تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر في ضوء علم أصول الفقه

الوازع الطبيعي وأثره في التشريع الإسلامي
نوفمبر 23, 2019
الإمام أبو حنيفة وفقه الثورة
نوفمبر 23, 2019

تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر في ضوء علم أصول الفقه

 

د. عبد الجواد محمد الحردان

مدرِّس أصول الفقه، كلية الإلهيات، جامعة صوتجو إمام كهرمان مرعش

تمتاز عهود الازدهار الفقهي والاجتهاد المنضبط بشروطه، بردِّ المتشابِه إلى المحكم، والظنِّيات إلى القطعيّات، والجزئيَّات إلى الكليَّات، والفروع إلى الأصول، وبالفصل بين أعمال القلوب وأفعال الجوارح في الحكم قضاءً وديانةً، وبالتمييز بين ما هو عملي من أفعال المكلفين يَتعلَّقُ به الحكم الشرعيُّ التكليفيُّ وتَثبت أحكامه بالشهود والأدلة والقرائن، وما هو علمي عقائديّ لا يحيط به علمًا إلا الظاهرُ الباطنُ.

ولما غلبتْ على الإفتاء والاجتهادِ الجماعيّ _إن وُجِد_ المأسسةُ الرَّسميةُ، وصار أكثره محكومًا بسطوة الإعلام والرأي العامّ وسلاحِ أصحابِ الرأي الواحد، ظهرت فتاوى شاذَّةٌ وأُخْرَى باطلةٌ تركت آثارًا لا يكاد يجهلها أحد، منها ما أضرَّ بالفرد والأسرة، ومنها ما هو أَعَمُّ لُوحِظَ أثرُهُ فِي الأمَّةِ الإسلامية بل فِي العالِمِ أجمع؛ وهذا نتاج متوقَّع لانقلاب موازين الاجتهاد عما كانت عليه في عصر ازدهاره.

والملاحَظُ في الفتاوى الرسميةِ والإعلاميةِ والسَّوْداوية: استبدالُ الجزئياتِ بالكليّاتِ والفروعِ بالأصولِ وشواذّ الآراء بما نُقل فيه إجماع، وإحلالُ الظَّنِّي محلَّ القطعيّ والمتشابِهِ محلَّ المحكم؛ وما أزاغَ قلوبَهُم إِلَّا “الجهلُ بمقاصد الشريعة، وتوهُّم بلوغِ درجة الاجتهاد” باستعجال نتيجة الطلب، وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وفي الصحيح “إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»[1]، والتشابه في القرآن لا يختص بما نصَّ عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه.. إذ إن اجتهادهم فيما لا علم لهم به من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية؛ إذ لا دليل على الحصر، فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء – بعض المواضع فيها – مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التي يُتَّقى اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية؛ إذ لم يخص الكتابُ ذلك ولا السنةُ، فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يَقْصُرُ عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية”[2]. هذا، ولدى تقويم وتقييم الفتاوى المعاصرة ودعاوى الاجتهاد في ضوء علم الأصول ينبغي الوقوف على أمرين:

أ _ شروط الاجتهاد ومدَى تَحَلِّي المفتي أو المجتهد المعاصر بها.

ب _ تحديد “كليات الاجتهاد” في علم الأصول والحكم على الفتوى وقياسها ثم تقييمها وتقويمها في ضوء هذه الكليات.

(أ)

إنَّ من فضول النَّظر البحثَ في مدى أهلية المجتهد الرسميّ أو الإعلاميّ للاجتهادِ وَفْقًا لشروطه التي ضبطها علم أصول الفقه ضبطًا بالِغًا بالغَ فيه بعضهم يومًا، فسدَّ باب الاجتهاد من حيث الواقع لا من حيث إمكان الوقوع لاعتقاده أن لا طاقةَ لأحدٍ ممن جاؤوا بعدُ بشروطه الشاملة للعدالة والإحاطة بمدارك الشرعِ إحاطةَ تمكُّنٍ[3] إثباتًا واستنباطًا وموازنةً وبالواقعةِ فِقْهًا وتَنْزِيْلًا، ولهذا السدِّ دعائمُهُ وإن فنَّده السيوطيّ وآخرون وهم على حقٍّ.

نَعَمْ إن مقتضى حفظ الشريعة وديمومتها إلى يوم الدين أن يكون الاجتهاد في كل عصر فرض كفاية، وليس وراء سدِّ باب الاجتهاد سوى الدَّعَة والتَّواكل وتعطيل الشريعة؛ فلن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت وعهد، وإنه لَيلزم عن خلوها من مجتهد اجتماع الأمة على الخطأ[4]، والإجماع قائم على أن ذلك ممتنع، وعلى ذلك تظاهرت النصوص، فليس لأحدٍ أن يُغلِق بابًا فتحُه فرضٌ لكنْ لكل بابٍ مفتاح، ولكل مفتاحٍ أسنانٌ أبرزها وأهمها في الاجتهادِ وشروطِهِ: علمُ الأصول وتنزيلُ النصوص على الوقائع أو فقه النص وفقه الواقع أو تخريج المناط وتنقيحه فتحقيقه؛ ومن أمعن وجد أن ضياع المفتاح أو إخفاءَه أو ثَلْمَه هي الأَثَافِي الثلاث التي قام عليها الاجتهاد الفردي المزيَّف، أو الاجتهاد الجَماعي المسيَّس، الْمُختزَل في عِماية أدْعِياءِ الفقهِ والملكِ، المغتصبين لمقام أولي الأمر…

ولدى نصب ميزان الاجتهاد بضوابطه ووضع أدعيائه اليوم في إحدى كِفَّتيه تطيش كِفَّة جُلّهم، ويبقى جليلهم متورِّعًا عن التفرُّد به؛ بل يسعى هو وأهل النَّصفة من أمثاله نحو اجتهاد جَمَاعِيٍّ مجزَّأٍ تخصُّصِيٍّ، لا تُصيبه لوثة الْمَجْمَع الاجتهاديّ المسيَّس، الذي يعمل لرضا الملوك، أو الرسميّ أو المدجَّن العاجز عن تقديم البديل، والذي يستهدفُ تشريعَ كلِّ دخيلٍ ومسايرةَ أهواء المجتمع كلّه أو جُلّه.

ومن خلال أبعاد هذه الصورة الواقعية للفتوى والاجتهاد المعاصر يمكن للناظر في أصول الفقه كشفُ أهم الضوابط الناقدة لأبرز أشكال هذا الواقع وآثاره، واقتراحُ الحلول الممكنة في ضوء المستقبل المأمول للاجتهاد والفتوى وحيثياتهما المنظورة والمتوقعة، وتحديد كليات الاجتهاد في علمَي الأصول والقواعد الفقهية، والحكم على الفتوى في ضوء نماذج من تلك الكليات كالآتي:

(ب)

(1) جَلْبُ المصالحِ ودَرْءُ المفاسدِ

“الشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا} [البقرة: 104]؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر”[5] والدرء مقدَّم على الجلب عمومًا، وفي الشرائع كلّها ما يدلَّ على حفظ الكليات الخمس بمراتبها الضرورية والحاجية والتحسينية من جهتي الوجود والعدم أي من جهة جلب مصالحها ودرء مفاسدها، وهذا محلّ اتفاق، وهو ركن أصيل في الاجتهاد والإفتاء؛ ذلك أنه حيثما وُجِدَت المصلحة فثَمَّ شرع الله، لكن إذا وصل الأمر إلى تقدير المصالح والمفاسد وقع الخلاف، فما هي طرقُ تحديد المصلحة وعدُّ هذا الشيء منفعةً وذاك مفسدةً: العقلُ أم النقلُ أم الطباعُ والغرائزُ أم العرفُ والعادةُ؟

من هنا يظهر الفرق بين التشريع السماويّ والوضعيّ، ومذهب المنفعة الفلسفي والمصلحة المقاصديّ، فكلما مال الفيلسوف أو المجتهد في تقديره للمنفعة أو المصلحة إلى مقتضى الطباع والغرائز والأهواء لا سيما الفردية منها، وعدَّها مصالح شرعيةً تُبنَى عليها الأحكام، وقدَّمَ الخاصَّةَ منها على العامّة والدنيوية على الأخروية، كان أقربَ إلى التشريع الوضعي منه إلى السماوي؛ وكلما قدَّرَ المصالح والمفاسد الدنيوية في ضوء العقل والأخروية منها في ضوء النقل، وقدَّمَ الثانية على الأُوْلى كان أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع والمحافظة على كلياتها الخمس بمراتبها الثلاث؛ إذْ إنَّ “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تعرف إلا بالنقل، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته”[6].

وعندما تلتبس المصلحة بالمفسدة ويتنازعُ الواقعةَ طرفان نقيضان؛ يردّ المجتهد تقديرها إلى الشرع والعقل، وهذا أصل في تقدير المصلحة والمفسدة عند تعارضهما، ذلك أن “مصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته”[7].

وإذا تعارضت المصالح والمفاسد كان درء المفاسد مُقدَّمًا على جلب المصالح، وإذا تعارضت درجات كل رتبة في نفسها كان الترجيح لِزَامًا؛ “فإن الطبّ كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك؛ فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع فإن تساوت الرتب تخير، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه والتوقف عند الجهل به، والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة[8].

هذه أصول عامَّة في تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، والخروج عنها قد يكون مؤشر غباءٍ، وأغلب الظنِّ أنه علامة شقاءِ التَّجاهل والتَّعامي لا الجهل والعمَى فحسب، فقد كان وما يزال الزَّيْغ عن هذه الأصول والفهمُ المنحرِفُ أو المحرِّف لعموماتِ رعاية الشريعة للمصلحة ودرئها للمفسدة هما الحاملَ على إلباس بعض الفتاوى القديمة والمعاصرة المبنية على الأهواءِ والشهواتِ والعصبياتِ لباسَ المصالح، وهذا ضربٌ من المسخِ أو التشويهِ للنصّ وحُكْمِه وحِكَمِهِ، فأيُّ فرقٍ في هذا التلبيس بين إبليس يُبيح المتعة اليوم أو الزواج العُرْفِيَّ رعايةً للأهواء وإمعانًا في الكذب على الله ورسولِهِ وآخَر يَشرع استرقاقَ المستأمَنات أو نساءَ الأقليات ويزعم أنّهن إماء شرعًا مطروحات للبيع والشراء والتسرِّي، إنَّ مردَّ هذا العَمَاء إلى أنَّ مدَّعي هذا الضرب من الاجتهاد؛ يُقيم الاستثناءَ والفرع مُقامَ القاعدةِ والأصلِ، والضرورةَ لعارض؛ مُقامَ الحكم العامِّ المطَّردِ، بل ويقيم الأحوالَ العارضةَ الطارئةَ محلَّ الصفات الثابتة، والخاصَّ من وقائع الأعيان مقامَ العامِّ، والمؤقَّتَ الذي شُرع ونسخ لحكمة مقام المحكم الأبدي المستمر، ويقدِّمُ العقلَ الأسيرَ للواقع المهزوم حضاريًّا المحكوم بالهوى على النصِّ والعقلِ الحُرِّ السالِم من شوائب النفس والهزائم؛ فيُضل بفتواه مِن العامة وصغار طلبة العلم مَنْ لا يدرك الفرق بين الأصل والفرع أو بين القاعدة والاستثناء أو بين المؤقت والمحكم أو بين واقعة العين والحكم العامّ.

ولا تفسير لموقف هؤلاء إلا أنهم يلبِّسون؛ فتستوي عندهم المصالح المعتبرة شرعًا أو المرسلة، وهذا الضرب من المفتين لا إلى الاعتبار أو الإرسال بشروطه يعتمدون، ولا إلى حدود النصوص ينتهون، فالنّص قيمتُهُ عندهم في تحقيق المنافع التي يرونها مصالح، لا في ذاته؛ إن كانت المسألة المطروحة تعبدية، ولا في مآلاته؛ إن كانت إحدى قضايا المعاملات، فهولاء المقاصديون لا على النص وسبب ورودِه أبقَوا ولا بمآلاته استمسكوا، فأبطلوا حُكْمَه وحِكَمَهُ وأهدروا عمومه وخصوصَ ورودِهِ معًا، ولم يُعْنَوا بالنظر إلى ماهية الوقائع وما فيها من مصالح معتبرة في الشرع، بل قصروا نظرهم إلى ما فيها من منفعةٍ تُرضِي هوى المستفتي، فكان إفتاؤهم أقرب إلى التشريع الوضعي باسم الشعب لا إلى التوقيع عن ربّ العالمين، ولا أدل على فساد مثل هذا النظر من تعارض مصالح الناس وتزاحمها، فالشيء الواحد مكانًا كان أو مكانةً أو مستهلَكًا أو منتفعًا به؛ تتزاحم عليه الأيدي، ولا يفي بحاجات طالبيه جميعهم، فلا مناص عندئذٍ من التنازع تارةً، وإعدام القِيَم تارةً أخرى بإباحة ما لا تستسيغه فطرة سليمة ولا عقل طليقٌ مِن إسار النزوات الجسدية.

وليس لهؤلاء المقاصدية أن يزعموا أنهم إنما يجتهدون في ظروفٍ وأحوالٍ جديدة لابست وقائع منصوصًا عليها، فالاجتهادُ في النص لتنزيله على الواقعة في ضوء الظروف الجارية والمآلات أو لتلمس مقصد الشارع من تشريعه للحكمِ، وكذا الاجتهادُ فيما لا نصّ فيه أصلًا: مواضعُ اجتهاديةٌ مسلَّمة؛ ذلك أنَّا “نعلم قطعًا ويقينًا أن الحوادث والوقائع في المعاملات والتصرفات: مما لا يقبل الحصر والعد؛ ونعلم قطعًا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضًا؛ والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية؛ وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”، لكن  ليعلمِ المقاصديةُ أنه “لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسلًا: خارجًا عن ضبط الشرع؛ فإن القياس المرسل شرع آخر، وإثبات حكم من غير مستندٍ وضع آخر، والشارع هو الواضع للأحكام؛ فيجب على المجتهد أن لا يعدل في اجتهاده عن هذه الأركان”[9].

هذا ومن المتصدرين للفتاوى السوداء أو الدموية من ينكر المصالح جملةً، ويستمسك بفهمٍ عقيم لِلَّفْظِ لا يستند إلى مقاصد النصوص ومآلاتها ولا يقوم على مراتب دلالاتها قوةً وضعفًا وظهورًا وخفاءً وسياقًا وسباقًا، ويمثل جحده لأصول هذه المصالح وجهًا آخر من المسخ أو التشويه للنصوص الشرعية، وخيرُ مثال على ذلك عَدُّهم القتلَ العشوائيَّ لِجَمْعٍ لا يُعَدُّون مسلمين عندهم جهادًا بإطلاق وإن كان بينهم أطفال رُضَّع، وكذا تعنتهم في العدول عن التقنين الفقهيّ للتحكيم بينهم وبين طوائف المسلمين؛ إلى لغةِ سيفٍ مُشْهَرٍ على لواءٍ مِنْ هوًى يرون فيه شرعًا، ويتوجونه تاج الحاكمية تحت ذرائع ومسوغات يهدرون بها المصالح الكلية لمقاصد الشريعة الخمس بضرورياتها وحاجياتها وتحسينياتها.

والفريقان المذكوران قديمان متجددان، ففي عهود سلفت “فرَّط طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها؛ مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع…، وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله”[10].

(2)

القطعيات من الثوابت والظنيات من المتغيرات

القطعيات من الثوابت لذا لم تكن من مظانّ الاجتهاد ولا التعارض؛ فلا اجتهاد مع النصِّ القطعيِّ ولا في مورد النصّ، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ كون الاجتهاد مع النصّ محالًا[11] لا يدل بحالٍ على منعِ الاجتهاد في النصّ لتحقيق مناطه، فالاجتهاد في النصّ القطعي لتنزيله على الوقائع ليس محلَّ نزاع.

وكما أنه لا اجتهاد في مقطوع به لتعيين المراد منه لأنه تحصيلُ حاصلٍ كذلك لا قطع في مجتهد فيه لأنّ كونه ظنيَّ الدلالة أو الثبوت يمنع القطع، وهذا مقتضَى كون الظنيات من المتغيرات؛ فالمتغيراتُ لا يتأتَّى فيها القطع، فيبقَى النص الظنِّيُ قابلًا للاجتهاد وإمكانيةِ التغيير في تعيين مدلوله وبيان المراد منه ما لم يقم إجماع يجعل الظنيَّ قطعيًّا.

وكما أنَّه لا تعارض بين القطعيات كذلك لا تعارضَ بين قطعيٍّ وظَنِّيٍّ، ولا يُقام الظني مقام القطعي في الدلالة على الأحكام ولا في تطبيقها وتنزيلها على الوقائع؛ وهذا يَكْشِفُ خَطَأَ مَنْ لم يعتدّ بصفة القطع في القطعيات وأَعْمَلَ عقله فيها فأفتى العامة بما تهوى أنفسهم، أو من أقام الظنيات مقام القطعيات وجعل خبر الآحاد كالنص القاطع، فاستباح المحرَّمات القطعية بالظنيات من مثل لازم المذهبِ والعملِ والمعتقدِ وكتأويله لنصوصٍ تحدَّثت عن آخر الزمان بوقائع بعينها وبناءِ الأحكام وَفْقًا لهذا التأويل.

ولا لبس في الفرق بين منع الاجتهاد مع وجود النص القطعي وبين الاجتهاد عند عدم وجود النص أو مع وجوده لكنه كان ظنيًّا أو قطعيًّا غير أنه يستند إلى علة أو عرفٍ قد يتغيران، فينظر المجتهد في ثباتهما أو تبدلهما، أو كان الاجتهاد في تنزيل النص القطعي على الوقائع لمعرفة مدى انطباقه عليها لكن لا شأن للمجتهد بتعيين المراد لأن مقتضَى كونه قطعيًّا أنه متعين في نفسه لا يحتمل إلا معنى واحدًا يُدرك بداهةً لا نظرًا، فلا يخفى أنَّ كون النص قطعيَّ الثبوت والدلالة أنَّ على المفتي أو المجتهد العمل بالنص قطعًا والوقوف عند حدوده وأنه لا يجوز له أن يُقدِم على التفكير بغير ما يدل عليه النص فضلا عن أن يُفتي بخلافه.

ورغم أنَّ الفقهاء لم يختلفوا في أنَّ القرآن قطعي الثبوت إلا أنهم اختلفوا في تعيين صفة وعدد ما هو متواتر قطعي الثبوت من الأحاديث كما اختلفوا في المتواتر المعنوي، وأمَّا قطعيّ الدلالة فهو ما لا تختلف فيه العقول ولا يحتمل إلا معنى واحدًا، وتتوقف قطعية الدلالة على انتفاء موانع القطع العشرة، وبعد التسليم بقطعية النص ثبوتًا ودلالةً وخروجه عن كونه مجتهدًا فيه يبقى تنزيل النص على الواقعة محل اجتهاد، وبهذا تفسر وقائع عدة لم ينطبق عليها النص قطعيّ الثبوت والدلالة عند تحقيق المناط فأفتى فيها الخلفاء الراشدون بما ظنَّه قومٌ أنه خلاف ظاهر النص، بينما لم يعْدُ ما قاموا به _رضي الله عنهم_ أن يكون نظرًا في تحقيق المناط ثم عدولًا عن الحكم القطعي لانعدام المحل أو لعدم استجماعه للشروط والصفات التي قام عليها الحكم، فهذا أشبه باستنباط معنى من النص يخصصه وليس من الاجتهاد المصادم للنص القطعي في شيء؛ فليس إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم مثلًا في عهد الفاروق ضربًا من التعطيل أو التعليق للنص القطعي بل إن الصفة والمحل انعدما فلم ينطبق الحكم على الواقعة، فلا هم بضعفاء الإيمان كما كانوا أول إسلامهم فيُؤلَّفون، ولا نحن بضعفاء الشوكة كما كنَّا لنؤلِّف ضعفاء الإيمان من ذوي الشوكة والقوة، فلو وعدهم الفاروق ليستميلهم بأنْ ألَّف قلوبهم فصاروا مؤلَّفة لوجب لهم سهم لا يجوز له منعه، فالأمر إليه إن رأى أن يؤلِّف ألَّف، فصار عنده مؤلَّفة مستحقون للسهم، وإن رأى في نفسه قوة فلم يؤلِّف انعدم المحل فارتفع الحكم، وهذا ما كان، فلما انعدم المحل لم ينطبق النصّ على الواقعة، فسهمُ المؤلفة باقٍ ثابتٌ إلى يوم القيامة لأنّه قطعيُّ الثبوت والدلالة ولم ينزلْ بعده ما ينسخه، وإنما المتغير هو المحل بحسب الوقائع؛ وهكذا الأسهم الأخرى فحيث وجد الفقر صُرِفَ سهم الفقراء، وحيث انعدمت صفة الفقر ارتفَع، والفرق أن صفة التأليف كصفة التوظيف للجباة يُحدِثها الحاكم، فمن جمع الزكاة من الناس ولم يستعمله الحاكم عليها لم يستحق سهم الزكاة، بل هو أولى بأن يحاسَب من أن يكافَأ لافتئاته؛ فالجهة التي اجتهد فيها سيدنا عمر _رضي الله عنه_ غير تلك التي دلَّ عليها النص بطريق القطع.

وأمَّا تجاوز أحدهم اليوم للنص القطعي بالتشهي والهوى لا لمعنى معتبر مما سبق في تنزيل النصوص على الوقائع فهو ضرب من العبث بالشريعة ونوعٌ من استبدال القانون والرأي والهوى بالشَّرع، وإلا فما الفرق بين مسألة إباحة بيع الخمر لترويج السياحة، وتحريم الاتجار بالرقيق الأبيض وهو أكثر ترويجًا للسياحة؟! نعم لعلَّ خشية هؤلاء من سيف المجتمع وأعرافه أرهبتهم، فقصروا فتواهم على هواه فمنعوا الثانية، ولم يعبؤوا بتوقيعهم عن رب العالمين فأباحوا الأولى لانعدام تلك العلة عندهم.

(3)

مِنْ فِقْهِ النَّص إِلَى فِقْهِ الواقعةِ والواقِع

لا مبالغة في القول إنَّ الأركانَ الموضوعية للفتوى إجمالًا لا تخرج عن اثنين: فقه النص وفقه الواقعة، “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم”[12].

وقد أوْعَبَ علماء الأصول في مباحث دلالات الألفاظ فقهَ النص وضوابطَه وطرقَه وأوجهَه ومراتبَه بحثًا وتفصيلًا، وحسبُ فقه الوقائع أو تحقيق المناط أنّ الأصوليين أوسعوه بحثًا في اثنين من أمِّهات الأبواب: باب الاجتهاد وباب القياس.

أمَّا عَن فقه النص وفق ما قنَّنَه الفقهاء فإنَّهُ لا مزيدَ عليه لكن المشكل أنّه لا شيء من طرق الدلالة ومراتبها سوى المحكم بمفيدٍ للقطع، وما دام النص محتملا لوجوه وثمة طرق محتملة لتفسيره وتأويله والذهاب بمعناه مذاهب شتَّى فإنّ بابَ التمحُّل والتكلف في تفسير النص وتأويله ليُطاوع هوى ذوي الأهواء لن يُغلَق، ولن يوصده سوى أمرين:

أولهما: تحلِّي المفتي أو المجتهد بصفات الاجتهاد وشروطه، ومنها العدالة والتقوى والورع واستشعار هيبة الله الذي يقوم المفتي بالتوقيع عنه بفتواه، “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يُبلِّغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلِّغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مَرْضِيّ السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وليعلمِ المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله”[13]. “ولا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكَمَ به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدًا بما لا يفتي به عَمْرًا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟”[14]. ولا مراء أنَّ الفتوى إذا التاثتْ بهوًى أو غرضٍ غدَتْ رأيًا اجتماعيًّا لا فتوى وبلاغًا عن ربّ العالمين يوجب ثوابًا أو عقابًا.

والآخَر: تعزير المتلاعب بالفتوى ومعاقبته والْحَجْرُ عليه _إن كان للعدلِ والدِّين دولةٌ_ زجرًا له ولغيره ممن لا يحسب حسابًا ليوم الحساب عن العبث بدين الله وعقول الناس ودمائهم وأموالهم، لا سيما من له أتباع يتخذون من فتواه نصًّا قاطعًا، وبِنَاءً عليها يحملون على عواتقهم سيفًا قاطعًا تُستباح به حُرُمات الكليات الخمس التي لم تحل في شريعةٍ قطّ إلا بموجب قاطعٍ نصّ عليه الشارع، فينبغي أن يعزَّر هذا الصنف من المفتين ويُحجر عليهم؛ إذ إن “دفع الضرر العام واجبٌ بإثبات الضرر الخاصّ: كالحجر على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن وهو الذي يعلم الناس الحيل[15].

وأمَّا فقه الوقائع وتشخيصها لتنزيل النّص عليها أو ما يُسمَّى بتحقيق المناط فلا يُستنكَر أن يقال إنه ليس بأقل شأنًا وقدْرًا في الفتوى من فقه النص نفسِه، فهو بمنزلة تشخيص الطبيب للأمراض، والحكمُ المستنبط من النص وَصْفَتُهُ، فكلما تهيأت أسباب التشخيص وآلاته ووسائله وسبرَ الطبيب أحوال المريض سبرًا دقيقًا كانت الوصفة الطبية أعمق وأدقّ وأجدى وأنفع، وكلما كان تشخيصه صُوْرِيًّا لا مبالاة ولا جهد فيه يُذْكَر كانت الوصفة أقرب إلى الداء منها إلى الدواء، فكم من طبيب قتل مريضَهُ بجهله أو إهماله! والمفتي الماجن كالطبيب الجاهل، كلاهما ضامن؛ وكلما كان المرض أشدّ فتكًا وأسرع سريانًا وأمضى نحو المنية، وتولَّدت عنه أمراض أخرى فتَّاكة، استدعَى تشخيصُه وعلاجُه جهدًا أكبر وفريقًا طبيًّا متمرسًا ذا تخصصات متنوعة كلٌّ يبذل جهده في تخصصه ويستشير زميله فيما أشكل عليه، وتشخيصًا أسرع يسبر الأغوار ويكشف الأستار عن علل وأدواء كامنة أتت على المريض فما كادت تبقي أو تذر، وقل مثل هذا بتمامه في تشخيص الوقائع صغيرها وكبيرها، “فإن الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك”[16].

وتحقيق المناط أو فقه الواقعة وتنزيل النصوص عليها إحدى صور الاجتهاد الثلاث، فالاجتهاد هو “بذل الوسع في طلب الغرض، وهو على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط، أما تحقيق المناط فنوعان: أحدهما لا نعرف في جوازه خلافا، وهو أن تكون القاعدة الكلية في الأصل مجمعًا عليها ويجتهد على تحقيقها في الفرع”[17]، وثمة “أمور عُلِّقَت على المصلحة نصًّا وإجماعًا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص والأحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم”[18].

ووسَمَ الإمام الشاطبي وآخَرون فقه الوقائع وتنزيل النصوص عليها أو تحقيق المناط بأنه هو وحده الضرب الفريد من الاجتهاد الذي لا ينقطع إلى يوم القيامة قولا واحدًا لأنه بانعدامه وارتفاعه ترتفع الشريعة، وحسبك بهذه الصفة رفعةً وإعلاءً لشأن فقه الواقعة وتشخيصها، “وهذا النوع من تحقيق المناط هو الاجتهاد الذي لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة؛ وذلك لأن هذا النوع الخاص من تحقيق المناط كليٌّ في كل زمان عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه وذلك غير صحيح”[19].

“ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد؛ فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد؛ لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما أنه غير ممكن عقلا”[20].

وحسب هذا الفقه أنه هو الضرب الذي لا يُستغنَى عنه بتقليد الأئمة، بل لا بُدّ منه حتى للعامّة في تطبيق بعض المسائل المعلومة لهم، بل حسبه أنه عُدّ أحد شطري الاجتهاد نفسه، وأنّه هو الاجتهاد المراد بقول من قال بجواز الاجتهاد للأنبياء، قال الإمام الشاطبي: “الاجتهاد على ضربين:

أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله، فلا يمكن أن يستغنَى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلةٌ مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهادي أيضًا.

ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حِدَتِها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما بها لامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين؛ فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالِم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب.

فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه؛ فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة؛ فلا بد من النظر فيها”[21].

ولفقه الواقعة أو تحقيق المناط قسمان لعل في ثانيهما دواءً للداء العضال الذي نشبت عنه فوضى فتاوى الإعلام والسلطان، وتفسيرًا لبعض الفتاوى النبوية التي تبدو مختلفةً والسؤال فيها واحد، يقول الشاطبي: “فكأن تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر، وتحقيق خاص من ذلك العام؛ وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.

أما الثاني، وهو النظر الخاص، فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى… وقد يعبر عنه بالحكمة، ويشير إليها قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269]، قال مالك: “يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله”، وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوى؛ فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.

وعلى الجملة، فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره.

ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد…، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود[22].

وما من أحدٍ يجهل أن الفقه: خطاب الله المتعلق بأفعال العباد لا بعقائدهم وقلوبهم، لذا عُدَّ من أسوأ أشكال تشخيص الوقائع أثرًا إحلالُ القلب محل الجوارح أو المعتقَد محل العمل أو العقيدة محل الفقه، وبناء الأحكام العملية استنادًا إلى تأويلات عقائدية مذهبية؛ فبينما يُسمِّي الله موالاة المسلم لغير المسلمين بما سوى العقيدةِ ظلمًا[23] يَعدُّها قومٌ كفرًا بناءً على قاعدتهم أن لازم المذهب مذهب ويولِّدون عن التكفير أحكامًا تتعلق بالدماء والأموال وغيرهما، فعندما يقوم المفتي بإحلال مسائل العقيدة محل أفعال المكلفين، ويبني على هذا التغيير في وصف الوقائع تغييرًا جذريًّا في الأحكام، تزداد الهوة اتساعًا بين المفتين بلْهَ المقلِّدين لهم المتمسكين بفتاواهم أشدّ من تمسكهم بنصّ قطعي الثبوت والدلالة، ويتسع الخرق على الراقع، فلا يكاد يجد من يحاول رأب الصدع وحقن الدِّماء للصلح مدخلا؛ ولنمثل لذلك بمسألة الاستعانة بالكفار في واقعة التظاهر:

رغم أن المتظاهرين في الواقعة التاليةِ عُزْلٌ لُوحِظَ أن بعض المفتين حَرَّمَ المظاهرات السلمية وعدَّها خروجًا مسلَّحًا على الحاكم يحرّمه جمهور فقهاء أهل السنة بل حَكَم على من قُتِل فيها بأنَّه منتحر، فانبرى لهؤلاء المفتين قومٌ عدُّوا المظاهرات السلمية انتحارًا من وجهٍ آخَر فأوجبوا على المتظاهرين الدفع بالسلاح وأسموه جهاد الدفع، وذهب آخرون إلى أن التظاهر السلمي نهي عن منكر يوجب الشرع إزالته بشروط وعلى درجات تتفاوت بتفاوت الاستطاعة، وأن دفاع المتظاهرين عن أنفسهم فيها مشروع توجبه ضرورة مقصد حفظ النفس من اعتداء المعتدين، وهذه الضرورة تقدَّر بقدرها؛ ثم إنّه لما استعان كل من الحاكم والمتظاهرين على الآخر بغير المسلمين عدَّ بعض المفتين كلًّا منهما مواليًا للكافرين، والولاء لهم كفر يوجب قتل الموالين؛ وعدّ مفتون آخرون استعانة الحاكم المذكور بغير المسلمين ضرورةً فرضتها محاربة الدولة للإرهاب، وأقام هذا المفتي دولة الإلحاد الداعمة مقام منظمة العالم الإسلامي، ونعى الأخيرة، وعدَّ استعانة المتظاهرين من الاستعانة بكافر على مسلم؛ وذهب آخرون إلى أن استعانة الحاكم المذكور من إعانة الظالم للظالم، واستعانة المتظاهرين من استعانة المظلوم بالقويّ القادر على رفع الظلم مثلما كان عليه الأمر في حصار قريش للمسلمين في شِعْب أبي طالب والاستعانة بالمطعم بن عدي على رفع الحصار وتمزيق الصحيفة مثلا.

هذه اتجاهات ثلاثة اختلفت في فقه الواقعة وتصويرها وتشخيصها، ولهم جميعًا في فقه النصوص التي دارت حولها تأويلات بعضها سائغ أو محتمل، ومنها ما هو باطلٌ قطعًا لا يبعد أن يصدق عليه قول بعض أهل العلم: هذا التأويل ضرب من الكذب على رسول الله المشمول بالوعيد المشهور، فالكذب عليه ضربان: صريح معلوم، وتأويل النص تأويلًا باطلًا قطعًا يُلغِي دلالةَ النص القطعية أو الظاهرة الجليَّة ومقاصدَها وينسب إلى رسول الله معنًى لم يقلْهُ ولا يحتملُه كلامه ولو بأضعف الوجوه؛ فهذا أسوأ الاتجاهات الثلاثة في ميزان علم الأصول، ومردُّه إلى تحميل بعض النصوص معاني لا يحتملها اللفظ والسياق ولا طاقة لمقاصدِ ومآلاتِ هذا النصِّ وأمثالِهِ بتلك التمحُّلات، من ذلك مخالفةُ دلالة النصِّ الصريح القاطع بالشهادة لِمَنْ ينهَى السلطان الظالم عن المنكر ثم التلاعبُ بمقصد النص المفسِّر للانتحار وَعَدُّ المتظاهر الناهي للحاكم الظالم عن منكرٍ منتحرًا، وإن بطلان هذه التأويلات أبينُ وأدهَى وأمرُّ من الاحتجاج المردود عند أهل السنة في بيان مشخِّصَات الفئة الباغية بالقول: إنما قتلَه من جاء به، هذا والطامة الكبرى كانت في إقحام فئة من هؤلاء المفتين لمسألة الاستعانة بالكافر في قضايا العقيدة وتكفير إخوانهم والبغي عليهم وسفك دمائهم نتيجةً لخلط العملي بالعقائدي من وجهٍ وبناءً على أنّ لازم المذهب مذهب في مسألتي الاستعانة وتفسير الولاء من وجهٍ آخَر.

وأبرز مُخرجات هذا الخلاف أنَّه برهن على أنَّ فقه الواقع والوقائع يَعْظُم خَطْبه في مسائل السياسة والإمامة أي الحكم، فأولى بهذه المسائل أن يكون لها مجمع فقهي له القدرة على الانعقاد والاجتهاد دون انقطاع، قال الإمام ابن القيم في هذا المقام: “هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد… والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه…؛ وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفةً له”[24].

(4)

النصوص والوقائع أيهما يَتْبَع الآخر ويُنزَّل عليه؟

بعد إحاطة المجتهد أو المفتي بالواقعة علمًا وسبرها لأغوارها وأبعادها وملابساتها، يأتي البحث عن النصوص التي أتت على الموضوع تصريحًا أو تلميحًا لمعرفة حكم الله في المسألة والتوقيع عن رب العالمين فيها، وتتباين طريقة البحث عن النصوص من مجتهدٍ إلى آخر، أمَّا التباين في وسائل البحث وأدواته واستنطاق ما خفي في خبايا النصوص واستكناه ما دلت عليه فهو مقتضَى بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدِّي إليها، وأمَّا التباين في طريقة البحث عن حكم الله في المسألة بالاستقصاء والتجرُّد أو الانتقاء والتحيُّز فهو مزلة أقدامٍ إليه يُرَدُّ سبب اختلاف الفتاوى في كثير من النوازل لا سيما ما يعمّ الأمة أو جمًّا غفيرًا منها.

الاستقصاء والتجرُّد في الاجتهاد

مدلول الاستقصاء في جمع الأدلة هو استفراغ الوسع في الاستقراء والتنقيب عن النصوص والإجماعات محل البحث وما يؤول إليها من أدلة معتبرة لمعرفة حكم الله في الواقعة، ومدلوله في الواقعة هو بذل المجتهد طاقته كلها لتتبع واستقراء وحصر أحوال الواقعة المؤثرة في الحكم وضبط متغيراتها في ضوء آراء أهل الخبرة والتخصص المهني، وأمَّا مدلول التجرُّد فهو استهداف المجتهد لإصابة حكم الله في الواقعة والتوقيع عنه فيها خاليًا من دواعي الهوى والميول والنزعات والتصورات والأحكام المسبقة وذلك بتورُّعه عن الاستدلال بما لا يصلح دليلا وعن إغفال ما يصلح للاستدلال، وبتركه وصف الواقعة بما ليس فيها وتجريدها من وصفٍ قائمٍ بها، ومُقتَضَى الاستقصاء والتجرد “أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقارِ واقتباسُ ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وَفْقه، وأما بعد وقوعها فلِيُتلافى الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة”[25]، فأخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين، أحدهما هذا، وثانيهما:

الانتقاء والتحيُّز في الاجتهاد

من أزمات الاجتهاد المعاصر الانسياق للرأي العامّ العالمي الذي كانت وما تزال للإعلام والاستخبارات اليد العليا في صناعته، ولا يكاد يصح في الأذهان شيءٌ إذا أنكر أحدٌ اليوم التأثير النسبيّ للهوى والميول الفكرية والعقائدية والمذهبية والاجتماعية والسياسية والاستخباراتية والمجتمعية والشخصية والبيئة الخاصة والعصبية والتعصب والضغط العام وقهر الإعلام على حركة فكر المفتي أو المجتهد، فالإسارة أيًّا كان نوعها تترك أثرًا تتفاوت علامته في طبيعة فهم المجتهد للنص وللواقعة، وهذا يبرهن أنّ التجرُّد في الاجتهاد عن منازع هذه المؤثرات يزيد نسبة صوابه والعكسُ صحيحٌ مطرد، نعم إنَّ دعوى التجرُّد المطلق وهم مطلق، لكن التحيُّزَ الذي لا تستقيم معه حركة الفكر نسبيًّا في النصِّ والواقعة انحرافٌ وتحريفٌ مطلقٌ للحقِّ والحقيقة، ومدلول الانتقاء والتحيز في الاجتهاد “أن يؤخَذ الدليل مأخذ الاستظهار على صحة غرضِ المفتي في النازلة العارضة، وأن يظهر بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكامَ من الأدلة، ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7]؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {والراسخون في العلم} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، ويقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران: 8] ، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكِّمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدًا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا[26].

ويميل هذا الضربُ من الاجتهادِ العبثيِّ إلى وضع الفروع موضع الأصول والجزئيات مقام الكليات واستبدال المتشابهات بالمحكمات وجعل الاستنثاء هو القاعدة، ولا يتورع مفتٍ كهذا عن إيهام تضارب النصوص وتعارضها وادِّعاء مخالفة بعض ما صح منها للمعقول سعيًا منه إلى نسبة ما يهوى من الأحكام إلى الشريعة ولو أنه أتى بهواه عليها من قواعدها، “فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطةٍ بمعانيها ولا راجعٍ رجوعَ الافتقارِ إليها، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر”[27].

ولا يعدم المتتبع لفتاوى المعاصرين أمثلةً من ضروبٍ شتى على ذلك، فلدى البحث في حكم فوائد المصارف تجد من يضع نصب عينيه إباحتها ويأخذ بل يُغرِق ويَغرق في تشخيص هذه الواقعة والاستدلال للحكم المسبق الذي يراه حكم الله في المسألة، ويُغمض عينيه بل يُخفي ما لا يوافق هواه من أدلةٍ أو تشخيص للواقعة ويتكلف تأويل هذه الأدلة وليّ عنق النص الراجح عنده أو تشويه الواقعة وتصويرها بغير ما هي عليه إن كان ما لا يحبِّذه من الأدلة والتشخيص معلومًا لا يخفى، وتُلفي من المفتين من يعكس الأمر ويمضي كالأول في الإغراق تشخيصًا واستدلالًا على التحريم ويكد ويُضنِي نفسه في ذلك دون أن يبذل معشار هذا الجهد في اقتراح البديل المشروع، وقل مثل هذا في بعض مسائل التأمين والسندات والنِّقَاب وهدايا الشركات والتسويق الشبكي والهرمي وأسواق المال والمظاهرات السلمية وتفريق الحكام لها بالسلاح ودفاع المتظاهرين عن أنفسهم واستعانة كلا الطرفين بالمسلمين وغير المسلمين، ومقاومة المحتل هل هي إرهاب أم جهاد، وانتزاع الحكم بالسلاح ممن يُقِرّ ويؤمن بالشريعة ولا يحكِّمُها ضعفًا أو خذلانًا؛ جهادٌ أم إرهاب وحِرابة وخروجٌ على الحاكم، والديمقراطية المطلقة شورى معدَّلة أم تأليهٌ لرأي الأكثرية؟ وهكذا إلى ما لا يكاد يحصَى من وقائع ما زالت محل نزاع بين المفتين والمتصدرين للاجتهاد، ولو أنَّ نزاعهم تحلَّى بالنَّصفة والموضوعية وسكت من لا يعلم عمَّا لا يعلم لظهر الحقُّ وكثر الصواب، ولعلَّه يُتاح في مقالاتٍ لاحقةٍ دَرْسُ أهمِّ هذه المسائل ومعالجتها تقويمًا ونقدًا واستظهارُ الصوابِ فيها في ضوءِ كليات هذه المقالة.

وبعد: فالبحث إنما عُنيَ بالاجتهاد والفتوى، ولم يأت على القضاء، وهو في الحقيقة فتوى وزيادة لأنه ملزم بخلافها، وله أركان لا بدّ منها؛ ذلك أنّ “الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة والأسباب والبينات؛ فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو في بعضها”[28] فكلُّ ما ذُكِر في الاجتهاد والإفتاء من ضوابط حاكمة لهما مانعة للقائم بهما من السقوط في هُوَّةِ الهوى أو القصور يأتي مثلُهُ بل أكثر منه في القضاء؛ ذلك أن القاضيَ “إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال كفقهه في كليات الأحكام ضيّع الحقوق، فههنا فقهان لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في الوقائع وأحوال الناس: يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطبق بين هذا وهذا، بين الواقع والواجب، فيعطي الواقع حكمه من الواجب”[29].

وللاجتهاد والفتوى والقضاء كليَّاتٌ أخرى تُذكْر في قواعد الفقه الكليَّة لعلَّها تُبحث لاحقًا، ولتلك الكليات ما لها في ضبط حركة الفكر الاجتهادي، فهي تمنعه من أن يخرج عن حدود النصوص التي استنبطت منها.

هذا، ولو أنّ بعض الدراسات الإحصائية طرحت استباناتٍ تستطلع بها تأثير نماذج من الفتاوى الشاذة المنتشرة في مجتمعٍ ما لربما اكتشف القارئ في ضوء الكليات السابقة أثرَ تلك الفتاوى النفسي والاجتماعي الدنيوي والديني على حياة الناس، ثم لا يسعه إلا أن يكرر متفكِّرًا متذكِّرًا فواصل الآيات التي أتت على ذكر واقعة حادثة بلعام بن باعوراء (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف: (176)، وجِلًا أن يكون ممن اتبع الغاوين فظلم نفسه (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) (177)، سائلًا المولى الهداية واتباعَ الأئمة الهادين المهديين (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (178).

 

 

 

[1]  مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 47_ كتاب العلم، 1- بَابُ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ…، (4/ 2053).

[2]  الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي: الموافقات، تح: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، ط1 1417هـ/  1997م، (5/ 142).

[3]  الغزالي أبو حامد محمد بن محمد الطوسي: المستصفى، تح: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط:1، 1413هـ – 1993م، (ص: 342).

[4]  السيوطي جلال الدين عبد الرحمن: الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، وفيه أنَّ بعض العلماء منع أن يخلو قطر بحدود مسافة القصر من مجتهد يستقل به أهل تلك البلاد في الاستفتاء، ص2_6.

[5]  عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تح: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (1/ 11).

[6]  المصدر السابق (1/11).

[7]  المصدر السابق (1/ 8_10).

[8]  المصدر السابق (1/ 6).

[9]  أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني: الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، (2/ 4).

[10]  ابن قيم الجوزية شمس الدين محمد بن أبي بكر: الطرق الحكمية، مكتبة دار البيان، (ص: 13).

[11]  الغزالي: المستصفى (ص345).

[12]  ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر شمس الدين: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تح: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت، ط1، 1411، 1991، (1/ 69).

[13]  المصدر السابق (1/ 8).

[14]  الشاطبي: الموافقات (5/ 91).

[15]  ابن أمير الحاج شمس الدين محمد بن محمد ابن الموقت: التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام، دار الكتب العلمية، ط2، 1403هـ – 1983م (2/ 202)، أمير بادشاه محمد أمين بن محمود البخاري: تيسير التحرير، دار الفكر – بيروت، (2/ 301).

[16]  العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 6).

[17]  العكبريّ أبو علي الحسن بن شهاب الحنبلي: رسالة في أصول الفقه، تح: د.موفق بن عبد الله بن عبد القادر، المكتبة المكية – مكة المكرمة، ط1، 1413هـ-1992م، (ص: 79). ابن قدامة المقدسي أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد الجماعيلي: روضة الناظر وجنة المناظر، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1423هـ-2002م، (2/ 145). الآمدي أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي: الإحكام في أصول الأحكام، تح: عبد الرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان، (3/ 302).

[18]  الغزالي: المستصفى (ص: 291).

[19]  محمد بن علي بن حسين المالكي: تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، عالم الكتب، (2/ 133)، الشاطبي: الموافقات (5/ 11).

[20]  الشاطبي: الموافقات (5/ 11).

[21]  المصدر السابق (5/ 11).

[22]  المصدر السابق.

[23]  يُنظر: [المائدة: 51]، [التوبة: 23]، [الممتحنة: 9].

[24]  ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر شمس الدين: الطرق الحكمية، مكتبة دار البيان، (ص: 12).

[25]  الشاطبي: الموافقات (3/ 290).

[26]  المصدر السابق (3/ 290).

[27]  الشاطبي: الموافقات (5/ 142).

[28]  ابن قيم الجوزية شمس الدين محمد بن أبي بكر: بدائع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (4/ 12).

[29]  المصدر السابق (3/ 117).