د. محمد تركي كتوع – دكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله مدرس في أكاديمية باشاك شهير
محمد علي النجار – محرر مجلة مقاربات
قال بعض الحكماء: (إذا أردتَ أن تحصد بعد شهور، فازرع قمحًا، وإذا أردت أن تحصد بعد سنوات فازرع شجرًا، وإذا أردت أن تحصد بعد جيل فازرع رجالًا)([1]).
منذ مطلع الرسالة المحمدية نجد النبي صلى الله عليه وسلم يوزع وقته في خدمة الدين، ما بين الدعوة إليه والعناية بأتباعه لتنشئتهم قادةً وقدوات للمسلمين الجدد، كثيرون أولئك الدعاة والقادة الذين يحرصون على الكم على حساب الكيفية في كل زمان وفي كل ميدان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قمة التوازن بين الكم والكيف، فتراه يعتني بكل فرد من أصحابه عناية خاصة ويوجهه إلى الميدان الذي يتلاءم مع تكوينه النفسي والشخصي، حيث وجه بعضهم ليكونوا قدوة في التجارة، وبعضهم قدوة في الحرب، وآخرين قدوة في السياسة أو العمل الاستخباراتي أو حتى العمل الإنساني أو الاجتماعي والأخلاقي.
إن هذه التربية الخاصة والعناية الخاصة التي تلقاها كبار الصحابة رضوان الله عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ هي السر الحقيقي في قوة الإسلام وسرعة انتشاره، فلم تمر إلا سنون قليلة حتى تحول الأعراب إلى قادة، ورعاة الغنم والإبل من أبناء القبائل البعيدة عن الحضارة والمدنية إلى معلمين وحكماء ينشرون الحضارة والعلم والمدنية والأخلاق الفاضلة بين أبناء الأمم الأخرى.
إن الأزمات التي تعانيها أمتنا اليوم كثيرة وكبيرة، ولعلنا نستطيع اختصارها بكلمة “الضياع”، نعم إننا نعاني من الضياع في كل ميادين الحياة النظرية أو العملية الدينية أو الدنيوية منها، والسبب في ذلك غياب الدليل الصادق والقدوة الحسنة والقائد المخلص والخبير، ولعل صناعة القيادة والقدوة الحسنة في كل ميادين الحياة سيكون الطريق الذي يأخذ بيد الأمة إلى الرشاد والصحوة المنتظرة.
مفهوم صناعة القدوة اليوم:
إن مفهوم الصناعة اليوم لم يعد قاصرًا على الصناعات الخفيفة ولا حتى الثقيلة، سواء المعدنية منها أو غيرها، وإنما تعدَّى الأمر إلى صناعة السينما، وصناعة الخبر، وأخيرًا وليس آخرًا صناعة الرمز أو النجم، وليس المقصود بصناعة النجوم أو الرموز أو القدوة الحسنة هنا، الصناعة المادية المحسوسة، أي أن يكون هناك مصانع تقدِّم للمجتمع قوالب بشرية جاهزة ومسيّرة في اتجاه وطريق معين، بل المقصود إيجاد البيئة السليمة النظيفة لاحتواء هؤلاء الأشخاص، الذين تميّزوا ببعض الخصائص والصفات الحسنة، وتوجيههم التوجيه الصحيح، والتدرج معهم في مراقي الكمال والاستقامة، وإزالة العقبات والعوائق التي تعترض طريقهم، ورعايتهم ماديًّا ومعنويًّا وإعلاميًّا، فصناعة القدوة الحسنة عملية متكاملة تتضافر في سبيلها جهود بشرية عديدة، ليكون بعد ذلك قدوة حسنةً للآخرين، وشخصيّةً قويَّةً مؤثِّرةً في سلوك الناس وتوجهاتهم.
حرص الشريعة الإسلامية على تربية القدوة الحسنة:
كما اهتمَّت الشريعة الإسلامية برعاية جميع المجتمعات الإنسانية عموما؛ فقد أولت عناية فائقة للمواهب التي يتمتع بها بعض الأفراد خصوصًا، وعملَتْ على تنميتها وتقويتها، ليكون هؤلاء الأفراد النابغون قدوةً للناس في فعل الخير والدلالة عليه، ورموزًا في الاستقامة والصلاح والعطاء، وأداةً فاعلةً ومؤثِّرَةً في إصلاح المجتمع وتقويم سلوكه وتصويب قيمه وأفكاره.
وإن للإسلام في ميدان صناعة القدوة الحسنة منهجًا متكاملًا تتضافر فيه الأوامر الربانية مع التوجيهات النبوية، تضاف إلى ذلك تجربة إسلامية عريقة تمتد من زمن السلف الصالح إلى عصور النهضة الإسلامية الممتدة لأكثر من ألف سنة من عمر هذه الأمة، وسأعرض لها هنا بما يجلي جوانبها.
أولا: المنهج الربَّاني في تهيئة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام
لا شكَّ أنَّ مقام النبوة والرسالة هو مقام اصطفاء واجتباء من الله تعالى، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، ولكن بعد الاصطفاء كان هناك الإعداد والتهيئة للقيام بأعباء الرسالة، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لأنبيائه كل الوسائل المادية والأسباب الدنيوية التي تؤهلهم ليكونوا قدوة حسنة للناس من بيئة وعائلة وظروف اجتماعية وصفات خلقية وخُلقية، فلم يولد نبي من سفاح ولا من نسب سيئ، وما من نبي إلا ورعى الغنم ليتعلم من صنعته بها رعاية البشر، وقد تعرضوا في حياتهم لكثير من المواقف التي تمتحن نفس الإنسان وتعلمه الصبر والحلم والحكمة أخلاقًا متممة لما فطروا عليه من الخير والبركة، وبعد كمالهم البشري أوحى الله إليهم بالنبوات، ولم تكن المعجزات وخوارق العادات إلا تتميمًا للعناية الربانية الممتدة لسنوات من حياتهم قبل تلقي الوحي، فلم يكن الأنبياء طفرة في كون الله يصلح أحدهم للنبوة وحمل أعبائها في يوم وليلة، إذ ليس لذلك وجود في قوانين الله في كونه – وإن كان قادرا على ذلك – فقد جرت عادة الله في خلقه إذا اصطفى عبدًا أن يهيئ له أسباب تكوينه الحسية والمعنوية كاملة، ثم يمنَّ عليه بعدها بالنبوة، فيتعرض قبل النبوة لأنواع شتى من الاختبارات والمصاعب التي تصقل النفوس وتهيئها لقيادة البشر إلى طريق الحق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل))، ولقد نوّه البيان الإلهي بهذا الإعداد للأنبياء في آيات كثيرة، واسمع ما قاله الله تعالى في تهيئة موسى عليه السلام وإعداده للقيام بمهمته في الدعوة والتبليغ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي* إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي* اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 38- إلى-44]. ولنا مع هذه الآيات الكريمة وقفتان:
الوقفة الأولى: مع قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].
يُقَال: صَنَع فلَان جَارِيَته إِذا ربَّاها، وَفُلَان صَنِيع فلَان إِذا ربَّاه وأدَّبه وخرَّجه([2]).
قال الطاهر بن عاشور: (وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ)([3]).
قال صاحب الظلال في بيان مناسبة هذه الآية: (إنَّ موسى عليه السلام ذاهبٌ لمواجهة أقوى مَلِكٍ في الأرض وأطغَى جبَّار، إنَّه ذاهبٌ لخوض معركة الإيمان مع الطغيان، إنه ذاهبٌ إلى خِضمٍّ من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر، ثم مع قومه بني إسرائيل، وقد أذلَّهُم الاستعباد الطويل وأفسدَ فطرتهم وأضعفَ استعدادهم للمهمَّة التي هم منتدبون إليها بعد الخلاص، فربُّهُ يُطْلِعُهُ على أنَّه لن يذهب غَفْلًا من التهيؤ والاستعداد، وأنَّه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد)([4]).
الوقفة الثانية: مع قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41].
(يُقَالُ: اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا اتَّخَذَهُ صَنِيعَةً، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّنْعِ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الشَّخْصِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ، فَيُقَالَ هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ)([5])، وَالْمَعْنَى: (اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي لِتَتَصَرَّفَ عَلَى إِرَادَتِي)([6])، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (هَذَا تَمْثِيلٌ لِمَا خَوَّلَهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ، مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ الْمُلُوكُ بِجَمِيعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصَ؛ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَلْطَفَ مَحَلًّا فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ)([7])، وقال الراغب الأصفهاني: (الاصْطِنَاعُ: المبالغةُ في إصلاح الشيء)([8]).
وكذلك الحال في قصة داود: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [سورة البقيرة: آية 251] وسليمان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [سورة الأنبياء: 79] وعيسى {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران: آية 46] وكذلك حال يوسف وإسماعيل وصالح عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء، فقد تربوا تربية خاصة.
وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه بقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [سورة الضحى: آية 6-8].
عندما يفهم الإنسان المسلم المنهج الرباني في ظهور الرسل والأنبياء والمخلصين يعلم أنه من العبث بمكان أن تنتظر أمة ضائعة قادة مخلصين يظهرون كطفرة في التاريخ ليغيروا أقدارها، يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: آية11] وهذا هو الحق، فنحن نؤمن بأن نخبة القدوة الصالحة والقيادة السوية لها أكبر الأثر في خلاص الأمم الضائعة ونهضتها – فقد أثبتت ذلك التجربة – ولكن ما يجب أن نؤمن به أيضًا أن الأمة بجمعها، وبكل المصلحين فيها مكلفة بالإعداد لظهور النخبة وتهيئة البيئة الحاضنة لهم، والجيل الذي يحمل القابلية للسير من خلفهم ليتغير قدرهم، وهذا معنى قول ربنا: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: آية11].
ثانيًا: المنهج النبوي في صناعة القدوة:
لقد كان النبي صلى الله عليه يعتني بكل فرد من أصحابه عناية خاصة، فيرشده إلى عيوبه، ويشجعه فيما يحسن، ويشهره بين الناس بما فيه من خير، ويستر ما فيه من نقص إلا لمصلحة، مما جعلهم يستجيبون لكل نصائحه وتوجيهاته، وقد تخرج على يده مجموعة من خيرة القادة ورواد الحضارة والإنسانية في التاريخ البشري، وقد كانوا قَبلًا رعاة إبل وغنم أو محاربين بسطاء أو تجارًا محليين، ولم يكن ذلك عن تكلف أو تخطيط، بل بما فُطر عليه من أخلاق وصفات كاملة تفيض على العالم كله.
إن المتمعن في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الرجل القدوة يلحظ مجموعة من السبل الدقيقة والحكيمة التي توصل الإنسان إلى أن يكون قدوة حسنة وإنسانًا يتمتع بأعلى صفات الكمال، وسأعرض هنا لمجموعة من تلك السبل النبوية.
تهيئة البيئة والصحبة الصالحة:
كي تتم عملية إعداد القدوة لا بدَّ لذلك من بيئة خاصة تتم عملية التكوين فيها، ويتحصل فيها على المناعة الكافية، فلا يمرض أو يسقط عند أول هواء فاسد أو لقاء أو موقف سيئ أو امتحان عملي أو فتنة، وهذا ما فعله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عندما جمع الرعيل الأول من المسلمين في أعظم بيئة حاضنة في تاريخنا الإسلامي، ألا وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، أعظم مدرسة للتنشئة التربوية لإعداد الرموز([9])، وقد تابع النبي صلى الله عليه وسلم عملية صناعة البيئة الصحية في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية من خلال ربط المهاجرين بالأنصار، ووضع قواعد المجتمع السليم الذي يتخذ من المسجد النبوي وقواعد الرسول الحكيم قانونًا يحتكمون إليه، ومن نصائحه معالمَ يهتدون بها، وقد عزل هذه البيئة عن المحيط الموبوء، من خلال نهيهم عن قراءة صحف اليهود أو تقليدهم للمشركين أو التواصل مع أقاربهم المحاربين للدعوة أو المشركين إلا ضمن ضوابط خاصة نزل القرآن بها وفصل النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكانت البيئة شبه معزولة، وبقي التواصل خارج البيئة بمقدار ما يكتسب أفرادها المناعة من الأمراض الاجتماعية المحيطة بهم، وإلا فإن العزل التام للبيئة الحاضنة تصل بأفرادها إلى نتائج خطيرة ومدمرة لا حاجة لنا بها، وهذا ما على المربين والتربويين معرفته اليوم، إن العزلة الزائدة عن المجتمع وأمراضه تؤدي إلى نتيجة قريبة جدًا من الاختلاط التام به، فالحكمة مطلوبة في ذلك.
الاهتمام بتنوع الأجيال في المجتمع الواحد:
من أسس صناعة القدوة الحسنة في المنهج النبوي الاهتمام بعدة أجيال من المؤمنين، ونستطيع أن نقسمها إلى ثلاثة أجيال:
الأول: جيل الكهول والشيوخ، وقد أولى بهم النبي صلى الله عليه اهتمامًا لا بأس به، وكان فيهم نسبة قليلة من قادة الصحابة أمثال: سلمان الفارسي وأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وعثمان بن مظعون.
الثاني: جيل الشباب الذي يضم عليًّا وجعفرًا وبقية العشرة المبشرين بالجنة وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل.
الثالث: جيل النشء الصغير، ويمثله أنس وعائشة والحسن والحسين وأسامة بن زيد وقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة وأنواعًا شتى من العلوم.
بهذه الطريقة أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجيال من القدوة، الأول منهم كان ركيزة الدولة، والثاني كان فيه مستقبل الدولة القريب وجنودها المخلصون وحملة رسالتها، وهم الذين نقلوا الدين والحضارة وحملوا الأمانة خمسين سنة أخرى، وجيل الناشئين الذي حملها إلى نهاية القرن، وقد خرَّج كلُّ جيلٍ من هذه الأجيال جيلًا لاحقًا قادرًا على حمل أمانة الدين الإسلامي التي شملت كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمة المسلمة.
وهذا ما يجب علينا اليوم في منهجنا لصناعة القدوة الحسنة، أن نهتم بكل من لديه القابلية لقدوة الناس سواء كان رجلًا كبيرًا أو شابًا في مقتبل العمر أو طفلًا ناشئًا، وإن كان الشباب هم أكثر فئة تستحوذ على الاهتمام لكثرة المهام الملقاة على عواتقهم، ونرى في سلوكنا الاجتماعي المعاصر مخالفة خطيرة في هذا المجال؛ إذ يتم الاهتمام بجيل الأطفال على حساب الشباب وهذا ما يُحدث خللًا متواصلا في نهضتنا المنشودة.
مدح أصحابه بخير ما فيهم:
من استراتيجيات صناعة القدوة التي نجدها في المنهج النبوي إشهار المتميزين والمؤهلين للقدوة والقيادة بخير ما فيهم، فقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يمدح كل صحابي بخير ما فيه ليعتني بما وهبه الله من مكارم وليكون قدوةً لغيره في هذه الخصال، قال بدر الدين العيني([10]): (والنبي صلى الله عليه وسلم، خصَّ كل واحد من كبار الصحابة بفضيلة واحدة وصفهُ بها، فأشعرَ بقدْرٍ زائدٍ فيها على غيره)([11])، وإن الأحاديث التي تشير إلى هذا المنهج النبوي في صناعة القدوة الحسنة كثيرة، نذكر بعضًا منها:
– عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))([12]).
– عَنِ عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ))([13]).
– عن أَبَي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: ((ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ))([14]).
الرفق بالنصح:
مما تميز به منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تنشئة الجيل الرفق بالنصح، وحرصه على أن يعي المقابل ما يرشده إليه ليكون على قناعة تامة به، وهذا ما يكشف خطأنا في تعليم طلابنا بالقسوة والصراخ والضرب كما هو الحال في بعض المناطق الإسلامية.
إن الصراخ والضرب والتخويف لا يخرِّج قدوات للمجتمع، ولكن الفكر النظيف والرفق في التأديب هو ما ينتج القدوة الحسنة، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ)) ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ((([15]) نعم إن هذا النصح الهادئ المليء بالعطف والشفقة هو الذي فَتَق العَظَمة المختبئةَ في قلب أنس وروحه رضي الله عنه.
وإن هذا لا يعني أبدًا أن نتخلى عن القسوة والعقوبة، ولكنه يعني ألا نجعل القسوة منهجًا تربويًّا، إن غضب المربي وترهيبه لطلابه في بعض الحالات قد يوجه المتعلم ويضبطه وينفعه، ولكن اعتماد هذا الأسلوب فقط ليس كافيا لينضج الإنسان ويجعل منه قدوة حسنة، بل قد ينقلب على ما تعلمه في أقرب فرصة، ويكون قدوة سيئة لمن بعده، وذلك لأنه تربى على أن يفعل الصواب خوفًا لا عن قناعة وإيمان بوجوب الاستقامة.
إرشاد المجتمع إلى تقدير أهل السيادة:
على المجتمع أن يعرف لأهل السيادة والفضل والقدوة قدرهم، وعلى المربين أن يعلموا الناس الحفاظ على هذا الاحترام لينتظم المجتمع ولا تسوده الفوضى، فقد يخطئ القدوة إذ هو بشر، ولكن لا ينبغي لهذا الخطأ أن يدفعنا لإغفال فضله، ففي حادثة خلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟))، فما أوذي بعدها(([16].
وكان عبد الله بن مسعود قدوة في هذه الأمة، على الرغم من النقص الخَلقي الذي كان عليه من قصر في القامة وضعف في البنية، وقد حماه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتراء عليه عندما ضحك بعض الناس منه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تكْفؤُه، وكان في ساقه دقَّة، فضحك القومُ من دِقَّة سَاقي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما يضحككم؟)) قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد))([17]).
تعتاد المجتمعات المتخبطة على إسقاط القدوة عند ظهور أول نقص خلقي أو خلقي فيه، بينما تحافظ المجتمعات المنتظمة على قادتها وتحميهم، ولعل من أهم ما عانت منه الثورة السورية في سنواتها الماضية إسقاط القدوات بسبب أو بغير سبب أو عند أول خطأ، مما دفع كثيرين من أهل الخبرة والقدوة في كل ميدان إلى اعتزال العمل لأجل الشعب والوطن.
منحهم الثقة الكافية لينموا مهاراتهم:
من الاستراتيجيات التي نجدها في السنة النبوية منح المتميزين من الصحابة الثقة وفسح المجال لهم لتطوير مهاراتهم وخصالهم الحسنة التي سيورثونها للناس من بعدهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة بعث الشام لأسامة بن زيد رضي الله عنه، وهو الجيش الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وكان قبل ذلك قد أوكل إليه مهمات قتالية عدة ووجهه من خلالها إلى الصواب دائمًا.
ومن الحوادث الشهيرة في ذلك إرسال الصحابي الشاب معاذ بن جبل رضي الله عنه عاملًا على اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: ((كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟)) قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ))([18]).
الاستماع لهم وتقدير آرائهم:
بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع قادة المجتمع وقدواته كان يستمع لآرائهم وأفكارهم حول المواضيع المختلفة، ويستشيرهم فيما يعرض لهم من الأمور، فكان دائمًا يقول: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) ينتظر منهم أن يفكروا ويعبروا عن أفكارهم بصراحة ووضوح، ليكون هذا الأمر منهجية حياة للمجتمع المسلم، ولا يكون مجتمعًا متمحورًا حول آراء شخص واحد مستبد في كل صغيرة وكبيرة فيما يحسن وما لا يحسن، لقد كان الرسول الخاتم قدوة لأصحابه في المرونة والاستشارة وعدم جبر الناس على ما لا يقبلون، وقد أورث هذه الصفات لكبار الصحابة من بعده، ولا أدل على ذلك من استشارتهم في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، واستماعه لهم في اعتراضهم على توزيع الغنائم على المسلمين الجدد بعد فتح مكة.
لا نستطيع أن نصنع قدوة حسنة في ظل الخوف والاستبداد وتقزيم الإنسان والاعتداء على كرامته، إذ الإنسان القدوة يحتاج إلى الكرامة الإنسانية أولا حتى يستطيع تأدية مهمته في الحياة بمهنية وأخلاقية سامية.
في العقود الخمسة الماضية من تسلط حزب البعث على السلطة في بلادنا عمل الحزب على صناعة الرجال عبر الخوف والفساد والتدريب على الانتهازية، وطغيان كل ذي سلطة على من تحت يده، فأفسد المجتمع السوري وغير نظرته إلى الحياة، حتى غدا قادة الناس في الكثير من مجتمعاتنا السورية هم أصحاب المناصب والمال والقدرة على الظلم والفساد دون خوف، وكان من أخص صفاتهم السيئة إظهار القوة على من تحت أيديهم، والذلة والاستكانة لمن فوقهم، مما جعل أجيالًا عدة من شعبنا غير قادرة على الحوار أو الاجتماع إلا في ظل الخوف والسلاح، وعلى فرض أنهم اجتمعوا فإن نسبة ممن تخلقوا بأخلاق البعث يمنعون استمرار اجتماع الناس على الخير بما صُنعوا عليه من فساد أو انتهازية وقدرة على إسقاط المخلصين وصناعة المكائد للتخلص منهم، وقد عانى شعبنا الأمرَّين من هؤلاء، كما عانت الثورة في كثير من مؤسساتها الكثير الكثير من هذه المنتجات البعثية المصنعة في شعبه الحزبية ومؤسساته الموبوءة.
تحميلهم مسؤولية أخطائهم:
صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر الرجال القدوة ويحميهم من تطاول المجتمع عليهم ويستمع لآرائهم ويمدحهم بخير ما فيهم، ولكنه في مقابل ذلك كان يحاسب المخطئ منهم ويحمله مسؤولية أفعاله؛ إذ الأمر يحتاج إلى الحكمة في الترغيب والتوجيه والمكافأة أو الترهيب والعقوبة لكي لا تغتر النفس الإنسانية وتنسى حدودها فتسقط.
كان أبو ذر رضي الله عنه قدوةً في المجتمع الإسلامي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب منه أشد الغضب عندما عير بلالًا بسواده وقال له: ((يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية))، وغضب على الحبِّ بن الحب أسامة بن زيد عندما قتل رجلًا مشركًا نطق بالشهادة والسيف فوق رأسه، وغضب منه حينما شفع في إسقاط حد السرقة عن المرأة المخزومية حتى تمنى أسامة لو أسلم من جديد ليغفر الله له خطأه، وسحب الراية من يد سعد بن عبادة حينما قال في فتح مكة: (اليوم يوم الملحمة)، وقبل ذلك في غزوة أحد استمع لهم وخرج إلى المعركة تحت رغبتهم وحملهم مسؤولية اختياراتهم وكانت التكلفة قاسية لم ينسوها طوال حياتهم في السلم أو الحرب.
توجيههم إلى تحصيل أنواع من العلوم والمعارف:
إن من أهم ما يميز القدوة الحسنة إضافة لأخلاقه وحسن سلوكه العلم، فيكون قدوة لمن حوله وهاديًا لهم ومنقذًا من الجهالة، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أيما حرص على حث صحابته الكرام على التعلم، ليكونوا قدوة في العلم كما هم قدوة في الدين والأخلاق، فحرص من مطلع تأسيس الدولة المسلمة أن يتعلم الناس صغارًا وكبارًا، فجعل فداء الفقراء من أسرى بدر تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحث زيد بن ثابت على تعلم اللغة، وحث عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين على تعلم كثير من الوصفات الطبية، وطلب عائشة لمشاهدة الأحباش في المسجد لتتسلى وتنقل لمن بعدها أساليب حربهم، ودربها على الفتيا حتى غدت مخزنًا من مخازن العلوم الإسلامية، ودعا لأبي هريرة بقوة الذاكرة فكان إذا سمع حديثًا لم ينسه، وكان حَثُّهُ على العلم شاملًا صحابته الكرام كلهم رضوان الله عليهم أجمعين.
أساليب نبوية أخرى في صناعة القدوة:
إن ما ذكرته آنفا من الأساليب النبوية في صناعة القدوة الحسنة يمثل أبرز معالم هذا الطريق الدقيق، ولدى البحث والتفتيش الدؤوب في السنة النبوية سنجد أساليب أخرى مهمة استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه وورثها للعلماء والمربين من أمته، من هذه الأساليب: تدريب صحابته الكرام على القيادة والتنظيم بتحميلهم بعض المسؤوليات كما فعل مع النقباء في بيعة العقبة، وكما كان يوجههم في كل سرية أو بعث يرسله، حتى غدا كل فرد من أمراء المسلمين في عصره قادرا على تأسيس دولة وصناعة جيش وقيادة أمة.
ومنها أيضا: تدريبهم على الطاعة والانتظام وتحمل المسؤولية في حال كانوا رؤساء، كما عودهم على الطاعة في حال كانوا مرؤوسين، وجعل همهم في كلا الحالين رضا الله، وفي هذا الباب كثير من الأحاديث التي تحث على طاعة الأمير في غير معصية الله ولو كان عبدًا أسود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي القيادة بعض صغار السن بوجود الكبار تهذيبًا لنفوسهم، لتتعلم الطاعة والعمل لله ولخدمة دينه وعباده تحت كل الظروف والشروط، وهذا من أهم ما يجب أن يتوفر في القدوة الصالحة اليوم، ألا وهو العمل الصالح والاستقامة تحت كل الظروف والضغوط، لا أن يكون قدوة حسنة عندما يعطيه المجتمع ما يريده من جاه وقيادة، ويسوء حاله حينما يفقد منصبه، وكم في مجتمعنا من علماء وقادة قدموا خدمات جليلة عندما أُعطوا ما يتمنون من جاه واحترام، ولجؤوا إلى السلبية والانكفاء أو إلى تجاوز الحد واتهام الآخرين وتنقص جهودهم حينما فقدوا المناصب التي يشغلونها أو لم يحصلوا على ما كانوا يصبون إليه، والأنكى من ذلك كله أن يلجؤوا إلى الخيانة والعمل مع الأعداء، ولهذا الباب نماذج معروفة في ثورتنا السورية بين القيادات السياسية أو العسكرية أو المدنية، نسأل الله الإخلاص والثبات.
ثالثا: منهج السلف في صناعة القدوة:
يعتبر منهج الخلفاء الراشدين في صناعة القدوة الحسنة صورةً عن منهج النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتطبيقًا عمليًّا لما تعلموه منه، وكان كذلك الأمر بالنسبة لباقي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذتهم من التابعين.
لقد حرص الخلفاء الراشدون على اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحفاظ على القدوة الحسنة والتنبيه على أهميتها في قيام الأمة، وقد وردتنا في ذلك الآثار الكثيرة، من ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان جالسًا بين أصحابه يومًا فقال لهم: «تَمَنَّوْا»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، وَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ زَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: «تَمَنَّوْا» فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: «أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ»([19])، وكان يقول: «وَدِدْتُ أَنَّ لِيَ رَجُلًا مِثْلَ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ أَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ»([20]).
ومما اشتهر عن عمر رضي الله عنه إجلاسه عبد الله بن عباس رغم حداثة سنه في مجلس شورى شيوخ المسلمين؛ ليفيدهم برأيه وينضج فكره بمجالستهم وسماع أحاديثهم، وكذلك يجب أن نفعل، نجلس النابهين من شبابنا مع أهل الفضل والعلم ليتعلموا منهم ويقتدوا بهم ويستنيروا بالاستماع إليهم.
ولقد أورد الخطيب البغدادي بعضًا من هذه الأحاديث ثم قال: (يُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيهِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى مَرَاتِبِ أَصْحَابِهِ فِي الْعِلْمِ، وَيَذْكُرَ فَضْلَهُمْ، وَيُبَيِّنَ مَقَادِيرَهُمْ، لِيَفْرُغَ النَّاسُ فِي النَّوَازِلِ بَعْدَهُ إِلَيْهِمْ، وَيَأْخُذُوا عَنْهُمْ)([21])، وكذلك كان قبله الصديق أبو بكر رضي الله عنه في العناية بالرجال القدوة وتمييزهم عن غيرهم وتعريف الناس بهم وحمايتهم، قال يومًا معرفًا بمكانة القعقاع، ((صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل))([22])، وعندما تُكِلم في القائد العسكري خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: ((والله لا أشيم سيفًا سله الله على عدوه))([23]).
صناعة القدوة عند علماء المسلمين:
لقد قام علماء الأمة وأئمة الدين برعاية ما جاء من نصوص شريفة في هذا الباب، وحرصوا على التوجيه إليها والتنبيه عليها، ونجد ذلك منثورا في كثير من كتب السنة وشروحها أو كتب الفقه وأصوله وغيرها.
لقد فصّل الإمام الشاطبي في هذه الصناعة التي تندرج ضمن فروض الكفاية، والتي تتعلّق بها مصالح الأمَّة، وذكر ما يجب على أولياء الأمور والقائمين على التعليم من رعاية تلك المواهب وملاحظة الجوانب التي يتميّز بها كلُّ فرد، ليتمَّ إعداده اعدادًا مناسبًا، ليكون قدوة في هذا المجال والتخصّص الذي يبرع فيه، ليكون بعد ذلك أداة نفعٍ ونهضة للأمة، فكان من جملة ما قاله: (وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِم الِالْتِفَاتُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ؛ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسْبِهَا وَيُرَاعُونَهَا إِلَى أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا؛ حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، إِذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ، وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ، فَإِذَا فُرِضَ -مَثَلًا- وَاحِدٌ مِنَ الصِّبْيَانِ، ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إِدْرَاكٍ، وَجَوْدَةُ فَهْمٍ، وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ -وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ- مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ، فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا إِلَى بَعْضٍ فَيُؤْخَذَ بِهِ، وَيُعَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ رَبَّانِيُّو الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فمال بِهِ طَبْعُهُ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ تُرِكَ وَمَا أَحَبَّ، وَخُصَّ بِأَهْلِهِ؛ فوجب عليه إِنْهَاضُهُ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ إِهْمَالٍ لَهُ وَلَا تَرْكٍ لِمُرَاعَاتِهِ… وَبِذَلِكَ يَتَرَبَّى لِكُلِّ فِعْلٍ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةِ قَوْم؛ لِأَنَّهُ سُيِّرَ أَوَّلًا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ، فَحَيْثُ وَقَفَ السَّائِرُ وَعَجَزَ عَنِ السَّيْرِ؛ فَقَدْ وَقَفَ فِي مَرْتَبَةٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ زَادَ فِي السَّيْرِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ الْكِفَائِيَّةِ، وَفِي الَّتِي يَنْدُرُ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهَا؛ كَالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْإِمَارَةِ؛ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِيمُ أَحْوَالُ الدُّنْيَا وَأَعْمَالُ الْآخِرَةِ)([24]).
قال ابن مسكويه: (والشريعة هي التي تقوّم الأحداث، وتعوّدهم الأفعال المرضيّة، وتعدُّ نفوسهم لقبول الحكمة، وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسية، بالفكر الصحيح والقياس المستقيم، وعلى الوالدين أخذهم بها وسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات، من الضرب إذا دعت إليه الحاجة أو التوبيخات أو الأطماع في الكرامات أو غيرها، مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات، حتى إذا تعوّدوا ذلك، واستمروا عليه مدة من الزمان كثيرة، أمكن فيهم حينئذ أن يعلَّموا براهين ما أخذوه تقليدًا، وينبّهوا على طرق الفضائل واكتسابها والبلوغ إلى غاياتها بهذه الصناعة التي نحن بصددها)([25]).
فالمسلمون في العصور المتقدِّمة لم يُغفِلوا هذه الصناعة أو يهملوها، بل اهتموا بها اهتمامًا كبيرًا، تطبيقًا وتنظيرًا، وكان هذا الأمر قائمًا ومشاهَدًا في المدارس الفقهية والتربوية وغيرها من المجالات.
فقد رأينا المدارس والمذاهب الفقهية منذ نشأتها ركَّزتْ على صنع هؤلاء الرجال، الذين يحملون فِكر هذه المدرسة وينقلون علومها إلى الأجيال المتعاقبة، بل إنَّ المدارس التي لم تهتمّ بهذه الصناعة وتؤسِّس لها؛ اندرستْ وانطوى ذكرها وأثرها، وذلك بسبب غياب هؤلاء الرجال الذين يحملون لواءها وينشرون علومها وآثارها.
نبدأ مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى الذي اعتنى بصناعة تلامذته النجباء الموهوبين، فكان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، والشيباني محمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، الذين دوّنوا المذهب وحفِظوا كثيرًا من آراء إمامهم وأقواله وفتاويه، فكانوا قدوةً في ميدانهم، ومرجعًا في مدرستهم.
ثمَّ رأينا هذا الاهتمام نفسه بهذه الصناعة عند المدرسة المالكية، متمثّلة بمؤسِّسها الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، حيث كان من تلامذته: عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، الذين نشروا مذهب إمامهم، وكانوا قدوة ومرجعًا في مدرستهم.
ثمَّ جاءت مدرسة الشافعية، فكان من تلامذة الإمام الشافعي في العراق: الزعفراني الحسن بن محمد، والكرابيسي الحسين بن علي، وكان من تلامذته في مصر: المزني إسماعيل بن يحيى، والبويطي يوسف بن يحيى، والمرادي الربيع بن سليمان، ففي كلّ مكان استقرَّ وأقام فيه الإمام الشافعي كان يصنع رجالًا، ويربِّي أئمّةً، يحملون فقهه وينشرونه في البلاد.
وعلى هذا النهج سارت مدرسة الحنابلة، فكان من تلامذة الإمام أحمد بن حنبل ولداه عبد الله وصالح، ومن تلامذته أيضًا الأثرم أحمد بن محمد، وأبو بكر المروذي، ولقد برعَ هؤلاء الرجال الذين تربَّوا على مائدة الإمام أحمد بن حنبل في نقل فقهه ونشره بين النَّاس.
وهذا النهج في صناعة الرجال القدوة كان ملحوظًا ومعتبَرًا عند أرباب السلوك والتربية، فعلى سبيل المثال كان أبو الحسن الشاذلي صاحب طريقة في التربية والسلوك، ومع ذلك لم يُعرَف عنه أنَّه ألَّفَ كُتبًا، وكلّ ما وصل إلينا من آثاره العلمية ما نقله أصحابه عنه من وصايا وأقوال مأثورة وأدعية وحِكَم، حيث كان الشيخ يرى أنَّ كتبه هي تلاميذه، وأنَّه خيرٌ له أن يَخرُج على يديه تلميذٌ يفهم علومه وأقواله وحكمه من أن يؤلِّف كتابًا، قد يقرأه البعض أو لا يقرؤونه، وقد يفهمه البعض ويعجز عن فهمه البعض الآخر، ولقد سُئِلَ الشيخ أبو الحسن مرة: «لم يا سيدي لا تضعُ الكتب في الدلالة على علوم القوم؟»، فأجاب الشيخ: «كُتُبي أصحابي».
وهكذا نجد أنَّ الأساس الذي من خلاله حافظتْ المذاهب الفقهية والمدارس التربوية على وجودها واستمرارها وسعة انتشارها هو تهيئة هؤلاء الرجال من تلاميذ الأئمة وتربيتهم والاهتمام بهم، ليكونوا خير خلف لخير سلف، بينما كان الفناء أو الضياع مصير المدارس الأخرى التي لم تعتن بهذه الصناعة، إذ لم يكن لها تلاميذ يحملون أفكارها وينشرون علومها.
إن المدارس التي لا تجهد بتلقُّف الرجال والمواهب واستثمارها والعناية بها تموت بموتِ مؤسّسها، وهذه الصناعة هي التي تمنح الحياة للمدارس العلمية وتكفل استمرارها وتحافظ على بقائها، وما رأيناه وعايناه من تاريخ المدارس العلمية يطرد على الأمم والمجتمعات، فالمجتمع الذي لا يعتني بتربية أجيال صالحة يقتدي بها الناس وتحمل مسؤولية الأمة ورسالتها على عاتقها تضمحل وتختفي عند أول عاصفة اجتماعية أو سياسية وفي التاريخ شواهد كثيرة على ضياع أمم وشعوب شتى.
وممن تكلم في هذا الباب ابن خلدون في “مقدمته” حيث عقد فصلا بعنوان: (فصل في أنَّ التعليم للعلم من جملة الصنائع)([26]) حيث عد التعليم والتربية صناعة من الصنائع.
يقول ابن مسكويه: (هذه الصناعة، هي أفضل الصناعات كلِّها، أعني صناعة الأخلاق، التي تُعنَى بتجويد أفعال الإنسان بحسب ما هو إنسان… وجب أن تكون الصناعة التي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان، حتى تصدر عنه أفعاله كلّها تامة كاملة بحسب جوهره، ورفعه عن رتبة الأخسِّ التي يستحقُّ بها المقت من الله، والقرار في العذاب الأليم، أشرف الصناعات كلها وأكرمها، وأما سائر الصناعات الأُخَر فمراتبها من الشرف بحسب مراتب جوهر الشيء الذي تستصلحه، وهذا ظاهر جدًا من تصفُّح الصناعات؛ لأن فيها الدباغة التي تُعنَى باستصلاح جلود البهائم الميتة، وفيها صناعة الطب والعلاج التي تهتمُّ باستصلاح الجواهر الشريفة الكريمة، وهكذا الهمم المتفاوتة التي ينصرف بعضها إلى العلوم الدنيئة، وبعضها إلى العلوم الشريفة)([27]).
إن ما ذُكر هنا عما كتبه علماء المسلمين هو غيض من فيض مما كتبوا ودونوا في هذه الصناعة، وإلا فإن للمسلمين تصانيف كثيرة اعتنت بتربية القدوة الصالحة وتوجيهه ومن أشهرها كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، الذي يعلم الإنسان الإخلاص في القول والعمل والالتزام بكل ما جاء في تعاليم ديننا من حث على المعالي الدينية والدنيوية، وكثيرا ما نعى الإمام الغزالي في كتابه أولئك الفقهاء الذين كانوا قدوة سيئة لمجتمعاتهم وساهموا في تكريس الفساد عوض العمل على مواجهته.
يتحدث الإمام عن دور فقهاء السوء في إفساد المجتمع فيقول: (ان فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام، فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم، ولذلك قيل: ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء) ([28])، ويقول في موضع آخر: (وبالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم) ([29]).
واقع صناعة القدوة في عصرنا:
إن واقع صناعة القدوة في العالم العربي والإسلامي اليوم يعاني من ضياع مرير لا يختلف كثيرا عما تعيشه الأمة في ميادين الحضارة الأخرى، فمن جهة نفتقد القدوة الصالحة الذي تطابق أفعاله أقواله ومبادئه إلا ما رحم ربي، ومن جهة أخرى لا نجد العناية الكافية من الحكومات والمؤسسات المدنية لرعاية أصحاب الكفاءات والمواهب وتهيئتهم لخدمة الأمة والعمل لأجلها تحت كل الظروف.
وأخطر شيء في هذا الباب ما تعمل عليه وسائل الإعلام المرئية من تنظيم مسابقات للغناء والمواهب التافهة، حيث تقصد هذه البرامج إلى جعل الفنان أو الفنانة الفلانية المثل الأعلى لأبنائنا وأطفالنا، وليس فلان أو فلانة في أغلب الأحيان إلى أناس من أحط المستويات الأخلاقية والمهنية في المجتمع شهرتهم ممارسة السفالة الأخلاقية وارتياد الحفلات الداعرة.
نعم في مقابل ذلك نجد كثيرا من المؤسسات الدينية والمدنية تعتني بتربية الطلاب وتنشئتهم على العلم والأخلاق، ولكن هذه المؤسسات غالبا ما تعجز عن تحقيق الأهداف التي بنيت لأجلها إلا في حدود ضيقة ونسب محدودة، ويعود السبب في ذلك إلى الخلل في محورين من محاور التربية الثلاثة، إذ إن عملية التربية وتهيئة القدوة تقوم على أركان ثلاثة الأول التلميذ والثاني المربي والثالث التربية، وغالبا ما يقع الخلل في فقدان المربي الصالح الذي يوافق قولُه عملَه وعملُه قولَه، أو في اتباع أساليب تربية خاطئة نتيجة لتصورات مشوهة عن الدين والحياة والأهداف المناطة بالجيل المسلم، وكثيرا ما يتم الاعتناء بالموهوبين وأصحاب القدرات لخدمة أفكار وأهداف جماعة معينة عوض العمل لأجل الأمة الواحدة، ومن عاش الواقع وعرفه يجد الخلل لا يعدو أحد هذين المحورين.
الخاتمة:
لقد كان هذا البحث محاولة لإضاءة هذا الجانب المهمل في واقع مؤسساتنا التربوية اليوم؛ لصالح مجموعة من التصورات الاعتباطية والعشوائية أو الغربية عن فن التربية وصناعة الرجال.
وإننا مطالبون اليوم بنشر الوعي بقضية التربية الصالحة وصناعة القدوة وفق أسس علمية صحيحة مستندة إلى توجيهات الشرع الحكيم، والتجارب العلمية المعاصرة أو السابقة التي وردتنا عن أسلافنا.
التوصيات:
والحمد لله رب العالمين
([1]) فتحي، د محمد، “فنّ صناعة الرموز خطوة بخطوة”، (ط1، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 1429ه، 2008م)، ص: 4
([2]) الأزهري، محمد بن أحمد الهروي، “تهذيب اللغة”، تحقيق: محمد عوض مرعب، (ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2001م)، 2: 24
([3]) ابن عاشور، “التحرير والتنوير”، 16: 218
([4]) سيد قطب، “في ظلال القرآن”، 4: 2334
([5]) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف بن علي، تحقيق: صدقي محمد جميل (بيروت: دار الفكر، 1420هـ) 7: 334
([6]) الشوكاني، “فتح القدير”، 3: 432
([7]) الزمخشري، “الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل”، 3: 65
([8]) الراغب الأصفهاني، “المفردات في غريب القرآن”، ص: 493
([9]) محمد فتحي، “فنّ صناعة الرموز خطوة بخطوة”، ص: 21
([10]) الإمام العيني محمود بن أحمد بن موسى، أبو محمد بدر الدين الحنفي: أصله من حلب، ولد في عينتاب وتوفي بالقاهرة، (762-855 هـ) انظر: [السيوطي، “نظم العقيان”، 1: 174].
([11]) العيني، “عمدة القاري شرح صحيح البخاري”. (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، 16: 238
([12]) رواه الإمام أحمد في المسند، رقم ((12904))، وابن ماجه، رقم ((154)) والترمذي، رقم ((3790)) والحاكم في المستدرك، رقم ((5784))، واللفظ لابن ماجه.
([13]) رواه الترمذي، رقم الحديث ((3805))، والحاكم في المستدرك، رقم الحديث ((4456)).
([14]) رواه البخاري، رقم الحديث ((3746)).
([18]) رواه أبو داود والترمذي وأحمد.
([19]) رواه الحاكم في المستدرك، رقم الحديث ((5005)).
([20]) أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد، “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”، (السعادة، بجوار محافظة مصر،1394هـ ،1974م)، 1: 250
([21]) الخطيب البغدادي، “الفقيه والمتفقِّه”، 2: 290
([22]) ابن الأثير الجزري، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد، “أُسُد الغابة في معرفة الصحابة”، تحقيق: علي معوض، عادل عبد الموجود، (ط1، دار الكتب العلمية، 1994م)، 4: 390
([23]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، حديث اليمامة ومن شهدها، رقم 34414
([24]) الشاطبي، “الموافقات في أصول الفقه”، 1: 286
([25]) ابن مسكويه، “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق”، ص: 45
([26]) ابن خلدون، “مقدمة ابن خلدون”، 1: 543
([27]) ابن مسكويه، “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق”، ص: 46