًا.. لكن ما لفت انتباهي في ظاهرة شحرور مسألتان:
الأولى: كثرة الشباب المفتونين، والمعجبين بفكره وبضاعته التفسيرية المبهرجة بغلاف من عقلانية خادعة وشهوانية طاغية.
والثانية: كمية الردود السطحية والعاطفية التي يرد بها بعض من الدعاة على المهندس شحرور، مما يزيد دعوته قوة وتأثيرًا، ويزيد من ردود الباحثين عليه ضعفًا بعين الشباب المثقف المتابع لصليل هذه المعركة.
وفي أحسن الأحوال هناك من رد على إنتاجه التفسيري بطريقة تناول الجزئيات التفسيرية في قضايا معينة، مثل قضية الحجاب والميراث والصيام، وهو جهد مبارك.. ولكن تناول المنهج المعرفي الأبستمولوجي والغوص والحفر في عمقه وتحليله يبقى ردًا قاصرًا، يعالج المنتج، ولا يمس المنهج.
لذلك اخترنا الرد بنقض المنهج الأصولي لشحرور، ودحض منهجه المعرفي من أصله وأساسه، بدلًا من التيه والدوران في ملاحقة منتجاته الفكرية الشاذة في قضايا الإرث والحجاب وغيرها، لنحقق غاية بسيطة، وهي أننا ببيان فساد الأصل والمقدمات سنظهر بطلان كل ما يتولد عن ذلك من فروع ونتائج ومخرجات.
وهنا نشرع بتفكيك أهم المقدمات والأصول الفاسدة التي يقوم عليها منهج شحرور في قراءته المعاصرة للقرآن الكريم.
من المسلَّم به عند أهل العلم والمعرفة في النظريات المعرفية ومناهج العلوم، أن العلوم سابقة بالاكتشاف والتطبيق على قوانينها، وليست لاحقة لها.
فاللغة مثلًا سابقة في الممارسة والوجود على علم النحو والإعراب، والفقه سابق في الوجود والتطبيق على علم أصول الفقه، والسنة سابقة على علم الرواية والمصطلح، والناس كانت تتعامل مع قانون الجاذبية قبل أن يكتشفها نيوتن.
من هنا نريد الوصول إلى قضية كثيرًا ما يدندن بها المهندس محمد شحرور عندما يقول: “إن مشكلتنا تكمن في كتاب من مئتي صفحة – يعني به (كتاب الرسالة) للإمام الشافعي رحمه الله – إذا تجاوزناها؛ فإن مشكلتنا كلها مع التراث ستحل تلقائيا”، حتى يقول: “أنا كافر بما جاء به محمد بن إدريس الشافعي”([10]).
يظن شحرور أن الشريعة الإسلامية هي منتج علم أصول الفقه الذي دونه الإمام الشافعي رحمه الله، وأننا إذا كسرنا هذا المنهج الأصولي وتجاوزناه، واستعضنا عنه منهجًا معرفيًا آخر نقرأ من خلاله نصوص الوحي والكتاب: ستنتهي مشكلتنا المعرفية مع الشريعة، لأن المنتج الشرعي والفقهي سيختلف تماما باختلاف منهج الاستنباط القياسي الذي أتى به الإمام الشافعي رحمه الله، وأن التجديد في الفقه الإسلامي سيتحصل بما يتناسب مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية.
ولم يتفطن شحرور إلى الخطأ المنهجي الكبير الذي وقع به؛ إذ لم يدرك أن الشريعة الإسلامية كانت قائمة طوال أكثر من قرن من الزمان في جيل الصحابة والتابعين، قبل أن يولد الشافعي نفسه، ولم يزد الشافعي رحمه الله على أن استخرج من منهج الصحابة والسلف في التعامل مع النصوص الشرعية قواعد الاجتهاد الموجودة في أذهانهم، ودوّنها لتكون ضابطًا لفهم فروع الشريعة وفق المنهج الاجتهادي لدى الصحابة الكرام، وليس لإعادة إنتاجها من جديد.
وكان لعلم أصول الفقه المستَنِد في قواعده على اللغة العربية دور كبير في ضبط حركة الاجتهاد، وحماية الشريعة الإسلامية من تحريف المبطلين والمتسلقين.
فشحرور يرى أن أزمة الأمة المعاصرة هي أزمة التمحور حول النص، وأن الحل يكمن في إعادة قراءة النص قراءة معاصرة، وحتى يصل إلى هذه القراءة المعاصرة لا بد من نسف قواعد أصول الفقه التي تشكل حجر عثرة أمام رؤيته، متوهمًا أن الشريعة؛ هي وليدة القواعد الأصولية التي وضعها الإمام الشافعي.
نعود ونؤكد الفكرة التي انطلقنا منها، وهي أن الشريعة سابقة في الوجود والتطبيق على منهج أصول الفقه، وليست متولدة منه كما يظن شحرور، فالمنهج الأصولي يكمن دوره في فهم الشريعة وليس هو المنتج لأحكامها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويتزوجون ويبيعون ممتثلين في كل ذلك أحكام الشريعة الإسلامية، ولم يدون علم أصول الفقه بعد.
نتساءل ما المنهج البديل عند المهندس محمد شحرور الذي يريد من خلاله إعادة إنتاج الشريعة الإسلامية من جديد؟
إنه علم اللسانيات وتاريخانية النص الذي نشأ في الغرب لأجل حل معضلة التناقض الحاصل بين معطيات العلم المادي الحديث، وبين فهم الكنيسة للنص المقدس.
إن حالة عدم التسامح بين المذاهب المسيحية في القرون الوسطى أدت إلى إشعال الحروب الدينية لمئات السنيين في أوروبا، هذه المأساة حملت كثيرين من فلاسفة الغرب على إعادة قراءة النص المقدس بما يتوافق مع العلم؛ ويوجِد القطيعة مع القراءات الكنسية، ورفض احتكار الكنيسة لفهم النص المقدس التي كانت تتهم كل من يخالفها الرأي بالهرطقة والتجديف.
وعندما أراد شحرور أن يقرأ النص قراءة معاصرة، تتمشى مع روح العصر بزعمه، كان لا بد له من الاستعانة بمنهج معرفي مستورد يخرج به عن صرامة قواعد أصول الفقه والتفسير، التي ستدحض كل جديد يأتي به، فاستعاض عنه المنهج اللساني الغربي الذي أوجده الغرب لتفكيك النص المقدس عندما وصل إلى المأزق المعرفي بين العلم والنص الديني، فالإنسان بحاجة للإيمان، ولكن النص المقدس متناقض مع العلم! فما الحل؟ الحل هو التأويل، وهو نقل المعنى المرفوض إلى معنى مقبول.
إن المنهج اللساني الغربي في قراءة النص المقدس يقوم على أساسين اثنين:
الأول: تطور دلالة المصطلحات بتطور الزمان والمكان والحضارة، وبناء على ذلك يمكن أن نجد في كل عصر تفسيرًا جديدًا للنص، يتوافق مع روح هذا العصر، ولا يكون معارضًا لما فهمه الصحابة والسلف، فما فهمه السلف هو صحيح باعتبار عصرهم، وما نفهمه نحن اليوم هو صحيح باعتبار عصرنا.
الثاني: إن القول بتطور النص يعني أن لا معنى نهائي للألفاظ، لأن اللغة مثلها مثل المادة هي في حالة تطور مستمر، وهنا يقوم محمد شحرور بتطبيق وإسقاط النظرية الدارونية الماركسية في أصل الأنواع على اللغة فيما يسميه الباحثون الأنثروبولوجيا([11]).
إن نقـل هـذا المنهـج اللساني المستورد وتحويـله من حل أزمة النص المقدس في المسيحية إلـى الدراسـات القرآنيـة، أدت بشـحرور إلـى السـقوط فـي الخطـأ المنهجـي الـذي أشـار إليـه أحـد الباحثيـن بــقوله: (بلا نـص ولا دلالـة ثابتة لا تفسـير نهائـي للنص، لا تفسـير مفصـل أو موثـوق بـه إنه اللعـب الحـر للغـة، فـكل القـراءات إسـاءة قـراءات، إلـى آخـر تلـك المتاهـات التـي أدخلتنـا فيهـا الحداثـة الغربيــة ومدارســها النقديـة)([12]).
ونتيجة ما جاء به المهندس شحرور: أنه إذا لم يكن للنصوص معان نهائية، فما الحاجة للإيمان بها أصلا؟ وعند ذلك يكون الكفر بها هو الحل الأمثل للتعامل مع كلام إله لا يَعرف عباده ما يريده منهم، ويحمل خطابه لهم في كل عصر وزمان معنى مختلفًا عن الذي قبله، وهكذا لا يثبت النص على معنى، ويصبح التكليف الذي هو جوهر الدين والعبودية ضربًا من العبث.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن العلماء يميزون بين ثلاث دلالات للمفردة القرآنية:
1- الدلالة الشرعية للمصطلح.
2- والدلالة اللغوية.
3- والدلالة العرفية.
*فالدلالة الشرعية: ما تدل على مقصود صاحب الوحي من اللفظ.
*والدلالة اللغوية: ما تواضع عليه أهل اللغة حين ضبطوا المصطلحات لفهم مراد كلام العرب في الزمن الذي نزل به النص.
* والدلالة العرفية: وهي التي تخضع للتغير تبعًا لتغير العادات والتقاليد في استخدام الألفاظ، لتدل على معنى يريده الناس في زمن ما، وهي المتطورة والمتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالناس عرفا لا يسمون السمك لحمًا، وإن كان القرآن الكريم سماه “لحمًا طريا”، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النحل: الآية 14]، وَمَنْ حَلَفَ أنه لَا يَأْكُلُ لَحْمًاْ فأَكَلَ لَحْمَ سمَكِ لَم يَحْنَثُ([13]).
هذا في حال عدم انصراف اسم اللحم إلى السمك عرفًا، فإن حُكم الحالف يتبع لقصده، فإن كان خاليا من القصد تُقدم الدلالة العرفية على الدلالة الشرعية، ولو حصل أن تغيرت الدلالة العرفية وصار يسمى السمك لحمًا؛ فإن الحكم يتغير.
وهناك حالة؛ ما إذا صرف الاسم إلى غير المسمى الذي أنيط به الحكم كصرف معنى التصوير الذي جاء النهي عنه بأحاديث صحيحة([14]) والذي يتناول الرسم والنحت، إلى معنى التصوير في هذا العصر الذي يدخل فيه التصوير الفوتوغرافي، فإن العلماء الذين جوزوا التصوير الفوتوغرافي قالوا: إن النص المحرم لا يتناوله، لأننا يجب أن نفهم النص في سياقه التاريخي الذي يدل على مقصود التصوير، وهو النحت والرسم في ذلك الوقت، ولا يتناول المعنى العرفي الذي يتناوله تقييد الخيال أو الصورة عبر آلة التصوير.
النتيجة:
إن الخلل المنهجي الذي يلاحظ في العمل الذي قام به شحرور في الوصول إلى فروق بين المصطلحات التي اشتغل عليها، سببه اعتماده اللغة وحدها في استنباط معاني كل الألفاظ التي تعرَّض لها، ولم يفرق بين اللفظ المفهوم الذي أعطاه الشرع معنى محددًا، وبين اللفظ العادي الذي يمكن أن يستقرأ معناه من معاجم اللغة فقط، الأمر الذي أوصله إلى تأويلات أبعد ما تكون عن منطق اللغة العربية والشرع الحكيم، فالألفاظ التي أعطاها القرآن معنى خاصًا بها، يجب الوقوف فيها عند ذلك المعنى والسياق، ولا ينبغي الانسياق في تقمص معانيها المعجمية اللغوية، وتنزيلها مهما بلغت من التكلف والزيغ([15]).
المسألة الثالثة: تلفيق شحرور في توظيف منهج اللسانيات
الخطأ المنهجي الذي وقع فيه شحرور:
وإن غاية البنيوية الحداثية في منهج اللسانيات عند العلمانيين العرب، هو فك الارتباط بين الوحي، وبين مراد صاحب الوحي – وهو الشارع جل جلاله – بواسطة مجموعة من الأوضاع والأساليب اللغوية والحذلقات الكلامية، وذلك من خلال تفكيك التراكيب اللغوية إلى مفردات، ثم تعبئة هذه المفردات بمعان جديدة من قواميس اللغة التي تحتملها، تؤدي عند إعادة تركيبها إلى إنتاج معان جديدة تختلف تماما عن المعاني التي سيقت لأجلها.
وهكذا يكون محمد شحرور، قد تجاوز قضية تحريف الرسم القرآني المستحيلة بما حفظ الله به هذا القرآن المنزل، إلى تحريف التفسير والدلالات اللغوية لتراكيب القرآن الكريم وصولًا إلى المعنى الذي قرر أن يصل إليه سلفًا، وبناء عليه لفق المنهج الذي يوصله إلى هذا الهدف، وهو الوصول بالإسلام إلى فهم متطابق مع تطبيقات الحداثة وفق النموذج الغربي بالتحديد، على قاعدة كثير من المبتدعة الذين يعتقدون ثم يستدلون.
وهنا يقع شحرور بمطب قاتل آخر؛ وهو تجاوز المنهج الاستنباطي الذي جاء به القرآن الكريم نفسه لفهم مراد الله تعالى، فهل يعقل أن الوحي الذي جاء بالتبيان لم يزود القارئ المكلف بمنهج معرفي يفكك من خلاله النص ويفهمه على النحو الذي يريد صاحب الوحي الذي أنزله؟
وهنا يأتي السؤال الأساس: هل فهم البيان الرباني هو على مراد الله تعالى؛ ونحن مكلفون ببلوغ هذا المراد؟ أم على ما يفهمه البشر المكلفون من النص أيًا كان هذا الفهم؟
لا يفترض بالباحث أن يثق بالمنهجية البحثية المعلنة عند كثير من الكتاب، كالحديث عن المنهجية اللسانية، أو القراءة المعاصرة للنص، إذ إن البعض يحسب أن هذه فروعًا تخصصيّةً من العلوم اللغوية أو الشرعية، ويظن أنها بحق لها قواعدها وضوابطها التي تَعاقَب عليها جهابذة العلوم والنقاد.
ومع صدمة الحداثة فإن الحديث عن قراءة معاصرة، يوقع في نفوس كثير من الناس شيئًا من الرهبة، أو الهالة التي تلف كثيرًا من التخصصات الأكاديمية، مما يرفعها عن البحث والمراجعة فضلًا عن المساءلة والنقد، على أن الأمر لا يعدو كون المنهجية المعلنة إلا ستارًا، يعمي العين الناقدة عن النفاذ إلى ما وراء ذلك الإعلان من منظومات خفية غير معلنة.
وعند مراجعة ما سطره شحرور عن منهجيته المبتكرة؛ كثيرًا ما يجد القارئ أن الكاتب نفسه لا يتحاكم إليها، وإن تحاكم إليها فإنها لا تنتج شيئًا مفيدًا، فما هي إلا مجرد شعارات تحمل من العلوم والمعارف اصطلاحها – لا مضمونها – وإن جعجعتها هي المنتج الوحيد لسالكها، وإن الحاكم الأصلي لآراء الكاتب، هي منظومة خفية لم يفصح عنها في منهجه، ولا صرح أنها هي مقصده، مع أنها الأشد تأثيرًا وظهورًا في منتجه المعرفي.
وقد تحدث شحرور مرارًا عن منهجية يسلكها في كتبه، وأخصها المباحث اللغوية، لكن الواقع أن كتبه حوت منظومات معرفية خفية، هي الحاكم الأَوَّلي في ترجيح ما يصل إليه من آراء.. لذلك لا ينبغي الإسراع إلى تصديق شحرور في المنهجية التي يعلنها لنفسه مرارًا، فإن ذلك يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بما سيقوله.
والواقع أن الرجل لا يحتكم إلى أي إطار منهجي معلن، وإنما هو مجرد تلفيق لمنظومات معرفية متنوعة، يؤدي الأخذ بها بعين الاعتبار إلى الخروج بتفسيرات للنص تتماشى مع المفاهيم الغربية أو اللادينية عن الحياة، والتي كان شحرور قد جعلها مسبقا هدفه الذي يمشي نحوه، ولوى النصوص بوسائل شتى للوصول إليه، وبالكشف عن هذه المنظومات الملفقة يمكن للقارئ أن يرصد تحاكم شحرور إليها من كتاب إلى آخر من كتبه.
وعادة ما يجري الحديث عن منظومة واحدة خفية تكون وراء عدم التناقض، لكننا أمام مجموعة من منظومات متناثرة، تابعة لغيره؛ وليست من ابتكاره، حاول شحرور تمريرها، لتحكم معاني النصوص التي ينقضّ عليها بالتأويل، وقد كفى غيره عناء؛ إثبات أنها أجنبية عن النصوص نفسها باعترافه أنه تخلى عن التراث كاملًا، وبدأ من الصفر وإن طريقته جديدة معاصرة.
وتتكاثر المصطلحات في سطوره من صيرورة إلى سيرورة([16]) إلى منع الترادف ومنع الحشو والسياق.. ونحو هذا، وهي عند التحقيق مجرد ألفاظ لها وقع رنينها في نفس السامع فقط، من دون أن يكون لها أثر موصل لمطلوب!
وهي غلاف لتسويغ المنظومات التي يحتكم إليها بطريقة غير واضحة، تلك المنظومات هي جوهر أطروحته، وما يعلنه من لسانيات ونحو هذا مجرد عَرَض، لذلك فإن الانشغال معه بالبحث في الباب المعلن، هو انشغال بالعرض عن الجوهر وبالهامش عن الأصل الذي يحكم سطوره([17]).
يعتبر نفي الترادف الأساس المنهجي الأكثر حضورًا في كتب شحرور، ويعتمد عليه بشكل كلي، إذ يخترق منهجه أفقيًا وعموديًا في تحديد معاني الألفاظ.
إن القول بعدم وجود الترادف في اللغة هو رأي أبي علي الفارسي، الذي وافقه فيه كل من ابن جني وعبد القاهر الجرجاني في دراسة الشعر الجاهلي، وقد اعتمد شحرور هذه النظرية ليصل من خلالها إلى نفي الترادف تماما عن القرآن، بحسب زعمه، يقول في ذلك: “التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب، فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والأولاد غير الأبناء، والفؤاد لا يعني القلب، وللذكر مثل حظ الأنثيين، لا تعني للذكر مِثلَا حظ الأنثى”([18]).
على هذا الأساس، وهو غياب الترادف في اللغة وفي النص القرآني، قعد شحرور لمعان جديدة للكلمات فميز بين “القرآن” و”الكتاب” وبين “الذكر” و”الفرقان” و”أم الكتاب”، مع الإشارة إلى أنّ معنى الترادف الذي نفاه شحرور، هو وجود مفردتين أو أكثر بمعنى واحد.
لكن يظهر تلاعب شحرور في تترسه بقضية نفي الترادف في عدة جوانب:
وهذه مسألة ذكرها ابن فارس في (الصاحبي في فقه اللغة العربية) والغزالي في (المستصفى) وفي (معيار العلم) والفخر الرازي في (لوامع البينات في الأسماء والصفات)، فالسيف اسم والمهند والصارم والبتار هي صفات لها حيثياتها.
فالاسم ما دل على الذات دون معنى زائد، أما الوصف فهو ما دل على الذات مع زيادةٍ في الوصف، وعلى هذا فهل الاختلاف بين الاسم والأوصاف يفضي إلى عدم التَّشابُه التَّامّ في كل الأحوال بين معاني الكلمات التي يقال عنها مترادفة؟ أم هل ما يقال عنه ترادف؛ هو في حقيقته أسماء متعددة لمسمى واحد؟ ولكن كل اسم من هذه الأسماء يعطي معنى زائدًا أو ناقصًا للمسمى؟
وهذا ما يجعل الخلاف يكاد يكون لفظيا بين من يجعل الترادف عبارة عن تعدد الأسماء لمسمى واحد، وبين من يفرق بين الاسم والصفة، فيكون الاسم واحدًا والصفات متعددة، وهذا ما ينسف التكأة التي يتعكز عليها شحرور ليمرر منهجه البدعي؛ إذ إن اختلاف مبنى اللفظ يؤدي إلى اختلاف بالمعنى من حيث الزيادة فيه أو النقصان منه، وليس لاختلافه تمامًا إلى درجة التباين التام.
فكلمة العشق، والهيام، والغرام، والوَجْد، وإن كانت ألفاظًا مختلفة لكنها تؤدي إلى معنى واحد أصيل وهو التعلق العاطفي بالشيء المشهور باسم (الحب).
ويبقى التفاوت في وصف هذا التعلق ودرجته من خلال اختلاف اللفظ المعبر به عنه، يقول الأستاذ يوسف صيداوي([19]) في ذلك: (إن القراءة المعاصرة – التي جاء بها شحرور قد تسللت من معنى الترادف، إلى باطل لا علاقة له بالترادف من قريب ولا بعيد، وذلك أن الأئمة الذين أنكروا الترادف، كأحمد بن يحيى وابن فارس وأبي هلال العسكري… لم يزيدوا على أن قالوا ما معناه: إن بين المترادفات فروقًا في الصفات، والصفة هي زيادة على المعنى الأصلي وليست معنى مستقلا بذاته.
مثال ذلك أن بين الحسام، والصارم، والمهند، والبتار، والفيصل، فروقًا في الصفات ولكنها جميعها إنما تدل على تلك الحدة، ولم يقل أحد من أهل اللغة إن الحسام غير المهند، والمهند غير السيف… إلخ.
أما القراءة المعاصرة التي جاء بها شحرور؛ فقد تسللت من هذا الذي أجمع عليه أئمة اللغة إلى حكم مرتجل لا أصل له! فقال شحرور: “الترادف خدعة، والمترادفان متغايران” وعليه فإن الكتاب غير القرآن والقرآن شيء، والكتاب شيء آخر، والفرقان شيء ثالث، والذكر رابع، وأم الكتاب شيء سادس.. (وهكذا هات فأسًا وخذ قطعًا) وهنا ندرك جوهر التلفيق الذي قام به شحرور، فأئمة اللغة الذين أنكروا الترادف قالوا: إن بين المترادفات فرقًا في الصفة، وأما شحرور فقال: إن كلًا من المترادفات يغاير صاحبه، فهذا شيء وهذا شيء آخر، فهل اللغة مجال للعبث واللعب، وهل تؤتى البيوت من ظهورها بهذه الطريقة التلفيقية في اللغة([20]).
المسألة الخامسة: الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية أم مسلمة عقلية؟
يعتبر المهندس محمد شحرور “أن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، هي من المسلمات العقلية وليست حقيقة علمية”([21]).
وعلى ذلك لا يمكن لقضية الإيمان بالله تعالى دحضها علميًّا، كما لا يمكن إثباتها علميًّا، ويرى المهندس شحرور أن قضية الإيمان بالله تعالى يستوي فيها ألبرت أينشتاين العالم الفيزيائي النووي، مع بائع الطعمية البسيط، مما يعني أن أذكى الفلاسفة والأعرابي البدائي في قبول مسألة الإيمان بالله تعالى ورفضها سواء.
وبناء عليه يقرر محمد شحرور؛ أن الملحد الذي لا يؤمن بالله تعالى؛ لا يسأل يوم القيامة ولا يحاسب على هذا الاختيار العقدي، وإنما يُسأل المجرمون فقط، وبناء على نظريته في نفي الترادف فإن المجرم غير الملحد([22])، قال تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [سورة القصص: آية 78] فالمجرمون هم أصحاب النار فقط وهم من كفر بالله وأساء لخلقه بحسب تعبير شحرور.
ولازم كلام المهندس شحرور من ذلك يقتضي؛ أن الله تعالى ليس له حجة علمية بالغة على عباده، وبذلك يكون الكافر والمؤمن بالله تعالى سواءً، لكن كيف يستقيم ذلك مع قوله تعالى {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [سورة الأنعام: الآية 149].
ثم إن الآيات القرآنية صريحة في الدلالة على أن الإيمان بالله تعالى حقيقة علمية، منها قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [سورة محمد: الآية 19]، ولم يقل الله تعالى: فسلم بقضية وجود الله تعالى تسليمًا، وإنما كان الأمر أن يسلك مسلك العلم، أي إقامة الدليل والبرهان القطعي الدال على هذه الحقيقة الكونية، والقرآن مليء بالآيات التي تجادل أهل الكفر والإلحاد بالاستدلال بالمخلوقات وإتقان صنعها على وجود الخالق وقدرته وكمال صفاته.
وهنا لا بد من تعريف العلم: إذ هو إدراك الحقائق على ما هي عليه بالدليل والبرهان.. والبرهان يمكن أن يكون برهانًا عقليًا كدلالة الالتزام، وبطلان الدور، وبطلان التسلسل، والعلة الغائية للخلق، وعدم وجود التناقض، وقانون السببية، ويمكن أن تكون البراهين مادية، كالتجريب والملاحظة، والمشاهدة، والإدراك بالحواس.
وبناء على قانون السببية فإن وجود الله تعالى – مبدعًا خالقًا للوجود – حقيقة علمية يوجبها العقل، وليست مجرد مسلمة نظرية؛ تقبل الأخذ والرد، وإلا فكيف يستقيم كلام شحرور مع قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [سورة الإسراء: الآية 36] إلا إذا كان للعلم مفهوم آخر عند شحرور([23]).
إن النهي صريح في هذه الآية الكريمة عن اتباع أي قضية لم يقم عليها الدليل والبرهان العلمي، بما في ذلك قضية الإيمان بالله تعالى.
ماذا نفعل بهذا النص الصريح الواضح مع كلام المهندس شحرور؟ إن مقتضى كلام المهندس شحرور مع هذه الآية التي تنهى عن اتباع واقتفاء أي قضية لم يقم عليها البرهان العلمي (تعني أن الله تعالى ينهى عن الإيمان به إلها موجودا، ويجعل من الإيمان به شيئًا محرمًا) طالما أن وجوده مسألة لا يمكن إثباتها علميّا؛ ولا يمكن دحضها علميّا، كما يدعي المهندس شحرور.
وهنا نقف مع قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران: آية 18]، في هذا النص الصريح نجد اجتماع ثلاثة شهود يشهدون بحقيقة واحدة، وهي: وحدانية الله تعالى ووجوده، هؤلاء الشهود هم الله تعالى، والملائكة، وأولو العلم.
فشهادة الله تعالى هي شهادة الذات للذات، وشهادة الملائكة هي شهادة معاينة لأنهم يسمعون كلام الله تعالى، وأما شهادة أولي العلم فهي شهادة استدلال، لأنهم استدلوا بآثاره على صفاته، وبصفاته على وجود ذاته، وليست هنا الشهادة من أهل العلم شهادة معاينة حسية؛ لأنها شهادة بالغيب، لكن قوة الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، جعلتها وكأنها شهادة عيان، ماثلة أمامهم لا يمكن لأي عاقل إنكارها.
إن محاولة المهندس محمد شحرور نزع تلازم الإيمان عن العلم محاولة يائسة ترفضها النصوص القرآنية الصريحة، التي تجعل من الإيمان نتيجة حتمية للبرهان العلمي اليقيني.
ويرفضها العقل المنطقي السليم الذي يوجب وجود الله تعالى بناء على القوانين العقلية التي تثبت مسألة الإيمان بالله تعالى كحقيقة يقينية كبرى.
فالقرآن في جوهره هو ثورة على التقليد الأعمى، وتقديس الموروث الذي كان أهل الجاهلية يعتذرون به للبقاء على كفرهم وشركهم، وهم يعطلون عقولهم.
النتيجة:
إن المؤدى الذي يريد أن ينتهي إليه المهندس محمد شحرور، هو أن الإلحاد والكفر هو وجهة نظر اجتهادية، لا يحمل صاحبها أي مسؤولية أخروية عند الله تعالى، وبذلك يكون مؤدى الكفر والإيمان واحدًا في مآله الأخرويّ في الثواب والعقاب عند الله تعالى، وبذلك تبطل حكمة الرسالة، ويسقط معنى التكليف من أصله.
وأنا هنا لا أحلل تحليلا، فقد وجدت حوارات محمومة بين شباب علمانيين متحمسين يريدون العبور بالشرق من القرون الوسطى إلى مرحلة عصر الأنوار والقطيعة مع التراث والنص بدون الحاجة إلى المرور بمرحلة الإصلاح الديني، التي يتمسك بها بعض حكماء العلمانية ودهاتها، الذين يرون أن كل محاولة من المثقفين العرب للقفز على مشكلة التراث من دون خوض معركتها والحفر فيها ستبوء بالإخفاق الذريع، ولا حل للمشكلة التراثية بزعمهم إلا من خلال خوضها بكل صراحة ووضوح، فلا يمكن العبور بالعالم العربي الذي يعيش بعقلية القرون الوسطى – حسب زعمهم – والقفز إلى عصر الأنوار دون المرور بعصر النهضة والإصلاح الديني، كما حدث في أوروبا عندما دشن مارتن لوثر بداية عصر الإصلاح الديني وقيام حركته الاحتجاجية البروتستانتية، ومن ثم انتقلت أوروبا إلى عصر الأنوار وصولًا إلى العصور الحديثة التي أوجدت القطيعة مع الدين والنص المقدس نهائيًا.
لهذه الأسباب يرى هذا الفريق من العلمانيين العرب الدهاة: أنه لا مندوحة عن خوض معركة التراث، ولا بد قبل خوضها من تحضير السلاح المناسب لها؛ والأدوات المكافئة للمواجهة، وهو منهج أبستمولوجي، يخرج بقراءة جديدة للنص تنتهي إلى الالتقاء الكامل مع التطبيقات الغربية للحداثة، من خلال تفكيك بنية النص من داخله وإعادة تركيب معانيه من جديد.
من هنا كان البحث عن المناهج التي حاكم فلاسفة الغرب من خلالها نصوصهم المقدسة، وهو منهج اللسانيات وتاريخانية النص (الأنثروبولوجيا)، وهو المنهج الذي استورده أركون وشحرور من الغرب الذي عاش مأزقَ لا معقولية النص، ولا تسامحية المعتقدين.. فكان التأويل هو المخرج لعقلنة النص، وإرساء قواعد التعايش بين المؤمنين، ومن ثَمَّ إيجاد عقد اجتماعي علماني يضمن السلم الأهلي الذي خرج بأوروبا من الحروب الدينية المذهبية إلى عصر الحداثة.
وكل ما فعله هؤلاء الوكلاء المستورِدون أنهم حاولوا تطبيق التجربة الأوربية على النص القرآني، بمحاكاة حرفية لما جرى في الغرب، وفي ذلك يقول أحد كبار العلمانيين المدعو هاشم صالح: (ما معنى أن أقول أنا إنسان متحرر تنويري؟ لا علاقة لي بكل هذا التخلف والتعصب، أنا ضد التراث المكرور والممل، لقد حللت مشكلتي مع الماضوية، وأصبحت ليبراليا أو ماركسيا أو ملحدًا، بل أنا شخص تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة!!)، ثم يعلق على هذه المقولة فيقول: (هذا هراء ومراهقة فكرية)، إذ يعتبر كل هذا الكلام بلا معنى، إذا لم نخض معركة الماضي وإزالة الرواسب، لأنه – بحسب هاشم – لا معنى لأن أقول: (إن التراث الماضوي لا معنى له، إذا كان ثلاثة أرباع الشعب متعلقين به ويعيشون عليه).
هنا يقول جماعة القراءة المعاصرة: (إنه ينبغي المشي مع الشعوب خطوة خطوة، على طريق التحرير، لكي نصل بهم إلى نهاية المطاف وهو التأويل العقلاني للدين؟ وتصالح الإيمان مع العقلانية)([24]).
وهذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا، عندما دخلوا صراعًا مع الأصوليين المسيحيين، من داخل دائرة النص المقدس وليس من خارجه.
لكن الآن وقد وصلت أوروبا إلى العصور الحديثة، فقد تجاوزت معركة التراث والنص وانتهت منها، وصارت بالنسبة لها مسألة محسومة مقطوعًا بها.
من هذا الكلام نخلص لعدة استنتاجات:
– مدى ما يستنبطنه العلمانيون العرب لمعركة العقل والدين التي وقعت في الغرب بين الفلاسفة والكنيسة، ومحاولة خوضها بحذافيرها في الشرق بين العلم والإسلام، على اعتبار أن المسلمين يعيشون في مرحلة القرون الوسطى، وأن مشكلة الشرق هي مع الإسلام، كما كانت مشكلة الغرب مع الكنيسة، مع أنه لا وجود لمفهوم الكنيسة والسلطة الثيوقراطية عند المسلمين ولا يوجد نص يقيد العقل والبحث والعلم في القرآن الكريم.
– إن القراءة المعاصرة للتراث والنص الإلهي، التي يدخل حلبتها بعض العلمانيين، هي بالنسبة لهم ليست أكثر من مرحلة انتقالية، وخطوة تكتيكية لهدف استراتيجي ومرحلة ضرورية لا بد منها لنقل المجتمعات المسلمة المتعلقة بالتراث إلى عصر الأنوار من خلال تأويل النص وليس تجاوزه، لأن تجاوز النص سيثير المجتمعات المسلمة على الحداثيين والتنويريين، ويحوِّل كل جهود التنوير والتحديث إلى هشيم، مما يؤدي إلى دخولهم في صراع مع المجتمع، ينتهي بكسب الظلاميين والمتطرفين الأصوليين للشارع، باعتبارهم حماة الأصالة والهوية هناك، وينتهي الأمر بالنكوص إلى الماضوية من جديد، وإجهاض دعوات التنوير، والإغراق في الظلامية والقرون الوسطى.
وللمزيد من المراجع التي تتحدث حول الموضوع:
[1] (التاريخية) أو (التاريخانية) كلمة وضعها المفكرون الحداثيون العرب في مقابل المصطلح الأصل في اللغة اللاتينية (Historicisme)*، وهذا الانتقال الترجمي يحتاج إلى وقفة اصطلاحية، وأما من حيث أصله اللغوي فـ(التاريخية) مصدر صناعي[(التطبيق الصرفي/ص73) للراجحي، و(جامع الدروس العربية/ص177) للغلاييني]، يدل على خصائص التاريخ، أي التطور والتغير والحركة، وأما اصطلاحا فقد عرفه دايموند أرون بقوله: (المذهب الذي يدعو إلى المعرفة التاريخية للقيم والفلسفات ونسبيتها) (La Philosophie Critique de l Histoire /p289).
[2] محمّد أركون يدعو إلى ضرورة توظيف علم الألسنيات أو علم اللغة؛ لأنّ الخطاب القرآني “لم يكن مكتوبًا في البداية، وإنّما كان كلامًا شفهيًّا أو عبارات لغوية شفهية تنبثق على هوى المناسبات والظروف المتغيّرة، وقد استمرّ ذلك عشرين سنة” راجع “محمّد أركون، العلمنة والدّين، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص 83
[3] المهندس محمد شحرور تاريخ الولادة: دمشق – 1938بدأ في دراسة التنزيل الحكيم وهو في إيرلندا بعد حرب 1967، وذلك في عام 1970، وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، واستمر بالدراسة حتى عام 1990، حيث أصدر الكتب التالية ضمن سلسلة (دراسات إسلامية معاصرة) الصادرة عن دار الأهالي للطباعة والنشر في دمشق: (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة) عام 1990. (822) صفحة، (الدولة والمجتمع) عام 1994. (375) صفحة، (الإسلام والإيمان – منظومة القيم) عام 1996. (400)، و العديد من الكتب (نقلا عن موقعه الرسمي).
[4] البابية والبهائية حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260ه/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية.. أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي 1235ـ1266هـ (1819 ـ 1850 م)، أفكاره: بدأ غلام أحمد نشاطه كداعية إسلامي حتى يلتف حوله الأنصار ثم ادعى أنه مجدد وملهم من الله ثم تدرج خطوة أخرى فادعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود ثم ادعى النبوة وزعم أن نبوته أعلى وأرقى من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يؤولون القرآن تأويلات باطنية ليتوافق مع مذهبهم، يحرمون الحجاب على المرأة ويحللون المتعة وشيوعية النساء والأموال. المصدر “الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط د. مانع بن حماد الجهني، طبعة دار الندوة العالمية”.
[5] القاديانية حركة نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص؛ حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام، وكان لسان حال هذه الحركة هو مجلة الأديان التي تصدر باللغة الإنجليزية.. مؤسسها هو ميرزا غلام أحمد القادياني (1839 – 1908م) أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية، وقد ولد في قرية قاديان من بنجاب في الهند عام 1839م.. المصدر “الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط د. مانع بن حماد الجهني، طبعة دار الندوة العالمية”.
[6] هو إقبال ابن الشيخ نور محمد، كان أبوه يكنى بالشيخ تتهو أي الشيخ ذي الحلقة بالأنف ولد في سيالكوت، إحدى مدن البنجاب الغربية (1877 – 1938م).
[7] من ديوان ضرب الكليم لمحمد إقبال، نقله للعربية الدكتور عبد الوهاب عزام، ص42
[8] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م، ج 21 ص 478
[9] يقول شحرور في شرح مستنده في تطور دلالات اللغة: لقد وضع الخليل وسيبويه قواعد اللسان العربي على مبدأ الشكل: المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، وهو ما يُسمّى علم النحو، ثمّ جاء علم البلاغة (المعاني) وكأنّه قام بالفصل بين النحو والبلاغة كلّ على حدة، بحيث نجد أنّ سيبويه والجرجاني وابن جنّي وأبا علي الفارسي وكلّ علماء اللغة ظهروا في القرون الهجرية الأولى، ونحن الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، نعلم أنّ علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطبّ وكلّ العلوم الأخرى تقدّمت تقدّمًا هائلًا لا يقاس أصلًا بالماضي، إضافة إلى علوم اللسانيات، لكنّ علماء الدين نسوا أنّ علوم اللغات تطوّرت أيضًا تطوّرًا هائلًا، فكيف لنا نحن ألّا نأخذ في الاعتبار هذا التطوّر الهائل لعلوم اللسانيات عند دراسة آيات التنزيل الحكيم لفهمها بنحو أفضل ومعاصر؟ المصدر: موقعه الرسمي [https://shahrour.org/?page_id=3 ].
[10] من لقاء على قناة العربية، https://www.youtube.com/watch?v=-jbCwvb1AuQ
[11] علم الأنثروبولوجي يهدف إلى الكشف عن الأصول التاريخية لنشأة اللغة عمومًا، والمجموعات المتشابهة فيها على وجه الخصوص، ويقارن اللغات بعضها ببعض ليحدد الظواهر اللغوية الشائعة بينها على وجه العموم، وعلى ضوء ذلك يتمكن من فهم العمليات والتطورات التي أدت إلى نشأة اللغة وتطورها واختلافها.. راجع موسوعة ويكيبيديا.
[12] من كتاب المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك رقم 32، من سلسلة عالم المعرفة، عبد العزيز حمودة، الصفحة 34
[13] راجع فتح القدير لابن الهمام (المتوفى: 861هـ)، الناشر: دار الفكر (ص 121-ج 5) باب الأيمان في الأكل والشرب.
[14] عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ)). صحيح مسلم رقم الحديث 5588
[15] (قراءة في ضوابط التأويل وأبعادها المنهجية في الدراسات القرآنية المعاصرة) الدكتورة رقية طه جابر العلواني، بيروت 11 -12 شباط 2006 م، بحث ألقي في ندوة دراسة التطورات الحديثة في الدراسات القرآنية ص 15
[16] انظر: القصص القرآني لشحرور ص 44
[17] بتصرف يسير من كتاب “بؤس التلفيق” نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سمرين، طبعة مركز دلائل السعودية ص 80 -81
[18] انظر بحث (العائد الحضاري والمعرفي في القراءة المعاصرة للقرآن الكريم) للباحث المغربي الحسن حما، ص 7 صادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
[19] يوسف الصيداوي، عالم لغوي سوري، وأديب مرب، وخبير بالموسيقا والأنغام، مجود وحافظ للقرآن الكريم ولد بدمشق عام 1930 لأسرة شيعية فقيرة، وتوفي 2003 [المصدر ويكيبيديا].
[20] انظر كتاب بيضة الديك، للدكتور يوسف صيداوي، ص 62 طبعة المطبعة التعاونية.
[21] من لقاء على اليوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=aNGyJ8ehWkk.
[22] من لقاء على اليوتيوب، على قناة أبو ظبي، برنامج لعلهم يعلمون: https://www.youtube.com/watch?v=PfL_8G7_vXo.
[23] المتضح من كلام شحرور أنه يتبنى مفهومًا مختلفًا للعلم يتوافق مع الرؤية الغربية التي تعتبر العلم هو ما يخضع لمدركات الحواس، ولكن كيف يفعل شحرور مع عشرات النصوص التي تتكلم عن العلم بمفهوم المدركات العقلية وليس المادية كيف سيصرفها عن ظاهرها وهو الذي لا يقبل بوجود الترادف في كلام الله تعالى؟
[24]– الانسداد التاريخي لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي، هاشم صالح، أنظر من ص 43-44طبعة دار الساقي بيروت