محمد علي النجار
يتضمن البحث مقدمة تاريخية لبيان علاقة إيران -ممثِّلةً للشيعة- بمدينة حلب تاريخيًّا، ثم سبعة عناوين تشرح واقع وجود الاحتلال الإيراني في مدينة حلب، وهي:
أولًا: أهمية حلب الاستراتيجية لإيران.
ثانيًا: متى بدأ العمل الإيراني في حلب؟
ثالثًا: الوجود الإيراني في حلب مطلعَ الثورة السورية.
رابعًا: إيران بعد احتلال حلب الشرقية،
خامسًا: أماكن وجود الإيرانيين في مدينة حلب.
سادسًا: شراء العقارات في حلب.
سابعًا: جهود مقاومة وسائل الاحتلال الإيراني في حلب.
مقدمة تاريخية
فُتحت مدينة حلب في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على يد القائد أبي عبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه- عام 637م-16ه، وشاركه في فتحها كل من خالد بن الوليد وعياض بن غنم -رضي الله عنهما-، واستشهد في فتحها مئات من جيش المسلمين؛ ذلك أن أهل المدينة وسكانها صالحوا جيش المسلمين بينما رفض قائد الحامية الرومية التسليم وتحصن في قلعتها أشهرًا طويلة، وحصلت بينه وبين المسلمين مواقع كثيرة قتل فيها كثير من الصحابة والتابعين.
بعد فتح المدينة غدت حلب جزءًا من أراضي الخلافة الراشدة فالدولة الأموية ثم العباسية، ولما دب الضعف والانحدار في الخلافة العباسية استقل بها الحمدانيون إضافة إلى الموصل ومدن أخرى من الشام وأطراف العراق، وذلك في القرن العاشر الميلادي أواخرَ القرن الثالث وبداية الرابع الهجري.
بداية الوجود الشيعي في مدينة حلب:
كان الحمدانيون يميلون إلى التشيع ويضمُّون كل أصناف الشيعة وغير الشيعة لما اشتهر عنهم من تسامح، وقد تأثر الناس بحكمهم فتشيع كثيرون، ويشهد التاريخ أن تشيعهم كان تشيعًا عربيًّا خالصًا لا تداخله الشعوبية وما تنطوي عليه من حقد على العرب واستحلالٍ لدمائهم تحت تأويلات دينية مختلفة كما هو شأنُ التشيع الفارسي، يقول ابن كثير يصف سيف الدولة الحمداني: (أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ وَالْمُلُوكِ الْكَثِيرِي الْإِحْسَانِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَشَيُّعٍ، وَقَدْ ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غَرِيبَةٌ، مِنْهَا أَنَّ خَطِيبَهُ كَانَ مُصَنِّفَ الْخُطَبِ النباتية أحد الفصحاء البلغاء، ومنها أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربَه كان أبا نصر الفارابيِّ، وكان سيف الدولة كَرِيمًا جَوَادًا مُعْطِيًا لِلْجَزِيلِ)[1].
بزوال الدولة الحمدانية في مطلع القرن الخامس الهجري حكم بنو مرداس مدينة حلب نصف قرن من الزمان وكانوا يميلون إلى التشيع أيضًا، ولكن مؤسس حكمهم صالح بن مرداس كان على خلاف كبير مع الفاطميين وأتباعهم، وانتصر عليهم في معارك كثيرة، ثم قُتل وهو يحاربهم في معركة الأقحوانة في طبرية عام 420هـ، وهذا ما جعل أولاده من بعده يعطون زمام أمورهم للبيزنطيين تارة وللفاطميين تارة أخرى، ثم بدخول الدولة السلجوقية إلى بلاد الشام انتهى حكم بني مرداس في حلب كما انتهى حكم البويهيين الشيعة في العراق.
في أواخر القرن الخامس بدأت القوة السياسية الشيعية بالاضمحلال، ولم تمض بضعةُ عقود حتى أصبحت قوتهم السياسية الطارئة أثرًا بعد عين إثر دخول جيش الزنكيين مصر عام 562هـ بقيادة شيركوه ثم ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، فعادت المنطقة إلى الحكم السني من جديد وما زالت.
إن هذه الفترة المؤقتة من سيطرة الشيعة السياسية على مقاليد الحكم في بلدان عربية منها مدينة حلب هو ما يثير شهية الإيرانيين وأطماعهم لتكرار التجربة؛ فيقوم الإيرانيون اليوم بإيهام أتباع مشروعهم بأن هذه الأراضي التي حكمها في زمنٍ ما أمراء شيعة هي حقهم التاريخي الذي انتزعه أهل السنة منهم، وهذا نتاجٌ طبيعي للَطيمةِ المظلومية التي يقوم عليه النهج الشيعي عمومًا.
أوَّلًا: أهمية حلب الاستراتيجية لإيران
مدينة حلب ذات أهمية استراتيجية للأطماع الإيرانية في سورية، وتكمن هذه الأهمية في كون حلب إحدى المدن الأربع التي تضمن لإيران السيطرة التامة على سورية لتحويلها لاحقًا إلى مستعمرة فارسية بحكم الأمرِ الواقع بغض النظر عن الرضا الدولي من عدمه، فالزوايا الأربع للاحتلال الإيراني في سورية تتمركز في كل من دمشق جنوبًا وحلب شمالًا ودير الزور شرقًا واللاذقية غربًا، فالإيرانيون يدركون أن وجود هذه المدن تحت قبضتهم يضمن لهم قطع الطريق ما بين تركيا والعرب وفتح طريق جديد للمشروع الفارسي إلى البحر المتوسط، وقد قام نظام الأسد بتسليم ميناء اللاذقية -جزئيا- للإيرانيين، وأقرَّ اتفاقية مد خط السكك الحديدية من إيران إليها عبر العراق.
ثانيًا: متى بدأ العمل الإيراني في حلب؟
في عهد حافظ الأسد كانت هناك تحركات محدودة للإيرانيين من خلال مركز ثقافي ومستشفى وبعض الأعمال الخيرية وترميم بعض المواقع الأثرية ذات الأهمية التاريخية لهم، أما في عهد بشار فقد انتقل الإيرانيون إلى تنظيم المد الشيعي في حلب من خلال شخصيات شيعية معروفة في بلدة نبل وغيرها، وكان قطاع حلب تابعًا -نوعا ما- لحزب الله أو القيادة الدينية الإيرانية في لبنان، ومن الشخصيات التي ظهرت أسماؤها في البرنامج الإيراني آنذاك رئيس بلدية نبل المهندس “علي بلوة” وشريكه المهندس “رضا باشا” الذي كان مسؤولًا مباشرًا عن العمل في حلب، وكان يحضر اجتماعات دورية مع حزب الله في لبنان.
وبحسب تصريحات بعض المهندسين في منطقة إعزاز فإنَّ اجتماعاتٍ مهنية عدة جمعتهم بمهندسي نُبُّل، وكان هدفهم في كثير من الجلسات جذب مهندسي المنطقة إلى مشروعهم الإيراني، حتى قال أحد المهندسين لزملائهم الشيعة في إحدى الجلسات: لنطوِ الخلافات الدينية التي بيننا ولنمنعها من السيطرة على اجتماعاتنا! وسألهم أحد الحاضرين: هل تريدون من الناس أن تتشيع؟ فأجاب أحد مهندسي الشيعة: وما المانع من ذلك؟ ألم تكن حلب كلها للشيعة يومًا، فما المانع من عودتها كذلك مرة أخرى؟
في غفلة من الشعب السوري كان عملاء إيران يعملون على التوغل بخبث في مدينة حلب، فكان لهم ذلك، وقد استخدم عناصر المشروع الإيراني من أبناء نبل وغيرها صلاتهم المهنية والاجتماعية لتعريف الناس على المشروع الشيعي، ولإيجاد حالة تعاطف وقبول أو عدم رفض له على الأقل خلال سنوات وجود بشار الأسد على رأس النظام الطائفي.
بالمال والوعود بالجاه والسلطة استقطب المشروع الإيراني شخصيات دينية عدة في حلب لتقوم بتحضير المجتمع لقبول الوجود الإيراني في المدينة، وكان من أهم هذه الشخصيات محمود العكام وابنه علي وأحمد حسون، ويعمل تحت أيديهم مجموعة من طلاب العلم والجامعيين وبعض المثقفين باسم باحثين، كان منهم المهندس علي منصور كيالي الذي نذر نفسه لهدم كل ثوابت العقيدة السنية بتوجيه من العكام وحسون كما ذكر ذلك لي بلسانه في بعض الجلسات الخاصة في حلب.
في تلك الفترة قامت بعثات التبشير الرافضي باستهداف الأرياف الحلبية الفقيرة النائية بدعوة سكانها إلى التشيع، فكانت تدفع مبالغ مالية طائلة للعوائل المتشيعة، وتتخذ من حب آل البيت وسيلة للدخول إلى عقول الناس وقلوبهم، فاستجاب لهم في هذه الأرياف أعداد من الناس كما حدث في مدن سورية أخرى. وكل من وقف في وجه هذا الغزو من علماء حلب وأئمة المساجد فيها كانت مخابرات الأسد تودعه السجون بتهمة إثارة النعرات الطائفية، فَزُجَّ بعدد كبير منهم في السجون أو حقق معهم بهذه التهمة.
صناعة تنظيمات تكفيرية في حلب
دأبت إيران دائما على العناية ببذور تنظيم القاعدة واستخدامها في خدمة مصالحها، وقد كانت بداية ذلك إِثْر الغزو الأمريكي لأفغانستان وبلغ ذروته عقب احتلال العراق عام 2003 يوم بدأ بعض ضباط المخابرات السورية المرتبطين بإيران بتأسيس تجمعات لفكر القاعدة في كلٍّ من مركز مدينة حلب والأرياف المحيطة بها مثل مارع والباب وتل رفعت وفي أحياء هنانو والصاخور والشيخ سعيد وغيرها، كانت هذه التجمعات التكفيرية ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالمخابرات السورية عبر شخصيات جُنِّدَتْ لنشر هذا الفكر وتنظيمه رغم أن مخابرات الأسد تتظاهر بملاحقتها وإعلان الحرب عليها، وكانت هذه التنظيمات مشروعًا مشتركًا بين نظام الأسد وإيران، فقد ملؤوها بعناصر مخابراتية بغيةَ استخدامها في مهامٍّ مستقبلية غير معروفة، وكان لهذه التنظيمات مهمتان:
الأولى: نشر التكفير في المجتمع السني بغية إيجاد مسوِّغ للانتشار الشيعي في حلب، إذ لا يجد النظام الإيراني وسيلة لتجنيد الشيعة العرب في مشروعه أفضل من تنظيم القاعدة الذي يعلن تكفير الشيعة واستحلال دمائهم، وإن انتشار هذا الفكر في بعض المجتمعات السنية ييسر للمبشرين الإيرانيين عملية إقناع عوام الناس بدعوى تطرف المنهج السني ودموِيَّته واعتدال المنهج الرافضي واستقامته.
الثانية: كانت إيران تبغي من صناعة هذه التجمعات تفخيخ المجتمع السني السوري على المدى البعيد كما فعلت في المجتمع العراقي، فقد استخدمت تنظيم القاعدة لإشعال الفتنة الطائفية بين سنة العراق وشيعته وإرغام الشيعة العرب على الدخول في عباءتها، وقد حصد الإيرانيون والأسد ثمار ذلك في الثورة السورية، فتسلل عناصر هذه التجمعات والتنظيمات المرتبطة بالمخابرات أو ضحاياهم إلى صفوف الشعب في مطلع الثورة بدافع ديني تكفيري أو بأوامر عليا من أجهزة الاستخبارات التي يرتبطون بها، واستقدموا تنظيم القاعدة من العراق المعروف بصلاته الشهيرة بالحرس الثوري الإيراني، فأسسوا تنظيم جبهة النصرة، ثم انشقوا عنه إثر الخلاف الشهير بينهم وانضموا بالعشرات إلى تنظيم داعش، وقد قاموا بمهمتهم أتم قيام.
لم يكن التحضير لشق المجتمع السوري وليد أحداث الثورة بل تم التجهيز لذلك منذ بداية عهد بشار الأسد، وظهر جليًّا بعد عام 2005 في مناطق مختلفة من مدينة حلب، وحصدوا ثماره في منتصف الثورة، فقد كانت إيران تدرك أن وجود هذه التنظيمات التكفيرية في المجتمع السوري كفيل بهدم بنيانه ومنعه من جمع كلمته أو توحيد جهوده في أي مطالب مستقبلية للتحرر من النظام الطائفي ودول الاحتلال التي تقوم بحمايته.
ثالثًا: الوجود الإيراني في حلب مطلعَ الثورة السورية
كانت التوجيهات والخبرات الإيرانية التي يستخدمها الأسد واضحة منذ بداية الثورة السورية، وفي حلب لم يظهر وجود حقيقي لإيران قبل دخول الجيش الحر إلى مركز المدينة، ولما دخل لم تحاول إيران أن تأخذ دورا محوريا بحسب ما يظن البعض، لكن الواقع كان عكس ذلك.
بحسب معلومات حصلتُ عليها في السجن أثناء توقيفي في فرع الأمن العسكري بحلب منتصف عام 2014 كان الإيراني المعروف باسم “سيد جواد” أو “الحاج جواد” صاحب السلطة العليا في غرفة عمليات حلب التابعة لنظام الأسد منذ العام 2012، وقد أسهمت توجيهاته بشكل أساسي في إيقاف تقدم الجيش الحر وإدارة معارك النظام ضده.
منذ عام 2012 قام المدعو سيد جواد بتشكيل ميليشيات خاصة تابعة له تعرفتُ على بعض عناصرها في السجن، وهذا يكشف العلاقات الإيرانية القديمة التي استطاعت تكوين ميليشيات سرية مخلصة لها فورَ دخول رجلها إلى حلب، فقد اعتمد في ميليشياته على بعض الشباب من أبناء ريف حلب الشرقي، إذ كانت تعاني من التجهيل المستمر تحت سلطة الأسد الأب والابن، وكانت هدفًا لتشييع أهلها في عهد الأسد الابن. ولما خرجت من السجن عام 2014م حدثت بعض قادة الجيش الحر عن “سيد جواد” ودوره في إدارة المعارك ضدهم، فنفوا وجود أي أخبار عن رجل كهذا.
وبعد عامٍ من دخول الجيش الحر إلى حلب قام الإيرانيون بتشكيل تنظيمات شيعية محضة من الجهاديين العراقيين والمتشيعين السوريين والمرتزقة وأبناء الطائفة النصيرية الذين نزحوا من خان العسل إلى حلب، وكان من أبرزها ميليشيا لواء عمار بن ياسر ولواء أبي الفضل العباس الذي نشأ في دمشق وكانت له مجموعات تتبعه في حلب.
كان النقص الحاد في جيش الأسد يجبر الميليشيات الإيرانية على الظهور بشكل أوضح في المشهد العسكري السوري، فبرزت ميليشيات حزب الله اللبنانية وحركة النجباء العراقية وعصائب أهل الحق وكتائب الزينبيين الباكستانية وكتيبة الفاطميين الأفغانية وفرق فيلق القدس التابعة لقاسم سليماني وتنظيمات أخرى بأسماء مختلفة، وكان ضابط الحرس الثوري المدعو سيد جواد دائمًا هو القائد الإيراني الأبرز في شمال سورية، وإذ استطاع الجيش الحر قتل عدد من ضباط الحرس الثوري الإيراني بقي سيد جواد في منصبه حتى سقوط حلب في يد تحالف داعمي الأسد وميليشياتهم، يومئذٍ تحدثت عنه وسائل إعلامية عدة أولَ مرة عام 2016 بعد تقريرات مفصلة أظهرتها المعارضة الإيرانية عن تاريخه، وقد حاز لقب “سفاح حلب” نظرا لمشاركته المباشرة بجرائم الحرب التي حدثت أثناء سيطرة الميليشيات الطائفية على أحياء المدينة الشرقية.
رابعًا: إيران بعد احتلال حلب الشرقية
شاركت إيران بقوة في معركة احتلال حلب وتهجير أهلها لمركزيتها في المخطط الإيراني كما سبق، وحاولت فرض سيطرتها على كامل المدينة لكن الصراع الروسي الإيراني حال دون ذلك، وطردتهم شرطة المحتل الروسي من بعض أحيائها الشرقية إبان احتلالهم المدينة؛ فاتبع الاحتلال الإيراني أساليب أكثر بطئًا ومكرًا مما كان قد أعد نفسه له، واستخدم لتنفيذ خطة السيطرة على مدينة حلب أساليب جديدة تناسب واقع وجود ثلاثة أجسام مسيطرة على الأرض؛ ميليشيات كلٍّ من إيران الشيعية والاحتلال الروسي وميليشيات الأسد الطائفية.
الغزو الثقافي الإيراني في حلب
يكمن خطر المشروع الإيراني في ذراعه الدينية، صحيح أنه مشروع ذو طابع عسكري سياسي لكن خطره الأكبر في أدواته الدينية؛ إذ يستخدمها في التمهيد لسيطرته العسكرية طويلة الأمد، فهي تكفل له تأسيس قاعدة شعبية مرتبطة به على المدى القريب والبعيد؛ لهذا بذل الإيرانيون في حلب جهودًا واسعة لإقامة الندوات الدينية والمسرحيات الطائفية التي تستهدف الأطفال والناشئة، وعقدوا شراكات مع أئمة مساجد متلونين أو خائفين من البطش الإيراني، واستخدموا منابرهم لبثِّ أفكارهم بين الناس، وغالبًا ما يشفع الإيرانيون أعمالهم الثقافية بدعم مادي من خلال الرواتب واستغلال المعونات الدولية، ورغم أن التبشير الثقافي الإيراني ركنٌ أساس في سياسة التوسع الإيرانية إلا أنها كانت أكثر وضوحًا في حلب بغية خرْقِ مناطق سيطرة الروس والأسد والتسلل نحوها بخُطى محكمة.
يقوم الغزو الإيراني بتبني الأطفال اليتامى وكفالتهم والعناية بعوائلهم ليؤسس منهم جيشًا طائفيا تابعًا للجيش الإيراني كالذي أسسوه في كل من باكستان وأفغانستان واستخدموه في احتلال المدن السورية، وإن الجيش الذي يؤسسونه من النَّشأِ والشباب لا يعدو كونه خطوة معتادة في مشروع بناء جيوش إيرانية سريعة الحركة في معظم مناطق الشرق الأوسط للقيام بتنفيذ مخطط إيران دون حاجة لاستخدام جيشها الرسمي، وكان من آخر مظاهر الاختراق الإيراني للحياة الثقافية والدينية في حلب إرسال فريق من القراء الإيرانيين إلى المساجد في مدينة حلب في شهر رمضان، وكان لإذاعة وطن إِفْ إِمْ حلقة خاصة عن كيفية استغلال إيران مناسبةَ شهر رمضان لتعزيز توغلها الثقافي في المجتمع السوري، وغالبا ما يتخذ الغزو الثقافي من المشاهد الشيعية المزعومة مراكز لانطلاقه كما هو الحال في مشهد النقطة بحلب في منطقة الزبدية، إذ يزعم الإيرانيون وجود نقطة من دم سيدنا الحسين رضي الله عنه فيه.
خامسًا: أماكن وجود الإيرانيين في مدينة حلب
حاول الإيرانيُّون أن يكونوا في كل أحياء حلب لكن منافسة شريكهم المحتل الروسي أرغمتهم على الاكتفاء بأماكن محددة مدروسة، وتشكل بمجموعها أخطبوطًا يحيط بأطراف المدينة ويطوِّقها ويتغلغل في قلبها أحيانًا، فمن المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية التي سيطروا عليها مطار حلب الدولي وأطرافه ومطار النيرب ومخيمه، وعلى هذا المحور حاولوا السيطرة على المناطق الواقعة على الطريق بين حلب والمطار خلال الشهور الماضية لكنهم اشتبكوا مع الميليشيات الروسية ولم يتمكنوا من السيطرة عليها كما ذكرت أورينت في تقريرها نقلًا عن مراسلين محليين، وجاء في التقرير:
(الميليشيات الإيرانية بدأت مخططًا للسيطرة على الأحياء الواقعة في محيط مطار حلب الدولي بهدف منع الهجمات التي تشنها الميليشيات المدعومة روسيًّا على المطار بين الفينة والأخرى، خصوصًا أن الأخيرة حاولت خلال الأسبوعين الماضيين اقتحام المطار من الجهة الغربية في محاولة للسيطرة عليه…، وأضافت المصادر أنَّ أوتوستراد “حلب-دمشق” يُعَدُّ الخط الفاصل بشكل تقريبي بين مناطق الطرفين، فالميليشيات الإيرانية تسيطر على المطارين “الدولي والنيرب العسكري”، إضافةً للسيطرة على مخيم النيرب وصولًا لأحياء جنوب شرقي حلب “الشيخ سعيد ومنطقة معمل الإسمنت” وبعدها ريف حلب الجنوبي، إضافةً لامتدادها في الشمال الغربي في كل من “المدينة الصناعية وحندرات وباشكوي وتل مصيبين” حيث تبدو السيطرة الإيرانية على شكل دائرة “غير مغلقة” تحيط بمدينة حلب).
وكشفت زيارةُ وزير الدفاع الإيراني لحلب في شهر آب عام 2018م حجم السيطرة الإيرانية على المدينة، فقد دخلها كما يدخل أي مدينة في إيران باستقبال وحشود وزيارات وشعارات إيرانية بحتة، ومِن أحياءِ حلب الغربيةِ التي فيها إيرانيون حي الموغامبو وحلب الجديدة والشهباء، إذ اشتروا فيها عقارات كثيرة باهظة الثمن بحسب بعض المصادر.
في وسط المدينة وضعت إيران يدها على مناطق كثيرة، واشترت عقارات ذات رمزية تاريخية في حياة الحلبيين كتلك التي على أطراف القلعة والجامع الكبير والأسواق القديمة، وكان لمؤسسات آغا خان استثمارات عدة في أطراف قلعة حلب والمدينة القديمة، فقامت الشركات الإيرانية بمشاركته في بعضها، من ذلك -كما في جريدة المدن الإلكترونية- عملية ترميم سوق السقطية المغلق بالاشتراك بين “هيئة إعادة الإعمار الإيرانية” ومؤسسة “آغا خان للخدمات الثقافية”.
وليس ببعيد عن المدينة القديمة وضَع الإيرانيون أيديهم على مناطق عدة في وسط حلب وشرقها، منها حي الإذاعة والزبدية والمشهد وخاصة حول مسجد النقطة سالف الذكر، حيث قامت الميليشيات الإيرانية متمثلة بلواء الباقر وحزب الله السوري باحتلال مئات المنازل في حلب الشرقية بعد سقوطها بأيديهم، ووُزِّع جزء منها عام 2018 على شيعة كفريا والفوعة القادمين من ريف إدلب، وتوزعت مناطق توطينهم على أحياء الصالحين والسكري والفردوس والمشهد والميسر وفقًا لجريدة المدن.
في ريف حلب:
تسعى إيران للسيطرة على أحياء مدينة حلب وتطويق الريف للهيمنة عليه، فوضعت موطئ قدم لنفسها في أماكن مختلفة، ومن أهمها الشيخ نجار وأطراف جبرين والقرى القريبة من مطار حلب الدولي، هذا بالإضافة إلى قرى عدة في نواحي الحاضر والزربة وتل الضمان في ريف حلب الجنوبي وسنجار وأبو ظهور وما يجاورها، وكشفت مصادر خاصة لبلدي نيوز أن ميليشيات “الحرس الثوري” الإيراني انسحبت من شمال حماة وشرقها باتجاه سنجار وأبو ظهور بريف إدلب الشرقي وتل الضمان بريف حلب الجنوبي للتمركز ضمن المناطق المذكورة، وأشارت المصادر إلى أنَّ القوات القادمة إلى هذه المناطق تضمنت أكثر من 2500 عنصر من الجنسيات الأفغانية والعراقية التي منحت وثائق وهويات سورية وبطاقات تثبت هويتهم على أنهم سوريون من ملاك الفرقة الرابعة برتب عسكرية للتغطية على جنسياتهم الأصلية.
وبحسب “الأستاذ عبد الغفور” أحد أبناء منطقة الحاضر فإن الإيرانيين يحتلون بيوت المهجرين ويتخذونها مراكز عسكرية لهم، لكنهم في الوقت ذاته -على خلاف ميليشياتهم العراقية- يحسنون معاملة الناس في مناطق سيطرتهم، ويقدمون مساعدات مالية وعينية للنازحين بغية جرهم إلى التشيع، وهذا ما يحدث فعلًا تحت ضغط الحاجة والانبهار بالقوة المسيطرة.
وفي الريف يسيطر الإيرانيون على مدينة نبل وقرية الزهراء شمال حلب، وتتجه أنظارهم لضم المناطق المجاورة إلى سيطرتهم مثل بيانون وما حولها وخاصة بعد سقوط هذه المناطق بيد النظام مؤخرا، إذ لم تضح بعد صورة السيطرة فيها.
سادسًا: شراء العقارات في حلب
لم يُرصد إقبال الإيرانيين على شراء عقارات كثيرة في أرياف حلب كما في أطراف المطار والشيخ نجار حيث المنطقة الصناعية، فقد أطلقت طهران يدَ رجال أعمال تابعين لها أو معروفين بولائهم المشترك لها ولنظام الأسد لشراء عقارات في أحياء مختلفة من مدينة حلب.
طريقة شراء العقارات:
ذكرت بعض المصادر المحلية في حلب أن شراء العقارات غالبًا ما يكون عن طريق وسطاء سوريين؛ تجار أو مكاتب عقارية، ثم تُسلَّم لاحقًا للإيرانيين، ومن أشهر الشركات العقارية الناشطة في هذا المجال شركات حسام قاطرجي -عضو مجلس الشعب عن محافظة حلب- وأخويه براء ومحمد آغا، إذ يقومون بشراء العقارات باسم شركاتهم مباشرةً أو عن طريق مكاتب مرتبطة بهم، ثم يسلمونها إلى الإيرانيين، ووفقًا للمصادر ذاتها فإن إحدى شركات القاطرجي اشترت مبنًى في منطقة سبع بحرات بقيمة سبعة ملايين دولار -حسب الشائعات- في إِشارةٍ واضحة إلى حجم الأموال التي تبذل في مدينة حلب للسيطرة عليها.
في عملية السيطرة على عقارات مدينة حلب يحاول الإيرانيون جعل احتلالهم للمدينة قانونيًّا بحتًا؛ فغالبًا لا يشترون إلا العقارات ذات الملكية القطعية “الطابو الأخضر”، ويرفضون شراء الملكيات الأدنى “حكم محكمة”، ويدفعون مبالغ عالية أكثر من السعر المتعارف عليه في السوق.
وبعد شراء العقارات تُسلَّم لإيرانيين ومقاتلين من ميليشيات مجنَّسة تحمل الأوراق السورية الرسمية، وبعضها يُسجل باسم أشخاص من شيعة نبل والزهراء، وبحسب الناشط الحلبي “صبحي”: فقد أصبح من المعتاد أن ترى عسكريًّا إيرانيًّا يحمل الجنسية السورية، ويسكن بيتًا بقيمة مليون دولار في أحياء حلب الغربية، ويذهب إلى عمله العسكري ويعود كأي مواطنٍ سوريٍّ.
هل هناك إرغام على البيع؟
بحسب الأخبار الواردة من حلب ليس هناك إرغام مباشر على البيع -عمومًا- وإنما يتم إلجاء الناس إلى البيع بوسائل مختلفة تؤدي إلى نتيجة الإرغام ذاتها، من هذه الإجراءات:
أوَّلًا: رغم قدرة النظام نسبيًّا على تحسين الأوضاع في مناطقه، فهو مصِرٌّ على زيادة سوئها بغية إكراه فريق من الناس على الهجرة وبيع ما يملكون، خاصة مع تسلط الميليشيات المسلحة على مؤسسات العمل الظاهرة من محال ومصانع.
ثانيًا: تقوم الميليشيات الطائفية والأفرع الأمنية بخطف أبناء العائلات الميسورة مرة بعد مرة وطلب أموال طائلة؛ فيرغمونهم على التفكير بالهجرة أو بيع بعض عقاراتهم واستخدام أموالهم في إنقاذ أنفسهم وأولادهم.
ثالثًا: تمنع القرارات التي يصدرها النظام الكثير من الملاك من استصلاح ما تهدم من بيوتهم أو محلاتهم التجارية؛ فيُضطرون إلى بيعها، بينما تحصل الشركات الإيرانية والمرتبطون بها على التراخيص اللازمة لترميم هذه الأبنية بعد السيطرة عليها.
بحسب ما أفاد المواطن الحلبي محمد أحد ملاك العقارات في مناطق حلب الغربية: عَرَض عليه أحد المكاتب التي تَتَمَّلك للإيرانيين قائلًا: لماذا تعيش في حلب وأنت إنسان ميسور؟ من يملك كل هذا المال لا يعيش في مدينة كهذه! فاعتذر بأن أولاده ما زالوا في المدارس ولديه كثير من العقارات، فما كان من المكتب العقاري إلا أن قال له: إن شئت أستطيع أن أحضر لك من يشتري منك كل عقاراتك بالسعر الذي تطلبه بل بأكثر من سعرها الحقيقي، ونحول لك الأموال إلى أي دولة تختارها.
مقاومة الأهالي للمخطط الإيراني:
الشعب السوري شعب واعٍ عمومًا رغم أميَّةِ التجهيل الرسمية التي مُنِيَ بها بعضهم خلال الخمسين السنة الماضية…، فالناس في حلب يرفضون عمليات البيع بمقدار ما يملكون من قدرة على التحمل، لكن الفقر والمبالغ المالية العالية ووجود سماسرة سوريين لا يصرحون بشراء العقارات للإيرانيين يجعل بعض الملاك يبيعون جزءًا من عقاراتهم.
إلى ماذا ستؤدي عمليات البيع؟
إن حرص الإيرانيين على التملك الرسمي وبجنسيات سورية في شتى أحياء حلب أو ذات الرمزية التاريخية كأطراف القلعة والجامع الأموي لَيَجْعَلُ من الصعب التغلب على هذه الحالة قانونيًّا في نيرِ فوضى تعيشها البلد، وخاصة إذا علمنا أن مجمل دوائر النفوس المدنية تُسهِم بتجنيس الإيرانيين، وتعمل الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد على منح الميليشيات الإيرانية الحليفة لها بطاقات شخصية مدنية أو عسكرية سورية تغطي بها جنسياتها المختلفة.
سابعًا: جهود مقاومة وسائل الاحتلال الإيراني في حلب
بحسب الواقع ما مِنْ جهودٍ كافية لمقاومة وسائل الاحتلال الإيراني في حلب سوى ما تنقله وسائل إخبارية معارضة من حوادث تظهر شيئا من الاحتلال الإيراني للمدينة، وبعض الجهود المؤسساتية البسيطة كمشروع المجلس الإسلامي السوري الذي يقوم به المهندس مطيع البطين لملاحقة الاحتلال الإيراني، وهو مشروع توعوي بالدرجة الأولى، وله جانب قانوني بالدرجة الثانية إذ يعمل على جمع الأدلة القانونية لإبطال التملك الإيراني في سورية، لكنه يهتم بمدينة دمشق وريفها أكثر من غيرها، وبحسب بعض الناشطين السوريين فإن مواجهة هذا المشروع يجب أن تكون على محورين:
الأول اجتماعي: ويقوم على التوعية الدائمة للناس بالأطماع الإيرانية وخطرها على الجيل السوري الناشئ، والدعم غير المباشر للسكان الأصليين في حلب عبر جمعيات خيرية ومدارس إسلامية لمواجهة الغزو الثقافي الإيراني.
الثاني قانوني: وهي خطوة صعبة جدا نظرا للأسلوب الذي يتبعه الإيرانيون في حلب، ولعل يمكن إلغاء كل هذه العقود عبر إعلان سورية دولة محتلة…، وهذا سيُبطل تلقائيًّا كل عقود قوات المحتل الناشئة في جحيم احتلاله لسورية.
خاتمة:
إن ما يقوم به الإيرانيون في مدينة حلب يقومون به في مدن سورية أخرى، ولكن يختلف حجم الإنفاق على الاحتلال من مدينة لأخرى وقد حظيت حلب كأختها دمشق بشر هذا الإنفاق وأخبثه، وإن وعي شعبنا بأساليب المحتل وألاعيبه لهو الخطوة الأولى لمواجهة هذا الاحتلال مهما بلغ من القوة وبلغنا من الضعف. وأما الخطوة الثانية للمواجهة الفعالة فإنها لا تتم إلا بالتنسيق والتحالف بين شرائح الشعب السوري في الداخل والخارج، وكلما أسرعنا في بناء هذا التحالف كلما كان خلاص بلادنا وشعبنا أسرع.
[1] البداية والنهاية لابن كثير، طبعة دار الفكر (11/263).