تحميل البحث كملف PDF
د. أسامة جادو – عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الزهراء
قد يبدو الحديثُ عن ظاهرة الوضع في الحديث الشريف قديمًا مكررًا، فقد عَرَض لها في كل عصر علماء أجلاء، وتصدوا للمغرضين الكذَّابين وفضحوهم وكشفوا عنهم الأستار، لكنَّ الكذبَ على خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرة مستمرة وفكرة خبيثةٌ لا ينقطع من الوجود أتباعها التعساءُ، فضلا عن تجدد الوسائل والحيل وتحديث البرامج والأساليب التي من خلالها تنشط ظاهرة الوضع في الحديث الشريف.
لم تعد صورةُ القصَّاص الكذَّاب الذي يجلس وسط ثلة من الدهماء يقصُّ عليهم أقاصيص الخيال وحكايات الأوهام وينسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الرائجة اليوم، بل حل محلها برامج فضائية ومسلسلات تلفازية وصحف ومجلات وعشرات الآلاف من المواقع وصفحات الشبكة العنكبوتية ووسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، إذ يستخدمها الوضاعون ويبثون من خلالها الأباطيل، ويروجون الكذب والأحاديث الموضوعة التي تستهدفُ عقيدة الإسلام وشريعته، وتنال من قدسيته ووسطيته، وتهزُّ قناعات المسلم بأصول دينه ومبادئ شريعته.
لهذا أقولُ إنَّ الوضعَ في الحديث الشريف والكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقطع ولا يتوقف، بل يتجدد ويتطور ويتحور، ومن ثمَّ ينبغي أن ينبري لهؤلاء الوضَّاعين جمهرةُ العلماء المخلصين، فيتصدون لهم ويكشفون زيفهم ويُحذرون الأمة وينبهون أبناءها ويذودون عن شريعة الإسلام وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
الحديث الموضوع: هو المختلقُ المصنوعُ المكذوبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على غيره من الصحابة أو التابعين، فحقيقةُ ما يُسمى بـ “الحديث الموضوع” هو كلامٌ يصنعه ويرتبه الكذَّابون ثمَّ ينسبونه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويروونه عنه، وكثيرًا ما شاع في زماننا نسبة بعض الحِكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بعض صحابته الكرام، أو السطو على بعض الحوادث الموضوعة أو الضعيفة الواردة في كتب الأدب أو التاريخ والتزيد فيها ونشرها بين الناس على أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته الكرام.
نشأة ظاهرة الوضع
كانت بداية ظهور الوضع في أواخر عهد الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم بدأت الفتنةُ بين الناس، ثم زاد الأمر عقب مقتله وشاع، يقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله: (وقد بدأ ظهورُ الوضع في سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة على عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين تنازع المسلمون شيعًا وأحزابًا، وانقسموا سياسيًّا إلى خوارج وشيعة، وركبوا -كما قال ابنُ عباس رضى الله عنهما- الصعب والذلول في الإكثار من التحديث للأهواء، فكان الانتصار للمذاهب منذ أول الأمر أهم الأسباب الداعية إلى وضع الأخبار واختلاق الأحاديث)([1]).
أسباب وضع الحديث
تنوعت أسباب الوضع وتعددت، يقول الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني رحمه الله في نزهة النظر: (والحامِلُ للواضِعِ على الوَضْعِ إِمَّا عَدَمُ الدِّينِ كالزَّنادقةِ، أَو غَلَبَةُ الجَهلِ كبعضِ المتعبِّدينَ، أَو فَرْطُ العَصبيَّةِ كبعضِ المُقلِّدينَ، أو اتباعُ هوى بعضِ الرُّؤساءِ، أَو الإِغرابُ لقصدِ الاشتِهارِK وكُلُّ ذلك حَرامٌ بإِجماعِ مَن يُعْتَدُّ بهِ…، واتَّفقوا على أَنَّ تَعَمُّدَ الكذبِ على النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن الكبائِر،. وبالَغَ فيه أَبو مُحمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فكَفَّرَ مَن تعمَّدَ الكَذِبَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ)([2]).
ضوابط كشف الحديث الموضوع ومعرفته:
للحديث الموضوع ظلمة يُدركُها العلماء، قال الإمامُ ابنُ القيم رحمه الله: (وَالأَحَادِيثُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَيْهَا ظُلْمَةٌ وَرَكَاكَةٌ وَمُجَازَفَاتٌ بَارِدَةٌ تُنَادِي عَلَى وَضْعِهَا وَاخْتِلاقِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْل حَدِيثِ ((مَنْ صَلَّى الضُّحَى كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا)).
وَكَأَنَّ هَذَا الْكَذَّابَ الخبيث لم يعلم أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَو صَلَّى عُمْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يُعْطَ ثَوَابَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ)([3]).
وطرقُ معرفة الحديث الموضوع وعلاماتُه تتلخصُ في نوعين:
النوع الأول: علامات في راوي الحديث، كأن يشتهر بالكذب أو يعترف بذلك، أو تشير الدلائل إلى ذلك كأن يكون رافضيًّا يروي حديثا في ذم الصحابة، أو أن يخالف ما يرويه ما هو ثابت تاريخيًّا.
النوع الثاني: علامات في متن الحديث المروي ذاته تدل على وضعه وكذبه، وقد ذكر الإمامُ ابن القيم –رحمه الله تعالى– في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) عشرين علامة لكشف كذب المروي دون النظر في سنده، سماها ضوابط معرفة الحديث الموضوع، منها ركاكة الحديث، ومخالفته لما ثبت في القرآن، وتكذيب الحس له كحديث (الْبَاذِنْجَانُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)، أو تضمنه وعيدًا شديدًا على أمر يُعدُّ من الصغائر أو المكروهات، أو وعدًا عظيمًا على عمل يسيرٍ أو من المندوبات.
خطر ظاهرة الوضع على العقيدة والشريعة في الوقت الراهن:
على الرغم من زيادة وعي المسلمين وانتشار الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية التي تشكل حائط الصد الأول ضد الجهل والتحريف، إلا أنَّ خطر ظاهرة الوضع يتضاعف بوتيرة متزايدة مع انتشار القنوات الفضائية والكتب المدسوسة وانتشار وسائل الإعلام وتعددها وتنوعها وكثرتها، وزاد الطين بلة اعتماد مئات الملايين من المسلمين على وسائل التواصل الاجتماعي واعتمادها مصدرًا للمعلومات والمواعظ الدينية ومرجعًا للتعرف على الأخبار والأحكام تمامًا كما يتلقون وصفات إعداد وجبات الطعام وصناعة الحلوى في المنزل.
وتكمن المشكلة هنا في مدى الثقة التي تتمتع بها وسائل الإعلام وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي مثل: فيس بوك وتويتر وتلغرام، ومحركات البحث الإلكتروني، مثل: جوجل وياهو وفايرفوكس، وبرامج القنوات الفضائية التي يقدمها إعلاميون بارزون مثل توك شو.
ومن حيث يشعر الناس أو لا يشعرون أصبح العقل البشري أسيرًا للإعلام العابر، وقديمًا قيلَ: الناسُ على دين ملوكهم، واليوم نقول : الناسُ على دين إعلامهم ووجوهه الشائعة، وليست مبالغة أن نقول : إنَّ قوة تأثير وسائل الإعلام المتعددة والمتنوعة صارت أقوى من سحر هاروت وماروت، فالإلحاحُ والتكرارُ على المتلقي أشدُّ من هوى النفس، وكما تطور كل شيء في عالمنا فقد تطورت وسائل الوضَّاعين وأساليبهم، واستفادت من تقدم وسائل الإعلام ومنصاته.
وأوجز القول هنا في بيان خطر ظاهرة الوضع في عصرنا وآثارها على العقيدة ثم على الشريعة، وأختم ببيان واجبات الأمة علمائها وأولي الأمر منها وأفرادها في التصدي لظاهرة الوضع والوضَّاعين، وذلك من خلال العناوين التالية:
أولا: خطر ظاهرة الوضع على عقيدة المسلمين وآثارها.
ثانيا: خطر ظاهرة الوضع على الشريعة الإسلامية وآثارها.
ثالثا : واجبات الأمة تجاه ظاهرة الوضع.
أولًا: خطر ظاهرة الوضع على عقيدة المسلمين وآثارها
كانت العقيدةُ الإسلاميةُ الهدفَ الأولَ لسموم الوضاعين وحملاتهم، وما زالت العقيدةُ مستهدفة من قِبَلهم، فالزنادقةُ لم يجدوا أمامهم مجالًا للانتقام من الإسلام إلا إفساد عقائده وتشويه محاسنه وتفريق صفوف أتباعه وجنوده، وكان التزيد في السُنَّةِ أوسع ميادين الدَسِّ والإفساد لديهم، فجالوا فيه وصالوا متسترين بالتشيع أحيانًا، وبالزهد والتصوف وبالفلسفة والحكمة أحيانًا أخرى، وفي كل ذلك إنما يتوخون إدخال الخلل في بناء ذلك الصرح الشامخ الذي أقامه نبيا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقضى الله أن يظل أبد الدهر قائمًا سليمًا، يعارك الحوادث وترتد أمامه معاول الهدامين إلى نحورهم خزايا نادمين. ويمكن تلخيص خطر الوضع على العقيدة في النقاط التالية:
1- كثيرٌ من أكاذيب الوضاعين كانت تؤسسُ للترويج للمذاهب والفرق الباطلة وتعمل على انتشارها وسط جماهير المسلمين، ولولاها ما ترعرعت هذه الأفكار ولا تلك الفرق، ولَمَا وجدت لها نصيرًا مدافعًا عنها أو متبنيًا لها، (فالشيعةُ لولا ما وضعوه لما كان لمذهبهم هذا الانتشار والبقاء، وكذا المرجئة والقدرية والخوارج وأضرابهم، لولا ما وضع في تأييدهم لما لقيت مذاهبهم قبولًا من الناس ولا سيما العامة الذين لا معرفة لهم بالأحاديث ونقدها)([4]) ولا شك أنَّ بقاء هذه الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة يعني استمرارية هذه المذاهب والفرق الضالة والمضيّ في نشرها بين عامة المسلمين.
2- لا يخفى على عاقل أثر هذه المذاهب والفرق الباطلة على وحدة الأمة الإسلامية وجمعيتها، وكيف أنَّ هذه الفرق تعمل على إضعاف الأمة وتمزيقها، وتؤدي إلى تشرذمها وانقسامها، فتضعف بعد قوة، وتتمزق بعد وحدة، فيطمع فيها خصومها، وينقض عليها أعداؤها، وإنَّ الفتن التي تجتاحُ عالمنا الإسلامي اليوم وحالة التمزق والتحارب بين دوله وأبنائه إنَّما هي نتاج وجود هذه الفرق الضالة والمذاهب الفاسدة التي تدعم وجودها بنشر الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة، يقول العلامة أبو شهبة رحمه الله تعالى : (من آثار الوضع السيئة في الحديث أن ترعرعت في ظله فرق سياسية ومذهبية ما كان لها أن تقوم على قدميها لو لم يكن لها هذا السند من الأحاديث، فالشيعة لولا ما وضعوه لما كان لمذهبهم هذا الانتشار والبقاء، وكذا المرجئة والقدرية والخوارج وأضرابهم لولا ما وضع في تأييدهم لما لقيتْ مذاهبهم قبولا من الناس ولا سيما العامة الذين لا معرفة لهم بالأحاديث ونقدها. ولا ننسى ما كان لقيام هذه المذاهب من أثر كبير في تفريق وحدة المسلمين وتمزيق شملهم ومعاداة بعضهم لبعض حتى ذهبت ريحهم وأضعفتهم أمام عدوهم، ولا تزال آثار ذلك باقية إلى اليوم، وعلى ما بذل من التقريب بين المذاهب والآراء في القديم والحديث فقد عز توحيد الصفوف، وتعذر التوفيق وبقي الانقسام)([5]).
3- من أشد أخطار ظاهرة الوضع على العقيدة تهوينها بعض أصول العقائد وتأصيل بعض الفروع والخلط على الناس في مسائلها، يقول الدكتور عمر الأشقر: من خطر الأحاديث الموضوعة (أن توهنَ العقيدة الإسلامية الصافية الراقية التي تغرس في النفوس تعظيم الله تعالى وتوقيره، وتجلب للنفس المؤمنة مخافة الله وهيبته ومحبته وتعلق القلوب به، ومن هذه الأكاذيب المختلقة –كما ورد في الأسرار المرفوعة ص 204– ما وضعه كذاب زنديق ونسبه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيتُ ربي يومَ النفر على جملٍ أورق عليه جُبَّةٌ من صوفٍ أمام الناس)، فمثل هذه الأكاذيب يُرادُ منها هزُّ العقيدة وزلزلتها في نفوس المؤمنين، إنَّ مؤلفَ هذا الإفك سار مسار واضعي أساطير اليونان في آلهتهم، وأراد أن يهبطَ بالإيمان بالله إلى حضيض جاهلية الأمم السابقة، إنَّ هؤلاء أرادوا أن يجعلوا الله بشرًا يركب الجمال ويلبس الملابس ويسابقُ النَّاس)([6]).
4- ومن الآثار السيئة والعلل القادحة المترتبة على الوضع غرس الكسل والتهاون في أداء الواجبات الشرعية، والتكاسل عن التنافس في عمل الخيرات والتسابق في ميادين الطاعات؛ اتكالًا على أحاديث موضوعة وآثار مكذوبة من شأنها صرف المسلمين عن العمل الصالح والعبادة اكتفاءً بتحليهم بوصف ورد في هذه الأحاديث المكذوبة، من ذلك تناقلهم لحديث موضوع جاء فيه: (الكريمُ حبيبُ الله وإن كان فاسقًا، والفاسقُ السخيُّ أحبُّ إلى الله من عابد بخيل) أو (من بارك للناس في هذا الشهر الفضيل -شهر رجب- يحرم الله عليه النار) ومنها ما نسبوه كذبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: (من فاتته صلاة في عمره ولم يحصها فليقم في آخر جمعة من رمضان ويصلِّ أربع ركعات بتشهد واحد، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة القدر 15 مرة وسورة الكوثر كذلك، ويقول في النية نويت أن أصلي أربع ركعات كفارة لما فاتني من الصلاة، وقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي كفارة أربعمائة سنة، حتى قال علي كرم الله وجهه: هي كفارة ألف سنة، قالوا: يا رسول الله، ابن آدم يعيش ستين سنة أو مائة سنة، فلمن تكون الصلاة الزائدة؟ قال: تكون لأبويه وزوجته وأولاده فأقاربه وأهل البلد…) وهذه كلها كذبٌ يعارضُ قواعد الشرع ومقاصده التي وردت صريحة في الكتاب والسنة النبوية الصحيحة.
إنَّ مثل هذه الأحاديث الموضوعة تمثلُ دعوة صريحة للتهاون في أمر الشرع وأداء الواجبات الشرعية، وتمهد لانتشار تيار الفسق والمجون، فلا عليك طالما كنتَ سخيًّا أو تبارك للناس في شهر رجب، ولا عليك إن تركت الصلاة ما دمت تصلي أربع ركعات في آخر جمعة من شهر رمضان.
5- ومن الآثار الخطيرة للوضع التي تنالُ من عقيدة الأمة ما يبث الوهم في نفوس المسلمين، فيعتقدون في أمور غريبة ويبنون عليها تصرفات، وقد وضح شيخنا الجليل أبو شهبة ذلك بقوله : (من المفاسد تعطيل الناس عن العمل النافع بإيهامهم أن العمل في وقت كذا أو السفر في يوم كذا مضر أو شؤم ونحو ذلك، مثل ما روي كذبًا: (من أحب كريمتيه أو حبيبتيه فلا يكتبن بعد العصر) فقد يغتر به بعض من لا يعرف فيفوت على نفسه خيرًا كثيرًا بعدم الكتابة بعده، ومثل ما روي كذبًا: (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) فقد يتشاءم باعتقاده بعض الناس، فيعرضون عن أسفارهم وقضاء حاجاتهم فيه، فيفوتهم الخير الديني أو الدنيوي)([7]).
ثانيًا: خطر ظاهرة الوضع على الشريعة الإسلامية وآثارها.
لا يخفى أنَّ الشريعة مستهدفة بالطعن والتشويه وإلصاق النقائص والمعايب بها، فيحرص الوضاعون على الطعن في الشريعة وإيهام الناس تناقضَها وإظهار مخالفتها للعقل ومصادمتها للفطرة السليمة ومناقضتها لمنطق الأشياء، وهدف ذلك تنفير البشرية من الشريعة الإسلامية وإيجاد هوة سحيقة بين المسلمين وشريعتهم، ومن ذلك:
1- وضع أحاديث شنيعة منكرة تمجُّها العقولُ السليمة وتنفر منها الفطر السوية، وذلك مثل أحاديث الخرافات والإسرائيليات والأباطيل التي تعارض ثوابت الإسلام وقواعد الدين وقيمه وحضارته.
2- وضع الأكاذيب والخرافات والسخافات التي تصادم العقل أو الحقائق العلمية، الأمر الذي يَصِم الإسلام بالتخلف والمسلمين بالجهل، ولا شك أنَّ هذه الأحاديث المكذوبة يُرادُ منها تشويه الإسلام وشريعته لوصمها بالجهل المطبق والتخلف المقيت.
3- من الآثار الهدامة للوضع على الشريعة الإسلامية أنَّ انتشارها وسط جموع العامة وأنصاف المتعلمين أتاح الفرصة لخصوم الإسلام وأعدائه للطعن في صلاحية الإسلام وشريعته، (فقد فتحت هذه الموضوعات لأعداء الدين من القساوسة والمتعصبين من المستشرقين منفذًا ينفذون منه إلى الطعن في الإسلام وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وجلُّ اعتمادهم على الروايات الباطلة والإسرائيليات الزائفة التي ذكرها المفسرون والمؤرخون ومن على شاكلتهم ممن ليسوا من أهل الحديث الذين يميزون بين غثه وسمينه، وقد أمكنهم بمثل هذه الأباطيل أن يجعلوا حجابا بين الإسلام وبين من يريد أن يعتنقه من الغربيين، كما أمكنهم أن يُدخلوا حظيرتهم بعض الذين لم يتسلحوا بمعرفة حقيقة الدين وحقيقة هذه الروايات الدخيلة على الإسلام، فساروا على نهجهم في الاستخفاف بالدين والغض من شأن الأحاديث النبوية، وقد وردت هذه الفرى باسم العلم حينا وحرية البحث حينا آخر، وقد قام بعض علماء الأزهر الشريف وغيرهم بجهاد مشكور في هذا الباب إلا أنه جهاد مهما بلغ فهو جهد المقل، وكنا نود من القائمين على شؤون الأزهر العتيد أن تكون لهم خطوات إيجابية في هذا بنشر الكتب والرسائل القيمة في هذا الباب، وإرسال رجال من المتضلعين في الدين والعارفين برد هذه الطعون إلى بلاد الغرب، وتأليف جماعة من شأنها العمل على دحض هذه الأباطيل والكشف عن زيفها بشتى الطرق والوسائل)([8]).
4- من الآثار الخطيرة لهذه الظاهرة وخاصة في عصرنا الحاضر أنها تؤسس لوجود تيارين متناقضين وسط جماهير المسلمين:
التيار الأول: تيار يعتقدُ في هذه الأكاذيب ويتخذها دينًا يتعبد به ويدافع عنه ويروج له، وقد زاد خطره بتبنيه من قِبل كثيرين من المغرضين أو الغافلين الجهلة أو راغبي الخير بلا وعي أو علم، وصار له دعاة مشاهير وقنوات فضائية وصحف سيارة ومجلات ومواقع وصفحات وحسابات تملأ الفضاء الإلكتروني، ويجتذب ملايين المتابعين الذين تزداد حماستهم يومًا بعد يوم، لا سيما أن هذا النمط من التدين السلبي لا يكلف صاحبه كثيرًا من المشاق، ولا يسدد ضرائب الصدع بالحق والنطق به.
التيار الثاني: هو تيار ينظر إلى تلك الأساطير والخرافات والأكاذيب نظرة احتقار لقائلها وأتباعها، ويعمم ذلك ليدخل فيه الشريعة والدين، وينتهي إلى تقرير أنَّ الإسلام خرافات، والدين أفيون لتخدير الشعوب، ويدعي أنَّ الخرافات وُجِدت مع وجود الدين وسارت معه حرفًا بحرف، وهذا التيار لديه مشكلات مع الدين بوصفه فكرة ومعتقدًا ومع التدين بصفته سلوكًا، ويتخذ هذه الأحاديث الموضوعة تُكأة لتبرير موقفه المصادم للدين، ويبرر لنفسه ولجمهوره وأتباعه أن لا نفع يُرتَجى من الدين، ودليل ذلك شيوع تلك الخرافات والأكاذيب وسط المتدينين.
وهذان التياران مما لا ينبغي لنا التهاون في التصدي لهما، وكلاهما يتغذى على الخرافات والأكاذيب والأحاديث الموضوعة والقصص المصنوعة.
ثالثًا: واجبات الأمة تجاه هذه الظاهرة
جدير بالذكر التأكيدُ على قِدم ظاهرة الوضع والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأنها ليست جديدة، وقد تصدى لها من قبل أئمةٌ أعلامٌ وجهابذةٌ أفذاذ، وقَّعوا في سجل الشرف، شرف الدفاع عن عقيدة الإسلام وشريعته الغراء، شرف المنافحة عن سُنَّة النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلم، شرف الحفاظ على نقاء الشريعة وصفائها وفطرتها السوية، وقد سبقت الإشارة إلى بعضهم، وصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((يحمل هذا العلم من كل خلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) يقول الشيخ أبو شهبة رحمه الله: (لقد قيض الله سبحانه وتعالى لحفظ الأحاديث والسنن وتمييز صحيحها من ضعيفها وجيدها من زائفها علماء كثيرين في كل عصر ومصر تجردوا وانقطعوا لهذا العمل الجليل، ومن يوم أن ظهرت حركة الوضع في الحديث وهؤلاء العلماء في جهاد مستمر مضن في مقاومة هذه الموضوعات وتنقية السنة منها، ولما قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! قال: “تعيش لها الجهابذة” وذكر الذهبي في طبقات الحفاظ أن الرشيد أخذ زنديقًا ليقتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال: ((أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها، فيخرجانها حرفًا حرفًا)) وقال ابن المبارك: ((لو همَّ رجلٌ في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: كذَّاب)) ففي هذه النقول وغيرها ما يدل على يقظة أهل الحديث ورجاله للموضوعات، والعمل على إبطالها وعلى تعقبهم الوضاعين ورد كيدهم في نحرهم، وقد كان من فضل الله على الأمة الإسلامية أن رزقها من الحفاظ البارعين والنقاد البصيرين ما لا يحصون كثرة)([9]).
إن أئمة العلم الذين سبقونا قد أبلوا بلاءً حسنًا، وأدوا واجباتهم نحو سُنَّة نبيهم صلى الله عليه وسلم وما فرطوا أو تكاسلوا، ونحن نشهدُ لهم بذلك، والله تعالى حسيبهم، ولكن ما يزال الخطرُ باقيًا بل يشتدُّ ويتسع نطاقه لا سيما في ظل التطور الكبير الذي يشهده عالم التقنيات ووسائل الاتصال وقوة برامج التواصل الاجتماعي وسيطرتها وبروز سطوتها في عالم البشر اليوم.
إنَّ الأمة مدعوةٌ اليوم إلى الانتفاض على حملات أعداء الدين، وأداء دورها والقيام بواجباتها تجاه هذه الهجمات الشرسة التي تنطلق من الكذب والوضع في السُّنَّة النبوية المطهرة، وكما كان لسلف الأمة الكرام جهودٌ طيبة مباركة في هذا الميدان ينبغي أن يكون للأمة اليوم جهودٌ مماثلة تعادل الحملات المحمومة التي تبغي النيل من عقيدة الإسلام وشريعته.
هذه دعوة للعلماء والدعاة المتخصصين ليقوموا بواجباتهم ودورهم المنشود، إنها دعوة للمتخصصين في مجالات الإعلام وحقول التواصل الاجتماعي ومبرمجي التقنيات الحديثة للنهوض والتشمير عن سواعد الجد دفاعًا عن العقيدة والشريعة، وليقدموا العون والدعمَ الفنيَّ للعلماء والدعاة حتى يتمكنوا من أداء واجباتهم في تصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام وعقيدته وشريعته ونظمه وقيمه، كما يقع على عاتق الجامعات وكليات الشريعة والدعوة والمعاهد العلمية الشرعية والمناشط الدعوية عبء كبير وواجبات عظيمة تجاه هذه الحملات الشرسة التي أشرنا إليها آنفًا.
ولا يمكن إعفاء ولاة أمور المسلمين -من حكام ووزراء وإداريين- من المسؤولية الكبرى عن صد الهجمات التي تستهدف الدين، فمن واجبهم العمل على نشر المفاهيم والأفكار الصحيحة عن الإسلام وعقيدته وشريعته، ومنع أصحاب البدع ومروجيها من تصدر المجالس، فلا يُفسح لهم في الإعلام، ويلاحق الجهلة الذين يمتهنون الكذب على الدين، فالمسلمون أمام طامة كبرى تكمن في إنفاق بعض الجهات على دعاة البدع ومروجي الخرافات من خزائن الدول المسلمة، بل إنهم ليغدق عليهم من خيراتها لتحقيق مآرب أخرى، والله سبحانه ندعو أن يُبرمَ لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ، يُعزُّ فيه أهلُ الحق والطاعة، ويُهدى فيه أهلُ المعاصي والبدع، ويُحكم فيه بشريعة الإسلام، وتنتشر فيه دعوته في الآفاق حتى لا تكونَ فتنة ويكون الدينُ كلُه لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم النَّاس الخير وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) علوم الحديث ومُصطلحه: صبحي الصالح، ص (266).
([2]) نزهة النظر شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني، ص 67، طبعة عام 2015م – دار الكتب العلمية.
([3]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف، الفصل الخامس.
([4]) الوسيط لأبي شهبة، ص 340.
([6]) الوضع في الحديث النبوي، ص 70.