تحميل البحث كملف PDF
د. حسن الخطاف أستاذ المنطق والثقافة الإسلامية بجامعة قطر، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.
تقوم فكرة الدراسة على ضرورة التكامل الموضوعي في التعامل مع السنة النبوية بوصفها وحدة متكاملة؛ ذلك أنَّ التعامل مع السنة حكم، والحكم يحتاج إلى البحث عن كل ما يتعلق به، فالقاضي مثلا عندما يحكم على إنسانٍ بالسفه أو الجنون، أو عندما يحكم أحدنا على إنسانٍ بالأمانة أو الخيانة أو الصلاح لا يكون ذلك انطلاقا من واقعة واحدة بل يكون مبنيا على ملاحظة كل ما يرتبط بنوعية الحكم، واستنادًا إلى هذا فمن الضروري عند النظر إلى حديثٍ نبويٍّ ما أنْ يكون النَّاظر مؤهلًا للحكم أوَّلًا، وأنْ ينظر إلى جميع الأحاديث المتصلة بالقضية التي يعرض لها الحديث غير مكتف ببعضها أو عامد إلى الانتقاء.
وإنَّ النَّاظر إلى المصدرين الأساسين للدين الإسلامي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد فيهما التكامل من جميع الجوانب، وهذا من أبرز الأدلة على استمرارية هذا التشريع وصلاحيته لكل زمانٍ ومكان، فالتشريع كلٌّ متكامل ينظم علاقة الإنسان بربه وببني جنسه ومحيطه، يُبين له الحلال والحرام والخير والشر، ويعلو بفكره ويهذِّب خلقه، ويدعوه للتأمُّل والتَّفكُّر في الجانب العقلي، ويُطالبه بتلبية حاجات نفسه من الطعام والشراب والزواج والتطبيب والنوم والرياضة، ويحثه على الاستجابة لمتطلبات الروح من العبادة والذكر والتزكية، وينظِّف قلبه من الحقد والحسد والرياء، ويشجعه على مخالطة الناس ودعوتهم إلى الله تعالى بالحسنى وتحمُّل أذاهم والصبر عليهم، ولن يستقيم حال المسلم إلا من خلال التوازن بأخذ التشريع كاملًا، فالانتقاء يُخلُّ بالحكم ويبُعد السنة عن مقاصدها، وهذا ما جاءت به الدراسة لتبيّنه من خلال بعض النماذج.
الكلمات المفتاحية: السنة النبوية، الفقهاء، المحدثون، الطاعة، العدل، الحاكم، الربا.
مصطلحات الدراسة:
التكامل الموضوعي: هو القيام بعملية رصد وجمع للسنة النبوية وعدم الاقتصار على بعضها، وكذا ضرورة الوقوف عند شراحها المتعمقين في فهمها وخدمتها وعدم الأخذ منها مباشرة، ومن الواضح أنَّ الأمر ليس مرتبطًا بالسنة فقط، فقد يكون التكامل مرتبطًا أيضا بضرورة استحضار الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، ولكنَّ الذي يقصد إليه بحثنا في هذا المقام قضية التكامل بين نصوص السنة النبوية وما يقتضيه ذلك من استحضار لنصوصها.
السنة النبوية: ما صدر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من أقوال وأفعال وتقريرات، ويدخل في المعنى الذي نقصده كل ما صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام مما هو مرتبط بالحياة فكرًا وسلوكًا وروحًا وما هو مرتبطٌ بالعقيدة، وعدم الاقتصار على المعنى الفقهي القانوني أو المعنى المتبادر عند الأصوليين في ضبط العلاقة مع القرآن الكريم نسخًا وتخصيصًا وتقييدًا واستقلالًا في التشريع.
أساس منهجي: المقصود بهذا أن عملية الانتقاء خلل في المنهج، فمن ضرورات التعامل المنهجي استحضار ما يتعلق بالسنة في القضية التي نريد دراستها أو الحكم عليها، ومما لا شكَّ فيه أنَّ الخلل المنهجي يقود إلى الخلل العلمي من حيث المآل.
وتعود أسباب اختيار الدراسة إلى ما يُلحظ اليوم من عملية الانتقاء المقصودة أو غير المقصودة عند بعض الناس في بحث الأحاديث التي تتوافق مع المصلحة المستهدفة، كما نرى الانتقاء عند بعض الوعاظ جهلًا منهم بالأحاديث الأخرى أو لتحريك مشاعر المستمع والتأثير عليه في الاستجابة.
الأدلة على ضرورة أخذ السُّنة كاملة:
الأدلة على ذلك ثابتة في طبيعة التشريع المرتبط بالقرآن والسنة، فعندما ننظر إلى التشريع نجد هذه الوحدة الموضوعية فيه، وما ذاك إلا لكونه صادرًا من إله واحدٍ، فهو يذكُر الواجبات والحقوق، وفي موطن المحرمات يذكر الحلال، وعند الترغيب يذكر الترهيب، وعند الحديث عن متطلبات الروح يُذكِّر بمتطلبات الجسد والعقل… والأدلة على هذا أكثر من أنْ تُحصى، منها قوله سبحانه وتعالى في العلاقة بين الزوجين: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وفي المعاملات {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96] وعندما وصف وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام قال سبحانه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وبعد أن ذكر المحرمات من النساء قال سبحانه: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].
وفي مقام العبادة بعد أنْ بيَّن ربنا وجوب الصيام في النهار قال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهن} [البقرة: 187] وفي مقام الوعظ يجمع القرآن الكريم بين البشارة والنذارة وبين الترغيب والترهيب {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:9-10]، وإذا أردنا أن نذكر الأدلة كاملة فإننا نخرج من المقصود الأصلي للبحث، وما جاء في القرآن هنا جاء في السنة لأنَّها الدليل التفصيلي للقرآن، ولكنْ قد لا يكون ذلك الجمع بين طرفي القضية أو أطرافها في ذات الآية أو في آيات متلاحقة وإنما في أماكن متفرقة، وكما هو الحال في القرآن فكذلك الأمر في السنة.
بذور الاقتصار على جوانب مُحدَّدة من التشريع ومنها السنة النبوية:
الاقتصار على جانب من السنة دون اعتبار أجزاء القضية الواحدة بدأ منذ عصر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وكان من دوافع هذا الاقتصار زيادة الحرص على بلوغ الكمال عند المقارنة بين حالهم وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّها لم تكن هي الحال السائدة، وإنما هي حالات خاصة ببعض الصحابة اجتهادًا منهم، وقد صحح لهم عليه الصلاة والسلام هذا المفهوم الذي ركَّز فيه بعض الصحابة على جوانب محددة، فالتركيز على بعض الجوانب يؤدي إلى إهمال بعض الجوانب الأخرى، وهذا قد يؤدي إلى الخلل وعدم التوازن في العمل بالتشريع، لكن عند الرجوع إلى السنة النبوية لا نجد نماذج كثيرة من هذا، فدلَّ على أنها حالات فردية، منها قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان يكثر من قيام الليل وقراءة القرآن ((فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا))([1]).
وهذا ما كان يفعله أبو الدرداء رضي الله عنها، فقد زار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصلَّيَا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق سلمان))([2]).
وَلْننظر هنا إلى نظافة صدور الصحابة رضوان الله عليهم، فلم تجد أم الدرداء حرجا أنْ تُلمِّح بحالها لسلمان الفارسي، فالقلوب نظيفة صافية، تربَّت في مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أساسها التآخي حقيقةً لا قولًا، ولو حصل هذا في واقعنا لطلَّق الزوج زوجته، وَلَوُصفت المرأة بقلة الحياء واشتهر أمرها بين الناس، ولشكَّ الضيف بالمرأة، لكنها القلوب النظيفة التي تربَّت على يديّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومنها قصة النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: (وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قال أحدهم: (أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا)، وقال آخر: (وأنا أصوم الدهر ولا أفطر)، وقال آخر: (وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا)، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))([3]).
ومما ينبغي ملاحظته من خلال ما ذكرناه من السنة أنّه ليس المقصود هنا استقراء الحالات، بل التنويه إلى بذور المسألة.
نماذج من تجزئة السنة وعدم أخذها كاملةً
هذا الخلل في فهم النصوص الشرعية ليس مقصورًا على السنة فحسب، بل الخلل موجود أيضا في التعامل مع القرآن الكريم، ولعلنا نخصص له دراسة مستقلة في محور مناسب، ومن أنواع الخلل التي نلحظها في دراسة القرآن الكريم هو التركيز في أيامنا هذه في كثيرٍ من المراكز والمعاهد على حفظ القرآن من غير الاستعانة بمعرفة أحكامه ولو بشكل مختصر، والتركيز على هذا النوع قد يؤدي إلى الانحراف في المستقبل من جهة تطبيق النصوص على غير مرادها، ولهذا نقل المفسرون في تفاسيرهم عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يَعْلَموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة([4]).
ولا يُفهم من هذا أننا ندعو إلى عدم التحفيظ بل المقصود أنْ لا يكون الحفظ مقصودًا لذاته بمعزل عن معرفة الأحكام؛ لأن الحفظ بهذه الطريقة له أخطاره من جهة تطبيق ظواهر هذه الآيات بعيدًا عن الخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، وقد أدَّى استخدام ظواهر القرآن عن غير فهم بالخوارج إلى تكفير بعض الصحابة انطلاقًا من نصوص عامَّة، ورأينا كثيرًا من غلاة داعش يحتجُّون بالقرآن عن غير فهم وخاصَّةً الآيات التي تتضمن قضايا الولاء والبراء ومفهوم الحاكمية.
1.النموذج الأول: الاهتمام بأحاديث الترهيب أكثر من الترغيب
من الضروري في التعامل مع السنة النبوية في مجال الترغيب والترهيب عدم الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فالاقتصار على الترغيب قد يُذهِب الخشية من الوقوع في المعاصي، ويركن الفاعل إلى رحمةِ الله ناسيًا وعيده، والاقتصار على الترهيب يصنع قنوطًا من العبد تجاه ربه، ولهذا كانت هناك ضرورة للجمع بينهما، وهذا هو منهج النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه.
والذي حصل أن بعض الوعَّاظ يهتمون بالترهيب أكثر من الترغيب ظنًّا منهم أنّ الخوف هو المانع الأساسي من اقتراف المعاصي، وما دروا أنَّ محبة الله تعالى من أبرز أسباب التخلي عن المعاصي؛ لهذا تجد أحاديثهم في كثيرٍ من الأحيان عن جهنم وحرها وزمهريرها وأفاعيها وعقاربها وعن دركاتها وطبقاتها أكثر من الحديث عن الجنة ونعيمها وحورها ومياهها، وهذا الاهتمام بجانبٍ دون جانب ليس قاصرًا على جوانب الوعظ فقط بل هو موجود حتى في بيان الأحكام الشرعية عند الحديث عن المنهيات، فيتجاوز البعض الأحاديث الصحيحة أحيانًا ويلجؤون إلى مبالغاتِ بعض الأحاديث شديدة الضعف بل الموضوعة لتنفير الناس من محظورٍ ما.
يمكن أنْ نأخذ مثالًا على ذلك التنفير من الربا، فالربا محرَّمٌ في الشريعة الإسلامية وحرمتُهُ معلومةٌ بالقطع، وورد التحريم بشكل صريح في القرآن الكريم والسنة النبوية، والذي يحصل في مسألتنا التي ندرسها أنْ يترك الواعظ أحيانًا الأحاديث الصحيحة المشهورة عند المحدثين كحديث ((رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا))([5]) وحديث ((لعن الله آكل الربا وموكِلَه))([6])، ويلجأ إلى أحاديث أخرى أكثر شدة وتخويفًا، ولا يعنيه أنْ تكون أقلَّ صحة أو لم تصح أصلًا، والسعي إلى هذا هو حالة نفسية ليكون أكثر ردعًا وأكثر إشهارًا للأمر، فقد يكون أكثر تأثيرا في المنع؛ ذلك أنَّ من هُدِّد بالضرب بالعصا مثلًا ليس كمن هُدِّد بقطع اليد، وهكذا يعمل الواعظ على نفوس الناس.
ومن المعلوم في سياق الحديث عن الربا أن ثمة أحاديث كثيرة لم تصح، فيلجأ الخطيب أو الواعظ أو ناقل الحكم إلى هذه الأحاديث ويسردها تأثيرًا ولفتًا للانتباه مع رفعٍ للصوت وخفضٍ، وهزٍّ باليمين والشمال، والذي حصل معي أنَّي استمعتُ منذ عهد قريب إلى خطيب يتحدث عن خطر الربا، فلجأ إلى أحاديث تالفة، ومنها ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمَّه)) ([7]) جاء في تحقيق سنن ابن ماجه: (رجاله ثقات، وقد روي موقوفًا من وجوه، وهو الصحيح)([8]).
فهذا الحديثُ مشكلٌ إذا أخذنا به، ويتعذر التوفيق بينه وبين الأحاديث الأخرى والقواعد العامة في الشريعة، هذا مع إقرارنا بحرمة الربا ومَحْقِه وإثم فاعله وأنَّ الله تعالى قد آذنه بالحرب، فظاهر هذا الحديث يهوِّن من شأن الزنا وخاصَّةً بالأم، فكيف يكون الزنا بالأم أيسر أبواب الربا؟ وما هي أعلاها عندئذٍ، وماذا يقابله من الذنوب الأخرى؟ هذا مع ملاحظة أنّ جريمة الزنا ليست صغيرةً، وقد حذَّر الله تعالى منها في كتابه، وإذا كان الزنا بحليلة الجار جاء تاليًا للشرك بالله تعالى وقتل النفس كما في حديث البخاري وغيره أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام ” أي الذنب عند الله أكبر، قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)) قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني بحليلة جارك)) قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] “([9]) فكيف إذًا يكون الزنا بالأم التي هي أوَّل النساء المحرمات بالنص القرآني مساويًا لتعامل مالي محرم ولو كان الربا، علمًا أن المال هو المقصد الأخير من مقاصد الشريعة وهو أدنى في المرتبة من حفظ الأعراض؟
وقد ناقشتُ الخطيب بعد أن فرغ من صلاته، فقلتُ له: على الأقل راجع الحديث قبل روايته، واذكر ذلك بصيغة التضعيف والتمريض، فأخذ يجادل بأنَّ رسول الله عندما يقول حديثًا علينا أن نسكت، فقلتُ له: لو أعلم أن رسول الله قاله لما ناقشتك فيه، ومما يؤسِف أنه كرَّر في الخطبة الأخرى أحاديث ليست أقل من هذا الحديث، ونصحته مرة أخرى، فقال أنا أعرف الصحيح من غيره، وعليك أن تدرس علوم الحديث، وعندما يئست هددتهُ بأنَّي سأرفع أمره للوزارة عندها -يعلم الله- أنه صار يُخرِّج الحديث على المنبر ويقول: جاء في صحيح البخاري كذا وكذا…، وما كان يفعل ذلك من قبل، وصار ينتقي الأحاديث الصحيحة في خُطبه اللاحقة.
وليس القصد من هذا الأمر مناقشة الأحاديث الواردة في الربا أكثر من ذلك، بل القصد أن يتنبَّه الوعاظ والخطباء إلى هذا، ويأخذوا من الأحاديث أصحها، ولا يكون الخطيب أو الواعظ كحاطب ليل همُّه الوعظ والإرشاد واجتزاء النصوص من غير حكمة، ففي بعض الأحاديث التي قد تُذكر ما لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومما يؤسف له أن بعض الخطباء لا يهتمُّ بالخطبة إلا صبيحة الجمعة، وبعضهم لا يُكلِّف نفسه الرجوع إلى تخريج الأحاديث وخاصة أنّ هذا الأمر صار ميسورًا بفضل الله ثم بفضل الكُتُب الإلكترونية أو المواقع الموثوقة التي يمكن أن يأخذ منها نظرة أولية عن الحديث.
النموذج الثاني: الأحاديث المتصلة بالصبر على الحاكم
شاعت هذه الأحاديث بداية الربيع العربي على ألسنة مشايخ السلاطين، ووصل الأمر ببعض أولئك أن يطلبوا من الناس السكوت عن البغي انطلاقًا من هذه الأحاديث ولو رأوا الحاكم يزني أو يشرب الخمر علانيةً على الفضائيات.
وأكثر الأحاديث دورانا على ألسنة هذا النوع من الناس حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا ((أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله)) قال: ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان))([10]) وحديث ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها))، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: ((تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم))([11]) وحديث ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة))([12]).
نسي هؤلاء الفقهاء إذ يرون معارضة الحاكم فتنة أن ذلك التوصيف يعني أن يسكتوا ويجتنبوا الخوض في السياسة، ولا يدري الإنسان كيف يستقيم في أذهان هؤلاء توصيف نصح الحاكم الباغي أو ردعه بالفتنة التي يجب اجتنابها ثم يقفون معه يناصرونه؟! وقد كان الحري بهؤلاء -وبعضهم كانت تُشدُّ إليه الرحال- أنْ يقفوا محايدين ويجلسوا في بيوتهم ولا يكونوا بوقا للحاكم، وهذا أقلُّ شيء يُتوقَّع منهم، أما أن يخرج المتكلم واقفا مع النظام الحاكم ضد من يطالب بالحرية مستشهدًا بهذه الأحاديث وهو يحدث الناس عن الفتنة التي يجب اجتنابها؛ فهو جهل مركب بالأحاديث وبواقع الحال الذي عشناه، وتعامل انتقائي مع السنة لا يستقيم وتكاملَ نصوص السنة في هذا الباب، كما نسي هؤلاء الفقهاء أنَّ الأحاديث الواردة في هذا الباب تنهى عن نزع الطاعة وحمل السيف، وليس عن المطالبة بالإصلاح وإقامة العدل أو الخروج السلمي لطلب الإصلاح ورفع الظلم.
وليت هؤلاء يحدثوننا عن التكييف الفقهي للإعلام الذي يطالب السلطة الحاكمة بالإصلاح، أو التكييف الفقهي لخروج أشخاص يطالبون بحقوقهم؟ هل هذا يُسمى خروجا مسلَّحًا على الحاكم؟ وعلى أي أساس سُمي بذلك؟ أليس هذا الخطاب الذي يجتزئ من السنة ويرفض التعامل مع أحاديث الحاكم والمحكوم الواردة فيها بتكامل موضوعي سببًا أساسيًا من أسباب ترسيخ الظلم وصناعة الاستبداد الذي يقف خلف مجمل ما حل بالأمة من مصائب؟
ولو كانت المطالبة بالإصلاح خروجًا لوجدنا تاريخ الأمم كله مملوءًا بالخروج، ولَمَا خلت منه حقبة، وهذا كله على فرض أنّه حاكم شرعي وصل إلى السلطة بالطرق المشروعة، ومن المعلوم أنَّ الحاكم المتغلب فاسقٌ في حكمه لا تقبل له شهادة، وليست له شرعية طاعة الحاكم، وإنما نتعامل معه كتعامل المضطر لأكل الجيفة، وأحكام الحاكم المتغلب الذي ذكره الفقهاء لا تنطبق على الحاكم المتغلب في بلدنا؛ لأن الحاكم المتغلب الذي ذكره الفقهاء هو من اجتمعت فيه صفات الحاكم ولكنَّه استولى عليها ونازع غيره([13]).
تناسى هؤلاء الانتقائيون الأحاديث التي تدعو الحاكم لإقامة العدل وتحذِّره من الظلم والغش والخيانة للأمانة كقوله صلى الله عليه وسلم ((ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة))([14])، وأيُّ غشٍ أعظم من نشر الموبقات والفواحش واغتصاب الحقوق ونهب الثروات وقتل الحريات وتسليط الأقرباء على الأموال العامة وإبرام الصفقات مع أعداء الأمة، قال القاضي عياض: (فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قُلِّدَه، إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنه، أو تضييع حقوقهم أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم أو ترك سيرة العدل فيهم، فقد غشهم)([15]). ونجد في حديث مسلم- الذي لا يذكره فقهاء السلاطين- ربط الوعيد بعدم النصيحة للرعية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة))([16]).
إنّ هؤلاء الذين يجتزئون من السنة بهواهم لا يكتفون بنفاقهم أو انحرافهم، بل لا يجرؤ أحدهم على ذكر كلمة العدل خوف أنْ يُقال إنه يتحدث عن السلطة أو يعرض بالحاكم الباغي، فمثل هذا الفهم المعوج للشريعة يصنع من الأمة عبيدًا ويدفع طغاتها إلى التألُّه، كما أنه يصطدم مع كل نصوص الشريعة التي تدعو لإقامة العدل والدفاع عن المظلوم والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، يقول ابن حزم: (أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له، وإن امتنع مِن ذلك بل مِن ضربِ رقبتِهِ إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى، وإما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه أنَّ أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام)([17]).
النموذج الثالث: ذمُّ الدنيا ودعوة الناس للصبر على الفقر
ذمُّ الدنيا على الإطلاق ليس صحيحًا؛ فقد استخلفنا الله تعالى لنقيم شرعه وننشر دينه ونبني حضارة ونطعم الجائع ونكسو العريان وننفق على أنفسنا والآخرين، وكيف يكون للمسلمين عز وحضارة وهم بعيدون عن امتلاك المال والمعارف! وإذا لم يكن للمسلمين منزلة بين الناس فسيكونون عبيدًا لهم وخدمًا، وكيف يكون المال مذمومًا وفي الإنفاق أجر كبير، وكثير من الصحابة والسلف الصالح كانوا أثرياء، فإذا علمنا ذلك فنعلم قطعًا أن المذموم من الدنيا أن تكون غاية بحدِّ ذاتها دون الآخرة، وأن يستولي حبها على النفوس، وأن يكون جمع المال والثراء للكنز والاحتكار، ويتصف صاحبه بالبخل والإقتار، أو أن يكون الغنى هدفًا بحد ذاته يدفع الإنسان لكفران النعم والسخط على خالقه إن قُدِّر عليه الفقر.
والأدلة من نصوص العلماء المؤيدة لهذا الفهم كثيرة، ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي رحمه الله في كتابه الماتع (صيد الخاطر) حيث بين أنه لا يجوز التعلق بظواهر النصوص القرآنية التي تذم الدنيا كقوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] فالدنيا هي عبارة عن أرض الأقوات، وفيها الماء والهواء والمزروعات والحيوانات، ويُدفَن فيها الناس، وهذه لا تُذمُّ لذاتها لأنها سبب للبقاء، وبقاء الإنسان فيها ليعرف ربه، (فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدى زكاته، لم يُلَم؛ فقد عُلِم ما خلَّف الزبير وابن عوف وغيرهما)([18]) وذكر ابن الجوزي أدلة كثيرة على عدم ذمِّ المال وجمعه، فالدنيا إذا كانت في المباحات أو طاعة الله لم تُذم، وكيف تُذم والإنسان سيعيش فيها مالم تقم الساعة؟!
وربما تعلَّق بعضهم -كما سمعنا من بعض الخطباء على المنابر- بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيشِه فقيرًا لا يملك قوت يومه وليلته، ويستشهدون بحديث ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير))([19]) وحديث عائشة رضي الله عنها ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض))([20]).
هذه الأحاديث تصف صورة واحدة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تعطي صورة كاملة عن الحالة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي لم يكن فقيرًا بهذه الصورة بل أغناه الله سبحانه وتعالى بنص القرآن قال سبحانه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] يقول الزمخشري: (فأغناك بمال خديجة أو بما أفاء عليك من الغنائم)([21]) وكيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام فقيرًا وله نصيب كبير من خمس الغنائم والفيء؟ ولكنْ لكثرة إنفاقه -عليه الصلاة والسلام- تمرُّ عليه أيام لا يملك ما يُنفق فيُتصوّر أنه كان فقيرًا فقرًا مدقعًا، على أنَّ هذه الحال لو كانت هي حال النبي -عليه الصلاة والسلام- فليس المقصود منها التأسي ودعوة الناس إلى الفقر ورمي الدنيا، وكذلك الأمر في قضية الهجرة، فالأنبياء عليهم السلام هاجروا من ديارهم في سبيل الدعوة ولا يعني هذا أن من إيمان المسلم أن يتأسى بهم في هذه الحال فيبحث عن سبب ليهاجر، وإنما اللائق بالمؤمن أن يقتدي بالأنبياء في صبرهم إن اضطر إلى الهجرة، فيواسي نفسه بحالهم، والأحرى لو ثبت فقر النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تُعالج حالات الفقر على أنها استثناء وليست هي الأصل، فالأصل هو الغنى أو بمعنى آخر الكفاية وعدم الاحتياج، وربما يحتجُّ بعضهم بتفضيل الفقر على الغنى، وهذا لا يسلم له لما ورد من قول فريق من أهل العلم بعكس ذلك، يقول ابن رشد الجد: (إن الغنى أفضل من الفقر لقول الله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد أمرنا أن نسأله تبديل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم من المعنى، وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى، وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل ما بين ما يعد الله به من الغنى وما يعد به الشيطان من الفقر!)([22]).
ومما شاع في زماننا على أفواه فقهاء السلاطين ومن يسلك دربهم حض الناس على تفضيل الفقر والصبر عليه، وترويج فكرة أن الدنيا لا قيمة لها وأنَّ على الإنسان المؤمن أن يرضى بفقره ولا يسعى إلى الغنى وأن الثواب الحقيقي يوم القيامة، وقد يذكرون حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ((من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا))([23]) والحقيقة أن من يدعو الناس إلى الصبر على الفقر ولا يدعو الحكام إلى الإنفاق والعدالة الاجتماعية هو مُجرمٌ مشاركٌ للسلطان في ظلمه، والأحرى به أنْ يدعو المجتمع المسلم إلى استثمار خيرات الأرض والتمكن العلمي وبناء السفن والبوارج واستثمار المعادن وتحلية المياه وبناء الجيوش والعيش في الدنيا بكرامة وغنى يدفع الفرد والمجتمع إلى الإنفاق على الآخرين بدل انتظار خيراتهم ومساعداتهم الفردية أو الدولية.
النموذج الرابع: ذكر بعض الحقوق ونسيان أو تناسي الحقوق الأخرى
من الاجتزاء للسنة أيضا أن تذكر حقوق الآباء على الأبناء أو الأزواج على الزوجات أو العكس مع نسيان حقوق الطرف الآخر، فمن ذلك ترديد الآباء أحاديث تنصرُ حقوقهم كقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الكبائر فقال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور))([24]) ويتناسى الآباء الأحاديث التي تطالبهم بالعدالة والمساواة بين الأولاد كحديث بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه أنه نَحَل ابنه النعمان غلامًا دون بقية أبنائه، فقالت له زوجُه أمُّ النعمان: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله، فذهب بشير وأعلم رسول الله بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكُلَّ ولدك نحلت مثلَه؟)) قال: لا، قال: ((لا تشهدني على جور))([25]) بمقابل هذا قد يذكر الأبناء حقوقهم على الآباء ويتناسون حقوق الآباء عليهم.
ومن هذا حديث الخطباء عن حقوق الرجال على نسائهم، وحقوق الآباء على بناتهم متناسين حقوق الإناث في الإرث والتربية والتعليم، ومن هذا ما يتشدق به كثير من الرجال بذكر حقوقهم على نسائهم كحديث: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها؛ دخلت من أي أبواب الجنة شاءت))([26]) ويتجاهلون أنَّ الوصية بالنساء خيرًا كانتْ من أواخر وصاياه -عليه الصلاة والسلام- عندما قال في حجة الوداع: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله))([27]) كما لا يتذكر بعض الرجال الشرعَ إلا عندما يريد التعدد في الزواج، فيقول: الشرع أحلَّ التعدد وقد يكون غير ملتزم بأداء الصلوات الخمس، بينما لا تراه يتذكَّرُ أمر الشرع بالعدل بين الزوجات، ومن هذا ما تفعله بعض النساء من ترداد حديث عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت: ما كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: (ما كان إلا بشرًا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)([28])، وتنسى الأحاديث التي تطالبها بطاعة زوجها فيما لا يُغضب الله تعالى.
النموذج الخامس: عمل المحدث بالحديث من غير الرجوع إلى الفقهاء، أو عمل الفقيه من غير الرجوع إلى المحدثين
نظرُ الفقهاء مُختلف عن نظر المحدثين، فالمحدث ينظر إلى الحديث الذي أمامه ويحكم عليه بناء على شروط الصحة أو الحسن، فإذا لم تتحقق فيه شروط القبول يكون الحديث ضعيفًا وقد يكون موضوعا، فيقصر المحدث نظره على سند الحديث ومتنه، من غير النَّظر إلى أحاديث أخرى بينما يتجاوز نظرُ الفقيه إلى أحاديث أخرى أو إلى قواعد أصولية وفقهية وكلامية ولغوية، وهذا ما أدَّى إلى نشوء بعض العلوم المتصلة بعلم الحديث كعلم مشكل الحديث ومختلفه وناسخ الحديث ومنسوخه وغريب الحديث، وما ذاك إلا لوجود مؤثرات كلامية وفقهية ولغوية.
والعمل بالحديث يقتضي أنْ يرجع كلٌّ منهما إلى الآخر، فالإفتاء بالحديث مباشرة من غير الرجوع إلى ما قاله الفقهاء لمعرفة ما في النص من ملابسات ومعان ومناسبات يجر إلى اضطراب في الفتوى وينم عن تجهيل للفقهاء وتقزيم لجهودهم، وأشبه ما يكون حال المحدث والفقيه بالطبيب والصيدلي، فالذي يعني الصيدلي هو التوافق بين الوصفة الطبية التي يكتبها الطبيب وبين نوعية الدواء ولا تعنيه نوعية المرض، وهذا شأن المحدث الذي إذا توافرت شروط الحديث الصحيح حكم عليه بالصحة من غير التفات إلى حديثٍ آخر قد يعارضه، بينما الطبيب عليه أنْ يقارن بين نوعية المرض والدواء الذي يناسب المرض، وعليه أنْ يتأكد من تأثيرات هذا الدواء على الجسم، وهذا شأن الفقيه الذي لا يقف عند حديثٍ بذاته، وإنما ينظر إلى ما يرتبط به من نصوص أو قواعد أخرى، وليس في هذا الكلام ما يُفهم منه تفضيل الفقيه على المحدث أو العكس كما لا يصح القول بتفضيل الطبيب على الصيدلي أو العكس، إذ العلاقة بينهما تكاملية، وكلٌّ منهما في الحقيقة لا يستغني عن الآخر، أو قلْ مثلُ المحدث مثل المهندس المدني الذي يحكم –وفقا لدراسته– بصحة تشييد بناء مكوَّنٍ من مائة طابق على قطعة معينة من الأرض، وهذا بحسب الواقع لا يكفي للبدء بتشييد البناء وتنفيذ دراسة المهندس ما لم تتوفر شروط أخرى مثل رُخَصة البناء وقابلية الأرض قانونيا له وتوفر التهوية والإضاءة التي يعمل عليها المهندس المعماري.
ومن ذلك أحاديث الأحق بالإمامة في الصلاة، فمن الخطأ أنْ يأتي المحدِّث ليُخطِّئ الفقيه الذي يقول بتقديم الفقيه على قارئ القرآن في الإمامة، وقد يُتصوَّر من النَّظر المبدئي أنَّ الفقهاء خالفوا الحديث الوارد في هذا، والواقع أنَّهم فهموا الحديث في ضوء الواقع والمصلحة وتكامل النصوص، مع أنَّ هذا الفهم ليس ملحوظًا عند المحدثين، ولهذا السبب نجد الـمُـفتَى به في المذاهب الفقهية الثلاثة([29]) تقديم الأفقه على الأقرأ إذا كان يُحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وتعليل هذا أنَّ القارئ في ذلك العصر كان هو الأفقه لأنه كان مع حفظه للقرآن يتلقَّى الأحكام، فالصلاة تحتاج إلى الفقه أكثر من إتقان القرآن وكثرة السور المحفوظة، وتعليلهم هذا ليس ردًّا للحديث الذي جاء فيه ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ))([30]).
ومن الابتداع القول باكتفاء المحدث بالحديث أو أنَّ هذه المسألة أو تلك كانت من اختراع فقهاء المذاهب، وقد كان التفتيش في الحديث عند أهل الفقه جزءًا من منهج الصحابة في تعاملهم مع الحديث النبوي، وقد اشتهر ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها، من ذلك قولها: ((أعدلتمونا بالكلب والحمار؟ لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فيتوسط السرير، فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلَي السرير حتى أنسل من لحافي)) ([31]) وهي تشير بذلك إلى حديث ((يقطع الصلاةَ المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرَّحْل))([32]).
وبذلك تُدرك خطأ ما اشتهر بين بعض طلبة العلم من الأخذ بظاهر قول الإمام الشافعي: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) على عمومه، فالمقولة صحيحة لكنَّ ذلك إذا كان الآخذ فقيها وخلَا الحديث من معارض أو نسخ أو تخصيص أو تقييد، وهذا معلوم لمن له أدنى معرفة بالفقه، يقول النووي بعد ذكر المقولة السابقة: (وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أنَّ كل أحد رأى حديثًا صحيحًا قال هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي -رحمه الله- لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتبِ أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلَّ من يتصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها لكنْ قام الدليل عنده على علة فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك)([33]) وبهذا تظهر ضرورة التعامل مع السنة النبوية من جهة الفقهاء وعدم الاستغناء عن المحدثين لتحقيق التكامل الموضوعي بين أطراف السنة النبوية ومنثور النصوص المتفرقة.
وإننا لنؤكدُ ختامًا على ضرورة جمع المادة العلمية للموضوع الذي نريد إعطاء الحكم فيه، وأن يكون ذلك من المصادر الصحيحة المعتبرة، وعدم اللجوء إلى بعض الأحاديث التي تروِّج لوجهة نظرٍ وتُقصي الأحاديث الأخرى، فالشريعة كلٌّ متكامل، كما لا يصح منهجيًّا أن نلجأ إلى الأحاديث الموضوعة وشديدة الضعف وما قاربها وفي جعبتنا من الصحيح الكثير.
ومن الضروري الانضباط في تعاملنا مع حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- فهمًا وعملًا ودفاعًا عنه، وإنَّ الدفاع عنه ليقتضي إبعاد ما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغريب أنَّ ثائرة الناس تثور عندما يتم تضعيف حديثٍ صحيح، ولا تجد مثل هذه الثائرة عندما تُنسب أحاديث موضوعة للنبي عليه الصلاة والسلام في مقام الوعظ؛ فلنتعامل مع السنة الصحيحة على أنَّها كلٌّ متكامل بعيدًا عن رغباتنا الشخصية أو رغبات الآخرين، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
([1]) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به…، رقم 1159، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
([2]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر، رقم: 1968، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة الطبعة: الأولى، 1422هـ.
([3]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم: 5063.
([4]) محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي، 1/ 15، المحقق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية–بيروت، الطبعة: الأولى، 1418 هـ.
([5]) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، رقم 2085.
([6]) صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب من لعن المصور رقم 5962.
([7]) سنن ابن ماجه، أبواب التجارة، باب التغليظ في الربا، رقم: 2274، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر، دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي.
([8]) جاء في التعليق على هذا الحديث: “إسناده ضعيف لضعف أبي معشر -وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي- وقد تابعه غير واحد ممن لا يعتد بمتابعته، والذين حققوا الكتاب هم: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد – محمَّد كامل قره بللي – عَبد اللّطيف حرز الله. ورواه البيهقي بلفظ “الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم”. قال الشيخ أحمد: “هذا إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهما وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده”. شعب الإيمان: 7/363، حققه الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، أشرف على تحقيقه: مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة: الأولى، 1423 هـ – 2003 م، ورواه الحاكم وقال: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”.
([9]) صحيح البخاري، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] رقم 6861.
([10]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، 1709.
([11]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، 1843.
([12]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، رقم: 1855.
([13]) التغلُّب مفسدة تسقطُ به العدالة ولا تصح به الولاية للمؤلف https://sy-sic.com/?p=8255
([14]) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب من استُرعِي رعية فلم ينصح، رقم 7151.
([15]) شرح النووي على مسلم 2/ 166، دار إحياء التراث العربي–بيروت، الطبعة: الثانية، 1392.
([16]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل…، رقم 142.
([17]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، 4/ 133، مكتبة الخانجي–القاهرة.
([18]) صيد الخاطر ص،41، الناشر دار القلم – دمشق، الطبعة: الأولى، 1425هـ – 2004م.
([19]) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون، رقم 5414.
([21]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: الزمخشري، 4/ 768، الناشر دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407هـ.
([22]) المقدمات الممهدات: 3/ 403، حققه: الدكتور محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1408 هـ – 1988م.
([23]) سنن الترمذي، كتاب الزهد، بَابٌ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، رقم: 2346، رواه الترمذي وقال: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية”، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض، مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة: الثانية، 1395هـ – 1975م.
([24]) صحيح البخاري ، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم: 2653.
([25]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليه، باب الهبة للولد…، رقم (2586).
([26]) صحيح ابن حبان، كتاب النكاح، باب ذكر إيجاب الجنة للمرأة إذا أطاعت زوجها، رقم 4163 تحقيق: حسين سليم أسد، دار المغني، السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000 م.
([27])جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 1218.
([28]) صحيح ابن حبان ، كتاب الحظر والإباحة، ذكر ما يستحب للمرء أن لا يأنف من العمل المستحقر في بيته بنفسه…، رقم 5675.
([29]) الاختيار لتعليل المختار1/5، عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، الناشر: مطبعة الحلبي – القاهرة، تاريخ النشر: 1356 هـ-1937 م، البيان والتحصيل، 1/ 355، القرطبي، حققه د محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988 م، مغني المحتاج، 1/ 486، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1415هـ – 1994م، وخالف في هذا الحنابلة، كشاف القناع،1/ 471، منصور بن يونس البهوتى الحنبلى، دار الكتب العلمية.
([30]) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة رقم 673.
([31]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى السرير، رقم 508.
([32]) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي رقم 511.