أ.د. حسن الخطاف
أستاذ الثقافة والمنطق في جامعة قطر، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.
كلمات مفتاحية: مفسدة، فسق، حاكم، تغلب، إمام، شهادة.
الأصل في نتيجة الدراسات أن تكون في الخاتمة، وإنما أدرجتها في العنوان لألفت نظر القارئ إليها، علمًا أنَّها لم تكن إلا بعد بحثٍ ودرْسٍ معمَّقٍ شامل.
أهميةُ البحث: ضبطُ حكمِ المتغلب وآثاره، خاصَّةً أننا في أيامٍ كثُر فيها متغلبون لا يعدمون من يفتي لهم بأنَّهم يمثلون الحاكم الشرعي الذي ينبغي أنْ يُطاع، وكثير من حُكَّام الأمس واليوم متغلبون، فعائلة الأسد مثلًا متغلبة، والسيسي وخليفة حفتر كذلك.
حدود البحث: تحديد مفسدة التغلُّب، ووجهُ بطلان ولاية المتغلب ولو استمرت، وتفصيلُ موقف الإمام الجويني من ذلك بتوسع اقتضاه المقام.
مصطلحات الدراسة
التغلُّب عرفًا: الحكم بالقوة الفعلية كالانقلابات العسكرية، أو بالقوة الحُكميَّة كأنْ ولَّاه أو ورَّثه الحكمَ متغلبٌ سابقٌ أو خلَفَه مِن غيرِ استشارةٍ مع وجود خوفٍ من معارضته وعدم الرضا به حتى ولو كان صالحًا لذلك، وهذا هو المعنى المقصود به هنا، أما لغةً فهو اسم فاعل من الخماسي (تغلَّب) والثلاثي منه (غَلَبَ)، ومادة غلب عند ابن فارس تدل على القهر والقوة والشدة، ومنه قوله تعالى {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]([1]) فالقوة شرط لازم للمتغلب.
التغلُّب في المصطلح الفقهي أخصُّ من التّغلُّب بالمعنى العرفي:
تبيَّن لي أنّ المتغلب إذا أُطلق في كتب الفقه فهو من زاحم غيره بالقوة مع اتِّصافه بالصفات المطلوبة في الحاكم من سلامة الأعضاء وغيرها، وأما إذا قُيِّد فيكون متغلبًا مقيَّدًا بأنه ليست فيه الصفات التي تؤهله، والدليل على هذا أن الجويني -وهو أوسع من تحدَّث عن ذلك- لم يذكر من حالات التغلُّب ما لو كان المتغلب لا يُؤتمن على دين وأخلاقٍ، وبعض كتب الفقه تصف المتغلب بكونه جامعًا لشروط الإمامة، يقول الشربيني: (وثالثها باستيلاء شخص -متغلبٍ على الإمامة جامعٍ الشروطَ المعتبرة في الإمامة- على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين، أما الاستيلاء على الحي؛ فإن كان الحي متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه”([2]).
والمعنيُّ بثالثها ثالث طرق الوصول إلى الحكم، والملاحظ هنا تقييد المتغلب بكونه جامعًا لشروط الإمامة وبموت الإمام، وليست غايتُه دنيويةً كما يفعل متغلبة اليوم، وهذا شيء ينبغي ملاحظته لضبط مقصد المتغلب، فحرصه هو حرصٌ على النفع العام لكن رغم هذا عُدَّ متغلِّبًا لكونه ليس هو الوحيد ولم يَجْرِ اختياره، فمن وصل للحكم بطريقة شرعية لا يُزاح بالمتغلب ولا تنعقد إمامة المتغلب، فينبغي استحضار هذا المعنى الذي سنؤكده.
-المفسدة: ما يلحق بالشيء من ضررٍ يفوق المصلحة، فالمفسدة والمصلحة كِفَّتَا ميزان لتصرفات الإنسان، وضابطهما هو الشرع عند أهل السنة، فما حسَّنه الشرع وحثَّ عليه فهو مصلحة وإلا فهو مفسدة.
-الفاسق: هذا وصف للحاكم المتغلب، والمقصود أن ما ارتكبه هو اغتصاب لحقِّ الأمة وهذا فسق، والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى، يقول الماتريدي: “والفسقُ هو الخروج عن أمر اللَّه”([3]) ويقول ابن الجوزي: “والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته”([4])، ويقول منلا خسرو: إذا “أطلق في لسان الشرع يراد به الخروج عن طاعة الله”([5]) ويقول الشوكاني:” والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية”([6]) وهذه التعريفات عامة لم تُخَص بنوعٍ معيَّن، ومن المقطوع به أنَّ الكبيرة فسق، قال في التعريفات الفقهية: “الفِسق في اللغة عدمُ إطاعة أمر الله، وفي الشرع: ارتكابُ المسلم كبيرةً قصدًا أو صغيرة مع الإصرار عليها بلا تأويل”([7]).
-لا تُصحَّح: استخدمتُ تعبير “لا تُصحح” عوضًا عن “لا تصح” لئلا يُفهَم من ذلك أن التَّغلُّب بحدِّ ذاته يقتضي خروجًا على السلطان؛ فذاك أمر مرهونٌ بالمصالح والمفاسد التي يُقدِّرها أهلُ الخبرة والمعرفة، وثمّة مقصد آخر وهو أن صيغة “تفعَّل” تدل على الصيرورة والتحول، ومعنى ذلك أنَّ الاستمرار في الحكم لا يُصيِّره حكمًا صحيحًا كما لو انتخبه غيرُه، هذا مع ملاحظة أنَّ للوصول إلى الحكم طريقين لا ثالث لهما: الاختيار وتولية عهد ممن له أحقية بذلك، يقول الجويني رحمه الله: “وثبوت الإمامة من غير تولية عهد من إمام أو صدور بيعة ممن هو من أهل العقد أو استحقاقٍ بحكم التفرد والتوحد بعيدٌ”([8]).
وشروط الإمامة -ومنها الاختيار والتولية- منثورة في كتب الفقه وخاصة السياسة الشرعية، ومن هذه الشروط سلامة الحواس والصفات اللازمة كالإسلام والذكورة والحرية والعقل والبلوغ، ومنها صفات مكتسبة كالعلم والورع والنجدة([9])، وما من كتابٍ في الفقه إلا وذكر العدالة على أنها شرط في الإمامة لا يُستغنَى عنه، والذي يعنينا من ذلك شرط العدالة لارتباطه بالتغلُّب.
الحاكم:
التغلُّب إنما يصدر من حاكمٍ أي رئيس بالمصطلح المعاصر، وهو الذي يحكم جماعةً من الناس ضمن جغرافية مُحدَّدة صغيرة كانت أم كبيرة ما دام الناس قد رضوا به، فلا أرى فرقًا في الحكم هنا بين أن تكون الرئاسة بهذا المعنى -الذي لا ذكر له في تراثنا الفقهي لأنه استُحدِث بعد تفكيك الخلافة الإسلامية- وأن تكون رئاسة على جميع المسلمين أي إمامة عظمى أو ولاية عامة، ومعناها بتعبير الماوردي: “خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”([10]) وعند الجويني: “رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا([11]) وعند الإيجي: “خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة”([12]) ويلاحظ في هذه التعاريف أنها مرتبطة بوحدة الأمة العامة عندما كان لها حاكم واحد وله ولايات تتبعه، أما بعد انهيار الخلافة فقد تمزَّقت الأمة وصارت دولا عدَّة.
ولا بدَّ من قيد نضعه هنا وهو أنّ الحاكم الذي يُراد إزاحته قد رضيه الناس لدينهم ودنياهم، وكان من حيث الجُملة يحكم بشرع الله تعالى، أما الحاكم الذي ثبت مكره بالأمة ودينها وقيمها فحكمه مناقضٌ للمقصود من حراسة الدين والدنيا، فهذا ليس مقصودًا من البحث هنا؛ إذ المقصود بالتغلب السيطرة بالقوة ممن كان صالحًا للحكم من حيث الجُملة، أو ممن وجد الأمة في حالةٍ من الفوضى وتغلَّب على الأمر، وكان مقصده الحفاظ على الأمة، والجويني إنما بحثَ المسألة من هذا الجانب، ولعل هذا ما يُفهم من أحوال المتغلِّب التي ذكرها الفقهاء ككونه امرأةً أو عبدًا، لكن لم أجد لهم توسعًا في هذه المسألة، وكأنَّ التغلب عندهم من حيث الشروط هو عدم الالتزام بالشروط المطلوبة للوصول إلى الحكم كاشتراطهم الحرية والذكورة، فإذا ما اختلَّ شرط وأخذ الإمامة عنوة فهو متغلبٌّ من هذه الحيثية، يقول ابن عابدين: “والمراد بالمتغلب من فُقدت فيه شروط الإمامة وإن رضيه القوم”([13]) أما الغاية -وهي حراسة الدين والدنيا- فهي متحققة فيه أو هي من مقاصده الدافعة للحكم على أقل تقدير، وهذه الغاية نجدها صريحة عند الخطيب الشربيني وهو يشرح كلام النووي بأن من أشكال تولي الحكم “استيلاء شخص -متغلبٍ على الإمامة جامعٍ الشروطَ المعتبرة في الإمامة- على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين”([14]) فينبغي التَّنبُّه لهذا، فالغاية كما صرَّحُوا بها هي المصلحة العامة بظنِّ المتغلب، والأصل في المتغلب أنَّ الشروط متحققة فيه إلا شرط البيعة.
المبحث الأول: الآثار الفقهية المترتبة على التغلُّب
التغلب فسق، وإذا ثبت أنه فسق فلن تُقبل شهادته، وكونه حاكمًا بالقوة لا يُغيِّر من الأمر شيئًا، يقول الجويني: “فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة… أشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه…، وذلك يسِمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد، ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت فاستمسك بعُدَّته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة لم يجز أن يبايع، وإنما التصوير فيه إذا ثار لحاجة ثم تألبت عليه جموع لو أراد أن يتحول عنهم لم يستطع، وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس فتنًا لا تطاق ومحنًا يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام…، والمختار أنه وإن وجب تقريره فلا يكون إمامًا ما لم تجر البيعة، والمسألة في هذا الذي ذكرناه مظنونة، والمقطوع به وجوب تقريره”([15]) ويقول العز بن عبد السلام: “قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكرُّرًا يُشعر بقلة مبالاته بدينه إشعارَ ارتكابِ الكبيرة بذلك رُدَّت شهادته وروايته بذلك”([16]) ولا يكون الردُّ في ابتداء التَّغلُّب فقط بل يبقى المتغلِّبُ فاسقًا طيلة حكمه من هذه الحيثية؛ إذ من القواعد المقررة في الشرع أن الفسق وصف يلتحق بالشخص ولا يُزال هذا الوصف إلا بزوال سببه، فالكذب والغيبة فسق ولا يتحول صاحبهما إلى عدل ما دام مصرَّا على ذلك، ومثل ذلك الحاكم المغتصب لحقِّ الآخرين، وظاهر في نص إمام الحرمين أنَّه إن كان تغلُّبه لحاجة عامة لا يُفسَّق إلا إذا زالت الحاجة فاستمسك بعُدَّته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته رغم زوال الحاجة إلى التغلُّب.
هذا مع ملاحظة أن الفسق إنما هو من هذه الحيثية، ولا يلزم من هذا أنه لن يكون له خير أو ألَّا يقبل له عمل فذاك شأن آخر، فالحاكم المتغلب ظالم فاسقٌ، ولا تُقبل شهادة الفاسق اتفاقًا بين العلماء، ولم يقع تخصيص قبولها بحاكمٍ أو قاضٍ، يقول العز بن عبد السلام: “ولا تقبل الشهادة إلا من عدل”([17])، وجاء في شرح مختصر خليل: “شهادة الفاسق مردودة اتفاقًا”([18])، وقال الشافعي: “شهادة العبد أقرب من شهادة الفاسق لأن ردَّ شهادة الفاسق بالنص، قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وردُّ شهادة الفاسق متفق عليه”([19])، وعند الحنبلية “شهادة الفاسق كعدمها”([20]) ولا يلزم من ردِّ شهادة الحاكم لفسقه عدمُ نفاذِ تصرفاته.
نجزم بأن التغلب كبيرة من الكبائر، ودليل هذا أنَّ فيه ظلمًا للآخرين، وظلم الآخرين كبيرة، وبيان ذلك أن فيه ظلمًا من طرفين؛ فهو أخذ لحقِّ من له أهلية الحكم وهذا ظلم، وهو ظلم لمن له أهلية تنصيب الحاكم سواء أكانوا هم أهل الحلِّ والعقد أم سائر الناس كما هو مشاهد اليوم، وقد جاء الظلم بمعنيين؛ الأول: التصرف في حق الغير الذي لا يملكه المتصرف، والثاني: وضع الشيء في غير موضعه([21])، ومؤدَّى المعنَيين واحدٌ، فإنَّ من تصرف في غير ملكه يضع الشيء في غير موضعه، ومن يضع الشيء في غير موضعه فهو ظالم.
وقد يُعترض على هذا بأنه لا دليل مقطوع به يؤكد أنَّ التغلب كبيرة، والجواب أنَّ الظلم أيَّا كان هو من الكبائر لأن فيه أخذًا لحق الغير، فمن غصب 100 مائة ليرة من آخر بالقوة عُدّ ظالِمًا تُردُّ شهادته، فكيف من غصب حقَّ الأمة في التَّرشح وحقَّها في الترشيح وأناب نفسه منابها؟ وحتى لو أنا سلمنا جدلًا بأنَّ التغلُّب صغيرة فالاستمرار في الحكم يجعل منه مصرًّا عليها فتصبح كبيرة، يقول العز بن عبد السلام: “فإن قيل: قد جعلتم الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة فما حد الإصرار أيثبت بمرتين أم بأكثر من ذلك؟ قلنا إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يُشعر بقلة مبالاته بدينه إشعارَ ارتكابِ الكبيرة بذلك ردت شهادته وروايته بذلك”([22]) فالإصرار على الصغيرة يُلحقها بالكبيرة، فلو فرضنا جدلًا أن التغلب من الصغائر فالاستمرار عليه يُلحقه بالكبائر.
ننبه إلى مسألة مهمة ينبغي أن لا تلتبس علينا، وهي أننا إذا قررنا مفسدة التغلب وأن المتغلب فاسق مرتكب للكبيرة وأنَّ شهادته تُردُّ، فلا يلزم من هذا البتة عدم نفاذ تصرفاته، فتصرفاته تنفذ لئلا يقع ضرر على الأمة، فعدم الاشتراط ليس تزكية له بل لتنفذ تصرفاته، ونفاذ تصرفاته ليس دليلًا على عدالته، وإنما لرفع الحرج عن المحكومين، يقول العز بن عبد السلام أثناء حديثه عمن تُشترط فيه العدالة: “وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم؛ فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لِما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان”([23]).
فنفاذ تصرفاته شيء والعدالة شيء آخر، ومعنى هذا أنّ نفاذ تصرفاته لا يزيل الفسق عنه لأنَّه ارتكب فعلًا مُخلًّا بالعدالة كالتَّغلُّب، وإذا كان فاسقًا فلا تقبل شهادته لاختلال شرط العدالة، يقول ابن رشد: “واختلفوا فيما هي العدالة، فقال الجمهور: هي صفة زائدة على الإسلام، وهو أن يكون ملتزمًا لواجبات الشرع ومستحباته مجتنبًا للمحرمات والمكروهات، وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جرحة، وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته إلا من كان فسقه من قِبَل القذف، فإن أبا حنيفة يقول: لا تقبل شهادته وإن تاب، والجمهور يقولون: تُقبل”([24]). نفهم من هذا النص أمورًا:
الأول: الاتفاق على عدم قبول شهادة الفاسق، الثاني: العدالة شيء زائد على الإسلام، الثالث: تُقبل الشهادة إنْ تاب. وخلاصة هذا أنّ المتغلب لا تُقبل شهادته إن لم يتب، وحتى على مذهب أبي حنيفة يكون المتغلِّب فاسقًا لأنه صدر منه أمرٌ جارح له.
بيَّنا أن التغلب مفسدة وأنه فسق وكبيرة تُردُّ به شهادة الحاكم، لكن هل الحاكم المتغلبُّ يبقى أهلًا للإمامة؟
ذكرْنا أن لأهلية الإمامةِ شروطًا منها العدالة، وأن لصحته طريقين هما الاختيار أو تولية من له أحقية ذلك، وخلصنا إلى أن التغلب كبيرة وفسق يخل بشرط العدالة ابتداءً وانتهاءً، فكل متغلب فاسق وإن استجمع صفات الإمامة وشروطها ومقصدَها، ولا يتصف بالعدالة إلا بارتفاع الفسق، ورفعُه رهنٌ بزوال التغلب الذي فسَّقه وسلبَه العدالة؛ فعلى هذا يكون التغلب مانعًا ابتداءً وانتهاءً من كون المتغلِّب أهلًا للإمامة لتلبُّسِه على الدوام بموانعِ أهليةِ الإمامة ولخروجِه عن طرق استحقاقها كما سأذكره مفصلًا نقلًا عن الإمام الجويني في حالات فسق الحاكم ابتداءً أو انتهاءً. يقول السرخسي في عدم قبول شهادة الفاسق: “ولكنا نقول: الفسق لا يخرجه من أن يكون أهلًا للإمامة والسلطنة؛ فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنهم- قلما يخلو واحد منهم عن فسق، فالقول بخروجه من أن يكون إمامًا بالفسق يؤدي إلى فساد عظيم”([25]).
قد بدا أنَّ ثَمة شيئًا من عدم الانسجام بين العنوان وما نقلناه عن السرخسي رحمه الله، وفي الواقع لا تناقض بين الأمرين فالسرخسي يتحدث عن حالة أخرى هي حالة الخروج عليه لفسقه، وهذه المسألة لم نقصدها هنا؛ فعدم الأهلية شيء والخروج شيء آخر، فليس كلُّ ما يخلُّ بالأهلية يستلزم الخروج، ففقدان الحواس للحاكم يُخِلُّ بأهليته ولا يستلزم ذلك خروجًا.
ما دام المتغلب ممارسًا للغلبة فهو فاسق، وسكوت الناس عنه لا يحولُّ حكمه إلى طريقة صحيحة، وحكم سكوتهم عليه كحكم آكل الميتة المضطر إليها، ولو افترضنا أنه بقي سنوات يأكل منها فلن يكون هذا الأكل من الطيبات، يقول حجة الإسلام الغزالي عند حديثه عن شروط الحاكم: “فإن قيل: فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها -وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها- فأيُّ أحواله أحسن؛ أَن يقول: القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدِمون على الحرام؟ أو أن يقول: الإمامة منعقدة، والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار؟”([26]).
والواضح الجليُّ من هذا أنَّ انعقاد الإمامة هو انعقاد لحظي بحسب الظروف، وهو أهون الشرور؛ لأن البديل أسوأ وهو القول بأنَّ إمامته ليست منعقدة أصلًا لما يترتب على ذلك من مفاسد، وهذ المعنى أكَّده العز بن عبد السلام بقوله: “تصحيح ولاية الفاسق مفسدة لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية، لكنها صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد؛ إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل، والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق -مع عدم ولايتهم- لضرورة الرعية كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم أمانته؛ لأن ما ثبت للضرورة يُقدر بقدرها والضرورةُ في خصوص تصرفاته، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة”([27]).
فمن قال بطاعته لا يقصد أنها طريق شرعي صحيح، فالطاعة لا تعني الصحة بل هي درءٌ لما هو أسوأ، وعلى هذا نفهم قول ابن بطال: “والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم في الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء”([28]) وكلمة خير هي صيغة تفضيل، والأمر مُعلَّل بإقامة الجمعات، وإقامة هذه الأشياء لا تعني الشرعية له كما أن عدم الشرعية لا يستلزم الخروج، فذاك منضبط بالمصالح والمفاسد.
وكثيرًا ما يجد الحاكم المتغلبُ أشخاصًا ضعاف النفوس يريدون الارتزاق منه، أو من يخاف سطوته، أو من يبالغ في الخوف من الفتنة، أو من لم يطلع اطِّلاعًا كافيًا على السياسة الشرعية وأبعادها وضرورة العدل في الحكم، فيسعى لجعل خلافة المتغلب خلافة شرعية، وهذا ينطبق على كثير من الصُّور، ومنها تنصيب بشار الأسد بعد أن نَفَقَ أبوه، فقد تراكض الناس للمباركة له والتبشير بعهده وكأنها خلافة شرعية، وكان على رأسهم بعض الشيوخ الذين كانت تُشدُّ إليهم الرحال.
ومن الملاحظ أنه يتم التعلل بالسكوت عن المتغلبة خوف الفتنة وانجرار الناس إلى التهارج والقتل، والذي ينبغي أن يُعلم ابتداء أن السكوت عن المتغلبة مخالفٌ لمقاصد الشرعِ في استقرار الأمة وإسنادِ الكفاءات لأصحابها والعيشِ في اطمئنان بعيدًا عن التقلبات والانقلابات، فالقول بالسكوت عن المتغلب هو عيش في تخوف وتوجس دائم، وهو سبب لعدم إطلاق طاقات الأمة ولتركِ الانشغال بمصالحها العامة خاصة الوقوف ضد الأعداء؛ فمن يساند ويساعد المتغلبة ويفتي لهم فهو ظالم لنفسه ولغيره، وقولهم بصحة التغلب يلغي شروط الإمامة كالإسلام والعقل والبلوغ…، والصفات المكتسبة كالعلم والورع والنجدة([29])، والقول بصحة التغلب يجعل كلَّ من ليس أهلًا للإمامة متقدِّمًا إليها راغبًا فيها، بل تصبح حُلُم الفُجّار والعصاة لأنهم يرون فيها مكسبا لهم ولكل من كان معهم، وقد نصَّ الشافعية على عدم انعقاد بيعة المتغلب الذي يأتي خلف حاكمٍ تمت له البيعة، يقول الخطيب الشربيني: “أما الاستيلاء على الحي؛ فإن كان الحي متغلبًا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إمامًا ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه”([30]).
ذكر الجويني أنَّ بقاء الناس من غير والٍ هو خير من إقرارِ والٍ يكون عونًا للظالمين ونهبًا لخيرات المحكومين وبيعًا للبلاد ووبالًا على العباد، يقول الجويني: “وترك الناس سدًى ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشمين وموئل الهاجمين”([31]).
لكن كيف يُزال هذا الفاسق وما حكم إزالته؟
يرى الجويني أنَّ الحلَّ في مثل هذه الحال هو نصب إمامٍ آخر يختاره أهل الحلِّ والعقد، يقول الجويني: “إن تيسر نصب إمام مستجمع للخصال المرضية والخلال المعتبرة في رعاية الرعية، تعيَّن البدار إلى اختياره، فإذا انعقدت له الإمامة واتسقت له الطاعة على الاستقامة فهو إذ ذاك يدرأ من كان…؛ فإن أذعن فذاك، وإن تأبَّى عامله معاملة الطغاة وقابله مقابلة البغاة…، وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية وإراقة دماء ومصادمة أحوال جمَّة الأهوال وإهلاك أنفس ونزف أموال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُقدَّر وقوعُه في روم الدفع، فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز، وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه، فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع، وقد يقدم الإمام مُهمَّا ويؤخِّر آخر”([32]).
والملاحظ أنَّ حديث الجويني هنا وفي الفقرة السابقة أوسع من قضية المتغلب، ولعلنا نتوسع في ذلك في بحثٍ قادم، ويُعدّ كلامه مهمًّا في تحديد ضابط التخلُّص من الحاكم الفاسق، وأساسه الإمكان وظاهر الظَّن؛ إذ اليقين في مثل هذه المسائل متعذرٌ، وأحكام الإمامة ظنية، فإن أمكن تنصيب إمام آخر عوضا عن هذا الفاسق فذاك وإن تعذَّر إلا بسفك دماء وبنزول المحن والبلاء فالأمر يُقاس بغلبة الظن؛ فإن كان المظنون هو إراقة دماء أكثر حتى يُزاح فيتعين البقاء على الأمر الواقع وإلا فيتم التخلُّص منه، هذا مع ملاحظة أمرين؛ الأول: أن يُخلَع الحاكم الفاسق أولًا ثم ينصَّب الثاني، ويقوم الثاني بدفع الأول كما يُدفَع البغاة. الثاني: لا يُشترط الإجماع في الخلع والتنصيب، والمطلوب هو الشوكة عند الخلع والعقد فقط([33]).
المبحث الثاني: الفسق والتغلُّب عند الجويني
ناقش الجويني هذه المسألة مبينًا أن طوائف من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أنَّ الفسق إذا تحقق أوجب انخلاع الإمام مثله مثل الجنون، وهؤلاء لا يفرقون بين فسقٍ في الابتداء وفسق في أثناء توليه للحكم، وعلة من قال بانخلاعه هو أن الحاكم أمين، والفاسق لا يؤتمن، وذكر الجويني رأيًا آخر لبعض العلماء، مفاده أن الفسق لا يتضمن الانخلاع بحدِّ ذاته، ولا بدَّ من أهل الحل والعقد لخلعه، ولم يرض الجويني هذه الأقوال لعسر استمرار الإنسان في ملازمة التقوى ليل نهار وخاصةً الحاكم مع اتِّساع دولته وكثرة مشاغله([34]).
وهذا يعني التفرقة بين أن يكون الفسق ابتداء وأن يكون أثناء ممارسته للحكم، فهو لا يقبله ابتداء يقول الجويني: “فإن قيل: فلم منعتم عقد الإمامة لفاسق؟ قلنا: أهل العقد على تخيرهم في افتتاح العهد، ومن سوء الاختيار أن يعين لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم فاسق، وهم مأمورون بالنظر للمسلمين من أقصى الإمكان، وأما الذهاب إلى الانخلاع بعد الاستمرار والاستتباب مع التعرض للزلات فمُفسِد لقاعدة الولاية، ولا خفاء بذلك عند ذوي الدراية”([35]).
والمعتبر في هذا الأمر عند الجويني هو الكبائر الظاهرة دون الصغائر، يقول الجويني: “الهنات والصغائر محطوطة، وما يجري من الكبائر مجرى العثرة والفترة من غير استمرار عليها لا يوجب عندنا خلعًا ولا انخلاعًا…، ولو كان القائم بأمور المسلمين يتعاطى على الدوام ما هو من قبيل الكبائر كالشرب في أوانٍ ولكنه كان مثابرًا على رعاية المصالح، فالقول في ذلك لا يبلغ مبلغ القطع عندي، وقد يخطر للناظر أنه إذا لم يتضمن ذلك خرمًا وفتقًا ولم يمنع الإمامُ ذا حقٍّ حقًّا ففرضُ الدوام فيه نازل منزلة كبيرة تندُر…، والأظهر عندي أن ذلك مؤثر فإن الكبيرة إذا كانت عثرة فإنها لم تَجُرّ خبالًا ولم تتضمن سوء الظنون…، فأما الفسق المؤثِّر فالقول فيه ينقسم؛ فإن كان يحتاج في إظهار خلله إلى اجتهاد فلا نقضي بأنه يتضمن الانخلاع بنفسه، بل الأمر فيه مفوض إلى نظر الناظرين واعتبار المعتبرين”([36]).
من الواضح أنَّ الصغائر لا يمكن أن نجعلها مقياسًا لخلع الحاكم وكذا الكبائر النادرة، ومقياس النادر وغيره هو ظهوره منه، ولكن قد لا يظهر عليه شخصيًّا، فربما تراه مداوما على المناسبات الدينية كما كان النافق حافظ الأسد وما عليه ابنه، فلا ترى عليه شخصيًّا إدانة فهو يصلي الأعياد ويحضر المناسبات الدينية ويدعو العلماء إلى وجبة إفطار…، فكيف يتم الحكم عليه؟
نفهم من كلام الجويني السابق أنَّ مرجع الأمر إلى نظر واعتبار من بيدهم الحلُّ والعقد أو من عندهم خبرة في ذلك، فهم يقيسون ذلك، وما عليه هؤلاء من حرصٍ شديد بالابتعاد شخصيًّا عن المعاصي والاهتمام بالمناسبات الدينية… لا يكفي إذا كان الظلم سائدًا والرشوة فاشية والربا منتشرًا ودور البغاء ظاهرة والمال العام منهوبًا…، وهذا نفهمه من قول الجويني “إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفًا ممن ظلمه، وتداعَى الخَلل والخطل إلى عظائم الأمور وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم…؛ وذلك أن الإمامة إنما تُعنَى لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة فيجب استدراكه لا محالة، وترك الناس سدًى ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشمين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين”([37]).
هذه الحال التي تحدَّث عنها الجويني -رحمه الله- هي أحسن الأحوال في الكثير من مجتمعاتنا وخاصَّة في بلدنا سورية، وذكر أيضًا أننا إذا وجدنا حاكمًا مستوفيًا للشروط فإننا ننصبه، وحكم حكمًا عامًّا يُتَّخَذُ أساسًا في الحاكم، وهو أنه إذا “لم يكن ذا كفاية، ولم يكن موثوقا به لفسقه، لم يجز نصبه، ولو نصب لم يكن لنصبه حكم أصلا”([38])، وهذا الحكم مهم ينبغي استحضاره في أذهاننا، وهو أنَّ الفاسق لا يجوز نصبه بحالٍ من الأحوال، وأنه لا يتحول مهما امتد الزمن به إلى حاكمٍ مستوفٍ شروط الحكم.
ويرى الماوردي أن الفسق المتعلق بأفعال الجوارح هُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا”([39]).
أوسعُ من تناول المسألة الإمام الجويني في كتابه “غياث الأمم في التياث الظلم”، وقد فتح الله تعالى عليه في المسألة ضابطًا لكل الوجوه سالكًا في ذلك مسلك السبر والتقسيم، وقد نقلنا فيما سبق طَرَفًا من كلامه، وصدَّر الكتاب بكلامٍ رائع في الغاية من نصب الإمامة، قال: “الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة…، والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين”([40]).
وإذا نصَّب نفسه بالقوة ودعا الناس إلى الخضوع له فنحن أمام ثلاث حالات في رأي الإمام الجويني:
الحالة الأولى: أن يسعى للحكم بالقوة وهو أهل له مع افتراض كونه وحيدًا مستكملًا الشروط اللازمة للإمامة، فهنا صورتانِ:
الصورة الأولى: أن يكون هو الوحيد المتصف بهذه الصفات دون غيره، وليس لدينا أهل حلٍّ وعقد، “فإذا استظهر بالقوة وتصدى للإمامة، كان إمامًا حقًّا، وهو في حكم العاقد والمعقود له”([41])، والدليل على هذا عنده “أن الافتقار إلى الإمام ظاهر، والصالح للإمامة واحد، وقد خلا الدهر عن أهل الحل والعقد، فلا وجه لتعطيل الزمان عن والٍ يذب عن بيضة الإسلام، وهذا مقطوع به”([42]). وينبغي أن لا يغيب عنَّا أن الدافع الأساس لتصحيح هذا النوع هو الحرص على الإسلام، وأن هذه المسألة نظرية محضة استدعاها منهج السبر والتقسيم.
الصورة الثانية: أن يكون هو الوحيد ولكنْ لدينا أهل حل وعقد، ولهذه المسألة وجهان:
الأول: أن يمتنع من هو من أهل العقد عن الاختيار والعقد للمتقدم الذي عنده الكفاءة مع كونه واحدًا، ففي هذه الحال “يتعين إجابته واتباعه على حسب الاستطاعة بالسمع والطاعة، ولا يسوغ الفتور عن موافقته في ساعة”([43]).
الثاني: ألا يمتنع مَن هو من أهل للاختيار والعقد عن اختيار المتقدم بالقوة مع كونه واحدًا، وفي هذه الحال يرى الجويني أنه لا بدَّ لأهل الحل والعقد من اختياره والعقد له على رأي، لكن ردَّه مبينًا أنه “لا حاجة إلى إنشاء عقدٍ وتجريدِ اختيارٍ وقصد”؛ فالاختيار يكون حال التعدُّد ابتعادًا عن التنازع، والمسألة هنا في شخص واحدٍ متقدم للإمارة، فالتنازع لا يتُصوَّر فيها، علمًا أن الرجل الفرد -وإن استغنى عن الاختيار والعقد- لا بد من أن يستظهر بالقوة والمنعة ويدعو الجماعة إلى الطاعة، فإن فعل ذلك فهو الإمام على الجميع على أهل الوفاق والاتباع وعلى أهل الشقاق والامتناع”([44]).
وإن لم يكن مُستظهرًا بعدة ونجدة فيجب على الناس اتباعه لتعينه لهذا المنصب، فإذا دعا الناس إلى الإذعان له فاستجابوا له طائعين “فقد اتسقت الإمامة، واطردت الرياسة العامة، فإن دعاهم ولم يطيعوا عصوا، وإن أطاعه قوم يصير مستظهرًا بهم على تثبت إمامته ويكون الموافق معه على المخالف، وإن لم يطعه أحد مع دعوته إلى ذلك أو اتبعه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة وقوة فهذه الصورة تضطرب فيها مسالك الظنون…، فتعصي الخلائق لتقاعدهم عن نصب إمام يندفع به النزاع والدفاع والخصومات الشاجرة والفتن الثائرة، وتتسق به الأمور وتنتظم به المهمات والغزوات والثغور”([45]) يُلحظ في هذا الحرص على الأمة، فالغاية من الإمامة عند الجويني وغيره هو حماية الأمة وجمع الكلمة، لكن هل يكون المتقدِّمُ إمامًا في هذه الصورة؟ يرى الجويني أنَّ جواب هذه المسألة ليس واحدًا، فيصح القول بأنه “إمام وإن لم يُطع، وينفذ ما يمضيه من أحكامه على موافقة وضع الشرع…، ولا معنى لكون الإمام إمامًا إلا أن طاعته واجبة، وهذا الذي فيه الكلام بهذه الصفة، فهو إمام يجب اتباعه فتنفذ إذًا أحكامه، وهذا متجه عندي واضح والأول ليس بعيدًا أيضًا؛ فإن قاعدة الإمامة الاستظهار بالمنة والاستكثار بالعدة والقوة، وهذا مفقود في الذي لم يُطع”([46]).
من البيِّنِ أنَّ الجويني يُرجِّحُ هنا أنه يكون رئيسًا ولو لم ينتخبه أحدٌ أو انتخبه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة، واستبعد القول بأنه لا يكون رئيسًا لأن الثمرة المرجوة من الرئاسة لا تتحقق إلا بالاتباع ووجود شوكة له، ولا أرى ثمرة واضحة في كلا الصورتين إلا أنه في الصورة الأولى يقع الإثم على من لم يتبعه وينقَدْ له عند من يرى ضرورة اتباعه، وأما في الصورة الثانية فيرتفع الإثم عمن تبعه مع عدم استكمال الشوكة، ويرتفع الإثم أيضا عمن قدَّم نفسه ولم يقع اختياره، وتقديمه لنفسه ضروري عند الجويني، فإذا آثر “التقاعد والاستخلاء لعبادة الله -عز وجل- مع علمه بأنه لا يسد أحد مسده كان ذلك عندي من أكبر الكبائر وأعظم الجرائر، وإن ظن ظان أن انصرافه وانحرافه سلامة كان ما حسبه باطلًا قطعًا، والقيام بهذا الخطب العظيم إذا كان في الناس كُفاة في حكم فرض الكفاية، فإذا استقل به واحد سقط الفرض عن الباقين، وإذا توحد من يصلح له صار القيام به فرض عين”([47]) فإذا آثر التقاعد ولم يقدِّم نفسه فهو مع إثمه لم يكن “إمامًا باتفاق العلماء أجمعين”([48]).
الحالة الثانية: أن يكون من يصلح للإمامة أكثر من واحد ويستولي واحد منهم بالقوة استبدادًا بالأمر من غير اختيار وعقد، فيرى الجويني أنَّ هذا النوع يعسر تصويره، وجوابه بحسب الصور؛ فإنْ كان الناس من غير إمام ولم يتقدم أحد حتى طالت “الفترة وتمادت العسرة، وانتشرت أطراف المملكة، وظهرت دواعي الخلل، فتقدم صالح للإمامة داعيًا إلى نفسه محاولًا ضم النشر وردَّ ما ظهر من دواعي الغرر، فإذا استظهر بالعدة التامة من وصفناه فظهور هذا لا يحمل على الفسوق والعصيان والمروق، فإذا جرى ذلك وكان يجُرُّ صرفُه ونصبُ غيرِه فتنًا وأمورا محذورة، فالوجه أن يوافق ويلقَى إليه السَّلَم وتصفِّق له أيدي العاقدين”([49]) ومن المهم أن ننتبه هنا إلى القيود التي وضعها الجويني: عدم تقدم أحد، وطول الفترة، واتساع الملك، وظهور دواعي الخلل بسبب عدم وجود حاكم، ففي هذه الحالة لا يوصف تقدمه بالفسوق مع ملاحظة أهليته لذلك وتوفر شروط الإمامة.
وثمَّة مسألة في غاية الأهمية وهي: هل تثبت رئاسته بمجرد تقدمه أم لا بدَّ مع هذا من الموافقة والاختيار من غيره؟ ينقل الجويني عن بعض أئمته من غير ذكر أسمائهم أنه إذا عسرت مدافعته وكان أهلًا للإمامة فيتعين تقريره، ولا معنى للاختيار لأن الاختيار يكون له أثر إذا تعين أكثر من واحد، ولم يكن أحدهما أولى من الآخر، ولم يتأت الجمع بينهما، فالاستظهار بالقوة مع تعذر المعارضة والمناقضة يتضمن ثبوت الإمامة([50]). ولا يرضى الجويني بهذا المسلك ويضع له قيودا كثيرة، وإليك نصَّه كلَّه لأهميته، يقول: “والمرضيُّ عندنا المسلك الأول فيجب العقد له لما فيه من تقرير غرض الإمامة وإقامة حقوقها وتسكين الفتنة الثائرة…، فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة وضرورة مستفزة، أشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه وتشوفه إلى استعلائه، وذلك يسِمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد، ولا يجوز عقد الإمامة لفاسق؛ وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولًا حمل أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق، فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة لم يجز أن يبايع، وإنما التصوير فيه إذا ثار لحاجة ثم تألبت عليه جموع لو أراد أن يتحول عنهم لم يستطع، وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس فتنًا لا تطاق ومحنا يضيق عن احتمالها النطاق، وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام…، والمختار أنه -وإن وجب تقريره- فلا يكون إمامًا ما لم تَجْرِ البيعة، والمسألة في هذا الذي ذكرناه مظنونة، والمقطوع به وجوب تقريره”([51]) يمدنا هذا النص القيم بدلالات عدة -وقد سبق شيء منه-:
الحالة الثالثة: الاستيلاء على الحكم ممن عنده كفاية ونجدة لكن لم يستوفِ صفات الحاكم، فهنا ينقسم الحال عنده قسمين: إما أن يكون هناك من يجمع صفات الإمامة أو لا يكون؛ فإن لم يكن وخلا الزمان من مستجمع لشرائط الإمامة، فإنْ نصَّب أهل الحل والعقد شخصًا كان التنصيب كافيًا وقام مقام من له السمع والطاعة لشغور الزمان عمن توجد فيه هذه الصفات، وترك الناس من غير ذلك يوقع الناس في فوضى، وإنْ لم يُنصِّبه أهل الحل والعقد وقام بالاستيلاء على الحكم بنفسه واستظهر بعدته، وقام بالذب عن بيضة الإسلام وحوزته مع تحقق صفات الإمامة فيه، فالأمر فيه كالحالة الثانية وتفريعاتها([52])، فإن لم يكن متحققا بصفات الإمامة وكان المتغلب مع ذلك متصفًا بالكفاية والشهامة فإنه يتعين تنصيبه، و”تفصيل تعينه كتفصيل تعين من يصلح للإمامة كما تقدم حرفًا حرفًا”([53]).
والذي ينبغي ملاحظته أنَّ الجويني لم يناقش شخصًا تقدَّم للإمامة أو استولى عليها وهو في الأصل ليس أهلًا ولا يملك نجدة وشهادة، والسبب في هذا أنه لا يصلح إمامًا ولا يجوز تنصيبه، وهذا هو حال كثيرين ممن يقومون بالانقلاب اليوم، بل إنَّ كيد بعضهم ومكرهم وبيعهم للأوطان وسرقتهم للأموال العامة ونشر الرذيلة واستطالتهم على الناس وقتلهم لهم وإراقتهم لدمائهم وكرامتهم وصلت إلى حالٍ لا تخطر في بالٍ، وهذا بعض ما كان عليه حافظ الأسد المقبور وما عليه ابنه المعتوه، الذي دمَّر البلاد والعباد وجعلها مرتعا لمنتهكي الأعراض ومغتصبي الأموال وسفَّاكي الدِّماء.
خاتمة
اتَّضح مما سبق أنّ التغلبَ فسقٌ وكبيرة تُسقط عدالة المتغلب، وأنَّ القول بولايته ليس تصحيحًا لولايته، بل لمصلحة أخرى رتبها الفقهاء على ذلك متمثلة بصحة التصرفات التي تنفذ منه، وهذا لاعلاقة له بصحة ولايته، فالسكوت عليه والاستمرار معه ليس حالة طبيعية، وخير ما يُعبَّر به عن ذلك أنها حالة اضطرار مثل أكل لحم الميتة والخنزير، فالآكل لو استمر على ذلك سنوات يبقى هذا الفعل في إطار الاضطرار.
وتبين أن تصحيح ولاية المتغلب فيه نقض لمقاصد الشرع، وأن التغلب ليس مسلكًا من المسالك التي تُعتمد للاستيلاء على الحكم، وأنَّ مقصد المتغلب الأصلي كان حمايةَ الأمة من الضياع والتشتُّت لا المصالح الشخصية، وهذا يعني أنَّ المتغلب مؤهلٌ في الأصل للحكم لكنَّه استعجل الشيء قبل أَوانه ولم يَستشِر أصحاب الاختصاص؛ فهو باغٍ متغلِّب لا تُصحَّح ولايته مهما استمرت.
([1]) مقاييس اللغة: ابن فارس، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1979م، 4/388.
([3]) تفسير الماتريدي، تأويلات أهل السنة، محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، تح: مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426 هـ – 2005 م، 4/ 238.
([4]) زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تح: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي–بيروت، الطبعة الأولى 1422هـ، 1/ 512.
([5]) درر الحكام شرح غرر الأحكام، محمد بن فرامرز بن علي الشهير بمنلا خسرو، دار إحياء الكتب العربية، ص221.
([6]) تفسير فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار الفكر، بيروت، 4/8.
([7]) محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2003م.
([8]) غياث الأمم في التياث الظلم، عبد الملك الجويني أبو المعالي ركن الدين، تح: عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية، 1401هـ، ص326.
([9]) انظر في هذه الشروط: الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ص82، الأحكام السلطانية للماوردي، دار الحديث، القاهرة، ص19، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 5/ 422، أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، دار الكتاب الإسلامي، 4/ 108، الأشباه والنظائر لابن نجيم، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت–لبنان، الطبعة الأولى، 1419هـ 1999م، ص325.
([10]) الأحكام السلطانية، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، دار الحديث – القاهرة، ص15.
([11]) غياث الأمم في التياث الظلم، ص22.
([12]) المواقف، عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، دار الجيل– بيروت، الطبعة الأولى، 1997، تح: عبد الرحمن عميرة، 3/ 574.
([13]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين، دار الفكر- بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ – 1992م، 2/ 139.
([14])مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 5/423.
([15])غياث الأمم في التياث الظلم، ص327.
([16]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد السلام، تح: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية 1991 م، 1/27.
([17]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/78.
منح الجليل شرح مختصر خليل، 8/ 348.([18])
([19]) نهاية المطلب في دراية المذهب، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، تح: عبد العظيم الدّيب، دار المنهاج، الطبعة الأولى،2007م، 19/ 68.
([20]) الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 293.
([21]) انظر في هذين المعنيين: الغزالي، قواعد العقائد، تح: موسى محمد علي، عالم الكتب– لبنان، الطبعة الثانية، 1985م، ص204، 204. الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، ص101. تفسير الطبري، محمد بن جرير، تح: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 2000م 1/77، تفسير الطبري، 1/523. تفسير الرازي 25/77، ويقول السيوطي: “كتاب المظالم: جمع مظلمة، مصدر ظلمة، اسم لما أخذ بغير حق، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب: هو أخذ مال الغير بغير حق” تح: رضوان جامع رضوان، مكتبة الرشد– الرياض، ط1، 1998م، 4/ 1702.
([22]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 27.
([25]) المبسوط، السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة– بيروت، 1993م، 5/ 32.
([26]) الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، تح: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، بيروت– لبنان، الطبعة الأولى، 2004م، ص130. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر: 4/ 583.
([27]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/107.
([28]) شرح صحيح البخارى لابن بطال، تح: ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد- السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1423هـ- 2003م، 2/ 328.
([29]) الجويني، غياث الأمم، ص82.