الشيخ عبد العظيم عرنوس
الأحاديث النبوية الشريفة درر ثمينة، تحتاج إلى عقل وفكر يغوص لالتقاطها وإثبات صفائها وبهائها واستنباط معانيها، لكن هذه المعاني قد لا تبدو لأول وهلة، فيحتاج الأمر للتفكر وإعمال العقل لاستجلائها، ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)[1].
وأقصى ما تكلم عنه شراح الحديث هو بيان قدرة الله في إنطاق هذه البقرة، وهل هذا موضع استغراب وتعجب للمؤمن أم هو من بدهيات الإيمان التي لا يتم إلا بها؟ قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا، قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] غيرَ أن هذا الحديث يحمل في طياته معاني جليلة أخرى لم يتطرق إليها شراح الحديث سوى إيماءات يسيرة لا تشفي الغليلَ، ومما يُستفاد من هذا الحديث:
1- بشاعةُ جريمةِ الظلم وسبلُ دفعها:
لكلِّ مخلوقٍ وظيفةٌ يؤدِّيها قد لا يقوم بها غيره، ومن الظلم تسخيرُ المخلوق لغيرِ ما خلق له، ولا يجوز استخدامه في شيءٍ من ذلك، فهذه البقرة عندما ركبها صاحبها وضربها -وهي غير مهيأة للحمل والركوب بحكم تكوينها- أنطقها الله، فدافعت عن نفسها وجهرت بالحق ولم ترض بالظلم الذي وقع عليها، فَقَالَتْ: (إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ)، وفي هذا تعليمٌ للأمَّةِ ألَّا ترضخ للظلم وألَّا تستكين للظالم وأن تدافع عن حقوقها المشروعة وتطالب بها؛ فلا يليق بالإنسان المكرَّم أن يسكت على الظلم أو استلاب حقوقه وحقوق أمته وله أجر الشهادة إن قتل دونها، بينما البقرة لم تسكت على الظلم، روى النسائي بسند صحيح عن سويد بن مقرن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))[2]. قال محمود سامي البارودي:
إِذا المرءُ لم يدفَعْ يدَ الجور إِن سطَتْ عليه فلا يأسفْ إِذا ضاعَ مجـدُهُ
وأَقـتَـلُ داءٍ رؤيـةُ الـمـرءِ ظـالما يسيءُ ويُتلى في المحافلِ حمدُهُ
قال الإمام الذهبي في كتاب الكبائر: (فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا، تدافع عن نفسها، بأنها لا تؤذى ولا تستعمل في غير ما خلقت له، فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه وتعذيبه)[3]. وقال الإمام القرطبي في تفسيره: (فدل هذا الحديث على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل)[4]. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))[5] وقد هيأ الله للإنسان وسائل للركوب والحمل، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] فمن الظلم البين تحميل الحيوان ما لا يطيق، روى أبو داود بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قال: (أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ…، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِن الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَسَحَ ذِفْرَيهِ فَسَكَتَ، فَقَالَ: ((مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)) فَجَاءَ فَتًى مِن الأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ((أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))[6].
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بمصر : (بلغني أن بمصر إبلًا نقَّالاتٍ يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل) وكان لأبي الدرداء جمل يقال له “دمون”، فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا، فإنه لا يطيق أكثر من ذلك، فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون لا تخاصمني غدًا عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق. [رواه أبو الحسن الأخميمي في حديثه (63/1) وهو في تاريخ دمشق لابن عساكر].
2- احترام التخصص:
وزع الله سبحانه المواهب والقدرات في البشر توزيعًا عادلًا وجعله متنوعًا لتتم عمارة الأرض، ولو تأملنا قانون التسخير لوجدناه من القوانين البديعة التي هيأها الله لتسير حياة البشر بيسر وسهولة، ولولا هذا القانون لوقع الناس في حرج ومشقة ولما استقامت حياتهم، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
والتخصص منذ القِدَم له مدارسه وتلامذته، وصار في زمننا أكثر تميزًا، فللعلم الواحد أكثر من تخصص، كان الطبيب مثلا يعالج كل شيء، واليوم اتسعت علوم الطب كثيرًا، ففي طبِّ القلبِ تخصصاتٌ متنوعة وكذا في طب العظام والأعصاب وغيرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُدرك هذا، فكان يوزع المهمات على أصحابه، كلٌ حسبما وهبه الله من إمكانيات، وهذا من وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وفيه أيضًا إيماءة لطيفة وهي إبراز المربِّي مزايا أتباعِه وطلابِه ليكونوا مثالَ القدوة والأسوة الحسنة للأمة.
ومن الخطأ البيِّن والمشكلات القديمة الجديدة أن يتكلم الإنسان في غير تخصصه، قال ابن حجر: (من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب)، وقل مثل ذلك في تحميل الإنسان ما لا يطيق من علوم وأعمال وصناعات، قال ابن سينا: (ليست كل صناعة يرومها الصبي ممكنةً له مواتية، ولكن ينبغي له أن يزاول ما شاكل طبعه وناسبه). فهذا الخطأ باب شرٍّ وفساد.
وجدير بالأمة التي تريد التقدم فتح الباب لإعادة النظر في مناهج التعليم وطرق التدريس والمواد التي يميل إليها الطالب ويرغب بها.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطبِّق هذا المبدأ تطبيقًا صارمًا، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ))، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)). وروى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ)). وروى مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّا –وَاللهِ- لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ)).
3- مكانة أي بكر وعمر رضي الله عنهما:
في الحديث تنويه بمنزلة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وعلو كعبهما في الإيمان والتصديق، وهذا شأن كل مؤمن، فما جاء به النبي كله حق، وجميع ما أخبر به صدق لا يتم إيمان المؤمن إلا بالتصديق به مهما كان الخبر مستغرَبًا، قال الإمام النووي في شرح مسلم: (قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ثِقَة بِهِمَا لِعِلْمِهِ بِصِدْقِ إِيمَانهمَا وَقُوَّة يَقِينهمَا وَكَمَال مَعْرِفَتهمَا لِعَظِيمِ سُلْطَان اللَّه وَكَمَال قُدْرَته، فَفِيهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَفِيهِ جَوَاز كَرَامَات الْأَوْلِيَاء وَخَرْق الْعَوَائِد، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقِّ)[7]. وهذا غيض من فيض مما نستفيده من هذا الحديث.
[1] رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء بعد باب حديث الغار، رقم (3471) ترقيم فتح الباري.
[2] سنن النسائي، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، باب من قتل دون ماله رقم (4093).
[3] الكبائر للإمام الذهبي ص 200 طبعة دار الندوة الجديدة – بيروت.
[4] تفسير القرطبي (10/72) طبعة دار عالم الكتب – الرياض.
[5] صحيح البخاري باب “فسنيسره لليسرى” رقم (4949).
[6] سنن أبي داود بَابُ “مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ” رقم (2549).
[7] شرح النووي على مسلم (15/156) دار إحياء التراث العربي – بيروت.