د. حذيفة عكاش
تكمن أهمية التاريخ في كونه بيت الخبرة البشرية، فهو يثبت ويوثِّق حركة المجتمعات والدول والأمم في أيام سلمها وحربها وأوقات ازدهارها وتطورها وانتكاسها وتقهقرها، وعندما نقوم برصد الخط البياني لحركة تاريخ الأمم والدول صعودًا وهبوطًا، وتحليلِ الأسباب التي أدت إلى الهبوط والتخلف والضعف، وإحصاءِ العوامل التي أسهمت بالصعود والتطور والتقدم والقوة والازدهار؛ نستخلص سننًا وقواعد اجتماعية تفيدنا في حياتنا، فنتجنب أسباب التخلف والضعف، ونحرص على الالتزام بعوامل النهوض والقوة؛ وبهذا ينتقل علم التاريخ من حفظ الروايات والقصص إلى الاعتبار والحركة والفائدة، فتصبح قراءته مفيدةً عمليًّا، فلا يعود قصصًا ورواياتٍ وأحداثًا مضَت، بل يغدو قواعد وسننًا وعاداتٍ وأسبابًا مرتبطة بنتائجها، فتحكم تلك القواعدُ الواقعَ وتمكننا ملاحظتها من استشراف المستقبل، وهنا نؤكد أمرين:
أولًا: للتخلف أسباب لا سبب واحد فقط كما أن للنهوض عواملَ لا عاملًا واحدًا فحسب، هذه حقيقة تساعدنا عند وضع الخطط الإصلاحية التي تلاحظ ذلك.
ثانيا: نؤكد تعدد مسارات وجوانب التاريخ، ففيه الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والنفسي والديني…، وكل مسار يؤثر تغيره سلبًا أو إيجابًا على بقية المسارات.
الأنواع الثلاثة في قراءة التاريخ
ثمة ثلاثة أنواع لقراءة التاريخ، قراءتان على طرفي نقيض، وأخرى ثالثة متوسطة بينهما، وعلى العموم فإن ثمة أسلوبان ينتشران بكثرة في قراءة التاريخ وكتابته وروايته، يجمع بينهما أنهما قراءة انتقائية توظيفية هما:
الأولى: قراءة مناقبية تقديسية
في القراءة المناقبية التقديسية تُستدعَى الصفحات المشرقة من التاريخ بحيث يظهر أنه تاريخ أبيض ناصع بكل جزئياته ومراحله، وأن أشخاصه ملائكة، فكله انتصارات وبطولات وتضحيات ومآثر ومفاخر، وغالب من كتب التاريخ بهذه الطريقة من المعاصرين كتاب إسلاميون غيارَى ليبعثوا العزة والفخر في نفوس مسلمي القرن المنصرم، وما زالت هذه القراءة مستمرة عند بعضهم حتى أيامنا هذه، وسببها قلة الصور المشرقة في واقع المسلمين إذ سادَ الضعف والتبعية والانكسار أمام الآخر، والمرء حين يفلس واقعه من المفاخر يعود بذكرياته إلى أيام العز والإنتاج والعطاء، كما فعل جملة من مصنفي العصر الحديث حينما أرادوا إعادة التوازن النفسي للشباب المسلم أمام الانبهار والتبعية للغرب والشعور بالمهانة. وقد ظهر هذا المنهج بصفته ردةَ فعلٍ تجاه هجوم بربريٍّ على العالم الإسلامي وتراثه في ذاك القرن، ولهذه القراءة سلبيات ستأتي.
الثانية: قراءة كيدية تدنيسية
في القراءة التدنيسية للماضي تُستدعَى صفحاتُ التاريخ السوداء، وتُعرَضُ معًا لتقدِّمَ تاريخَنا على أنه تاريخ زُمرةٍ من الشياطين، يُقتل فيه الخصوم حتى الأقرباء والعلماء والصالحين، وتُتَّبَع فيه الشهوات من نساء وخمور وتبديد للمال، وتعم فيه الحروب الداخلية والظلم والفساد والاستبداد، وغالب أرباب هذه القراءة لهم معتقدات معادية للإسلام.
الثالثة: القراءة الموضوعية المنصِفة
إن القراءة الموضوعية المنصفة للتاريخ هي القراءة الحقيقية التي نحتاجها اليوم ففيها تُنقل حوادث التاريخ كما رُويت، ثم تُدقَّق بموضوعية تامة للاقتراب من الواقع والحقيقة قدر المستطاع، مع يقيننا بأن ادعاء دقة المرويات التاريخية وصدقها كما رويت ليس بأمر يسير إلا ما ورد في السيرة النبوية وبعض الأحداث الخاصة.
إن واجبنا العلمي والأخلاقي يحتم علينا أن نروي التاريخ رواية بشرية تؤمن أنَّ أشخاصَ تاريخنا بشرٌ لا ملائكة ولا شياطين، بشر يصيبون ويخطئون ويحرصون على مبادئهم ويرعَون مصالحهم، وهم في صراع دائم بين المبادئ والمصالح كسائر البشر، أحيانا ترجح في تصرفاتهم المصالحُ وأحيانا ترجح المبادئ، هذا مع إيماننا بامتياز القرون الإسلامية الأولى التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن باقي فترات التاريخ؛ فيظهر من خلال تلك القراءة أنَّ تاريخنا تاريخ تجارب بشرية تحاول الالتزام بالمنهج الإسلامي، فتخطئ وتصيب، وأنه تاريخ بشريٌّ خالصٌ لا أبيض ملائكي ولا أسود شيطانيٌّ، يقترب من البياض أحيانًا ومن السواد أحيانًا بحسب التزامه بالمنهج الإسلامي والقيم الربانية، وهذا أمر طبيعي؛ فعالَم القِيَم والْمُثُل والكمال المطلق عالمٌ مثالي، أما الواقع ففيه وفيه، فيكون المجتمع فاضلًا كلما اقترب من عالم الْمُثُل، وتقل فضيلته كلما ابتعد.
مفاسد القراءة الانتقائية للتاريخ
عندما نتأمل القراءة التمجيدية -الأكثر انتشارًا في الساحة الإسلامية اليوم- والقراءةَ التدنيسية -التي يقودها أعداء الإسلام غالبًا- نجد لهما تأثيرًا سلبيًّا كبيرا على نمط تفكير المسلمين، فمن مفاسدهما:
إن القراءة التمجيدية الخالصة للتاريخ تمنعنا من معرفة أخطاء الماضي، ومن لا يقرأ التاريخ يكرّره، فتقع الأخطاء نفسها دون أن نحاول تجاوزها بإيجاد حلول لها، فإذا بنا نعيد المقدمات نفسها ونريد نتائج مختلفة رغم أن هذا من المحال؛ فسلوك الطرق والأساليب نفسها سيؤدي -حتما- إلى النتائج السابقة ذاتها.
إن القراءة التدنيسية لتاريخنا تَهدم الرموز الملْهِمة وتُعْدِم القدوات المحفزة وتُلغي النماذج الرائدة، فهوية كل أمة تتشكل من دينها ومبادئها ولغتها وتاريخها، وبتشويه تاريخها تُشوَّه هويتها ويضعف انتماء أبنائها إليها وكأن قيمنا الإسلامية لا أثر لها على من ينتمي إليها، فتلك دعوة غير مباشرة لاحتقار الذات والانبهار بالآخر، وغرضها تجاوز هذا التاريخ وفتح صفحة جديدة بالانتماء لحضارة متقدمة يقصدون بها الحضارة الغربية غالبًا.
إن القراءة التمجيدية تُظهر واقعنا أَسْودَ كالحًا مُظلمًا؛ “فتاريخُنا مجموعة من القادة الأبطال المخلصين، وواقعنا مجموعة من القادة الشياطين” سواء في ذلك الحكام ورؤساء الدول وقيادات المجتمع والجماعات ومديرو المنظمات والمؤسسات، فيصيبنا الإحباط من واقعنا، ويتساءل الإنسان بيأس “أين نحن من عظماء تاريخنا”؟! ولعل هذا هو سببُ ما نشاهده من اعتياد الناس اليوم إسقاط أي قائد من قادتنا لأصغر خطأ، فنحن لم نقرأ تاريخنا بموضوعية، ولا نعرف أن أولئك القادة في تاريخنا كانوا بشرًا لهم أخطاؤهم كما لقادتنا المعاصرين المخلصين أخطاء.
ختام بنقطتين
الأولى: تاريخُنا إجمالًا مصدرُ فخرٍ واعتزاز لنا نحن معاشر المسلمين، فهو تاريخ أسلافنا وأجدادنا الذين أسسوا حضارة شهد لها القاصي والداني، ونعتقد أنه أفضل من تاريخ غيرنا من الأمم ممن عاش الحقبة التاريخية نفسها، فهو التجربة البشرية التي طبقت مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه، ونشرت دين الله في بقاع المعمورة، لكن هذا الافتخار ليس مدعاة لأن نحتقر غيرَنا من الأمم بل هو مدعاة لإنصافهم، ولا يدفعنا حبنا وعاطفتنا نحو أمتنا أن نظلم غيرنا ونجحف، كما لا يدفعنا إعجابنا بما قدمه الآخرون في مجالات العلم المختلفة إلى الانبهار غير المنطقي بهم، فالباطل الخالص نادر في الحياة كما أن الحق الخالص نادر كذلك، وكما أن للمسلمين تاريخًا يفتخرون به فإن للأمم الأخرى ما يدعوهم للفخر أيضًا وإلا لما قامت دولهم ولا استقرت، وقد علَّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- الإنصاف في الحكم على المخالفين، فشهد لِمَلِك غير مسلم يومئذٍ بأنه عادل ولا يُظلَم عنده أحدٌ وهو النجاشي، وشهد الصحابيُّ عمرو بن العاص للروم أن فيهم خصالًا أهَّلتهم لأن يكونوا من أكثر الناس عند قيام الساعة، فقال: (إن فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فَرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ: وأمنعُهم من ظلم الملوك)[1] وقال ابن تيمية: (إنَّ الله لَينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).
الثانية: من الظلم محاكمة تاريخنا بقيم عصرنا الحاضر وثقافته، بل ينبغي قراءة تاريخنا في سياقه التاريخي وفق ثقافة عصره، ومقارنته بتاريخ الأمم الأخرى في زمانهم لا بحاضرها. نعم يمكن بل يجب محاكمة تاريخنا وواقعنا للمنهج الإسلامي والمبادئ الإسلامية، فميزاننا هو المبادئ والقيم والأحكام الإسلامية لا التجارب التاريخية.
[1] صحيح مسلم (2898).