د. عامر البو سلامة
شمول الإسلام
الإسلام دين الله تعالى الخالد وشريعته التالدة وقانونه الثابت الذي سيبقى ما بقيت الحياة، يصلح لكل زمان ومكان، ولا يبلى بمرور الأزمان، فهو روح متجددة، من حكم به حاز سعادة الدارين وأفلح في أموره كلها، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكًا ويكون أمره خُسْرًا، وما ضاعت بعض البشرية وصار أمرها إلى الجاهلية إلا لما تركت هذا الدين ولم تأخذ بهديه ونوره؛ فآل وضعها إلى خسران مبين {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}.
ومن خصائص هذا الدين الشمول، فهو ينتظم شؤون الحياة جميعًا ويفتي في المسائل كلها {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} يقول الإمام البنا في الأصل الأول من الأصول العشرين: (الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء). فما من قضية إلَّا وتدخل في محددات هذا الدين المنهجية بروح منفتحة وتكوين حضاري ورُقي تجديديٍّ ونظرٍ اجتهاديٍّ، فيشكل ألوانًا من الحضور الواقعي بما زخر به من شهادة الوحي وإثبات التجربة وشهادة المنصفين، جاء في الحديث الصحيح: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا))[1] وهكذا برزت تلك القامات والرايات المرتفعة في فنون كثيرة من مجالات العلم وإبداعات الحضارة.
مصطلح الإسلام السياسي
من المنطلق السابق يتأكد أنه لا يُقبل الإيمان بالإسلامِ مجزَّأً ولا بطريقة العِضين، فقد نعى الله تعالى على صنف من الناس فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فالإسلام حزمة خير متكاملة، وللعمل الصالح فيه مراتبه، ومن قوانين عمله ترتيب الأولويات، ومن لوازم نشاط العمل له فقه الواقع بالجمع بين المعاصرة والتراث؛ من هنا يأتي رفض نظرية تقسيم الإسلام وحصره بجانب من جوانب الحياة، إنها نابتة سوء تريد الكيد للإسلام وأهله، فصار هذا التيار الغريب ينادي بالإسلام التقليدي أو إسلام الأصالة أو إسلام الروح أو إسلام الشرق أو إسلام الغرب أو الإسلام الاجتماعي إلخ، فهؤلاء يحصرونه بالعبادات فلا يخرجون عنها، وآخرون نظروا إليه على أنه منهاج ثقافي فحسب، وصنف ثالث رأوا في القرآن أنه كتاب يقرأ في الموالد وعلى الجنائز وعلى المرضى لا غير، حقًّا إنها ثقافة التلبيس واللعب على حبال الألفاظ للتضليل والتشويه.
الإسلام حزمة كاملة تشمل نظم الحياة جميعًا عقيدة وشريعة، ففي الإسلام النظام السياسي والأخلاقي والاجتماعي وبناء الأسرة، ونظام اقتصادي ونظام تربوي وتعليمي ونظام قضاء وإفتاء ونظم أخرى، وقد كتب في بيان حقائقها جماعات من العلماء، ففرق كبير بين مصطلح الإسلام السياسي المرفوض المشحون بالغمز واللمز والتجريح والهمز، وبين تأكيدنا على جزء من أنظمة الإسلام الشاملة وهو هنا النظام السياسي في الإسلام.
لماذا نرفض مصطلح الإسلام السياسي؟
بدأت شهرة هذا المصطلح في التسعينيات تقريبًا عندما أعلن بعض الساسة الغربيين أنه آن الأوان للحد من انتشار ما يسمى بحركات الإسلام السياسي، وكانوا من قبل يسمونها الحركات الأصولية، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول برز المصطلح بصورة واضحة على أنه عنوان لجماعات تستتر بالدين لأغراض سياسية، وهذا كلام مرفوض مرذول، فيه قلب للحقائق وتغرير بالناس، ويعنون بهذا حركات العمل الإسلامي الوسطية المعتدلة التي تمارس العمل السياسي من خلال نظرية الشمول لتحقيق برنامج الحكم الإسلامي الراشد، فهم يريدون بهذا تشويه سمعة هؤلاء الإسلاميين وفصلهم عن جمهورهم، طاعنين في مصداقيتهم، ولسان حالهم ومقالهم ينادي: لا تصدقوا جماعات الإسلام السياسي؛ فإنهم يتخذون الدين ستارًا، ثم يستخدم هؤلاء الطاعنون كل وسائل التواصل مع الناس لبث هذه السموم خصوصًا في أيامنا هذه، ويعملون على ترويج ذلك من خلال آلة إعلامية لا يستهان بها.
أعذر من يروق لهم استخدام هذا المصطلح ويعبرون عنه بحسن نية وكأنهم هم من أنشأ هذا المصطلح، فيعرِّفون جماعات الإسلام السياسي بأنهم أولئك الذين يؤمنون بشمول الإسلام، فيشاركون في العمل السياسي ويخوضون غماره على أنه جزء من الحقيقة الإسلامية؛ إذ لا يجوز فصل الدين عن الحياة بصورة من الصور، فهذا لعمري تعريف لا يريده صناع مصطلح الإسلام السياسي، ولو كان ذلك كذلك لما كانت هناك مشكلة، لكن الأمر على غير هذه الصورة، فلا يقعن أحدنا في الفخ من حيث لا يعلم، لأن صناعة الصورة الذهنية المنفرة من أبناء العمل الإسلامي ثم استخدام هذا المصطلح تزيد الناس نفورًا، فهم إنما وضعوه على سكة أخرى غير التي ركبتها أنت، فتصبح أنت في واد والناس في واد آخر، بل أنت تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة هذه العداوة، فمصطلح الإسلام السياسي لغم خطير لا يجوز أن نسهم في تفجيره، فنقتل أنفسنا.
والأمر ليس بأيدينا حتى نعطيه هذا الوصف أو ذاك، فالنجاة إنما تكون بتوضيح الرسالة على ما هي عليه لإبلاغها للناس نقية صافية ربانية خالية من الغلو والتطرف، السماحة شعارها، وإرادة الخير للناس دثارها، ثم نقول للعالَم: نحن مسلمون، آمنا بشمول الإسلام، ونتناول قضايا السياسة من خلال مفاصل عملها السلمي، الذي يتيح لنا فرصة تحقيق مشروعنا الحضاري الإسلامي الوسطي بكل شعبه وركائزه وقوانينه؛ وأما الآخرون الذين لا يريدون لنا أن نمارس العمل السياسي بحثًا عن تحقيق قيم الحرية والعدل والكرامة والحقوق لنترك الساحة لهم يصولون بها ويجولون، فهم يحاولون عزل المسلم عن أي حراك يتصل بالدولة والسلطان، ويبغون حصره في الدوائر غير المؤثرة، وهذا خطر عظيم، وأما طرائق التطبيق فقد اختلفت وجهات نظر المفكرين الإسلاميين فيها، فمنهم من يرى إنشاء أحزاب سياسية تكون ذراعًا للحركة، ومنهم من يرى أن على الحركة أن تقوم بهذا الدور، وهناك رُؤى أخرى ليس هنا مجال بحثها.
الإسلام السياسي من جديد
شيطنة مجموعة ظالمة من مشارق البلاد ومغاربها لمن يعملون للإسلام من أفراد وجماعات وأحزاب ومؤسسات بات أمرًا معروفًا، وهو أمر مقصود تخطيطًا ومكرًا، فليس عفويًّا ولا طارئًا، وهو مسألة قديمة حديثة تتجدد بين الفينة والأخرى، وتخترع لها اللافتات المناسبة والوسائل الماكرة والآليات التي يَعرف أصحابها من أين تؤكل الكتف كيدًا وبطشًا وحقدًا وانتقامًا، وقل مثل ذلك في تلك الشعارات التي يدرسونها بدقة حتى تؤدي الغرض المطلوب من خلال خطة مدروسة ومراحل منتقاة بشكل خبيث، وتلكم هي سنة التدافع، قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: آية 40].
في وقتٍ ما من عصرنا الحاضر روَّجوا عن الإسلاميين أنهم أصوليون، وقاموا بحملة رهيبة مليئة بالتحريض والتشويه، وصوَّروا للناس أنهم وحوش قادمة لحرق الأخضر واليابس، وأنهم متخلفون رجعيون وظلاميون حجريون متصلبون، فدخل الناس في حيص بيص في تعريف “الأصولية” وجذرها، وهل هي مدح أم ذم؟ وهل هي نعت إيجابي أم سلبي؟ ومتى ظهرتْ؟ وما خصائصها ومثالبها؟ وهل ينطبق هذا على الإسلاميين أم أنه تلفيق عليهم؟ وبعد مناقشات طويلة في الدراسات والمؤتمرات والمحاضرات والأطروحات والبرامج سقط المصطلح بكل مفرداته لدى معظم المجتمعات المسلمة، فقد تبيَّن بشكل قاطع أنه لا يمت للإسلام والمسلمين بصلة، واتضح بما لا يقبل الجدل أنه مصطلح تاريخي يخص أوروبا في عصر من عصورها المظلمة يوم تولى رجال الكنيسة مقاليد الحياة بالتحالف مع الإقطاع وبثنائية رجل السياسة ورجل الدين، فأظلمت الحياة وعاش الناس في حالة بؤس، وفُصِل العلم عن الإيمان، وبرزت ظاهرة الاستغلال للدين ليأكلوا باسمه ما في أيدي الناس، وكانت هناك مظالم مركبة وحوادث جسام انتهت بثورة شعارها “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، فأراد الكائدون أن يساووا الإسلاميين بهؤلاء ويصفوهم بالأوصاف نفسها، وهذا من الافتراء البين والظلم الشديد.
وقد اقتضى استمرار الحرب لونًا جديدًا يؤدِّي إلى ديمومة هذا الصراع، فاستبدلوا بمصطلح الأصولية مصطلح الإسلام السياسي، ثم الإرهاب وهي تهمة قديمة جديدة، فاتهموا أصحاب المشروع الإسلامي الكامل بالإرهاب، وهم أبعد الناس عن هذه الفرية، فهم لها منكرون ولطريقها منتقدون.
إن مصطلح الإسلام السياسي دخيل يهدف صانعوه إلى معان خطيرة، روج له قومٌ بقصد خبيث، وانساق بعض الإسلاميين خلفه بنية حسنة، وظنوا أنه مصطلح مفيد وله أغراض نبيلة، وهذا خطأ واضح، فهم لم يقفوا على حقيقة مقاصده، ولم ينظروا بعمق إلى أهدافه، فشأنه شأن مصطلح الأصولية.
إن الإسلام هو الإسلام، نظام يشمل شؤون الحياة جميعًا لا يستثني مفردة منها على الإطلاق، فليس هناك إسلام عربي وآخر أعجمي، ولا إسلام صوفي وغير صوفي، ولا إسلام اجتماعي وغير اجتماعي، فلا فصل بين شؤونه إلا إذا كان في عالم التخصص وترتيب الأولويات.
واليوم يعمد قوم من الساسة والقيادات والكتاب والإعلاميين إلى شيطنة أصحاب “الإسلام السياسي”، ويعدون العدة لحربهم، ويشحذون لهم سكاكينهم، ويتهمونهم بشتى تهم الإرهاب؛ من هنا يظهر مقصد توصيفهم للإسلاميين ومشروعهم بأنه إسلام سياسي، فهذا ما كان يحذر منه، إذ لم يكونوا يريدون الثناء على الإسلاميين ليلجوا دائرة العمل السياسي بوصفهم معتدلين، بل جعلوا من المصطلح شبكة شر لاصطيادهم وإقحامهم في فخ مقصدهم، وهو أنهم جسم غريب في الدنيا وأصحاب مخططات هدامة، وهم عين الهلكة وعنوان الويل، وأنهم خطر على كراسي الرؤساء وعروش الملوك وعلى السياسة والاقتصاد، وكل حركة من حركات الحياة مهدَّدة بهم وبما أتوا به، فهم أخطر من السلاح الكيماوي والنووي، وبهذا يثيرون العالم عليهم، ويهيجون الدنيا لمقاومتهم والقضاء عليهم بذرائع وحجج واهية لمن أنعم النظر وتأمل بعمق، وسبب هذه الهجمة الشرسة، على الإسلاميين أنهم روح الأمل الذي يحمل على عاتقه همَّ الأمة وحق الشعوب في حياة حرة كريمة بنفَس وطني خالص وبمرجعية إسلامية ضابطة، فهنا يتحسس الطغاة الخطر من هؤلاء.
الحرب شرسة ضروس، ولو قلت: إنها غير مسبوقة فلعلي أصيب، تستهدف وجودكم أيها الإسلاميون، وتعمل للقضاء عليكم بحملة تيار لا يعرف غير الشر، فاصبروا وصابروا ورابطوا، وتمسكوا بمنهجكم الوسطي، ولا تخرجوا عن دائرة الاعتدال مهما ضغطوا عليكم، وتمسكوا بقيم الحوار بالتي هي أحسن وبمنهجكم الراشد الشامل، والنصر قادم لا محالة، (عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ؛ قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون))[2].
معادلات الأخذ بأسباب البقاء
رغم كلِّ هذه الهجمة الشرسة والكذب الصارخ على حركات العمل الإسلامي بمفهومه الناضج الذي يعبر عن وعي فكرة الدعوة إلى الله تعالى وطرائق مناصرة هذا الدين عبادةً لله تعالى وابتغاء رضوانه، فإنه ما زال حضور الحركات الإسلامية العاملة في هذا الميدان ملء السمع والبصر رغم شكوى كثير من أبنائها من الضعف والترهل، ولها ظهورها اللافت في ميادين عدة، ولديها شُعَب عمل متنوعة في إطار ما يعرف بالقوى الناعمة على مستوى النقابات والجمعيات والحراك الدعوي، ولا شك أن الحضور السياسي مفردة مهمة هنا لها حضورها اللافت في جملة من القضايا والمسائل، ولا أريد المبالغة في هذا المضمار المؤرق لكنها الحقيقة التي لا يجوز تجاوزها ولا النظر إليها بعين الريبة فضلًا عن السخرية والاستهزاء، فلا يحقرنَّ امرؤٌ ما بيده من قوةٍ وخير.
وكأني أنظر إلى غدٍ أمثل لهذه الأمة بجهود البررة من الإسلاميين ممن يحملون هم هذه الأمة بحكمة وموعظة حسنة وإخلاص وحماس وتخطيط وعمل وجهد وجهاد، يوازنون بدقة بين لوازم التراث ومقومات المعاصرة، رائدهم الإخلاص، ومسارهم العمل الصالح، لا يفت عضدهم كيد كائد ولا مكر ماكر، ومن عادتي أني لا أحب لغة العنتريات وأرتاح لقيمة الثبات وحقيقة العمل والشجاعة الحكيمة.
خيارات الإسلام السياسي
يرى بعض الكتاب أن الإسلام السياسي ليس له سوى خيارين:
الأول: أن يذوب في السلطة، ويفيد من المساحات المتاحة له بوزارة هنا أو مسؤولية كبيرة أو صغيرة هناك، فيصبح جزءًا من النظام الحاكم مهما كان لون هذا الجزء، وهذا الخيار ثمنه معروف ونتائجه معلومة الأثر، وعواقبه مفهومة المعالم.
الثاني: أن يختاروا برامج العمل خارج إطار السلطة معارَضة ومصادمة وشدًّا وجذبًا، وهذا سيوقعهم حتمًا في دائرة الفشل الصاخب بكل تداعياته ونتائجه وآثاره المريرة، هكذا زعموا أو هذا هو ما يتصوره هذا الصنف من المنظرين.
وكلا الخيارين مرفوض لدى العاملين للإسلام في شتى ميادين الحياة.
أسباب البقاء والتقدم
ومقتضَى التدافع أن نواجه هذه الهجمة بمعادلات الأخذ بأسباب البقاء والتقدم إلى الأَمام، ونمضي في طريق الأهداف المأمولة وترسيخ القيم المرسومة، ومن أسس ذلك:
أولا: العودة إلى الله تعالى والتمسك بأهداب هذا الدين القيم بإيمانٍ عميقٍ عبادةً وتذللًا ودعاءً وذكرًا وتوبةً وإنابةً إلى الله تعالى والتزامًا وتحليًّا بالفضائل وتخليًا عن الرذائل {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه). فما ينبغي أن يقال: نحن نتكلم عن حرب ضروس وتحديات كبرى تحاول استئصالنا، فنحتاج إلى العمل المتواصل وكيفية مواجهة التحديات، وأنت تردنا إلى الدروشة والمسكنة! فنقول: إنه بقدر حسن تمسكك بقيم التزكية وآداب السلوك تكون المقدمة الصحيحة، فهذا مفتاح الخير، لكن الخطأ أن نقتصر عليه ونحبس أنفسنا في دائرته، وهذا لا يقوله عاقل.
ثانيا: قيمة العمل بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا خيار أمام العاملين إلا أن يصمدوا ويثبتوا ويكثروا من العمل الكيفيِّ المدروس المستمر، فالديمومة سر البقاء، والانقطاع من أكبر المهالك التي تواجه العمل الإسلامي، فلنأخذ بما نطيق ولا نحمل أنفسنا ما لا قبل لنا به وفق قانون الواقعية، ولنكف عن الرغائب والسياسات الشهوية ولا نجابه نواميس الكون بل نعمل بمقتضيات السنن الربانية، ومن ذلك أن نأخذ بعالم الأسباب –في كل شيء– بأحدث ما توصل إليه العقل البشري من نتائج العلم والمعرفة وحسن الإنتاج.
ومن المعلوم أن خصوم الإسلام السياسي يرون أنهم يسيرون بلا هدْيٍ ولا رشد ولا خطة ولا مشاريع ولا برامج واضحة ولا مناهج عملية ولا رؤى منقذة، فلا يلامسون الواقع ولا يفقهون أدوات العمل فيه حسب قوانين المعاصرة ومفاهيم التطور الصحيح، والأمر عند هؤلاء الإسلاميين لا يعدو مجرد شعارات تُردَّد ورايات ترفع وشارات براقة وهتافات جذابة وأناشيد منعشة وخطب حماسية لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا التبخيس من الظلم والحرب على الإسلاميين، وهو عينه حرف العربة عن مسار الحقيقة، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نفيد من هذا النقد الشديد كما أننا لا نكابر فننكر كلامهم جملة وتفصيلًا، بل علينا أن نبحث عن جوانب القصور فنتجاوزها، ونعرف نقاط الضعف فنقويها، ونفتش عن مواطن الخلل فنعالجها، ونرصد منافذ الخلل فنسدها، وهكذا، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي العمل أحب إلى الله. قال: ((أدومه وإن قل))[3] وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه))[4] ورواه أحمد عن أنس بلفظ ((إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)).
ثالثا: المراجعات المستمرة والتقويم الدائم، والإفادة من التجارب، والوقوف عند الإيجابيات لتنميتها وتطويرها ورصد السلبيات والهنات والثغرات لتقليلها وتقليصها وتجاوزها، ومن ذلك سماع النقد من الأخ والصديق بل حتى العدو، فرب ثغرة دلك عليها عدوك، فلا تكابر ولا تبتأس ولا تعاند، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
رابعا: الاستفادة من كل مساحة متاحة للعمل والمشاركة وفق استراتيجيات دقيقة؛ تقرر قواعد حكيمة ومفاعيل السياسة الراجحة، من مثل: متى نتصدر ومتى نكون في الصف الثاني أو الثالث، نُقدم مَن ونؤخِّر من، نتعاون مع من ونترك من، كل ذلك بعيدًا عن العاطفة المجردة أو الانسياق وراء رائحة نصر هنا أو بارقة أمل هناك.
خامسا: عقد التحالفات مع المخلصين من القريبين حسب دوائر محددة بناء على دراسات معمقة وفهوم دقيقة.
سادسا: بناء شراكات مفيدة في كل مفاصل الحياة مع النظيفين في المدى الوطني الواسع، والحذر كل الحذر من التقوقع على الذات مهما كانت المسوغات؛ فهذا يعطي فرصة لعدوك ليعزلك، ويسهل عليه ضربك.
سابعا: التواصل مع الجماهير في سلال خدمتها، فالجماهير ملت الشعارات وتريد من يخدمها، ويقدم لها ما ينفعها في حياتها، فلو سلمنا بنخبوية الحركات الإسلامية فلن نسلم بإهمالها الشأن العام.
ثامنا: الكلمة المفتاحية في كثير من حراكاتنا مصدرها صناعة علاقات مميزة تحمينا من كل سوء ومكروه، وتعطينا الفرصة الكافية لنجاح المشروع، فالمفاصلة لا تعني قطع علاقتك مع من يخالفك.
تاسعا: من مشكلات التيار الإسلامي أنه يدخل أحيانًا في شرنقة طبقة المورِّطين الذين لا يتقنون سوى العواطف، ولا يجيدون سوى الاندفاعات غير المنضبطة، فالحذر كل الحذر من الوقوع في ردود أفعال غير محسوبة النتائج، فعلينا بالصبر وطول النفس ومنع عوامل الاستفزاز من أن تكون سبيلًا للانسياق وراء خيارات غير محمودة، كل ذلك مع الثبات والتمسك بالثوابت.
وخلاصة القول: إن الأخذ بأسباب النصر وعوامل النجاح؛ طريقنا إلى تجاوز هذه الهجمة الشرسة على الإسلام وأهله، وفي مقدمة أسباب النصر علاقتنا الخالصة بالله وطاعته والالتزام بمنهجه.
[1] رواه أبو داود في سننه، باب “ما يذكر في قرن المائة” رقم (4293)، طبعة دار الكتاب العربي – بيروت.
[2] رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3612).
[3] رواه مسلم باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل رقم (1864) طبعة دار الجيل بيروت. ورواه البخاري حديثا آخر يقاربه في المعنى.
[4] رواه البخاري كتاب بدء الوحي باب الدين يسر، رقم (39).