َقواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس
ديسمبر 1, 2019
التّكفيرُ وضوابِطُه
ديسمبر 1, 2019

َقواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود

محمد علي النجار – محرر مجلة مقاربات – باحث ماجستير.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

إن المراقب للثورة السورية في سنواتها السبع الماضية يرى بوضوح الحالة المأساوية التي وصلت إليها حالنا بفعل الجماعات التكفيرية المتطرفة الدخيلة على أمتّنا جمعاءَ وعلى بلادنا خاصّةً، حيث عملت على بث الفتن وتفريق الصفوف ثم قامت بالغدر بأهل السنة وطعنهم في ظهورهم وتمكين عدوهم من رقابهم… مما انعكس سلبًا على الوضع العام لأهل السنة والجماعة في سوريا خصوصًا وفي منطقة الشرق الأوسط عمومًا…

وإذا ما رجع بنا الزمان قليلا نجد المأساة التي حلت ببلاد الشام تتكرر بتفاصيلها المملة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك في أفغانستان والصومال والسبب هذه الجماعات المتطرفة نفسها، تختلف الأرض وتتنوع الوجوه وتتعدد الأسماء ولكن النتيجة واحدة لا تختلف… مما أدى إلى الاستياء العام واليأس القاتل، والذي أدى بدوره إلى موجة من الإلحاد والردة عن المبادئ والثوابت الدينية في ظل حرب إعلامية شعواء تستغل الظروف المأساوية التي نمر بها، لتحويلها إلى سم قاتل ينتشر في جميع أنحاء الجسد الإسلامي المريض…

وفي أوار هذه الحروب المستعرة على كافة الصعد وفي كل ميادين الحياة، بدأت تطفو على السطح مجموعة من التساؤلات الخطيرة… منها على سبيل المثال: أين الخطأ؟ وكيف نصححه؟ هل العلة في الإسلام أم في المسلمين؟ وهل انتهت صلاحية تعاليم الإسلام المتعلقة بأسس بناء المجتمع أو السياسة الداخلية والخارجية للأمة؟ ألا يجب أن نجنب الإسلام أي إصلاح سياسي مأمول إذا ما أردنا الاستقرار؟

والحقيقة أن كل هذه الأسئلة نشأت نتيجة لممارسات خاطئة ومفاهيم مشوهة عن الدين، قامت بها هذه الجماعات المتطرفة التي لا تمت بأفعالها ومفاهيمها إلى الإسلام بصلة، وقد حاولت في هذا البحث الصغير الإجابة على هذه الأسئلة، والتأكيد على أن التشريع السياسي عند أهل السنة والجماعة لا يمت بصلة إلى ما آلت إليه حال معظم فصائل المتطرفين المقاتلة على الأرض، كما أن فكرهم المشوه لا يتقارب أصلًا مع الفكر الذي يحمله علماء الثورة وفقهاؤها.

لا بد لنا أن نعرف أن سبب ما وصلت إليه الجماعات المتطرفة اليوم من فرقة وتخلف ودموية؛ وما نتج عن ذلك من سقوط وتراجع لكثير من الشعوب الإسلامية التي ظهروا فيها؛ هو المفاهيم والتصورات الخاطئة لهذه الجماعات، وليس السبب في ذلك المنهج القويم للتشريع الإسلامي والذي كان نورًا هاديًا لكل الدول العظمى التي شهدها تاريخنا المجيد… فلم يحتَج أسلافنا يومًا إلى تغيير قاعدة ثابتة أو التخلي عن بعض الشرع بداعي اختلاف الزمان وتغير الأحوال، أو بحجة أن الشرع قاصر عن مواكبة عصورهم.

وقد بينت في هذا البحث معالم الفكر السياسي لأهل السنة والجماعة وخاصة ما يتعلق منها بنشوء الدُّول وطرق إدارتها، وكان ذلك في سياق حديثي عن إقامة الحدود على الجناة أو القصاص منهم… وقد تم ذلك من خلال مدخل يسلط الضوء على ما وصلت إليه حال الجماعات المتطرفة اليوم، ثم خمسة مباحث يتناول كل منها واقعة أو أكثر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين، لبيان منهجهم في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو ترك هذه العقوبات بحسب الحال، وهي كالتالي:

المبحث الأول: ترك الحد تأليفًا لقلوب الناس وحذرًا من النفور عن الدين، وفيه ذكر واقعتي ترك قتل عبد الله بن أبي بن سلول ومنع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي.

المبحث الثاني: درء الحد بسبب شيوع الحاجة، وفيه ذكر قصة السرقة في عام الرمادة.

المبحث الثالث: وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود، وفيه الحديث عن مسألة القصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

المبحث الرابع: شؤون الحكم والحدود من أمور السياسة التي لا تحمل مسؤوليَّاتها لعامة الناس، وفيه ذكر لقصة حدثت في موسم الحج في آخر عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

المبحث الخامس: الأناة والتدرج في إقامة الشريعة ضمن سُلَّم الأولويّات في التشريع الإسلامي، وفيه ذكر قصة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع ابنه عبد الملك.

وعقبت ذلك بذكر النتائج والخاتمة.

المدخل

أسئلة كثيرة تطرح منها ما هو بريء ومنها ما هو مشبوه، تحاول الكثير من مراكز الإعلام العالمية تحويلها إلى سهام قاتلة تصوب نحو الجسد الإسلامي الممدد… وقد اتبع أعداء الإسلام خططًا محكمةً للقضاء على أهل السنة فكريًّا تمهيدًا لتشتيتهم والتحكم بمصيرهم، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات الخطيرة منها دعم بعض الحكام التابعين لهم لمنع أي تحرك إسلامي سليم، ومنها تمكين مجموعة من رجال الدين الفاسدين من تسلم أهم المناصب الدينية والعلمية عند أهل السنة والجماعة، وأخطرها استخدام الإعلام كسلاح لتشويش العقول وبث الفتن والفساد، حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الدينية في السنوات الأخيرة لكل من متطرفي السنة والشيعة على السواء، بدعم من دول ورجال أعمال مشبوهي التوجه والارتباطات.

ومن يراقب خريطة هذه الفضائيات يلاحظ أن نسبة منها تؤدي دورًا مشبوهًا في تضليل الأمة إما عبر بث التطرف والفتنة والتكفير، وإما بالرد على هذا التطرف بمزيد من العلمنة والحداثة الغربية المغلفة بغلاف البحث العقلي والمنطقي في النصوص الشرعية ومراجعة كتب التراث، حتى غدا الإفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة لا يستهان بها من الفضائيات المحسوبة على الإعلام الإسلامي اليوم، في ظل حصار إعلامي وحكومي مطبق على كل الأصوات الناطقة بالحق وبمنهج أهل السنة القويم سواء كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ.

كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات والأحزاب المنادية بإقامة الخلافة الإسلامية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغير وكبير وجاهل وعالم؛ حتى أصبح مقام الخلافة السامي عند هؤلاء حديث كل منتسب لهم سواء أكان جاهلًا أم عالمًا أم متدينًا أم غير متدينٍ أصلًا، ولا يذكر الدين عند هؤلاء إلا مقرونا باسم الخلافة في ظل نسيان شبه كامل لكل واجبات الفرد والأمة الأخرى، بل وغياب كامل لمفهوم الدولة أو المجتمع المسلم… فتم تقزيم مفهوم الدين عند هؤلاء ليتحول إلى مجموعة من القوانين والأحكام السياسية التي يتربع على عرشها مصطلح الخلافة، وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (الإسلام = الخلافة).

ومع مرور السنوات وتسليط الضوء على جماعات الهجرة والتكفير بعد تفجير برجي التجارة وحرب أفغانستان والعراق والصومال؛ تم تضخيم دور هذه الجماعات المتطرفة، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعدة أجهزة مخابرات عالمية وإقليمية على رأسها الولايات المتحدة وإيران… كما قامت فضائيات أخبارية ودينية شهيرة بإظهارهم بمظهر الجيش الحامي لأهل السنة والجماعة.

وقد كان من مقصد وجود هذه الجماعات المشبوهة تقزيم مفهوم كل من الدين والخلافة، ليقترنا في ذهن المسلم وغير المسلم بتنفيذ الحدود والقصاص بقطع الرؤوس والأيادي ورجم الزاني، حيث بدأت تظهر فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها شهادة التوحيد وعبارات إسلامية أخرى… وكل هذا الذبح والقتل كان بحجة إقامة الدولة الإسلامية وما يقتضيه وجودها من عمل بأحكام الحدود والقصاص… ولهذا كام لزامًا علينا أن نبين مفهوم كل من الدولة والحدود والقصاص عند المسلمين قبل البدء بالبحث وتفرعاته؟

أولًا: تعريف الدولة.

لغة هي العُقْبةُ في المال والحَرْب([1])، والدَّوْلَة والإِدالَةُ: الغَلَبَةُ، يُقَال: اللهُمّ أَدِلْني على فُلانٍ وانْصُرني عَلَيْهِ، ودالَت الأيامُ: دارَتْ، واللَّه تَعالَى {يُداوِلُها بينَ الناسِ} أَي يُدِيرُها([2])، وأما تعريف الدولة في الاصطلاح فإن الباحث في كتب الفقه والسياسة الشرعية لا يكاد يجد التعبير عن السلطة الحاكمة بهذا اللفظ إلا لمامًا؛ إذ كان يعبر عن مفهومها بمصطلحات أخرى كالإمامة والخلافة والملك وما إلى ذلك ولكنها أصبحت اليوم هي اللفظ والمصطلح الذي يعبر عن مفاهيم الإدارة السياسية والسلطة بجميع أنواعها…

والدولة اصطلاحًا: مجموع كبير من الأفراد يقطن بصفة دائمة إقليما معيَّنًا، ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي([3]).

وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ النُّظُمِ وَالْوِلاَيَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُل وِلاَيَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَعْمَل مُجْتَمِعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ، وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: (الإمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا) ([4]).

وقد لخص الإمام الماوردي فكرة الفقهاء عن الأركان التي تقوم عليها الدولة بقوله: (اعْلَمْ أَنَّ مَا بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ أَحْوَالُهَا مُنْتَظِمَةً، وَأُمُورُهَا مُلْتَئِمَةً، سِتَّةُ أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُهَا، وَإِنْ تَفَرَّعَتْ، وَهِيَ: دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ دَائِمٌ وَأَمَلٌ فَسِيحٌ)([5]).

ثانيًا: تعريف الحد.

هو في اللغة: المنع، وأما في الشرع: فهو عقوبة مقدرة وجبت حقًّا لله([6])، وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْل تَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ([7])، وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن القصاص نوع من أنواع الحدود.

ثالثًا: تعريف القصاص.

لغة هو من القَصّ وهو القَطْع، والإَقْصَاصُ أَنْ يُؤْخَذَ لَك القِصَاصُ، يُقَال: أَقَصَّ الأَمِيرُ فُلاناً مِنْ فُلان، إِذا اقْتَصَّ لَهُ مِنْه فجَرَحَهُ مِثْلَ جَرْحِه، أَو قَتَلَه قَوَداً ([8])… وأما في كتب التشريع الإسلامي فقد تعددت تعريفاته عند العلماء ومن أخصرها قول الجرجاني: (هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْفَاعِلِ مِثْلَ مَا فَعَلَ)([9])، ولعلِّي من خلال استقراء ما ذُكر في تعريفه عند الفقهاء يمكنني أن أقول، إن القصاص: هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة أو أحدهما وجبت حقًّا لآدمي قابلةً للإسقاط تقتضي أيقاعَ عقوبةٍ على الجاني بمقدار جنايته.

صحيح أن الحدود وأحكام القصاص كلَّها ثابتةٌ بالنص في القرآن والسنة أو في أحدهما، ولا إشكاليَّة تعتبر في ثبوتها، ولكن الإشكالية في ترتيبها من حيث الأولوية، وفي طريقة تنفيذها وما يعرض لوقائعها من قواعد كليَّة قد تؤثر على طريقة العمل بها.

وعلى كلٍّ فلم تمض سنوات حتى تم عبر هذه الجماعات المتطرفة تقزيم مصطلح الخلافة الإسلامية وما تحمله من معاني سامية من إقامة دولة الإيمان والعدل والحضارة الإنسانية إلى مفهوم الحدود عبر معادلة بسيطة كالتالي: (إسلام = خلافة = قطع الرؤوس والأيادي والرجم) ونتيجتها (الإسلام = قطع الرؤوس والأيادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى تقول: (عدم تنفيذ الحدود = حكم بغير ما أنزل الله = الكفر)، ونتيجتها (عدم تنفيذ الحدود = كفر).

ومن المؤسف حقًّا أن هذه المعادلة الغريبة عن التشريع  الإسلامي – وتحت الضغط الإعلامي وقلة التوعية – أصبحت أمرًا مسلّمًا لدى الكثيرين من أبناء الأمة الغيورين والعاملين على رفعة الدين بل والكثيرين من صغار طلبة العلوم الشرعية، مما أدى إلى فشل كل مشاريع التحرر السني في العراق والصومال وأفغانستان وسوريا.

واستغلالًا منهم لليأس القاتل الذي أصاب شباب الأمة نتيجة لفشل هذه الجماعات التي بنوا آمالهم عليها؛ بل وظهور عمالة الكثير منها؛ أطلق الإعلام المشبوه العشرات من دعاة الحداثة والتجديد ونُصَرائهم لتشكيك أهل السنة والجماعة بثوابتهم والاستدلال بعظم المأساة وقتامة الواقع على صدق كلامهم، فأنكروا ضروريات الدين واعتدوا عليها بالبتر والتشويه كصورة جديدة للاستشراق الذي غزا الأمة في بدايات القرن الماضي.

والواجب على فقهاء الأمة ودعاتها اليوم أن يقوموا بإعادة البحث والقراءة في قواعد الاجتهاد عند أهل السنة والجماعة؛ لتقديمها إلى الباحثين وتقريبها إلى أذهانهم وتعريفهم على الصورة المشرقة لمسيرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسير معها تنظيمًا وإرشادًا خطوة بخطوة، لعل في نور العلم ما يزيل غشاوة الجهل والشك التي بدأت تنسج خيوطها على عقول أبناء جيلنا وقلوبهم.

وإذا ما طالعنا كتب التشريع الإسلامي ودققنا في مباحث السياسة الشرعية وتطبيقاتها فإننا نجد قضية المحافظة على الدولة والأمة أولويَّةً إسلاميَّةً مقدمة على الشّكليات السياسية والجزئيات الشرعية، وقد أثبتت الجماعات الإسلامية التي نشأت على أرضنا أثناء الثورة السورية فشلًا ذريعًا في مجال العمل السياسي لتجاهلها هذه الأولوية وتقديم الكثير من الجزئيات الدينية الفرعية على أصول الدين ومقاصده الكلية.

ونتيجة لهذا الخلط في ترتيب الأولويَّات لم تستطع هذه الجماعات إلى اليوم أن تتفق على فكر إسلاميٍّ شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها، بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس واحد وجيش واحد ومؤسسات منتظمة، تضمن أدنى مقومات الحياة الإنسانية الكريمة لمواطنيها…

يرتكز الفكر السياسي في الإسلام على مقاصد أساسية وهي: (حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب)، فلا يتحرك الساسة المسلمون إلا وفق هذا المبدأ العظيم، الذي يحكم كل جزئيات الشرع وقوانينه المتفرعة عن أدلتها الخاصة، وقد كان الحفاظ على هذه الكليات الخمس هو المنار الذي يهدي السبيل لكل الخلفاء الصالحين والملوك العظماء الذين نقرأ عنهم في تاريخنا المشرف الممتد لأربعة عشر قرنًا من الزمان.

عندما فهم المسلمون هذا المبدأ استطاع ساستهم العظماء أن يُخرجوا الأمة من تحت الركام مرات ومرات، ويعيدوها إلى مركز الصدارة والقيادة، وما تأخرت الأمة في عصرنا وتفرقت إلا عندما أغفلت قياداتها هذا الأصل في عملهم السياسي لتحل محله شعارات براقة لا حقيقة لها ولا مضمون.

وإذا ما تأملنا بعض هذه الشعارات المنتشرة اليوم نجدها مأخوذة من أدلة جزئية لا يصح الاستدلال بها خارج الإطار المتكامل لفقه السياسة الإسلامية، حيث تجد الأولوية عند بعض الجماعات المنتشرة في بلادنا لشعار دولة إسلامية وعند بعضهم الأولوية لكلمة خلافة وعند بعضهم الأولوية لكلمة أمير أو أمير المؤمنين… فلا يمكن أن تكون الدولة مرضية من قبل الله بحسب ظن هؤلاء إذا لم يطلق عليها اسم الخلافة وعلى رئيسها لقب أمير المؤمنين وعلى قيادات جيشها الأمراء ويعتبرون العمل على نشر العدالة والفضيلة غير مرضي من قبل الله إذا لم يسمَّ جهادًا وجنودُه مجاهدين والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم الطاغوت إذا لم تسمَّ أحكامُه حدودًا وموادُّه فقهًا،  وكذلك الاقتصاد فليس إسلاميًّا إذا لم تُسمَّ مؤسسته الحسبة ولم تسمَّ مصارفه بيوت المال.

وهكذا حلت الأسماء – عند هؤلاء المتطرفين – مكان الحقائق وضاع الناس وضاعت البلد وملأت جثث مهجرينا البر والبحر، وتعرضت شعوبنا للذل في مشارق الأرض ومغاربها،

ولم ترعَوِ هذه الجماعات ولم تغيِّر المآسي من واقعها شيئًا، وإنما زادها الواقع جهلًا وجبروتًا، وألقوا باللائمة على الداخل والخارج ونزهوا أنفسهم وكبراءهم عن الخطأ، ورفضوا الإذعان لصوت الحق، والله المستعان…

بعد أن سلطت الضوء على واقعنا المؤلم وما وصل إليه حالنا؛ سأقوم بقراءة متأنية في بعض قواعد السياسة الإسلامية ومحاكماتها بين مصالح الدولة وإقامة الحدود… وذلك من خلال وقائع مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وحكامنا المؤمنين عبر التاريخ الإسلامي الطويل… لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده في ظل هذه الحرب الفكرية التي تشن على الإسلام اليوم.

 

المبحث الأول

ترك حدِّ الردّة تأليفًا لقلوبِ النّاس وحذرًا من النُّفورِ عن الدّين

أجمع أهل السنة والجماعة على قتل المرتد واستدلوا لذلك بالكثير من النصوص وأفعال النبي صلى الله عليه وخلفائه، منها ما رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه))([10])، وهو حَدُّ حَقٍّ شرَعه الدين لحفظ المجتمع المسلم من الفتنة وردع الفسقة من التلاعب بالدين… وهو من جملة أحكام السياسة الشرعية التي يرجع الأمر فيها إلى الحاكم المسلم لما يعرض للحكم من أمور دقيقة وخطيرة قد تنقل حكمه من باب إلى باب آخر في الفقه الإسلامي كما سنرى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ من خلال واقعتين شهيرتين في السيرة النبوية.

الواقعة الأولى: ترك قتل عبد الله بن أبي بن سلول

عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِن الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا – أي ضربه – فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟)) ثُمَّ قَالَ: ((مَا شَأْنُهُمْ؟)) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ!))، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا! لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ! فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْخَبِيثَ – لِعَبْدِ اللهِ – ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَه))([11])، وفي رواية الإمام أحمد ((يَا عُمَرُ، دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))([12]).

وقد نقل الإمام ابن العربي رحمه الله أقوال العلماء في تحليل هذه الحادثة فقال: (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ… الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا؟ .

الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: ((أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).

الثَّالِثُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَالَ إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا.

وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِعِلْمِهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ؛ لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا) ([13]).

ولعل من يقول إن هذا الرجل منافق، ولا علاقة لهذه الحادثة بحكم الردة، والجواب على ذلك من وجهين، الأول: نعم كان ابن سلول منافقًا يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولكن تلفظه بهذه الكلمة في هذا الموقف زاد له وصف الكفر والردة الظاهرة، حيث أعلن الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف اثنان في أن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردة، والثاني: لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم علة تركه لقتلهم ألا وهو [حديث الناس!] ((أتريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟)) ولا أدري كيف يُدَّعى بأن الأخذ بنص الحديث خطأ، ومخالفة نصه صواب؟

وقال الإمام النووي رحمه الله معلقا على هذه الحادثة: (فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِلْمِ، وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ الْمَفَاسِدِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفَ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَاءِ الْأَعْرَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ لِتَقْوَى شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَتِمُّ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤَلَّفَةِ وَيَرْغَبُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ يُعْطِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ وَقَدْ أُمِرَ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ…)([14]).

وعلق الإمام ابن حجر بالمعنى نفسه على ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل الساحر لبيد بن الأعصم حيث قال: (لِأَنَّ تَرْكَ قَتْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُثِيرَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِتْنَةً أَوْ لِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا رَاعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))([15]).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وقيل بل تَرَك حدَّه لمصلحة هي أعظمُ مِن إقامته كما ترك قتله مع ظهورِ نفاقه وتكلمِه بما يُوجب قتله مراراً، وهي تأليفُ قومه وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعًا فيهم، رئيسًا عليهم، فلم تُؤمن إثارةُ الفتنة في حدِّه)([16]).

الواقعة الثانية “منع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي”:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ! قَالَ: ((وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ))، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ! فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ))([17]).

قال الإمام ابن حجر رحمه الله معلِّلًا ترك النبيّ صلى الله عليه وسلّم قتل هذا الرجل: (وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَظْهَرَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، فَلَوْ قَتَلَ مَنْ ظَاهِرُهُ الصَّلَاحُ عِنْدَ النَّاسِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَرُسُوخِهِ فِي الْقُلُوبِ لَنَفَّرَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ قِتَالِهِمْ إِذَا هُمْ أَظْهَرُوا رَأْيَهُمْ وَتَرَكُوا الْجَمَاعَةَ وَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ… وَقد ذكر ابن بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: التَّأَلُّفُ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لذَلِك لدفع مضرتهم، فَأَما إِذْ أَعْلَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَجِبُ التَّأَلُّفُ إِلَّا أَنْ تَنْزِلَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ لِذَلِكَ، فَلِإِمَامِ الْوَقْتِ ذَلِكَ)([18]) .

وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: (حَتَّى اسْتَأْذَنَ عُمَرُ وَخَالِدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)) فَهَذِهِ هِيَ العلة، وسلك مَعَهُ مَسْلَكَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آذَوْهُ وَسَمِعَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْطِنِ مَا كَرِهَهُ لَكِنَّهُ صَبَرَ اسْتِبْقَاءً لِانْقِيَادِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِغَيْرِهِمْ لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ فَيَنْفِرُوا)([19]).

إن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف وأمثالها، بالإضافة لما ورد في القرآن الكريم من تقدير الأضرار كان الأصل الذي بنيت عليه قاعدة، إِذا تعَارض مفسدتان روعي أعظمهما ضَرَرًا بارتكاب أخفهما أو يختار أهون الشرين، وغيرها من الألفاظ التي جاءت بهذا المعنى.

قال الشيخ مصطفى الزرقا في تطبيقه على قاعدة إِذا تعَارض مفسدتان روعي أعظمهما ضَرَرًا بارتكاب أخفهما: (يتَفَرَّع على هَذِه الْقَاعِدَة تَجْوِيز أَخذ الْأُجْرَة على مَا دعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة من الطَّاعَات كالأذان والإمامة وَتَعْلِيم الْقُرْآن وَالْفِقْه، وتجويز السُّكُوت على الْمُنكر إِذا كَانَ يَتَرَتَّب على إِنْكَاره ضَرَر أعظم، كَمَا تجوز طَاعَة الْأَمِير الجائر إِذا كَانَ يَتَرَتَّب على الْخُرُوج عَلَيْهِ شَرّ أعظم، وَمِنْه جَوَاز شقّ بطن الْميتَة لإِخْرَاج الْوَلَد إِذا كَانَ ترجى حَيَاته)([20]).

وقد قرر الإمام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة فقال: (فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بقدر الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا)([21]).

اعتراض ورد:

وقد اعترض بعضهم على الأحكام المستفادة من هذه الحادثة بفعل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ إذ قاتل أهل الردة ولم يلتفت إلى حديث الناس وقولهم إن أبا بكر يقتل أصحابه، وفعله هذا حجة على وجوب تطبيق الحدود وعدم اعتبار كلام الناس وتأليبهم على الإسلام! .

ويجاب على ذلك بأن قصة حوار أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حول حرب المرتدين لهي أوضح دليل على أن حد الردة من أحكام السياسة الشرعية التي يسوغ للحاكم الاجتهاد فيها، بحسب ما يراه من المصلحة والخير للمسلمين، فإنه مع اتفاق أبي بكر وعمر على ارتداد كل من فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة وتلاعب بأحكام الدين فأقرَّ ببعضها وأنكر بعضها بدون شبهة؛ فقد طالب عمر بتأخير قتالهم عن الذين ارتدوا كليًّا اعتمادًا منه للمصلحة في ذلك، إذ رأى أن المصلحة تكمن في قتال المرتدين على مراحل نظرًا لضعف المسلمين عن مواجهتهم جميعًا.

ولكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بنظرته الحكيمة لواقع الأمة في ذلك الوقت كان أبعد في النظر من عمر – وكلاهما على خير – ولذلك قرر قتالهم جميعًا، لما في ذلك من المصلحة وسرعة القضاء على المرض من أصله، وتثبيت أحكام الدين في أذهان المسلمين الجدد… فقد أدرك الصديق أن أي تساهل مع أي طائفة من المرتدين، أو حتى العصاة غير المرتدين سيؤدي إلى سقوط هيبة الدولة وانهيار مفاهيم الدين وضياع الدعوة الإسلامية، لهذا لم يفرق بينهم في القتال، بل إن أبا بكر رضي الله عنه شمل في قتاله من ليس مرتدًّا، وهم الناس الذين لم ينكروا فرائض الإسلام، ولكنهم فقط امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة، فقد شملهم أبو بكر بالحرب مع المرتدين، لما في فعلهم من تطاول على مركزية الدولة الإسلامية، وتمرُّدٍ عليها.

ونتيجة لما سبق فإن قتال أبي بكر لأهل الردة كان تنفيذًا لحكم شرعيٍّ توفرت أسباب تطبيقه، ويحقق مصلحة ناجزة للمسلمين أكبر من تلك المصلحة التي ظنها عمر رضي الله عنه وأهمّ من كلام الناس، ولو وَجَد الصدّيق رضي الله عنه المصلحة في غير ذلك لما وسعه إلا اتِّباع النبي صلى الله عليه في تقدير المصلحة، وهو أهل المحبة والاتّباع والطّاعة المطلقة لله سبحانه ولنبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

 

 

 

المبحث الثاني

دَرءُ الحدِّ بسببِ شيوعِ الحاجةِ

في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي العام الثامن عشر من الهجرة أجدبت الأرض وقحطت السماء فجاع الناس جوعًا شديدًا، اضطرّ بعض النّاس بسببه للسَّرقة، وقد اشتهر أن عمر رضي الله عنه قام بدرء حدِّ السرقة عن بعض العبيد الّذين سرقوا في تلك السّنة المجدبة، حيث اعتبر انتشارَ

([1])- لسان العرب، المؤلف : محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، الناشر : دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى (11/252)

([2]) الكتاب: تاج العروس من جواهر القاموس، المؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ)، المحقق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية (28/511)

([3]) – المعجم الوسيط المؤلف : إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار، دار النشر : دار الدعوة، تحقيق : مجمع اللغة العربية (1/304)

([4]) – الموسوعة الفقهية الكويتية (21/36 وما بعدها)

([5]) – أدب الدنيا والدين، للإمام الماوردي، نشر: دار مكتبة الحياة، طبعة عام 1986م (133).

([6]) – أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للقاسم بن عبد الله بن أمير علي القونوي الرومي الحنفي (المتوفى: 978هـ)،المحقق: يحيى حسن مراد، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: 2004م-1424هـ (ص 61).

([7]) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/132).

([8]) –  تاج العروس من جواهر القاموس، المحقق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية، (ص 18/105 و108).

([9]) – الفروق للقرافي، طبعة عالم الكتب، (4/213).

([10]) – صحيح البخاري، تحقيق البغا طبعة دار ابن كثير 1987، كتاب الجهاد والسير، باب لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ رقم (2854)

([11]) – رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري، كتاب المناقب باب ما ينهى من دعوى الجاهلية حديث رقم الحديث (3330)… وفي صحيح مسلم، طبعة دار الخير 1996،  كتاب البر والصلة والآداب، باب نَصْرِ الأَخِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، رقم الحديث (2584).

([12]) – مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، طبعة الرسالة، مسند جابر بن عبد الله (ص 23/389) رقم الحديث (15223).

([13]) – أحكام القرآن لابن عربي، تحقيق العطا، نشر دار الكتب العلمية 2003، (ص 1/21 و 22).

([14]) – شرح النووي على مسلم، طبعة دار إحياء التراث العربي 1392،  (ص 16/139).

([15]) – فتح الباري لابن حجر، تحقيق محب الدين الخطيب، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار المعرفة 1379 (ص 10/231).

([16]) – زاد المعاد لابن القيم طبعة مؤسسة الرسالة 1994، (ص 3/263).

([17]) – صحيح البخاري باب علامات النبوة في الإسلام، رقم الحديث (3414)، ومسلم في باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم الحديث (1063)، وقوله (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِي) ليست في البخاري.

([18]) – فتح الباري شرح صحيح البخاري (ص 12/291).

([19]) – شرح النووي على مسلم (ص 7/159).

([20]) – شرح القواعد الفقهية، للشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، طبعة دار القلم 1409هـ – 1989م، (ص 202).

([21]) – مجموع الفتاوى لابن تيمية  تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، طبعة دار الوفاء 2005، (ص 23/343).