د. عبد الجواد حردان
مدرس الفقه وأصوله في جامعة سوتجي إمام / قهرمان مرعش.
في وقت الرَّخاء يَسَعُنا التعددُ والتنوع والاختلاف في كلِّ ما لا قطع فيه من أمور الدنيا والدِّين؛ فَلَنا في المتغيرات والظنِّياتِ سَعَةٌ وفي الثوابت والقطعيات عِصْمة، وأمَّا في الشِّدَّة فللشَّدائد ضروراتٌ يتعين علينا جميعًا فيها أن نَدِين لاتفاقِ أكثرية المجتهدين أو لقرارِ أغلبية أهل الحل والعقد أو رأيِ العدول من الخبراء ذوي البصيرة النافذة وسراة القوم ورؤوسهم أو لحكمِ الحاكم الناجم عن أحد هذه الثلاثة؛ فإنَّ من شأن حكم أو قرار أو رأيٍ منبثق عن شورى كهذه أن يرفع الخلاف، لا سيما ما كان منه في جلبِ مصلحةٍ أو درءِ مفسدةٍ عامَّةٍ كليةٍ ضروريةٍ حيالَ واقعةٍ قد تستأصل شأفة جمٍّ غفير من الأمة وتُنزَّل منزلةَ وباءٍ فتَّاكٍ لا يُبقي ولا يذر.
وإذا كان يلزم مَن تولَّى حارَّها أن يتولَّى قارَّها فإنَّ واقعةً كهذِه ما زال يُصلَى بنيرانها وسمومها أحرارُ سورية في إدلب وغيرِها لَتَقْطعُ بوجوبِ انقياد القومِ جميعًا رعاةً مفترضين ورعيَّة تائهةً لمبدأ الشورى، وإنها لَفريضةٌ تحتِّمُ عليهم أن ينفروا جميعًا نفيرًا فكريًّا عامًّا يبحث عن سبُل البقاء الفرديِّ والجماعيِّ ودرء الفناء الكليِّ والثوريِّ والتاريخيِّ سِلْمًا أو عنوةً، وأَنْ يستحدِثُوا آلياتٍ متاحةً تستخدم مُدْخَلاتٍ واقعية، وتَعِدُ بمُخرجاتٍ عمليَّة تقرِّرُ مصيرَ الملايين وتنقذهم من غياهب التيه وأحابيل المرجفين المروِّجين للعودة إلى الرِّقِّ ومجاهيل الرُّعب.
خماسيةُ المعاذير والمسالِك البديلة
للنهوض بفريضةِ شورى البحثِ عن سبلِ البقاء طرائقُ عدَّة أوْسَعَها بحثًا السياسيُّون والكُتَّابُ مثل محمد المختار الشنقيطي وزهير سالم وفايز الدويري وغيرهم من الْمَعْنِيِّين بالشأنِ السوري في الصحف الغربية والعربية ومراكز البحوث، وفَصَّلوا بإسهابٍ أَوْجُهَهَا وأَوْجَهَها منذ أن اغتِيلَت حلب عام 2016م بمخالبِ الأحزاب، وأَنذرُوا مَن بيدهم السلاح مِنْ أيَّامٍ في إدلب كأيامِ حلب وأشدّ. هذا وليس وراء ترك تلكم الفريضة في نازلتنا هذه سوى مسلكَين:
المسلك الأول: أنْ يغدو الرعاة والرعية وسراة القوم وسوقتهم غنمًا ترقب الذَّبح وتموت كل يومٍ ألف ميتة، وإنَّه لَتَفريطٌ في المسؤوليات العينيَّة والكفائية لن تجبرَه ناهيك عن أن تغفرَه حجج داحضة كخماسية المعاذير التالية:
وأمَّا نحن فما شكرْنا ولا عذَرْنا ولا نقَدْنا ولا نصحنا لهم، بل حمَّلْناهم ما لا يطيقون وساءت ظنُونُنَا فيهم حتى مُنِي شعبُنا كلُّه أو جُلُّه بمتلازمةِ المظلومية والمؤامرةِ وعمَى الألوان؛ فاسودَّ في أعيننا كلُّ شيء، وبدأنا نكذِّب كل ما يعِدُ به الصديق ونصدِّق كلَّ ما يهذي به العدوُّ!
ويْ كأنَّنا ما زلْنا نملك خيارًا أقوى أو أنكى وأسلمْنا قيادَنا وأرواحنا ومصيرَنا وثورتنا إلى من اتخذناه وليَّ أمرٍ أو أبًا ملزمًا بحمايتنا ونصرنا على عدونا! هذا كلُّه بينما سائر العرب والمسلمين سادِرُون وفي أهوائهم وأوهامهم غارقون، بل إنَّ في جامعتهم ومؤسساتهم من يشدُّ أَزْرَ عدوِّنا ويتكبَّدُ نفقاتِ سلاحه الفتَّاك!
وليس في ذلك كلِّه ما يمنح صكوك الغفران لمن تردَّد منَّا أو من جيراننا المخلِصين أو خُدِعَ فتأَخَّر في اتخاذ قرارات مصيريَّةٍ منذ سنواتٍ؛ ليحقق المأمول أو بعضَه ويُبصر المستور أو جُلَّه قبل أن تقوم القائمة!
المسلك الآخَر: أن يعجَل الرعاة والسراة المكلَّفون بالاجتهاد إلى ربهم ليَبْرَؤُوا من تبعات هلاك الأمة متبرِّئين مِن واجباتهم متجاهلينَ مسؤولياتهم بناءً على حساباتٍ خاطئةٍ أو مخطئة وتصوراتٍ واهمة أو موبوءة، أو متدثِّرين بالعجز وبتعذّرِ قيامهم بمبادرةِ إنقاذٍ آخِر رمقٍ فينا، علمًا أنَّ حُججهم تلك تُعَد هروبًا من المسؤولية وتجاهلًا لواجب الوقت وتعاميًا عن السنن الكونية والتشريعية والاجتماعية.
ولستُ أدري ما الذي يحول بينهم وبين أن يقدموا خططًا واقعية للحيلولة دونَ تلك الإبادة، ويُعِدُّوا أنفسهم لأخرى محتملة، ويحتاطوا بثالثةٍ بديلة من شأنها أن تُقدِّمَ أطروحاتٍ وحلولًا فرديَّةً أو جماعيةً؛ لتُعرَض على أوسع نطاق في سياق مُدَاولةٍ منظَّمةٍ مشفوعةٍ بإعلامٍ مهنيٍّ وإسنادٍ شعبيٍّ وعقلٍ جمعيٍّ ونشاطٍ ثوريٍّ وحراك سياسيٍّ على المستوى الدوليِّ.
من شورى الخندق إلى إدلب
ماذا يتوقَّع أن يحدُثَ ويتغيَّر لو أنَّ فئةً أو أفرادًا أو طائفةً واعيةً بادرت لتقوِّي بسلاحِ العقل والشورى والخبرة والدراسات السابقة شوكةَ ثلةٍ ثابتةٍ مرابطةٍ؟ أوَليس كثيرٌ مما حلَّ بالمستضعفين في سورية وليبيا وغيرهما نتاجًا محتومًا ملازمًا لطبائع الاستبداد بالقرارِ وللتفرق وسوء الظَّنِّ واستغلالِ مرتكزَاتٍ عدَّةٍ بغيةَ تضليلِ العامَّة وتخديرِهم وتعطيلِ العقل الجمعيِّ، وزِد عليه الإغلاقَ المحكم لنوافذ الاتصال بمراكز الدراسات وبالمفكرين النافذين العارفين خبايا القرار الدولي وخفايا الحراك المخابراتي وخطط المحتل الصهيوني وعملائه؟
لقد كانت المداولات والخِبراتُ في شورى الخندق وأضرابها عصمةً للأمة أَنْ تغور أو تبيدَ، قال سلمان: (إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟)[1]، فهذا فردٌ أنقذَ أمةً بحميد رأيه وجديد خِبرته.
وحدةُ الصفِّ واتحادُ الهدف
كفى بالخندقِ ذاته بيانًا صادحًا بأنَّ الصحابة لم يكونوا ليَغفُلوا أو يُغفِلوا هدفَ عدوِّهم الأنكى والأعتى. وليس الاحتلالُ الروسي الفارسي لسورية اليوم ببعيدٍ عن ذاكم الهدف؛ فقريشٌ وحلفاؤها رغم اختلاف عقائدهم كانوا يستهدفون بوَحدة صفهم تحقيقَ مصالحهم وسحقَ كلِّ ما يهدِّد أطماعَهم، ولم يَعْدَم هذا العدوُ وسيلةً لبلوغ مرادِه؛ فحرَّضَ اليهودَ على الغدر، وحالف أحزابًا جمعتهم به المصلحة والكفر كغطفان وأسد، وآخَرِين هدَّد الإسلامُ وجودَهم العقديَّ والقياديَّ والجغرافيَّ كيهودِ الجَلاء، وبثَّ العدوُّ أراجيفَه على ألسنةِ المنافقين ليشقَّ الصفَّ ويزلزل القلوب زلزالًا ليس كمثله امتحانٌ {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11].
هذا علمًا أن اختلاف المشارب والمآرب في إدلب ليس بمانعٍ مِن اجتماع مَن فيها على بساط واحدٍ؛ فهو من وجهٍ اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، نعم يستثنى من هذا كلُّ ما يزلزل القطعياتِ كالقضايا التي تُلْبِس المتغيرات لبوس الثوابت؛ فمثلُ هذا الاختلافِ يدُكُّ قواعد الاتفاق دكًّا دكًّا، ليشق الصفوف ثم يُحِيل وَحْدتَها إلى شقاقٍ واقتتالٍ يقطع بأن مقاصد المختلفين بمنأى عن تحرِّي مقصد الشارع؛ ذلك أنَّ (الخلاف -الذي هو في الحقيقة خلاف- ناشئ عن الهوى الْمُضِلِّ لا عن تحري قصد الشارع…، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم يُنتج إلا ما فيه اتباع الهوى، فاتباع الهوى من حيث يُظَن أنه اتباع للشرعِ ضلالٌ في الشرع)[2]. وإنكَ –والله- لترى في اتحاد عدوِّنا برهانًا قاطعًا على هوى دفينٍ لإخوةٍ متفقين على أسسِ كلِّ شيءٍ، يفترقون ولا يتفقون على شيء وإن أوْدَى تنازعهم بهم إلى هرجٍ ومرجٍ وخسارةٍ لكلِّ شيءٍ!
إنَّ الثوابت والأواصر الرابطة بين فصائل الثورات أكثر من أضدادها وإنْ أوهنَتْها يومًا أهواءُ الدَّاعمين ورِهانُ المراهقة السياسيَّة وصِدامها أو عمالتُها وأنانيتُها، بل إنَّ ما يجمعُنا أقوى وأوثق من معاهدات حسن الجوار أو الدفاع أو المواطنة التي كانت تؤلِّف بين الصحابة وغير المسلمين من يهود المدينة وقبائل الجوار والحلفاء.
الخوفُ السَّائق والعائق
في مثل أيام إدلب والخندق تُحدِق بالناس كلُّ الظنون في حصارٍ ومسغبةٍ وكيدٍ وغدرٍ وحربٍ تآزر عليها معاهِدون ومنافقون من جيران ومواطنين {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].
هذا الضربُ من الخوف غريزة مركوزةٌ في طباع الكائنات ضروريةٌ للمحافظة على البقاء، وعادةً ما تستثار على إيقاع مؤشراتٍ تؤذن بخطرٍ خارجيٍّ أو تعلُّقٍ بمجهولٍ مرغوبٍ فيه أو عنه.
وأمَّا الخوف العائق فهو الذي يولِّد الأمراض النفسية والعجز وارتقاب المصير، فذاك مرضٌ وبائيٌّ يتغذى بثلاثيةِ رُّهاب الحرب النفسية:
المخابرات وحرب الأخبار
إنَّ عيون العدوِّ تفتك بالمستضعفين وتغزونا في عقر إدلب خاصَّةً وفي كل بقاع الأرضِ، فينبغي أن نقف على سرِّ الفتور وعواملِ القصور في إعداد جهاز مخابراتٍ خبير أمين لديه مَجْمَعُ معلوماتٍ سريةٍ لنأخذَ بفضلِهِ حِذْرَنا.
لقد كان الفضل كل الفضل يوم الخندق وما قبلَه وبعده لخلايا استطلاعٍ تكتمُ إسلامها لتغزو بصمتٍ قريشًا واليهود والمنافقين، فهم مراسلو المدينة وعيونها: («من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا»)[3]. وكذلك فعل حذيفة من قبلُ ففاز بالمرافقة: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع… أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟)[4] وبعد أحدٍ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم) ولَمَّا (رجع قال: ما لي رأيتك منكسرًا؟ قال فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرِحًا بقفولهم إلى بلادهم، فقال: إن سعدًا لمجرِّب!)[5] فأين سعدٌ هذا من بثِّ الرعب والإحباط واليأس والشك والرجم بالغيب أو النصر الموهوم والتقدُّم المزعوم وفتح الأندلس والقدس في إعلام ثوَّار وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات السبق الإعلامي، وإنك لتُلفي في فوضى إعلامنا وتهويله أو تهوينه للوقائع عونًا للعدوِّ ووهنًا في صفوفنا، يتبعه منِ بعدِه ذُعرٌ وشكٌّ وتخوين وتِيهٌ وضياعٌ ينفرط به عقد الوحدة والتضامن بين العامَّة والمقاتلين، وحسبكَ لبيان فداحة هذا الإعلام وأثرِه القتَّالِ ما آل إليه أمر بعض الصحابة يوم أحد بعدما أُشيع بأنَّ محمدًا قد قتل! وأنت خبيرٌ أنَّ طامَّةً كهذه ما كانت لتكون لولا أطماعٌ أعلنَتْ مبكِّرًا النصر على قريشٍ، فاغترَّ بذلك الرُّماة على الجبل، وكان ما كان!
شدائد الأزمات ومَخارِجها
التأسِّي بالأفعال:
في شدةٍ كالخندق وإدلب يتقاسم الناس والقادة المغارم والمغانم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها)[6] (وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام)[7] فتأثير الطباع في الطباع لا تُخطئه عين؛ ذلك أنَّ (التأسِّي بالأفعال -بالنسبة إلى من يعظَّم في الناس- سرٌّ مبثوث في طباع البشر)[8]؛ فحريٌّ بالمرابط منَّا واللاجئ والمهاجرِ وفرسان السياسة والسيف والقلم والمال أن يكونوا جميعًا على قلب رجل واحدٍ في المواساة بتَبِعات هذه المأساة، فأقلُّ ما يقال في مسؤولياتنا عنها أنَّها فرضُ كفاية على القادرين بالمباشرة وعلى غير القادرين بإعانة من يقدرون.
الأمن العامٌّ والخاصُّ في الحربِ
سبقَت هجومَ الأحزابِ تدابيرُ احترازيةٌ من عدوانٍ محتمل على العرضِ والنَّسل، وقِوامها الشورى والتخطيط والمواساة والإيثار والتعاون، ومن أهمِّها في باب المقاصد تحصين الذَّراري والنساء في أحصن الحصون (فحين خرجوا إلى الخندق رفعوا الذراري والنساء في الحصون مخافة العدو عليهم)[9] (وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارعٍ حصنِ حسان بن ثابت)[10] (وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتَى الذراري والنساء على غِرَّة)[11].
هلمَّ فحدِّثني يا صاحِ عمَّا قدَّمناه في إدلب ومخيمات الركبان والديرِ وغيرها لحرائر سورية وضعفائها من مقوِّمات الحياة والأمنِ سوى خيامٍ في العراء؛ تجتثها الرياح وتقتلعها السيول، وتنسفها طائرات المحتل نسفًا.
إنَّ هدفَنا معاقلُ جندِ الأحزاب ومرابض مقاتلاتهم، فكان حريًّا بنا أن نُقَيِّم تقييمًا شرعيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا مسألةَ حروبِ المدن وعبثيةَ تحريرها شبرًا فشبرًا ثم التحصن بها والتترس بالضعفاء من نساء وأطفال وشيوخٍ، ثم إن تعيَّن اللجوء إلى المدن فلا أقلَّ من خطة نفيرٍ عامٍ؛ يمتثلُ لها كلُّ من له طاقة أيًّا كان نوعها ومستواها، وتُجنِّبُ بعضَ المدن والقرى الحربَ لتتحصنَ بها الذراري والأطفال، وتضعُ خطوطًا ومساحاتٍ حدوديةً نهائيَّةً للجبهات الأمامية والخلفية تجعل من الانسحاب منها فرارًا قاضيًا بالهزيمة النكراء؛ أمَّا ما نحن عليه منذ سنواتٍ من تقهقر وتفريغ للبلاد من أهلها ثم الهروب منها بلدة تلو بلدة فهذا سلوك مدمِّرٌ وتترسٌ بالمستضعفين لا أرى له وجهًا شرعيًّا سائغًا، ونهايتُه استسلام مَهين القتلُ ألفَ ألفِ مرَّةٍ دونَه بكثير، ودونكم حَماة الثمانينات سلوها تنبئكم؛ فإن من ذاقَ عرف، وما راءٍ كمن سمعا.
المفاوضات وخدعة المداولات
لما استبدت بالصحابة غاشيةُ الحصار تداوَل الرأي قائدهم وسراتهم بحثًا عن مخرجٍ من فالِقة حاقَّة، فكاد يقبل رأي فئةٍ منهم لِيَفُتَّ عضدَ اثني عشر ألف محاصِرٍ ولتنفضَّ عنهم ببعضِ ثمار المدينةِ أشدُّ القبائل بأسًا وأكثرها عددًا؛ فيزول بذلك عن الصحابة الكرب وتقوى عزيمتهم على الثبات ومقاومة الحصار ومقارعة العدو بالرمي، (والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)[12].
إنَّ القصدَ إلى اختراق صفوف العدو وتمزيق وَحْدته لَهو لبابُ فقه هذه الواقعة وحكمتها، واليوم لدينا في تشكيلات أحرار سورية قوى سياسيةٌ واجتماعية ودينية قَمِينةٌ باختراق العدوِّ ونشر الذعر وفضِّ تكتلاته وتمزيق لحمة صفوفه وسداها والضغط والتضييق عليه ولو بقدرٍ ما من خلال الأحزاب السياسية المعارضة لحلفائه مثلًا، لا سيما أنَّه لا يجمع الاحتلال الشيوعي الشيعي وشبيحته سوى عدوِّهم المشترك (قال أبو سفيان: أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد)[13]، وأمَّا عوامل تفرُّقهم فما أكثرَها! وفي مقدِّمتها اختلاف المصالح وتنازعهم عليها؛ فليس شيءٌ من ذاك الاختراق بمستحيلٍ لو أنَّ تجمعات الأحرار تلك أخلصت للقضية وتحررت من رهاب الإعلامِ والرأيِ العام والتصور المحدود والرؤيةِ القاصرة والأغراضِ الشخصية، فالسوريُّ العلماني والليبرالي النصراني أو الكرديُّ أو العلويُّ على قلب الأمريكي والأوروبي، وهؤلاء والشيوعي السوريُّ أقربُ إلى المحتلِّ الروسي والملحد الصينيِّ من غيرهم، وبين بعضِ الإخوانِ والشيعةِ صلات ووشائج، ولأهل السنة على اختلاف مشاربهم علائق شتى مع دول وأحزابٍ عربية وإسلامية وغربية يسارية ويمينية، ولن تحول بينهم عوائق مصطنعة أو هواجس المصالح لأنَّ ما بينهم من قواسم مشتركة كفيل بتحقيق شيءٍ ما في التفاوض والمساومة وتبادل المنافع.
إنَّ الجمودَ وتعطيل العقول والتعامي عن القوى المتاحة والبدائل الموفورة والمنظورة في مثلِ الخندق وإدلب مقتلةٌ، عظيمة خاصَّةً إذا كنَّا جميعًا وقلوبنا شتَّى وعدونا متحد، أو إن كنَّا قلَّة في العُدَّة والعدد؛ فإن التغرير عندئذٍ بفلذات أكبادنا وشموع حضارتنا ومستقبلنا جريمةٌ نكراء وجاهلية جهلاء، وهذا ما يفسِّرُ الضرورة الحاملة على وجوب البحث للعثور على وسائل بديلة عن مقارعة العدوان الغاشم وجهًا لوجهٍ كالخندق ورمي العدو بالسهام والنِّبال من وراء الخندق، وكالخدعة التي كُلِّف بها نعيم بن مسعود الغطفاني المنشق عن الأحزاب ليُسْلِمَ ثم يُؤْمر بإخفاء إسلامه والإيقاع بين الحلفاء[14]، وقد فعلها نعيم فنعمَّا ما فعل! لقد أشعل حربَ التخوين والشكوك بين يهود بني قريظة والأحزاب بخدعةِ الرهائن؛ فأوجس كلٌّ منهم في نفسه خيفةً من حليفِه وتخاذلوا (قال أبو سفيان ورؤوس الأحزاب معه: هذا مكر من بني قريظة، فارتحِلوا)[15]، فهذا الذي رأيتَ يعزِّز أهمية السياسة الحربية ومفاوضاتها كالعُرُوض الاقتصادية المقدَّمة لغطفان الجناحِ الأقوى في حِلْفٍ جمعتْ أشتاتَهُ المصالحُ التجاريةُ المشتركة والتطلُّع للهيمنة الجغرافية على الطرق الدَّوْلية[16].
عِبَرٌ ورسائل مِنَ صحابةِ الخندق إلى أهل إدلب
لعلك تدرك أنَّ القوَّة الحاسمة للمعركة هي الفارق الوحيد بين أصحاب الخندق وأهل إدلب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] فهناك الريح المرسلة ومعها جنود ربَّانية لم ترَها العيون استنزلَتْها دعوات المضطرين على الأحزاب: (اللهم مُنزِل الكتاب، سريعَ الحساب، اهزِم الأحزابَ، اللهمَّ اهزِمْهُم وزلزِلْهُم)[17]. وعلة الفرق بين الفئتين ثلاثيةٌ أومأت إليها الآية التي شهدت للفئة الأولى كلِّها بها مجتمعةً، وهي “الإيمان والعمل والرقابة الإلهية” {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا… وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]، وبرهنَت على جوهرِ الفرقِ المذكورِ بين الخندق وإدلب وقائعُ الأحوالِ وشهودُ المواقفِ وشواهدُ الأحداثِ المثالية الدالَّة دلالةً قاطعةً على الرباعيةِ التالية:
وحسبك شاهدًا على الدِّعامتين الأولى والثانية في هذه الرباعية ما قصَّهُ جابرٌ من أهوالٍ ومعاناةٍ وصبرٍ ومواساة وتعاونٍ وبذلٍ وإيثار وإيمانٍ ويقين…، عن جابرٍ رضي الله عنه قال: ((قام النبي -صلى الله عليه وسلم- وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقًا…، فقلت: طُعيِّم لي، فقم أنت -يا رسول الله- ورجل أو رجلان، فقال: ((قوموا)) فقام المهاجرون والأنصار، فلم يزَل يكسر الخبز ويغرِف حتى شبعوا وبقي بقيَّة))[18] ولهذه الواقعة نظائر منها؛ نحوُ كفٍّ من تمر أتت به ابنة بشير بن سعد لأبيها وخالها، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب[19]. وأمَّا إدلب فأنت في غنًى عن تقييمها من منظور كلٍّ من ثلاثية العلة الفارقة والرباعيَّةِ السابقة.
بهذا الذي خبَرْتَ وجب أن تكون غزوةُ الخندق مدرسةً إِدْلبيَّة ومَلْجأً للمضطهدين في العالَم؛ فلقد كانت عاملًا أصيلًا في تحوُّل موقف المسلمين بعدئذٍ من الدفاع إلى الهجوم وتبليغ رسالة الله للعالمين.
[1] الواقدي: المغازي، (2/ 445)، المباركفوري: الرحيق المختوم، ص277.
[2] الشاطبي: الموافقات، (5/ 220).
[3] صحيح البخاري، (4113).
[4] السيرة لابن هشام (2/ 231).
[5] الواقدي: المغازي، 1/ 299.
[6] المصدر السابق، (2/ 464) (2/ 463).
[7] المصدر نفسه، (2/ 647).
[8] الشاطبي: الموافقات، (5/ 262).
[9] السيرة لابن هشام (2/ 226)، السيرة لابن كثير، (3/ 207)، الدلائل للبيهقي، (3/ 440).
[10] السيرة لابن هشام (2/ 228).
[11] الرحيق المختوم، ص285.
[12] السيرة لابن هشام، (2/ 223).
[13] الواقدي: المغازي، 2/ 442.
[14] السيرة لابن هشام، 2/ 229.
[15] الواقدي: المغازي، (2/ 487).
[16] السيرة لابن هشام، 2/221-224.
[17] صحيح مسلم، (3/ 1363).
[18] صحيح البخاري، (4101).
[19] السيرة لابن كثير، (3/ 190).