موقفُ الإسلامِ من الظَّاهرة القوميّة
ديسمبر 1, 2019
جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس
ديسمبر 1, 2019

الفراغُ العلميُّ في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة

الدكتور عبد الجواد حردان – مدرس أصول الفقه بكلية الإلهيات، جامعة صوتجو إمام – كهرمان مرعش

تمهيد

هبْ جَدَلًا أن ظلام الاستبداد أَلَمَّ ببريقِ الأملِ في التغيير أو كاد يَحِيق به: أَوَليسَ في الصَّحوة الفكرية التي أثمرتها ثوراتنا بوارقُ تبشِّر بميلاد نجمٍ ساطع يتسلل من بين السُّدُفِ والحُجُب؟ ووَفْقًا لرؤية توماس كون في كتابه (بُنْيَة الثورة العلمية) فإنَّ التفسيرَ العلميَّ لإمكانيةِ ولادةِ نهضةٍ بعد الكَبْوة أو للإقلاع بعد الهبوط: أنَّ الأنموذجَ (الثورةَ البارادايمَ) كشفت بمرور الزمن أحوالًا وأنماطًا شاذَّةً عن النَّسق الثوريِّ وأهدافِهِ السامية، وما زالت هذه الصُّور تتراكم حتى غدتْ ظاهرة يتوقَّع أن تتوَّلد عنها أزمة تبشِّرُ بثورةٍ من نمطٍ آخَر لا يقوَى الاستبدادُ وقوى الشرِّ مجتمعةً على قمعها، ولهذا الادِّعاء شواهده في الثورة الفرنسية؛ فإنَّ أقرب ما قيل في تفسيرها أنها ثورة عقليَّةٌ تنويرية على عصور ظلامهم.

ولعلَّ أهمَّ ما كُتِب في لُبَابِ قضية البحثِ هو كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) للعلامة محمود شاكر رحمه الله تعالى، فلا أنفع ولا أجدَى للأمَّة في ليالي الدَّواهي هذه من أن يتدارسَه روَّاد نهضتها ليستلهموا منه العِبر ويرسموا بفرجاره دوائر انبعاثهم المتداخلة ويقفوا من خلالها على مركز نهضتهم ومحورها وأقطارِها، ثم يعيدوا قراءتَه مرات وكرَّات بتدبُّرٍ واستنطاق، ويترجموه إلى أنشطة وفعَّاليات بحثيَّة وفكريَّة ثريَّة تتولَّدُ منها رؤى عميقة تحملهم على التخطيط لبرامج عملية واستراتيجيات قابلة للتطبيق على المدى القريب والبعيد، فإنْ كُنَّا كما قالت أَمَل: (ربما نُنفق كلَّ العمر كي نثقبَ ثغرةً ليمُرَّ النور للأجيال مرَّةً) فلنجعلْ من هذه الرسالة مَسْرًى لجيلٍ راشدٍ إلى مستقبل واعدٍ.

ومن الدراسات المهمة أيضًا كتاب “العلم وبناء الأمم” للدكتور راغب السرجاني، ولا بدَّ من القول بأن كتاب توماس كون “بنية الثورة العلمية” ذو قدرٍ في هذا الباب وإنْ لم يكن في صلب الموضوع؛ ففيه إيحاءات تنير زوايا مظلمة في الفكر العلمي لثورات التغيير الفعَّال.

الكم والكيف محدِّدان رئيسان ومعياران مقبولان للحكم الصحيح على واقعيةِ العلم والتعليم في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة، فلا بديل عن الاستبانات الحاصرة لمتغيِّراتهما ودراستها إحصائيًّا، ولا معنَى للاشتغالِ بتخمين عددِ العلماء والأساتذة المخلصين المرابطين الجاثمين على صدور المستبدين في خَفَاءٍ، ولا  لحدْسِ ما يمكن وما لا يمكن أدلجته من مناهج التعليم ومؤسساته؛ فمنعًا للاعتراض على بعض أحكام البحث بتخمينٍ كهذا وجب النَّصُ عليه، فهو احتراس أو احترازٌ وليس من المصادرة على المطلوب في شيء، والآن إليك مشكلةَ البحث في الأسئلة الآتية:

_ ما مدى الفراغِ العلميِّ والشَّاغِر التربويّ التعليميّ الواقع والمتوقَّع في الأزمنة الثلاثة بدءًا من عام 2011م حتى اليوم؟

_ وما التصورات المقترحة لسدِّ هذا الفراغ في ضوء اختلاف المتغيِّرات من بلدٍ إلى آخر ومن ظروفٍ وأحوالٍ إلى أخرى؟

_ وما الوسائل المتاحة لإسقاط هذه التصورات على الواقع؟

_ ومن المسؤول عن ترجمة هذه التصورات إلى واقع في نَيْرِ حالةِ الشَّتَاتِ والهجرةِ وقهرِ الاستبداد؟

ولتيسير الاستدلال على صِدْق التفسير العلميِّ المذكورِ صدْرَ المقدِّمةِ عُنِيَ هذا البحث برصدِ أهمِّ الأنماط (الفراغِ العلميِّ في هذه الفترة)، فتضمَّن تمهيدًا شمِل أهمَّ الدراسات السابقة وأسئلةَ الدراسة، ومباحث:

المبحثُ الأول: العلمُ والتعليمُ وبناءُ الأمَّةِ والدولةِ (الاستخلافُ في الأرض).

المبحث الثاني: الواقعُ المنظور والمتوقَّعُ المأمول للتعليم في الثورة، وفيه مطالب:

المطلب الأول: الواقع المنظور للتعليم في الثورة.

المطلب الثاني: المستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفترة.

المطلب الثالث: المتوقَّع المأمول لمستقبل التعليم في الثورة.

المبحث الثالث: ظواهرُ التعليم السبعُ في السنواتِ السَّبْع.

خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته.

 

المبحثُ الأول: موقع التعليم من بناء الأمة والدولة

تأتي أهمية هذه الدراسةِ من كونها منوطةً بالتعليم والتربية في زمن ثوراتٍ إقليميةٍ تهدف إلى تغيير إيجابي يَبْنِي دولًا قويَّةً يُحْتَذَى بها، والجديرُ بالذِّكر أنَّ الحديثَ عن هذا الضربِ من التغيير عندما ينبني على أسس العلمِ الْمَشْيدِ والتعليمِ الجيِّدِ الرَّشيد يغدو من المسلَّماتِ وثوابتِ النَّمطِ الحضاريِّ للثورات، وهذا ما ذهب إليه كوكبةٌ من دُعَاةِ السِّلْمِ وحمَلة راية الإصلاح والسلام في العالم أمثال نيلسون مانديلا القائل: (التعليم هو أقوى سلاح يمكن أن تستخدمه لتغيير العالم)… وبات من المسلَّمَات أيضًا أنَّ الغرضَ من العلمِ والتعلُّم هو التحكُّم بالطَّبيعة وعناصرها واستغلالها وتسخيرها لصالح الإنسان؛ ليسخِّرَ الإنسان نفسَه لمعرفة ذاتِهِ وخالقه من خلال عمارته للكون عن علمٍ وخبرةٍ ودرايةٍ {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: الآية 20] وتلك هي أولى خطوات بناء الإنسانِ (الدولةِ) الذي بسواعده وقوَّتِه ووعيه وعقله تؤسَّسُ الدولةُ وقاعدتُها وقيادتُها {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} فكان الجواب: إنَّه اصطفاء خُصَّ فيه ذاكَ المصطفَى بعلمٍ وقوةٍ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] ومن علمِ طالوت الذي خُصَّ به التخطيطُ العسكري وفنُّ القيادة والإدارة([1])، فأين تخصصات التعليم كلها من إعداد خِطَّةٍ شاملةٍ لكل مجالٍ واختصاصٍ لدعم الثَّورات علميًّا وتربويًّا؟ وهل كان لهذه العلوم وأساتذتها دورٌ فعَّال في دحرِ الاستبدادِ وتأسيسِ الدولة؟ بل أيُّ معنًى للاستخلاف في الأرض الذي به يحلم أقوامٌ منَّا إذا اتَّكأَ الخليفةُ (الإنسان) على صناعةِ واختراعِ عدوٍّ ينازعه خِلَافةَ الأرضِ اتكاءً يُعَدُّ به متخلِّفًا لا مُستخلَفًا أو إذا لم يكن هذا المستخلَف على علمٍ ودرايةٍ بمستوَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: آية 31] ليَعْرِفَ بهما كيف يعمر الأرض {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: آية 61] وليُدرِك بهما ماهيةَ وأنواعَ وأشكالَ وضروبَ ودرجاتِ الصالحاتِ التي تؤهله للاستخلاف الموعود {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55].

وإذا كان مقتضَى الاستخلاف أن يكون المستخلَفُ على علمٍ بما تقوم به الأرض وجبَ البحثُ في أمرينِ ربَّما لا يكون أحدٌ حقيقًا بالخلافة بدونهما:

الأول: على المتطلِّعين للاستخلافِ من أهل الإيمانِ الوعيُ بمدلولِ الأرض التي استُخلِفوا فيها وبحدودِها وطبيعتِها وكنوزِها ومفاتيحها وعناصرِها ونشأتها وكلِّ ما عليها، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] وَتِلْكُمْ فريضةٌ تقتضي علمًا وبحثًا وإحاطةً بقارات الأرض المكتشفة كما تفرض على المستخلَفِ إعدادَ علماء باحثين كشَّافة رحَّالة من أجل البحث عن مناطق يحتمل أنها لم تكتشف بعدُ؛ ليبلِّغَها الرسالةَ التي صار بها مستخلَفًا في الأرض ولِيُقدِّمَ لها ما تحتَ يدِه مِن خِدْماتٍ يعمرها بها كي يصدق عليه أنَّه خليفة الله في الأرض، وإلا فبأيِّ معنًى يُسَمِّي نفسَهُ خليفةً؟

وهذه الوظيفة المنوطة بالاستخلاف هي عينها التي حمَلت علماء المسلمين الأمويين الأندلسيين ثم العثمانيين على الضَّرْب في مشارق الأرض ومغاربها سعيًا منهم إلى امتثال أمرٍ ورد بأسلوب الخبر والبشارة: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ))([2]) فرأى أولو الأمر من السَّلف أمراءً وعلماء في مثل هذه الأحاديث تكليفًا يفرض عليهم البحث والتنقيب عن المعلوم والمجهول من الأرض، فهذا طارق بن زياد يناجي ربَّه مِن سواحل البحار (اللهم إنك تعلم أني قد بلغت المجهود، ولو أني أعلم أن خلف هذا البحر بلادًا لخضتها، أقاتل في سبيلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بك) وأمَّا مِن بعد طارق فما حالت البحار دون محاولتهم اكتشاف أمريكا والقارة القطبية الجنوبية، وأشهرهم: العلامة البيرونيّ([3])، ومن قبلِهِ خشخاشٌ البحريّ يوم أن أبحر بسفينته من لشبونة إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي) سنة (235ه 850م)، فاكتشف هناك جزيرة عامرةً بالسكان، ثم عاد منها بهدايا قدَّمها لحاكم الأندلس عبد الرحمن الثاني، فكافأه الأمير بتعيينه أميرًا للبحرية الإسلامية، ثم تتابع الكشف على يد عُصبة من عربِ المغرب ثم فريق من الفتية المغرَّرين الذين تقدَّموا على غيرهم كالغُرَّةِ وعادوا إلى لشبونة، فاحتفى بهم أهل الأندلس أواخر القرن العاشر الميلادي([4])، وعندما تحدَّث كريستوفر كولومبوس عن الهنود الحمر في أمريكا قال: إنَّه كان يعتقد أنهم من سلالة العرب الذين سبقوه([5])، ومما يبرهن على ذلك خرائط البحارة العثمانيّ بيري ريس في القرن الخامس عشر الميلادي، وتاريخُ رسمِها المدوَّن فيها يُثبت أنه أَتَمَّ رسمَها قبل كولومبوس بثلاثةِ عقود، بل إنَّ في خرائطه خريطة تفصيلية للقارة القطبية الجنوبية التي تعرف بقارة أنتركتيكا وتضاريسها، وأثبتتْ صور الأقمار الصناعية حديثًا دقة هذه الخرائط([6])، أليس هذا الذي سعى إليه سلفُ الأمَّة أمراءً وعلماءَ هو الامتثالَ العلميَّ العمليَّ لتحقيق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثيلِهِ في مقام الخلافة، والاتِّباعَ الأقْوَمَ لقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: آية 19] وهي تحتمل العطف على المنذِر أو المنذَر، ففي هذه الآية قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: (حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ كَالَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُنْذِرَ كَالَّذِي أَنْذَرَ)، وعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ)) فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغه أَمْرُ اللَّهِ)([7]).

الثاني: أن يكون للمؤمنِ الذي يؤمِّلُ الاستخلافَ في الأرض ما يؤهله لعمارة الأرض بالصالحاتِ بجلبِ المصالحِ لأهلِها ودرءِ المفاسدِ عنهم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} والذي يؤهله لعمارتها أمران، أولهما أصل وثانيهما بدل:

أولهما: العلمُ والتعليمُ والقوةُ {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: آية 247] {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: آية 78، 79] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: آية 15] { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: آية 16].

ثانيهما: أن يستعين بأهل العلم والقوَّةِ المختصين في كل فنٍّ ويهيِّئَ لرعيَّته أن تتعلَّم من ذلك ما تعمر به الأرض وما يجعله جديرًا بالاستخلاف بمعناه الأتمِّ الأكمل، قال ابن القيم: (ذَكَرَ مالك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ((أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارَ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ فَقَالَ: أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ)) ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق؛ فإنَّه إلى الإصابة أقرب)([8]) ورى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله وهي عالمة طبيبة يومئذٍ: (علِّميْها حفصةَ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ)([9])، فأيُّ مؤمن يحلم بوعدِ الله بالاستخلاف وببناء أمَّةٍ أو نهضةٍ أو دولةٍ ولم يستكمِلْ هذه الصالحاتِ فقد أبعدَ النُّجْعَةَ.

إذًا لا مِرَاءَ أنَّ أساس الدولة وأُسَّها العلمُ والبحث والتعليمُ والتربيةُ والقوَّة بمعناها الشامل للقضايا المادية والمعنوية والاقتصادية وغيرها، وهذا هو جوهر التغيير الثَّوريّ المأمول والخيار البديل لإسقاط الاستبداد والعصبية والعصابات وتحرير البشرية من استعباد الفرس والرُّوم الجُدُد معًا.

لقد سبق السفراءُ تشريفَ الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وتأسيسَه قاعدةَ الأمةِ بسنين ليكونوا معلِّمين مربِّين، تقدَّمَهُ هؤلاء المعلمون مصعبٌ وصحبُه لبناء إنسانٍ يحكمه الوعي لا العصبية ولتأسيس بنيةٍ متينةٍ وقاعدةٍ لأمَّةٍ ودولةٍ تنتصب على قوائمِ مجتمعٍ مسلَّحٍ بالعلم، يُؤَهَّل لأن يقود الأمم ولا يقاد كالغنم لعصابات الجاهليين وعصبيتهم الجاهلية، ثم إنه ما إنْ شرَّف النبي صلى الله عليه وسلَّم المدينة حتى شرع في بناء المسجد وغدا المؤسسة التعليمية الأولى يومئذٍ، فكان أهمُّ ما امتاز به الدين الجديد في بناءِ أمةٍ ناشئةٍ ودولةٍ مدنيَّةٍ لم ولن تُدنَّس بهرطقات الكهنوتية الكنسيَّة أو الفارسيَّة؛ أنَّه قام على العلم والتعليم وصناعة الوعي والانسلاخ من ظلمات الوهم إلى أنوار الحقيقة والعقل والعلم، يقول المؤرِّخ الإنجليزي ويلز: (الإسلام هو المدَنيَّة، ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية)([10]).

المبحث الثاني: الواقع المنظور والمتوقَّع المأمول للتعليم في الثورة

كان التعليم قبل الثورات وما يزال، لكنه تعليم يغذِّيه المستبد بعقيدته السَّرطانية وبفلسفة القائد الأوحد، ويَمْسَخُ جوهرَهُ أحيانًا من خلال العبَثِ بمناهجِهِ وبُنْيَتِه وفُرصِهِ وميزانيته وبالقائمين عليه على نحوٍ مَقيتٍ لا تحكمه ضوابط تربوية صِرْفة، ولا يختلف مِن هذه الزَّاويةِ تعليمُ دولةِ الإرهاب عن تعليم تنظيم الدولة والعِرْقِيِّين والجماعاتِ المؤطَّرةِ برؤى منغلقة أو المسيَّرةِ عن بعد أو التي ترى نفسَها هي الأمةَ والدولةَ والمدنيَّةَ ومن سواها رعاعًا، وإذا ما مُست مصالحها بسوء لم تبالِ بالعلم وأدبيَّاته ودأبتْ تسومُ الوطنَ والأمةَ سوء المؤامرة والخراب باستغلالها التعليمَ وجيشَه المبرمج.

المطلب الأول: الواقع المنظور للتعليم في الثورة

هُلمَّ نقلِّب الأوراق ونستنطق التربويين ونستذكر التاريخ منذ عام 2011م:

لقد كان من الملاحظ يوم أن قامَت الثورات أنَّ خريطة المظاهرات ضد الاستبداد رسمها المثقفون لا الأميون، فمِنْ أكثر مَنْ دعا وشاركَ واستبسل هم طلاب الجامعات أو الخرِّيجون، لكن هل يمكن القول بأن هذه الصفوة أخطأت القياس والتقدير وحدَسَتْ أنها ليست سوى بضعة أيامٍ أو أسابيع وتسقط الأنظمة وأقنعتها للأبدِ بلا عودةٍ ويعودون إلى مقاعد الدراسة أو التدريس؟ وإذا فرضنا أنهم خمَّنوا فوهِموا في التقييم فهل أخطؤوا التقويم أيضًا؟ وماذا دهاهم عندما رأوا أنه قياس مع الفارق وأن أيام المستبد تطول وتستطيل؟! لِمَ لَمْ يجعلوها ثورة على الجهل ومصالح الجهلة الجاهليين المؤيدين للاستبداد؟ أعني كيف غفل كثيرون منهم عن هذا وما عادوا للتعليم ولا قدروا تعليمَ الناشئةِ قدْرَهُ وهم أعرف الناس بأن الجهل هو دِمْنَةُ الاستبداد وسُفْعَتُه، فمنذ أن قامت الثورة المصرية كتب توماس فريدمان (الخطوة الثانية التي قد تعزز قوة الشباب العربي بعد الثورات قد تكون الثورةَ التعليميةَ التي قد تهيئ لهم فرص العمل)، وتحدث عن مبادرة تدريب معلمي المدارس على تعليم التفكير الخلاق وحل المشكلات في الفصول الدراسية بالأردن فقال: (إن ذلك سيكون ربيعًا عربيًّا حقيقيًّا، وإن الثورات العربية ربما لا تنجح في خلع الحكام المستبدين بدون تمكين الجيل الجديد من الشباب العرب بهذا النوع من الثورة في التعليم، فالثورات لن تعزِّز بأي حال من الأحوال قوةَ الجيل الجديد في ظل غياب الثورة في التعليم)([11]) ومَنْ للثَّوَارِ أَنَّه إن انقشعت ظلمات هذا المستبد ألّا يأتي جيل الجهل بمستبد أدهى وأعتى وإنْ بالطرق الديمقراطية؛ فإنّ من عيوبها مساواةَ صوتٍ ثمنُه رغيف خبز أو صوتِ جاهل خانع قابع بل قانع بسطوة المستبد عابدٍ له بصوتِ أعلى الناس علمًا ونزاهةً وحريَّةً في الفكر والرأي؟! ومن أدرَى هؤلاء الصفوة الجامعيين أنه – في غفلةٍ منهم وليس ببعيد عن ضروب هذا الجاهل – تَكَاثَرَ أناسٌ على ضِفاف الثورة مسخوا التعليم وناصبوا العربيةَ العداء وحالفوا الأعداءَ، وآخَرون ابتُسِروا في كهوفِ غَلَسٍ لا يرون فيها العلمَ إلا ورقةً تسردُ نواقضَ إيمانِهم ورسالةً في عقيدة مذهبية، وبهما يغدو تحرير الشام واليمن والقدس وأراكان كلمح البصر أو هو أقرب، بل بهما سيفتحون العالَم بغزوات مباركة، فهما أمضى سلاحٍ… وأمَّا {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فلا تحفزهم لتعلُّمٍ أو إبداعٍ في صناعة سلاح أو اختراع في تقنيات حربية مُعِيْنة مثلًا بل إنهم بعلمِ العدو وصناعتِه وسلاحه سيقاتلون وينتصرون، ومن لكَ برجلٍ يقتل عدوَّه بسلاحه فهل ثمة أشجع منه! وكأنَّ عين الشاعر الهراوي لم تقع على من هو جدير بالمديح سواه، فأشبعه إطراءً حتى جعل منه هُزْأَة:

وأخو الجهالة في الحياة كأنَّه               ساعٍ إلى حربٍ بغير حسام

المطلب الثاني: المستقبل التعليمي من زاوية الواقع في هذه الفترة

في ضوء محدِّدَات مشكلة البحث المطروحةِ يتبيَّن أنَّ المعضلةَ موضوعَ البحثِ تربويةٌ لا تعليمية فحسب، فلهيبُ أُوارها يسفعُ كل تخصصٍ وميدانٍ وصفٍّ وقاعةٍ دَرْسِيَّة، ولا يَهِمَنَّ واهمٌ أنَّ البيت وحدَه _رغم أهميَّته_ يصوِّب ما تُلقِّنه المدرسة للطفل؛ فإنَّ أحدًا لا يجهل أنَّ الطفل يكاد لا يرى صوابًا وحقًّا في شيء يقال له ما لم يطابقْ ما قيل له في المدرسة، وعليه؛ فَهَاؤُمُ اُنْظُرْ بعينِ حصيفٍ ثم أجبْ إن وجدت للكلام منزعًا:

هل تخيّلتَ يومًا عصاباتٍ كدَّستهم أنظمةُ الاستبداد أو الاحتلال على أنَّهُمْ معلِّمُون بعدما مُنحوا بين غسق الليل وسُدْفتِهِ بطرقٍ شتَّى شهادات لا تبلغ قيمة المداد الذي خُطَّت به، فإذا بأروقة الجامعات والمدارس في وطنك الأمِّ تغصّ بهؤلاء الْمُرْجِفِيْنَ الصادِّين عن سبيل العلم، وتستغيث بالعلم وأربابه، ومن سَموم أولئك المعوِّقين المُثبِّطين تستعيذ وتستجير؟

أَتَصَوَّرت هؤلاء العبيدَ القَتَلة على منصات التعليم يربُّون أبناءَك بعدما عادوا إلى مدارسهم أو جامعاتهم في وطنهم الأُمِّ؟

ماذا عسى أن يعلِّمَ أولئك أحفادَكَ، وعلام تظنُّ أن يربوهم وينشئوهم؟ لا أحسبك نسيت أن المثل الأعلى بل الرب الأعلى لقوم فرعون هو هو معبود هؤلاء! أتراك نسيت مقالته {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: آية 29] فلئن غرِق فرعون وسقط حكمه فإن من ورائه فراعنة لا يرون إلا ما يَرى هذا المستبد، وهم إن لم يحكموا الرقاب والأشباح فإنهم يحكمون العقول، ويفسِدون الأرواح باعتلائهم منصات التعليم ليستأنف حَفَدَتُك مسيرة الخنوعِ والعبودية لِمستبدٍّ آخر يصنعه هذا الفراغ، فبعدَ قمع الثورات المناهضة للفرنسيين في الريف المغربي استدعَى قائد الحملة  المسؤول عن التعليم وقال له: لقد أخضعنا لكم الأبدان، وقضينا على مقاومة الشعب، فعليكم إخضاع العقول عن طريق التعليم([12]).

أتَرَى هذا الوطن قدَّمَ كل ما ترى من شهداء وتضحيات ليعتليَ عبيدُ الاستبدادِ منابر العلم والتربية ويحتكروا تربيةَ أبنائك وتعليمهم وها أنتَ ما زلت تُقسم أن تَبقَى أنت وأولادك اليومَ أُمِّيين لتنفقوا العمر في كسب ليرةٍ من هنا أو قروشٍ من هناك، وتعودوا غدًا بعقلٍ خاوٍ وجيبٍ ملآن، بينما قد سطَا أولئك على عروش العلم ومراكز بحوثه ومختبراته؟؟!

تلك إذًا كَّرَّةٌ خاسرةٌ وسوق بائرة لا رواج لها ولا نَفاق! فما ربحتْ تجارة قومٍ اشتروا الجهالةَ بالعلم والتعليم.

وبينما يستحسنُ هؤلاء الآباء في أبنائهم أن يروا فيهم عمّالًا مجهودِين جُباةً للمال وإن عاشوا وماتوا أميِّينَ، ويرى الذين عسكروا الثورات أسيرَ الحرب مَغْنمًا وكنزًا ثمينًا، وجدنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أسرى بدرٍ ما هو أثمن من الفداء بالمال، ولو شاء لأخذَ من كل قبيلة على فداءِ أسيرها مالا جمًّا، لكنه اكتفى بأن يعلِّم الأسرى القرءاةَ والكتابةَ لأطفالِ الصحابة ثمنًا للحريَّة، ولو شاء لقال: إن دولتنا وليدة ناشئة وأموال مواطنيها مصادرة فالمال أهمُّ من محو الأمية لمجموعة من الأطفال لا سيما أننا على أبواب تأسيس دولةٍ قوية، لكنه التَّعليم الذي به تقوم الدولة وعليه ترتفع راية الأمة… وفي اليابان خاصَّة وماليزية وتركية تجاربُ مشهودة، فهي ما قامت ولا نهضت ولا تحرَّرَتْ ولا أسَّسَتْ دولةً مهيبةً محترمةً ولا ازدهر اقتصادها إلا بالعلم وجودة التعليم والإبداع، وهذه النَّهضة آتت أُكُلَها حتى جنَى من جِنانها كل مواطنيها لا سيما المتعلمين والمبدعِين والمخترعين؛ لقدْ قدرت دراسةٌ لمؤسسة أنقذوا الأطفال عامَ 2015 أنَّ السوريين الذين لم يُكْمِلُوا تعليمَ المرحلة الأساسية من المرجَّحِ أن يحصلوا على أجور أقل بنسبة 32% من أجور نظرائهم ممن أنهوا دراستهم الثانوية، وأقل بنسبة 56% مقارنة بمن تخرَّجوا في الجامعة([13]).

واليوم ها قد انصرمت سبع عجافٌ ناصَر العالم المتحضر فيها المستبدِّين السفَّاحين قتلَةَ المدنيِّين المسالِمين والأطفال النِّيَام بالكيماويِّ والمحارِق الجماعية، وعاد السؤال يطرح نفسَه كرة أخرى: أيهما سقط الاستبداد أم التعليم؟ وهل فات ثوارنا في البلاد العربية كلِّها يومئذٍ أن يضعوا خطة بديلة لإسقاط الاستبداد، وقوامها التعليم والتربية والاختراق؟ لا سيما أن التهجير والاغتراب أتاح لكثيرين فرصًا تعليميّة نادرة رغم أنه كان سببًا للحرمان من التعليم في حالات ليست قليلة لعوامل أهمها اللغة وظروف أخرى.

وإذ إن الثورة والتعليم متلازمان فلنؤكِّد صوابَ القول بأنَّ الاحتفاظَ بجوهر يستعصي على التغيير في عالم كثيرِ التحول شيءٌ يعادل بقاءَ كوكبٍ في مدارِه أو قلبٍ على نظام حركته([14])، وأنَّ صِمامَ أمان هذا الجوهر هو بناء الشخصية الريادية التي من أهمِّ أركانها العلمُ وملكة الفهم والشعور بالمسؤولية، وكلُّها منوطةٌ بالتعليم والتربية معًا؛ وبناءً على هذا كلِّه نؤكِّدُ أنَّ الثائر الجاهل المستهتر لا يعدو أن يكون ريشةً في مهبِّ ريح، لون الحرباء صِبغتُه والتغيُّرُ طبعُهُ وثباتُهُ مستغرَب؛ وإنِّي لَأَذكُر أنه بينما كان ثوّرانا الجامعيّون يقضون العجب – وهم يرون رفاق دربِ الثورة صالَحوا دولة الإرهاب والاستبداد واصطفوا في خندق مليشياتها أو لحقوا بتنظيم الدولة لقتال إخوةِ الأمس الأحرار – كنتُ أكرِّر: الشيء من معدنه لا يُستغرَب، تتَّبعوا ماضي وحاضر هؤلاء القتلَى الهلْكَى المصالحين المصطفّين في ركاب إرهاب الدولة وتنظيم الدولة على جبهات القتال، فلن تجدوا فيهم عالِمًا أو متعلِّمًا أو مستمعًا، وهذا سرُّ هلاكهم، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا، وَلَا تَكُنِ الْخَامِسَةَ فَتَهْلِكَ)) قَالَ عَطَاءٌ: (قَالَ لِي مِسْعَرٌ: زِدْتَنَا خَامِسَةً لَمْ تَكُنْ عِنْدَنَا، قَالَ: “وَالْخَامِسَةُ أَنْ تُبْغِضَ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ)([15])،  ولا أدلَّ على الهلاك الناجم عن الجهل من هذا التقلب العُجَاب وذاك الأداء الإداري الضعيف في بلادٍ حكمَها ثوارٌ قادتُهُم إمَّا حِرْفِيُّون لم تخطَّ أيديهم كلمةً تُدار بها غرفةٌ يقطنها بضعة أنفار وإمَّا ظلاميُّون لا يرون العلم سوى جهالاتٍ مطبقةً يكفِّرون بها من شاء ليستبيحوا دمه وماله وعرضَه.

واليوم وقد كان ما كان وفشَتِ الأمية وأعرضَ القوم عن المدرسة وشغلتهم دنيا الوهم في جمع قروش أو إسقاط عروش سرعان ما تعود لِتُشيَّد على جماجم جهلٍ صنعَتْه هتافات مخلصة هدَّارة؛ لكنها خطَّت بمعاول تجهيلٍ هدَّامة (لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرَّئيس)، فهل من مغيث اليوم تحمله حميّة الغيرة على عقول تستغيث لدفع الصائلين عليها؟! لقد عزَّزتْ هذه الشعاراتُ وخشيةُ الاعتقالِ والقصفِ التسرُّبَ من التعليم حتى وصلت نسبة الأطفال المحرومين من الدراسة بسبب الصراعات في هذه الدول 40% وفقًا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة في 3 أيلول 2015 بعنوان (التعليم تحت النار)([16])، ومردُّ هذه المعضلةِ إلى موانع وعقبات بعضها لا مفرَّ منها كما في الرعب المتولِّد من قصف الطائرات عشرات المرات للمدارس أثناء الدوام، ولبعضها مخارج محدودة الأثر عمل الثوار ومؤسسات المجتمع المدني على تجاوزها ما أمكن كما في تدمير المنشآت التعليمية واستهداف المعلمين واستنزاف الموارد، ولتذليل هذه العقبات انبعثت مدارس المخيمات ومبادرة جيل غير ضائع وحملات العودة للتعليم وعمليات إعادة إعمار بعض المدارس، لكنَّ من لم تحصِّنهم هذه المؤسسات تلقفتهم التنظيمات الإرهابية في صفوفها كما في اليمن والعراق وسورية، ويجري توظيف هؤلاء الأطفال لتكريس سموم التطرف والتكفير والصراع والانفصال والانتماءات والولاءات الطائفية والعرقية ورفض الآخر لدى الأجيال الناشئة.

المطلب الثالث: المتوقَّع المأمول لمستقبل التعليم في الثورة

تعليمُ دولة الثورة المنشودُ تعليمٌ صِرْفٌ قِيْمِيُّ محايد محاطٌ بقيمٍ تربويةٍ لا يختلف عليها اثنان، هدفُهُ تكوينُ العقلية الموضوعية العلمية المؤسسة على النظر والاستنباط والبرهنة والاستدلال، وبناءُ الإنسان الذي به تُبْنَى الحضارة والدولة وقاعدتُها وقيادتها أيًّا كان عِرْقُ هذا الإنسان المستهدَف بالتعليم أو دينُه؛ فالعلوم الحياتية ميراث إنساني ليس حَكْرًا على مِلَّةٍ أو دين، يقول أبو بكر الرازي في كتابه الموسوعي الحاوي في تاريخ الطب: (لقد جمعت في كتابي هذا جملًا وعيونًا من صناعة الطب مما استخرجته من كتب أبقراط وجالينوس وأرماسوس ومن دونهم من قدماء فلاسفة الأطباء، ومن بعدهم من المحدثين في أحكام الطب مثل بولس وآهرون وحنين بن إسحاق ويحيى بن ماسويه وغيرهم)([17]) ولما دخل الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى مصر كان بصحبته ثمانية عشر عالمًا في الطب، منهم ثمانية مسلمون وخمسة يهود وأربعة من النصارى وسامريٌّ واحد([18]).

وما إنْ أنْ أَنهكتِ الثورةَ السنون وكادت تتآكل بأنياب المتآمرين بقصدٍ أو عن جهالةٍ حتى عادَ الثوار ليستيقنوا ما برهنت عليه سنن التاريخ مرارًا مِنْ أنَّ التعليم سلاح التغيير، وأنه كان لِزَامًا على الثوْرَات لتحقق انتصارًا لا هزيمةَ بعدهُ أن تتخذ من العلم منارة لها حتى يبلغَ العلمُ بها مبلغًا، ويكونَ للتعليم ومؤسساته المستقلّة لا غير القولُ الفصل في التغيير من الجذور لكلٍّ من المفاهيم والسلوك، وليغدوَ البحث العلمي بقوَّته التي يذعن لها العامة والخاصة موئلًا للساسة ورجال الأعمال معًا، ويمكن تصوُّر مرجعيةِ العلم ومؤسساته على النحو الآتي:

1 _ تصبحُ لمؤسسة البحوثِ العلمية وخصوصًا التجريبية هيئةٌ قانونيةٌ لتقييم الأداء الحكوميِّ في مجال التعليم والبحث العلمي بحيثُ تُلْجِئ السياسيِّين مثلًا إلى أن يجعلوا رضا المؤسسات العلمية جُلَّ همِّهِم في دعاياتِهِم الانتخابيةِ وإدارتِهِم للدولة لاحقًا.

2 _ تَحْمِلُ منزلةُ مراكزِ البحوث ومؤسسة براءاتِ الاختراع الشركاتِ والمصانعَ العملاقةَ على أَنْ تلتمس من المؤسسات العلمية المختصة إشراكَها في الإبداع ونفقاتِه لتحصل منها على تزكيةٍ في مجالها تسوِّق بها لنفسها.

3 _ تبعثُ منزلة العلوم السامقة الوعيَ في المتديِّنِيْنَ الأغنياءِ والمنظماتِ الداعمة للثورة ليستيقنوا أنَّ الإنفاق على البحوثِ والمخَتبرات وعلى الباحثين المغتربين هُوَ أفضلُ بألفِ مرة من نفلِ ألفِ حج وعمرة وأعدلُ من إنفاقِ التبرعات كلِّها على القوةِ لمقاومة العدو المستبد وأعوانه المحتلين ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ الثَّلَاثَةَ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالْمُمِدَّ بِهِ، وَالرَّامِيَ بِهِ))([19]).

4 _ يبرهنُ العلمُ بأثره في الدين والدنيا لِمَن كان في مَيْسَرةٍ من المتقين على وجهةِ نظرِ فريقٍ من فقهاء المفسِّرين القائلين: إنَّ للعلم وأهله ومؤسساته بأنواعها كلِّها الشرعية والحياتيّة من الزكوات المفروضةِ نصيبًا مِنْ سهمَيْ {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] لا سهمًا واحدًا فحسب كالفقراء ناهيك عن الأوقاف والتبرعات، (حدَّث ابن جبير في رحلته التي قام بها سنة 580 ه تقريبًا أنه رأى في بغداد عاصمة الخلافة العباسية حيًّا كاملاً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، يتوسطه قصر فخم جميل، تحيط به الحدائق والبيوت المتعددة، وكان ذلك وَقفًا على المرضى، وكان يؤمه الأطباء من مختلف التخصصات فضلا عن الصيادلة وطلبة الطب وكانت النفقة جاريةً عليهم من الدولة ومن الأوقاف التي يجعلها الأغنياء من الأمة لعلاج الفقراء وغيرهم)([20]).

هذا والحكم العام في المطلب السابق على الثوار الجامعيين بأنهم أخطؤوا التقويمَ وترتيبَ الأولويات إبَّانَ الثورةِ إنما هو مقصورٌ على مدى اهتمامهم بتعليم الجِيْل، أما إطلاق هذا الحكم على دراستهم الشخصية فليس صحيحًا، فقد كان فيهم من يغامر بل يقامر بحياته وهو يتصدَّر مظاهرة، فإذا انفضَّت أكمل طريقه إلى المحاضرات في جامعة الثورة ماضيًا قُدُمًا إلى كلية الهندسة المعمارية التي مُنِيَت بحصة الأسد من قصف الطيران مطلع عام 2013م مردِّدًا العلم طريق الخلاص، ومثل هذه القناعة هي التي حملت السوريين على خوض غمار هذه المجازفةِ التظاهرِ والدراسةِ معًا، فهم يتظاهرون ثم يهرولون إلى القاعات الدَّرْسية وهم موقنون أن الاعتقال ليس عنهم ببعيد.

وثَمَّةَ آخرون تركوا كليات الطب ونشطوا في الإغاثة لكن لما حانت فرصة المنح لمتابعة التعليم الجامعي أو الحصول على الدكتوراه في المهجر هُرعوا إليها كما فعل كثيرون في سورية وفلسطين المحتلة لا سيما أهل غزة المحاصرة؛ لأن العلم طريق الخلاص فبه سيخدمون وطنهم من طريق أقوى وأقوم، لا سيما أنهم أتقنوا لغات شتَّى، فترجمة العلوم أول خطوة للبدء من حيث انتهى الآخرون، وما قولك في أنَّ الخليفة المأمون كان يوفِد بَعثات علمية([21]) ويَهَبُ من يترجم كتابًا إلى العربيةِ وزنَه ذهبًا وما أدراك بوزن ورَقِ ذلك العصر!([22]) وفي عهده صارت بغداد العاصمة العلمية العظمى في الأرض فجمع إليها كتبا لا تحصَى وقرَّب إليه العلماء وبالغ في الحفاوة بهم([23]) بل ما قولك في أنّ من الخلفاء العباسيين من كان يأخذ من العدوِّ المخطوطات والكتب العلمية بدل الجزية!([24])… إذًا أليس الأجدَى من التباكي على التعليم في هذه الحِقبةِ هو حثّ منظمات الثورة والمجتمع المدني للعمل على إعدادِ برنامج اتصالٍ وجداول عملٍ ودعمٍ إعلاميٍّ ومادِّيٍّ ومعنويٍّ تَسْتَهدِفُ الاتصال بالمغتربين الدارسين في المهجر والعنايةَ الفائقةَ بهم لضمان عودة جلِّهم أو فريق منهم لوطنه بعد تخرُّجه وإلا عدنا بخفَّي حنين.

هذا ولئن كانت العناية بالتعليم والمِنح تُعدُّ فرارًا من الزَّحف الثَّوريِّ في رأي فئةٍ يومئذٍ؛ فإنَّ كثيرًا من المهاجرين يرون في التعليم سلاحًا نوعيًّا وخطة بديلة للتغيير في المستقبل، ولو أن الفئة الأولى حكَّمت العاطفة والحماس والعقل والتخطيط المستقبلي معًا لعلمت أن كل المسارات ضرورات لا خيارات يجوز إغفالها؛ فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للقاء عدو في معركة يومًا إلا وخلَّف في المدينة من يعلِّم الناس والوفود {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]، وتلك هي وظيفة الرِّدء التي كان يقوم بها هارون الْمُبيِنُ المعلِّم مع موسى عليهما السلام، فمن ألزم الناس جميعًا يومئذٍ بمسار واحد رُئيَ يتباكى على جرحَى يلفظون أنفاسهم عندما لم يجد أطباء من حوله، ومن أين له الأطباء إن لم يدرس أحدٌ الطب على مذهبِه الملزم للجميع بالسير في مسار واحد؟ إنَّ أعظمَ ثائرٍ على الباطنيين الذي أصاب بنظرته الثاقبة بأن طريق تحرير القدس يبدأ بالخلاص من كيد الباطنيين هو الإمام العادل الشهيد نور الدين محمود الزِّنكي رحمه الله تعالى، وبينما كان يمضى قُدُمًا في جهاده ضد الباطنيين ومِن ورائهم الصليبين واليهود كانت عنايته بالتعليم فائقة، ففي ذلك الوقت عام 549 ه أسَّسَ كلية الطب العريقة (المستشفى النوري الكبير) وهو من أجل المؤسسات الطبية وأعظمها في التاريخ، وما زال يخرِّج الأطباء في قاعاته العلمية ويعالج المرضى حتى عام 1317 ه/1899م أي نحو ثماني مئة سنة([25]).

فأين ثوارنا أصحاب الاتجاه والمسار الواحد من هذا الوعي الرشيد؟ ثم إنك سوف ترى فيهم من يتباكى وهو يعاينُ الشركات الأجنبية تأتي بمهندسيها وخبرائها لإعادة الأعمار، وليس لأبناء الوطن يومئذٍ سوى التحسُّر على ما فات:

والجهل يخفض أمةً ويذلُّها                 والعلم يرفعها أجلَّ مقامِ

انظر إلى الأقوام كيف سمَتْ بهم           تلك العلومُ إلى المحلِّ السامي

المبحث الثالث: ظواهرُ التعليم السبعُ في السنواتِ السَّبْع

إن الإجابة العلمية عن أسئلة البحث تقتضي استطلاعًا واستباناتٍ علميّة مفصَّلة لكل التخصصاتِ والمراحلِ العمرية على مدى سنواتِ الثورات ومقارنة كل سنة بما قبلها واستبانات خاصة بمناطق النزوح وبلاد المهجر، وأخرى لأسبابِ التسربِ وانحسارِ التعليم وعواملِ الأمية وخط سير الإنتاج العلمي المتوقَّع كمًّا وكيفًا تراكُمِيًّا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار، ثم القيام بدراسة تجريبية عمليَّة على عيِّنات الدراسة في كل حالة وإعداد دراسات إحصائية لذلك كله من أجل إصدار أحكام صحيحة، وتستدعي الإجابة على الأسئلة أيضًا مقارنةَ التعليم في الثورة والاغترابِ بما هو متاح للموالين للأنظمة الحاكمة خلال سنوات الثورات، أما مقارنة فروق التعليم في زمن السلم بزمن الحرب فتلك مسألة أعمق.

وإنني لَأَكُرِّرُ أنني لا أكتمك سرًّا بأنَّ الدراسةَ اقتصرت على إثارة المشكلة ولم تقدِّم إجابة علمية عن أي من الأسئلة؛ ذلك أن الإجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق، وتلك أعمال بحثية مُسهِبة حقيقةٌ برسائل جامعية في أقسام علم التربية والاجتماع والسياسة، لكن يمكن سرد ظواهر تنكشف بها حدود البحث مفصَّلةً وتصلح أساسًا لمقاربات ومدخلا لدراسات أكاديمية بحتة:

الظاهرة الأولى: ضعف الفرص والإمكانيَّات

بينما يمضي الطَّلَبةُ إلى مدارسهم وجامعاتِهِمْ وَفْقَ مناخ وبيئة تعليمية مهيَّأةٍ شَكْليًّا تحت سلطانِ الأنظمة المستبدة، نَرَى زملاءهم في المخيمات ومناطق الحرب والحصار وكهوف النزوح وبعض دول اللجوء يتكدسون في المنشآت التعليمية؛ فيضعف مستوى التعليم والخِدْمات المقدَّمة أو تنعدم، بل يُرْفَض أكثر الطلاب لضيق المنشآت وشحِّ الموارد التعليمية كما في لبنان حتى عام 2015م، ثم إنَّه قلما يحظى أحد هؤلاء الطلاب بالالتحاق بالجامعة لا سيما التخصصات المرموقة لأسبابٍ تحكيها ظروفُ الحربِ والاعتقالِ واللجوءِ والحياةِ الشَّاقة، نعم ثَمَّة قلَّةٌ آخرون حظوا بفرصٍ ما كانت لتتاحَ لهم لو لم يهاجروا.

إنَّ هذا المشهد ليُحمِّلُ الأفرادَ وفِرَقَ العمل ومنظمَّات المجتمع المدني مسؤوليةَ تدراك القصور وسدّ الثغرات من خلال مجموعة إجراءات وبرامج مقترحة، منها:

  • استثمار المنظمات لجزءٍ من مواردها في التعليم من خلال برامج دقيقة مبنية على دراسة جدوى إيجابية وتفاعلها مع مؤسسات حكومية وخيرية يستفاد من مراكزها المتاحة دائمًا أو خارج ساعات دوامها الرسمي.
  • تنظيم فرق عمل لدعم المنقطعين عن الدراسة والمراهقِين الأُمِّيْين من خلال تيسير التعليم البديل أو المفتوح أو المستمر أو عن بعد من خلال المراسلة والدروس التفاعلية والمسجلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويقوم عليها مشرف مجموعة متخصص للدعم والمتابعة.
  • مبادرات فردية لتفعيل برامج (المدرِّس المتطوِّع) ساعةً يوميًّا مع مبدأ (الأم مَدْرَسة)، استمرارًا لفكرة العالِم الثائر عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى: (إذا علَّمت ولدًا فقد علمت فردًا وإذا علمت بنتًا فقد علمت أمَّة)، وتهدف إلى تحسين سريع لأداء أولياء الأمور ليغدوا مدرسين فعليين لأولادهم في البيوت وفق برنامج مكثف يوازي برامج الدراسة المنتظمة ومدعَّم بوسائل مساعدة من الشَّبكة، يبدأ به المدرِّس المتطوِّع ثم يوكِل مهمة الاستمرار إلى الأسرة، وتغدو مهمته التقويم والمتابعة الجماعية المباشرة أسبوعيًّا مرةً في مراكز متاحة أو في بعض البيوت أيام العطلة الأسبوعية أو المتابعة عن بعد من خلال مواقع التواصل، وشيءٌ من هذا يقوم به بعض المغتربين المصريين المثقفين: يتخذون من بيوتهم مدرسة نموذجية بإدارة الأبوين فقط، فإذا حانت الامتحانات التحقوا بالمراكز الخارجية لها من خلال سفارات بلادهم.

الظاهرة الثانية: أثر الحرب على العملية التعليمية

ينبغي تحديد مدى تأثير الحرب والرُّعب والنزوح واللجوء والظروف المعيشية القاسية والوضع الاجتماعي الناجم عنها على التعليم والأداء وعدد المعلمين المتخصصين، وتأثير هذه الأحوال على المتعلمين ونفسيتهم ووعيهم وأدمغتهم وعقولهم وتصورهم للواقع والمستقبل.

الظاهرة الثالثة: أثر المحيط على الطالب المغترب

مجموعات الرِّفاق في العملية التعليمية في بلاد الاغتراب والنزوح تتركُ في الطفل أثرًا تتباين درجاته من بلد إلى آخر، فبينما يكتسب في بعضها إيجابيات المدنية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبياتها وقوميّات وانتماءات وطنية ليس فيها خصوصية الوطن الأم ولا بيئته ولا ثقافته، ويكابد مرارة النظرة السلبية والتفرقة أحيانًا.

الظاهرة الرابعة: مشكلة الاعتراف بالشهادات

تتمثل هذه الظاهرة في النظر إلى الشهادات العلمية كمًّا ونوعًا واعترافًا وفاعليةً، ومدى قناعة الطلاب بنجاعة الدراسة دون شهادة معترف بها، وتأثير ذلك على درجة العناية والاهتمام بالعلم والتعليم، فربما أدَّت مرارة هذا المشهد إلى أن يردِّد بعض العامة: وهل أغنَت الشهاداتُ عن الدارسين من قبلُ شيئًا؟ فها هم الجامعيُّون وحَمَلة الشهادات العليا في بلاد المهجر والنزوح عمَّالٌ كالأمّيّين بل أسوأ حالًا؛ فلا هم خَبَروا المهن من قبلُ ليتقنوا إحداها ولا فرصة تتاح لهم في مناطق النزوح ولا في بلاد المهجر لموانع عدة أهمُّها اللغةُ الأجنبيةُ وندرةُ الفرص في تخصصاتهم وقوانينُ تلك الدول في تشغيل الأجانب المتخصصين… وهذا واقع مشهود صحيح نسبيًّا لكنَّه ليس عامًّا؛ فثمَّة جامعيون استكملوا المطلوب منهم، وآخرون أتقنوا اللغات، وأُتيحت لقسم آخر فرص عملٍ مناسبة، واتَّجَه بعضهم للتعليم مرة أخرى حسب التخصص المرغوب في سوق العمل حيث يقيم هو، فأسهر ليله وأجهد نفسه، وصار متخصِّصًا في مجال آخر؛ ثم إنَّه رغم نسبيّة صواب ما يردِّده العامة عن انعدام الفرص للمتعلمين يعود كلٌّ منَّا ليسائل ذاته في أعماق نفسه: إذا رضينا بالعاجلة فمن للآجلة؟ إنْ أعرضنا عن العلم والتعليم بدعاوَى كهذه فمن سيعلم أجيالنا القادمة بعد التحرير إن عدنا بلا علم ولا شهادة؟ أما الموالون لأنظمة الاستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من أُقحموا في المؤسسات التعليمية من غير أبوابها، فحجزوا مقاعد التعليم في كل المؤسسات، ناهيك عن أنَّ كيل المستبدين قد طفح فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من خمَّنوا أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في خفاءٍ، فماذا عسى أن يعلِّم أعوانُ القتلة أبناءَنا وعلام سيربونهم؟! ويل ثم ويل إن آلت إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيربوا جيلنا القادم على فسادٍ وخِسَّةٍ وخنوعٍ للمستبد واستعبادِه وعلى سلوكياتٍ وصفاتٍ رَذلةٍ توارثتها جيناتهم وقامت عليها مصالحهم كابرًا عن كابر.

الظاهرة الخامسة: تحكم المستبد وأتباعه بالتعليم

ينبغي ملاحظة مدى تكثيف أنظمة الاستبداد لأعداد الموالين القائمين بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكُّم تلك الأنظمة في هذه الحِقبة بفرص التعليم العالي، وعلى هذا: كيف ومتى وأين يمكن أن تُهَيَّأَ فرصٌ لإعداد كفاءات تدريسية في كل التخصصات لتكون مؤهلة للمنافسة والتصحيح المطلق الشامل للمفاهيم والقيم؟

الظاهرة السادسة: المناهج بين الأدلجة والتحريف

وقعت المناهج تحت سياط الأدلجة ومباضع عمليات التشويه والكذِب والتحريف، وتلك أمُّ الخبائث، فعن أيِّ عمليَّة تعليمية تتحدَّث وقد أُغير عليها حتى غارَتْ أركانها – المعلِّم والمتعلِّم والكتاب – في مياه آسنة؟ وليس الكتاب أحدُ عناصر المناهجِ هو وحدَه من سِيْمَ وبال المسخِ والتزويرِ، بل طالَ العبثُ توظيفَ الوسائلِ التعليمِيَّةِ والتقويمِ والأنشطة الصفِّيَّة والموجَّهة والحرَّة؛ ثم إنَّ الأدلجة والبنية الفكرية في المناهج والمؤسسات والهيئات التدريسية يتفاوت أثرها في جيلِ المستقبل لدى كلٍّ من أنظمة الاستبداد ودول الإرهاب وأنظمةِ التطرُّف العرقي أو الدينيّ ولدى أنظمة دول الاغتراب وجيل الثورة، وهي مسألة لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبناء الجيل أو تخريبه، فجديرٌ بها أن تُفرَد بالبحث، فلربَّما يحتاج الأمر إلى دراسة ميدانية مفصَّلة سابرة لجرائم دُوَل الإرهاب وتنظيم الدولة والعِرقيِّين العابثين بالمناهج في ضوء معايير علمية تربوية حيادِيَّة لإعداد المنهج وبنيته وإطاره ومحتوياته بعناصره السبع؛ ولهذا وجبَ إفراد هذه الظاهرة برأسها ببحثٍ آخَر.

الظاهرة السابعة: اللغة الأُمُّ واللغات الأجنبية

ومدار الحديث هنا عن اللغة الأم ولغات دول الاغتراب، إنَّ الاحتلال والانتحال الألسني مسألة معقَّدة في المهجر والبلاد المحتلَّة، فاللغات الأجنبية منفِّرة للأطفال من التعليم قبل إتقانها، أمَّا بعد إتقانهم لها فالمصيبة الأعظم أنها تغدو كارثةً على اللغة الأم، وقد تمسخ الهويةَ الوطنية وتضرُّ بالبرمجة اللغوية الأُمّ عند التفكير ومعالجة العلوم ودراستها وتدريسها، وأشدُّ وأنكى ما تُرَى هذه المعضلة التعليمية في مدنٍ تشهد مسخًا قوميًّا وحروبًا عرقيَّة، نعم إن من سنن الله في الكون الإحياء والإماتة والبعث والتدافع والسببية والصيرورة، وهي سنن تكاد تكون ضربة لازب لكل أفراد الوجود والألسنُ أحدُها، وتلبس تلك السنن غالبا لباس الأسباب على يد البشر، لكن أنْ تُقَمَّص بها على أيديهم بالسطو والإرهاب كما يجري في مدارس شمال شرق سورية فتلك مسألة لا تأتي في سياق سنن التغيير بل هي احتلال مستهجن مستقذَر.

لقد اندثر من الأقوام ما لا يحصى وإن قُلْت ومن اللغات نحو ذلك فلعلك تصيب، وتغيرت وتطورت أنماط الحياة منذ بدء الخلق وكذا ألسنتهم، ولهذا كله عوامل لا تنكر، وجلّها يعود إلى السنن المذكورة، وهذا يبرهن أن على أهل كل لسان أن يحفظوا لسانهم أن يحور أو يغور أو يبيد، وللمحافظة عوامل مردها إلى تلك السنن أيضًا؛ والعقل يحار في معضلة الهيمنة – العولمة – اللغوية: أتراها تؤول إلى سنة التدافع أم الإماتة؟ ولعل لمفتاح حلّ هذه الأحجية وفكِّ رموزها أسنانًا، أكبرُها دقةً تشخيص الواقعة ليكون العلاج أكثر ملاءمة ومطابقة، وعمدتها سبر عوامل انقطاع الألسن أو إعجامها، ونقدِّم لذلك بمقدِّمة ربما تنير هذا الجانب المظلم:

يوم حطَّ المحتل الأجنبي عصا الترحال وُلِد المنتحِل العربي، لم يَدْعُ الأولُ الثانيَ لاستبدال اللسان الأعجمي بالعربي، لكنه استدعاه بل استعداهُ؛ وَضَعَه بين يدَي ثقافة غازيةٍ وعلومٍ باهرة، فاقتنع الثاني أن لا وعاء لهذه الثقافة والعلوم ولا طريقَ لتعلُّمِها وتعليمِها إلا العجمة، وبينما كان يرى الثقافةَ والعلومَ العربية قد اصفرَّت فغدت حطاما بل حصيدًا كأن لم تَغْنَ بالأمس، حكم على وعائها _لسانِها_ بمثل ذلك أيضًا، فلم يعد يرى فيه لغة علم ولا تعليم؛ والمحتل والمنتحل شريكان في هذا العدوان (كل الدلائل تثبت أن الفرنسية حققت في مرحلة استقلال المغرب من الانتشار والتوسع ما لم تكن تحلم بتحقيقه في مرحلة الاحتلال… وبعد الغزو العسكري هناك أسلحة جديدة ستدخل الحلبة وتقود المعركة، وهي اللغة والفكر الفرنسي) كما ذَكَر في “مَغْرب الغد” الضابطُ الفرنسي بول مارتي.

وعلى يد المحتل والمنتحل ولد الانحلال من رحم هذا الغزو الفكري واللساني، ومعنى الانحلال اللغوي: التفكّك والانتقال من المؤتلف إلى المختلف، ومن الصحيح إلى الفاسد، فاضمحلت لغة العلوم والتعليم والإعلام وانحلت، وتآكلت الهوية في بلاد المغرب مثلا والخليج على دربِهِ، ذلك أنّ حروبَ اللغة حروبٌ على الوطن والشعب وعلى الماضي والحاضر والمستقبل، أي على الهوية بمعناها الشامل للخصائص الثقافية والحضارية والعرقية والجغرافية والتاريخية والدينية، فاللغة ليست لسانًا فحسب بل هي هويّة ثقافيّة ووسيلة التّعليم الأمِّ ووعاء الفكر ومستودع التّراث والخصوصيّات.

وتضاعفت مشكلة الهجين اللغوي باغتراب العرب ولجوئهم اليوم وبوفادة الأعاجم إلى الخليج أمس، فهؤلاء العرب وإن عرفوا لغتهم واستقام لسانهم؛ رطن فكرهم واعوجّ لأنَّ لغة التَّعليم أجنبية، فتراه يفكر بها ويترجم ما يفكر به إلى لغته الأم، وقد يفر من أمّه إلى تلك إذا ما أقفر حضنها فلم يجد في معجمه ذلك المصطلحَ أو المعنى الأجنبي القائم في ذهنه.

وفي مزاحمة الأعاجم وثقافتهم ولغاتهم الأوردية والإنجليزية والفارسية للعربية تهديدٌ بِهَتْك النسيج المجتمعي والثقافي، وهذا فيه ما فيه من زعزعة الأمن والسلم الأهلي والعدوان على العقل العربي ولغته التي كانت بالأمس لغة العلوم والتعليم العالَميَّة؛ وخير من وفى البحث حَقَّه الأستاذ محمود شاكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، يقول سارتون: (كانت اللغة العربية من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يلمَّ بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية)([26]). وأبلغ من ذلك قول العلامة بريفلوت عن روجر بيكون أشهرِ عُمَداءِ نهضةِ الغربِ: (لم يكن بِيْكُون إلا رسولًا من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يملّ قط من التصريح بأن اللغة العربية وعلوم العرب هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق)([27]).

وما عليك لحلِّ لغز روجر بيكون وزمرتِه والنهضةِ الغربيةِ سوى التحليلِ والتدبُّر والتأمُّل في حالنا اليوم وحالهم يومئذٍ وأنت تقلِّبُ وجوه المعاني عند قراءتك بشغفٍ وعمقٍ لكتابِ (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، وليكن على ذُكْرٍ منك أنَّ طريقةَ نهضتهم بدأت بترجمة علومِنا وبحثِها ودراستها على مدى عقودٍ لقد اكتسب العلم الغربيُّ مادةً أدَّت إلى إثرائه بدرجة لا نظير لها بفضل الترجمات العربية عن الإغريق، وكذلك بفضل الإنتاج العلميّ المستقل للمسلمين([28]) وإنَّ انتعاشَ العلم في العالم الغربي سببُه الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللّاتينية لغة التعليم الدولية آنذاك([29])، وهي هي الطريقة ذاتها التي قامت بها نهضة المسلمين الأوائل يوم أن ترجموا علوم الآخَرِين وعلَّموها للأجيال فبحثها كل جيل وفق معطيات عصره وبذلوا المهج في تطويرها؛ فالحضارات تتلاقح وليس صحيحًا أنها تتصارع أو تتناطح، ولا أدلَّ على ذلك من صنيع العلامة الموسوعي الفيزيائي الفلكي الفيلسوف الكندي أبي يوسف يعقوب بن إسحاق صاحب المأمون، لقد قرأ العلوم المترجمة عن اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة والسّريانيّة، وأتقن اليونانيّة والسّريانيّة، وترجمَ هو وفريقُهُ البحثيُّ منها جمًّا غفيرًا حتى صارت مكتبته تضاهي أعظمَ مكتبةٍ يومئذ (مكتبةِ بيت الحكمة) البغدادية، وصارت مكتبته مركزًا بحثيًّا وجامعةً تراثيَّة([30]).

هذه هي الظواهر السبع الأكثر وضوحًا في حدود الدراسة، ولكلٍّ منها تفسيراتها وأسبابها وحلول مقترحة تساعد على تجاوز عقباتها، وإنَّه ليجدر بمراكز البحوث المعنيَّة بالثورات والحريّة والكرامة أنْ تولِي هذه الظواهر قدْرًا من العناية البحثية يلائم أثر كلٍّ منها في التعليم.

خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته

هذا وما كان لثوّارِنا الجامعيين بل ما ينبغي لهم أن تخمد جذوة نشاطهم وهدير أصواتهم، أو أن يرفع بعضهم عقيرتَه بفوات الأوان والْعَجْزِ عن تقديم برامج لتعليم الجيل المغدور؛ فيَهِنَ ويوهِنَ عزيمته وعزم الآخرين، فليكن التعليمُ والتربيةُ والتَجَنُّسُ بجنسيَّات أخرى من أجل الاشتراك والاختراق للمؤسسات والمحافل المحلِّية والدولِّية خطَّتَنَا البديلة لهزيمةِ الاستبدادِ وإدانةِ أنصاره الدَّوْليين وإدراجِهم في سجلات التاريخ السوداء، ولنُصرةِ شعوب أخرى تتوق للحرية في قابل الأيام، ولتعليم الأمم المسحوقة ألفَ باء الحرية والوسائلَ العلمية السلمية للانعتاق من الاستبداد، ولتعريفهم أبجديَّاتِ العبوديَّة لربِّ الملوك والمماليك وأنَّها لا تكون لأحدٍ سواه.

ويَا لَهُ من تشريف! وما أجلَّه من تكليف! أن يقتضي منك إيمانك بالحرية والانعتاق من العبودية لغير الله: أنك كلما فرغتَ من برنامجِك اليوميِّ تهبُّ فتنصَب لتعليم الجيل المغدور وَفْقَ خطَّةٍ منظَّمة، وتنتصب بكل إباء لبناء مستقبلٍ تحكمه مبادئ حكيمة للنهوض والعطاء.

ولك أن تستهدي بمنارات وقيم سامقة في سبيل نهضة أمتنا، ولنقبس من جذوة منشورات الدكتور عبد الكريم بكار على صفحته قبسًا لعلَّ فيه إلى هذا السبيل هدًى:

_ حين يشعر إنسان بأنه حر يكون قد حقَّق نصف وجوده، ويحقق النصف الثاني حين يُنجز ما يجب عليه إنجازه، ومعظم الإنجازات الكبرى مدينة لأمرين مهمين: الاهتمام والتنظيم، فالاهتمام يحملنا على اتخاذ موقف، والتنظيم يرفع درجة الكفاءة في توظيف الموارد المتاحة، ولا يعبر عن نوعية شخصيتك ولا يوضح مقدار عظمتك شيء كاهتماماتك وأولوياتك، فالعديد من الأشخاص يملكون كل مقومات العظمة لكنهم لم يصبحوا عظماء لأن اهتماماتهم تافهة، وفي هذا خسارة كبيرة لهم ولنا.

_ الشعوب المتعلمة تسهل قيادتها ويصعب سوقها، والشعوب الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم.

_الوقت يضيع سدى إذا لم نضغط عليه بآمال مستقبلية، فالطبيعة تكره الفراغ، وإذا لم يمتلئ القلب بالأفكار العظيمة امتلأ بالهموم والتطلعات الصغيرة، وإذا لم يمتلئ العقل بالأفكار النيرة عششت فيه الأوهام، ولذلك فإنه لا خيار أمامنا سوى سلوك طريق النبلاء والنابهين.

وأهمُّ نتائج البحث:
1 _ مركزيَّةُ العلم والتعليم في التغيير والبناء.
2 _ ترشيدُ الوعي المجتمعي بالفرق بين دولتين: دولةٍ مرغوب فيها وأخرى مرغوب عنها، والكشفُ عن جوهر هذا الفرق في ضوء المدى الحقيقي له من خلال هذه الثلاثيةِ: أ_ عنايةِ الأمة بالعلم والتعليم، ب _ وتأسيسِ نهضتها عليه ج _ وسخائِها في الإنفاق على طلابه ومؤسساته.
3 _ حصر العوامل المكتسبة والقهرية المؤثرة في مشكلات التعليم بين عهدين.
4 _ اقتراح بدائل متاحة لحالات كانت أو افترضت عقباتٍ في طريق التعليم في هذه الحِقبة.

وفي لُجَّة أفكار هذا البحث وقضاياه المكثَّفة الجديرة بدراسات وأبحاثٍ معمَّقة يتسلل شعاع الأمل المعقود على هذا الجيل ليعود فَيَبْنِيَ من جديد جيل الغد المنشود، وما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الولود إلى إبداعِ المدنية من جديد؟ إنَّ فترات الازدهار والانحدار مرَّت على جميع الأمم كما يرى رِيْنان([31])، وهذا ليس بمستغرَب من أبناءِ أمَّةٍ قيل عن أسلافها: (كل مستشفى وكل مركز علمي في أيّامنا هذه إنما هو في حقيقة الأمر نُصُبٌ تذكاري للعبقرية العربية)([32]).

([1])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، دراسة تأصيلية لدور العلم في بناء الدولة، مؤسسة اقرأ، القاهرة 2007م ط1،  ص76.

([2])  أحمد بن حنبل: المسند، تح: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ – 2001 م، (28/ 154) رقم 16957، إسناده صحيح على شرط مسلم.

([3])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص155، ينظر: الأب أنستاس الكرملي البغدادي: عرف العرب أمريكا قبل أن يعرفها أبناء الغرب، مجلة المقتطف، العدد الثاني، المجلد 106، دولت حسن الصغير: اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كولمبس، مجلة الرسالة، مصر، العدد(612) .

([4])  علي بن الحسين المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجواهر، تح: يوسف أسعد داغر، دار النشر: مؤسسة دار الهجرة، قُمْ، 1409هـ 1/135.

([5])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص157.

([6]) https://www.turkpress.co/node/14112  (المستكشف التركي بيري ريس عالم البحر والحرب)

([7])  أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم، تح: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1419ه (3/ 245).

([8])  زاد المعاد في هدي خير العباد: محمد بن أبي بكر شمس الدين ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة_ بيروت، مكتبة المنار الإسلامية_الكويت،

ط27، 1415هـ /1994م، 4/121.

([9])  أحمد بن حنبل: المسند، مرجع سابق، (45/ 46) رقم الحديث (27095، 26450).

([10])  عبد المنعم النمر: الإسلام والمبادئ المستوردة، القاهرة، دار الشروق 1981، ص84.

([11])  http://www.aljazeera.net

([12])  حسن إبراهيم أحمد: استمرارية التاريخ ما بين صدام المصالح وحوار الحضارات، دار رسلان، 2016م، ص 183.

([13])  http://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/1/28/

([14])  د. عبد الكريم بكار: منشورات صفحته على الفيس بوك.

([15])  أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تح: حسام الدين القدسي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ 1994م (1/ 122)، وقال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

([16])  https://aawsat.com/home/article/988056/ رياح الحروب تقفل أبواب المدارس.

([17])  أحمد بن القاسم أبو العباس ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تح: الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة،  بيروت 1/70.

([18])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص112.

([19])  أحمد بن حنبل: المسند، مرجع سابق، (28/ 532) رقم الحديث (17300) قال محققه: حسن بشواهده ومتابعاته.

([20])  مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، دار الوراق للنشر والتوزيع-المكتب الإسلامي، 1420-1999، ط1، ص118.

([21])  أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن القِنَّوجي: أبجد العلوم، دار ابن حزم، ط1، 1423 هـ- 2002 م، ص: 146. وفيه قال: (أوفد المأمون الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب).

([22])  شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية، دار الفكر المعاصر ودار الفكر، 2002م، ص 442.

([23])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص185. نقلا عن دوبير في كتابه: المنازعة بين العلم.

([24])  علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، مؤسسة الرسالة القاهرة ط2، 1999، ص25.

([25])  مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، مرجع سابق، ص 116.

([26])  أحمد علي الملا: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، دار الفكر ط2، 1401 هـ/1981، ص110، 111، نقلا عن سارتون: المدخل إلى تاريخ العلوم.

([27])  أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، دار الأنصار، 1409ه، 4/710.

([28])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، 184 نقلا عن بلسنر: العلوم الطبيعية والطب، دراسة منشورة بكتاب تراث الإسلام، إشراف شاخت و بوزوروث، ص79،81.

([29])  راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص184 نقلا عن يبدي تومبسون  Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236

([30])  رحاب العكاوي: الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية، دار الفكر العربي، 2000، ص16.

([31])  أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، مرجع سابق، 8/173.

([32])  زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، دار الآفاق الجديدة، ط3، بيروت، 1985م، ص354.