المعلم بين الكتاب المنظور والكتاب المسطور

الوعي الحضاري
يناير 4, 2021
رؤية تحليلية – القيم الإنسانية والسياسة بين النظرية والتطبيق على خلفية الأحداث الأمريكية والفرنسية سنة ٢٠٢٠م
يناير 4, 2021

المعلم بين الكتاب المنظور والكتاب المسطور

تحميل البحث كملف PDF

 د. عبد الجواد حردان – مدرِّس أصول الفقه في كلية الإلهيات، جامعة صوتجو إمام كهرمان مرعش

دلالات {اقرأ} في الفكر التربوي:

أوَّل ما نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ ‌بِاسْمِ ‌رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5] فما سرّ حديث هذه الآيات حينئدٍ في سياقٍ واحد عن كلٍّ من القراءة والكتابة وأدواتهما، والعلم والتعليم والتعلُّم، والخالق وصنعته، والمخلوق ونشأته، والربّ العليم وصفاته، والمعلَّم وأحواله (إنسان: لا يعلم شيئًا، عُلِّم ما لم يكن يَعْلَم؟) وإلام يشير عموم لفظ {ما} الدال على مخرجات العملية التعليمية؟

وعلامَ يدل هذا الأمر {اقرأ} والمخاطَبُ أميٌّ لا يكتب ولا يقرأ نشأ في أمةٍ أميَّة لا تكتب ولا تحسب؟ ثم تتابع الوحي بهذا الأمر فألقى في روعه أنِ: {اقرأ} وكان الجواب: (ما أنا بقارئ). ثم ثانية {اقرأ} و (ما أنا بقارئ). وثالثة {اقرأ} و (ما أنا بقارئ).

تُرَى ماذا عليه أن يقرأ -وما هو بقارئ- أيتلو كتابَ الله المسطور أم كتابَ الكون المنظور؟ وإذا كان على المخاطَب -بوصفه فردًا يمثِّل أمةً- أَن يقرأ أحد هذين الكتابين ليتخذ منه مرآة يتراءى له فيها الكتاب الآخر؛ فهلا اهتدت مؤسسات التعليم اليوم بمعالم هذا النور، وهُرِعت إلى تفسير أحد الكتابين بالآخر تفسيرًا لا يبقي على التخلف ولا يذر، ويُسهِم في صناعة حضارة أمتنا وحماية هويتها إسهامًا يجعل يد أمتنا هي العليا المعطية لا السفلى المستجدية.

وعلام تدلّ هذا المخلوقَ قراءتُه المزدوجة باسم الخالق؛ أفتدلُّه على ربوبيّة من خلقه وعلَّمه فأحسن تعليمه، أم أنها كغيرها من القراءات البتراء تجعله يقبع في عبودية ذاته وسردابها المُظلِم ونكرانها أو إنكارها المجحف لمخرجات تلك القراءة ودلالاتها على ما وراء الطبيعة؟

وإلامَ دُعِي المعلِّم في هذه الآيات؛ أَلِيَكون الأكرم بتخلقه بأخلاق من علَّم الإنسان بالقلم مِن حلم وصفح وحكمةٍ أم ليصبح الفَظَّ الأشأم بإعراضه واستغنائه عن هذا الخلق العظيم أثناء أدائه لرسالته؟

اتساع مفهوم دلالة الخطاب باختلاف المخاطَب والعصر:

هذه الآيات خطاب للأمة في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم، وقد كانت من قبلُ أمةً أمية لا تحسب ولا تكتب، إذًا إلامَ كانت هذه الآيات تدعو نفرًا من الأميين في عصر الجاهليين؟ وبم كانت تأمرهم في أول أمرها وهم لدعوى الآمر منكرون؟

إن في مطلع سورة القلم إيماءً إلى المعنى التالي: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ففيها إشارةٌ إلى جهلهم البسيط اقترنتْ بذكر نعمة التعليم الذي ما كان ليكون لولا منة الخالق على الإنسان بوسائل الإدراك ومزايا الخلق العظيم، وبها مجتمعةً اكتملت شروط قراءتهم يومئذٍ بعمقٍ معلوم استنقذوا أنفسهم بفضله من براثن الجاهلية وعقائدها المستهجنة المسرطنة للعقل ووسائل الإدراك التي بها تتحقق القراءة المثمرة.

واليوم كم وكم اتسعت ماصدقات الأمر بالقراءة! إنه اتساعٌ يُلزم أهل الرواية والدراية منا أن يفقهوا الهدي الرباني في كتاب الله المسطور والمنظور فقهًا جديدًا تستشرف به أجيالنا الحضارةَ الموعودة، فبمثل هذا الفقه تبنَى نهضتنا المنشودة ومستقبلنا المنظور، وهو فقه جليل القدر يكشف لآخَرين كنَّا نحسبهم منَّا أننا بالسيف أم بالقلم اهتدينا، ويقف بهم على حقيقة أمرنا وأننا بالقراءة المعمَّقة أم بالجهالة المقنَّعة قُدْنا وسُدنا؟

هذا وأمَّا روَّاد الحقيقة المتوسِّمون لمعالم هذا النور المبين على هدي تلك القراءة الشارحة فإن لهم في سورة العلَق والقلم والفرقان والنور بيانًا يفي ويشفي، ودلالات جديرة بالدرس والقراءة الأفقية الطولية والعرضية في تطواف بلا حدود في آفاق الكتاب المنظور.

التمثيل البياني لدلالات اقرأ:

لدلالة (اقرأ) في الفكر التربوي الحديث خطوط وخيوط لن تُخطئها عيناك وأنت ترصد مدخلاتها ومخرجاتها في الفكر التربوي الإنساني، فهي قراءة شارحة تستند إلى الكتابين المنظور والمسطور، وتقوم على الأصلين أصول الفقه وأصول الدين، وتتبنى المنهج التراثي وإيجابيات التفسير الحداثي على ما فيه من تيهٍ وضبابٍ مريب.

إنَّ الذي يُشجيك ويُعجبك وتَعجب له من الجمع بين المنهجين في هذه القراءة أنّ ما تقرؤه في دلالات “اقرأ” من أصالةٍ وتنوير في ضوء الأصلين وهدي الكتابين يستنهضك للإسهام في تحقيقها بأن تكون أنت أيها المعلم نجمًا في كوكب علميٍّ ينير الثقوب المظلمة في أذهان المتعلمين ويهيئ لإعداد أفراد وهيئات متخصصة لتحقيق ذاك الهدف العظيم على أن يتمتع كل منهم بخبرات واسعة، ولا يحده أفق ضيق ولا عصبيات قومية أو دينية.

وبعدئذٍ تنبعث أنت ومن معك من بناة الإنسان لتترجموا دلالات اقرأ السابقة في مؤسسات باسقة، تجوب القارّاتِ بهمّةِ فتيةٍ لا تفتر، آمَنوا بقضية أمّتهم، واستلهموا تجربتهم النموذجيّة مما خصَّهم به فقههم لهذه الدلالات مِن رُؤى ووَمَضات بارقة استنزلَتْ من سماء (اقرأ) ما رقَّ وراق.

منظومة اقرأ:

في دلالات (اقرأ) يتقدّم المعلّم والمتعلِّم أركانَ العمليّة التعليمية بل كأنّه لا ثالث لهما، أمّا القلم وصفحات الكون فوسائل تعليمية لا غنى عنها، وفي فلك هذه الدوائر الثلاث تدور دلالة (اقرأ) في الفكر التربوي المعاصر والأصيل.

بُنيت العمليّة التعليميّة في “اقرأ” على ثلاث “المتعلِّم والمعلِّم والمنهج”، أجل! إنّ (اقرأ) تُثقل كاهل المتعلِّم بادئ الأمر، فأنّى له أن يقرأ وما هو بقارئ؟ فالمتعلِّم هو المعنيُّ بالأمر أوَّلًا وآخِرًا، فعليه أن يقرأ ويجمع ويحرر ويفسِّر لا أن يُكرِّر ما جمِع وفُسِّرَ وقُرِئ، وعليه أن يتعلّم بنفسه ليُعلِّم نفسه مهارة التعلّم الذاتي وليحظى بالتعلُّم مدى الحياة فيبدع ويسهم في البناء الحضاري، أمَّا المعلِّم فهو ربّان السفينة لا جدَّافُها، يَعرِض ولا يَفرِض، يُذكِّر ولا يُقرِّر، يُثِيْر ولا يُشير، يُعرِّف ولا يُعنِّف، يبشّر ولا ينفِّر، وهي سمات تقتضي إعداد معلم يتخلق بأخلاق ربنا الأكرم الذي علم بالقلم، علمًا أنَّ ذلك لا يقتضي منا أن نتجاهل أن لبعض المتعلمين نزوعًا إلى التجاوز والطغيان لأوهامٍ تخلقها البيئة أو مجموعة الرفاق أو العجب بالنفس، تحملهم على الاستغناء عن المعلم والتعليم أو الاستمساك بالسبب والإعراض عن واجب نسبة العلم إلى مصدره، وهي زلَّة ليست مستحدثة بل كأنها نزعة في الإنسان تتحرك كلما قامت فيه بواعثها {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] ولا تُستأصل شأفتها إلا بالتربية التي تعرِّف المرءَ بماهيته وأصل خلقته {مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2].

إعداد المعلِّم وتهيئة المتعلِّم:

بين جذور الإعداد وذُرَى الاستعداد يتردد صدى منهج الفكر التربوي المأمول المنبثق من دلالات اقرأ، وأَثيرُ هذا الصَّدى هو الآخَر ما زال يبثُّ رسائل في العمق التربويِّ لعلَّ أهمَّها أربع:

الرسالة الأولى: منطلق التجديد في مؤسسات التعليم يتمثل في عمليّة إحياء متكاملة يقوم بها المعلم والمنهج معًا، فالمعلم ينفثُ الروح في المتعلمين وأسرهم ليوثِّق علاقتهم بثقافتهم وهويتهم وفنونهم، ويصمدُ في مواجهة الزلازل والأراجيف الفكرية والاجتماعية والألغام الثقافية، فهو يَقرأ ويُقرئ باسم الرب الذي خلق، وينهض ليواصل أداء رسالته، ويحصِّن المتعلمين وذويهم من وباء يستهدف اجتثاث الوعي وينتزع من الأفئدة أهمية قراءة الكتاب المنظور والمسطور باسم الخالق العليم الخبير، ناهيك عن أن المعلم بجاذبية شخصيته ووسائله وطرائق تدريسه يقي طلابه من جائحة الوعي الكاذب والأمية الفكرية التي فرضتها السلطة البصرية من خلال المرئيات الرقمية عبر وسائل التواصل وقنوات الإعلام التقليدي، فالمعلم فدائي يضحِّي بنفسه ووقته ليحمي غيره، ويعتضد جهاده بنوعية المنهج المستهدف، فإن المنهج بعناصره ينبغي أن يُبنَى على نحوٍ يعزز رسالة المعلم ليُسهم في صناعة الوعي وحمايته بطريقة تصل الحاضر بالتراث وتفعل دورهما في استشراف المستقبلِ والتخطيطِ له وبنائِه على أشدِّه، ولا بدَّ لبنائه على هذا النمط من تعاضد أيدٍ تجتمع عليه، لا تفرقها نزعة عنصرية، ولا تمزقها انتماءات ومناكفات سوداوية تاريخية كانت أم دينية أم مذهبية أم اجتماعية وما كان على شاكلتها.

وقد دلَّ ذلك على أن نهوض المعلّم بمهامِّه في صناعة الوعي يتجلى في هذه الثلاثية:

  • نفث الروح في المتعلمين وأسرهم لينهض بهم ويبلغ الأهداف المنشودة.
  • شد الوثاق والأواصر بالدوافع والحوافز المتنوعة ليعزز صلتهم بثقافتهم وهويتهم وفنونهم.
  • مقاومة الزلازل الفكرية والتضحية لتحصين المتعلِّمين من تبعاتها.

وأسُّ هذه الثلاثية وأساسُها التحررُ من عبادة الذات والإخلاصُ للحقيقة أيًّا كانت دون نظرٍ إلى انتماء حملة رايتها وروادها، ولن يبلغ المعلم تلك المنزلة العلية إلا إذا استند إلى منهج الأنبياء وأتباعهم على مدار التاريخ، فهم إنما بُعثوا لإحياء الناس بأنفاسهم الطاهرة ولتحريرهم من عبودية الذات ومن استعباد الآخرين.

 تلكم هي الرسالة المنوطة بالمعلِّم لنشر الوعي بواجب الوقت وتعزيز المناعة لمقاومة خطر الجراثيم المهاجمة لتراثنا علنًا أو الكامنة في حضارة اليوم؛ فالمعلم إذًا في سعي دؤوب وتفانٍ مطلقٍ حتى يبلِّغ رسالته، وهو إنما يكون كذلك إذا كان:

1-قد نذر حياته لبناء مستقبل الأمّة بسُدَى التراث ولُحمة المعاصرة.

2-واستقى ماء الحياة من معين كوثر العقل والنقل أصلًا، ومن سلسبيل الفنِّ والجمال فَرْعًا؛ ليروي به ظمأ القَفْر ويسد به فاقة الفقر المدقع لدى ملايين الخلايا الدماغية التي أوشكت أن تموت لدى جمهرة من الأميين استبد بهم الغزو البَصَرِي والتنافس المادي المحموم؛ فاستأصلا شأفة وعيهم بمصيرهم، ورضوا بالأمية داءً غازيًا لحجيراتِ فلذات أكبادهم، واستبدلوا بمستقبلِهم قروشًا لا يُشترى بملء الدنيا منها عقل أو وعي أو تربيةٌ تنفث روح الحياة في بيوتات متآكلة بالجهل والجفاء وسوء الأخلاق، متصدعة سرعان ما تتهاوى فيخر السقف على ساكنيها ويتفرقون بعدئذٍ أيدي سبأ لا يلوون على شيء.

3-وأغذَّ السير حثيثًا نحو أمَّة ظمأى تلهث من شدة عطشها، وتتلقف إرث حضارات دخيلة إذ ما باليد حيلة، فشمر عن ساعديه وأخمد نار أمته بنورها وأُوارها بنُوَارها، ومضى لتحقيق هذا الهدف يجوب البلاد ويغرس فسائل النور حيثما حلَّ وارتحل، يستغلُّ كلَّ ما حباه الله من طاقات في سبيل بلوغ أسمى الغايات.

4-ويتكبَّد الصعاب ليؤثر رفاق الدرب بقروش يبذلها أو براحة يهجرها، يشجعهم ويحفزهم حتى لا تنقطع بهم السبُل.

5- نحوَ هدفِه ماضٍ، وعنه لا يحيد، فلو أن السماء انشقت والأرض مُدَّت وتداعى عليه الناس لما انصرف عن بُغيته وطُلبته.

أجل! لن يتزحزح المربون المخلصون عما هم في سبيله مستبسلون، بل إنهم ليعدّون الحديث عن الماضي ردَّة عن بناء المستقبل الواعد الذي ينشدون، ويرون أنّ كلّ شيء في سبيل تنوير المتعلمين يهون، حتّى إنّهم ليموتون ليحيا بموتهم آخرون، لا يثنيهم القدح ولا يُغريهم المدح، بل إنّهم ليشهدون القدح نقدًا بناء، فإذا بالداء عندهم عين الدواء. أولئك هم السعداء الذين نذروا أنفسهم لإحياء العقول، وأيقنوا بأنّ ربهم الذي يستنزلون رضاه لا بُدّ أنْ سيلهمهم سبل هداه، ويجنبهم الزلل والزيغ عن مبتغاه؛ فهم به وله، ومنه وإليه، دأبهم أن يعرّفوا المتعلِّمين عليه، وديدنهم أن لا يشهدوا أنفسهم شيئًا بين يديه([1]).

الرسالة الثانية: أهمُّ مقومات المعلِّم المنشود في عملية الإحياء المذكورة آنفًا:

 أ ـ التفاني في تبليغ رسالته وتحقيق أهداف أمَّته ليبلغ بالأهداف أعلى ذروة في الجودة والاعتماد.

ب ـ إنكار الذات والتضحية بكل شيءٍ حتى الثناءِ والعطاء.

ج ـ إخلاصه في أداء رسالته على نحوٍ يستثمر فيه مواهبه وطاقاته كلَّها لبناء الإنسان وغرس فسائل الإيمان، ثم يبرهن على هذا كلِّه بتهيُّئِه لتبادل الأدوار من مدير إلى معلم وعكسه، ومن رفاه المدن الحضارية إلى الهجرة نحو بلاد نامية، فرضوان الله وحده هو مبتغاه، وسبيله إليه تعريف المتعلمين به سبحانه دون أن يرتقب منهم أجرًا، عاجلا كان أم آجلا، ثناءً أو عطاءً، فالمعلِّم بَرٌّ جواد لا يُغريه العطاء ولا يحجبه الحرمان، له عزيمةٌ لا تفتر ومضاءٌ لا يرتدُّ([2]).

د ـ أن يقدر مقامَه حقّ قدره؛ فإن لم يفعل فقد حقَّر ما عظّم الله، فإنّ مقام المعلم ومنصبه أعلى من أي منصب آخَر؛ لأن رسالته تبعده عن السوء وتجعله من أرباب الفضائل في الدنيا وتعلي رتبته في الآخرة إلى درجة لا يتصور قدرها، وخلوده من خلود رسالته، إلا أنّ هذا الهدف يتطلب منه كي يتحقق عزمًا ووعيًا بوزن الرسالة وإخلاصًا وجهدًا دؤوبًا في سبيل تبليغها، فلا يستطعم الراحة ولا يستهويه التملك، نعم لقد كان حب الكفاح يومًا ما سببا في ولادة دولة عملاقة من قبيلة صغيرة، وعندما احتل حب الجواري مكان عشق البراري والسواري تداعت هذه الدولة فصارت أثرا بعد عِيْن، وهذا يكشف عن طبيعة رسالتنا نحن المعلِّمين فإن درجة الميل أو الانحراف عن الخط المستقيم تطرأ عليها شيئًا فشيئًا، والتمادي يودي إلى السقوط من القمة في قعر سحيق بينما نحن سادرون هائمون ناهيك عن أننا واهمون بأنّا على الخط المستقيم ماضون([3]).

 هـ ـ تجشمه لمشقة باهظة تتجسد في حمله هموم المتعلِّمين وتحملِّه لمشكلات الطفولة والمراهقة لديهم في محاولةٍ منه لعلاجها بالوقاية والإيماء، وبالتوجيه والتنبيه لا بالتقريع والتبكيت والإملاء؛ لأنّ طبيعة هذه السن لا يمكن مسخها بل تتعين رعايتها والاستجابة لها وفق مقتضيات الفطرة ما وجد المعلِّم إلى ذلك سبيلًا، ومسؤولية المعلِّم هذه باتت ضربة لازب اليوم، فالمعلم الحكيم يفعل كما الماء إن جابهته صخرة أتاها يمنة أو يسرة.

و ـ توازن العلاقة بين المعلم والطلاب، فالمعلم لا يفسد الود بينه وبين طلابه إذا ما أقام نفسه في مقام الحب والولاء للحق والكره والبراء لأجل الحق والتهيؤ لقبول كلِّ ما هو حقٌّ، ولا ريب أن هناك استراتيجيات قتلت بحثا تضمن تحقيق الحقِّ في شتى أشكاله، وتستمد هذه الاستراتيجيات قيمتها من كفايتها وكفاءتها في خدمة أفكار الحقيقة ومبادئها([4]).

الرسالة الثالثة: ضرورة تهيئة المعلِّم على نحو يبلغ فيه إتقان إصابة الهدف وتحقيقه، ويُبرهِن ولا يُلقِّن، فالصدق والثبات ودقَّة البيانات في تجاربه العلميَّة وأساليبه التربوية شروطٌ أوَّليَّة يتقدَّم بها بين يدي حُكمه على أيّة قضيّة وقبل تعميمه لأيَّة تجربة أو أسلوب، ولسوف يحظى المعلّم حينئذٍ بثقة الرأي العامّ ويتصدّر عنده أعلى مقام؛ وهذا ما يجعله يتسربل بالطمأنينة على الدوام، ومن ثَمّ فلا بُدّ أن تتبدّد من حوله شكوك وأوهام طالما رأت في معلِّم المنزل تاجرًا جائرًا أو متسوِّلًا جائلا، فإذا بها تنجاب عنَّا ليغدو معلِّم اليوم في عيوننا رسولًا كريمًا بين يدَي فتحٍ حضاريٍّ مبين.

يتجلَّى هذا التأهيلُ وذاك الإعدادُ لدى المعلِّم من خلال استراتيجية متكاملة، ويتبدى في استعداد نفسي وعقلي ومادي لقيامه بالعملية التعليمية حقَّ القيام، ولا يتم ذلك للمعلم بشكل صحيح حتى تكتمل لديه القناعة التامة بالرسالة والرغبة في أدائها وتحقيق أهدافها؛ لذا فعليه أن يُعِدّ أجوبة واضحة عن الأسئلة التالية:

  • أ‌- مَن أُعلِّم؟ وذلك يقتضي منه استقراءً منتِجًا ودراسةً معمَّقة لخصائص المتعلمين في المراحل الدراسية المختلفة وفق بيئتهم وهويّتهم وثقافتهم ونشأتهم.
  • ب‌- لماذا أُعلِّم؟ وهذا يوجب عليه أن يتشرَّبَ وأن يتضلع بأهداف رسالته ومؤسسته التربوية بمستوياتها المتعددة
  • ت‌- ماذا أعلم؟ وتلك مسؤوليّة تستلزمُ منه الاستيعاب الشمولي للمناهج الدراسية وحاجات المتعلمين ومشكلاتهم.
  • ث‌- كيف أعلم؟ وههنا تبدو مهاراته الشخصيَّة والمهنيَّة وخبراته بطرق التدريس المناسبة لكلِّ موضوع أو فئة.

 إنّ تهيئة المعلِّم على هذا النحو تُعَدُّ مسؤولية فرديَّة ومؤسساتية معًا، وتنجم ضرورة هذه التهيئة من طبيعة رسالة المعلم، فالمعلم أطول المخلوقات عمرًا لأنَّه حيّ بفكره وعلمه ما دام هناك من يتوارث رسالته ويبلغّها للأجيال اللاحقة([5]).

الرسالة الرابعة: حصافة المعلِّم في الموازنة والمواءمة بين الأهداف السلوكية المعرفية والوجدانيَّة والحركية، ثم التقويم المستمرّ لأدائه المهني في ضوء هذه الموازنة؛ إذ إنَّ الأهداف تتكامل فيما بينها لتبلغ مرتبة الإحسان في بناء الإنسان مهاريًّا ووجدانيًّا ومعرفيًّا، فالأهداف التي تغذِّي العقل والرُّوح والبدن لا بد أن تكون نابعة من وئام متناغم بين العلم والدين والفنِّ، وبهذا تتعادل إمدادات البدن والعقل والروح، وتفسِّر الطبيعة ما وراءها، أجل فهذا هو عصر المربِّي الذي يعمل على المواءمة بين العقل والقلب والبدن، وهذا هو سبيل النبوة، وهو السبيل الذي تبوأ فيه كلٌّ من العقل والمنطق والوجدان مكانته، وقد آن الأوان ليرتفع الحجاب بين الطبيعة وما وراءها، ولتتلاقى الآيات التكوينية والكونيَّة والتشريعية على محور واحد في حياة الناس.

 إنّ تربية الإنسان تربيةً كليةً ضرورةٌ، وفي ثلاثية الأهداف السلوكية ما يفي بهذا الغرض؛ ذلك أنَّ الإنسان أرض طيبة تستوطن فيها بذورُ الخير والحق والجمال، فهذه التربية الشموليّة هي التي تحول دون انحلال الإنسان وانفصامه عن فطرته، وترسم خريطة حراكه وأنشطته وَفقا لحاجاته ومشكلاته واستعداداته، أمَّا من لم ير الإنسان سوى عقل وبدن فقد أبعد النُّجعة وفاته اللباب والجوهر، ونعني بالجوهر البُوصَلة التي تحدّد للإنسان طريق السعادة والبقاء والراحة النفسية، وتكشف له عن قوة كامنة فيه يجتاز بها نفسه والعوالم كلَّها.

والسبيل الأقوم لتحقيق التكامل بين الأهداف هو أن يتفاعل المعلمون والمتعلمون في مخيمات تعليمية تربويّة تضطلع بتكوينهم وفق نسيج ثلاثي: 1- التكوين العلميّ 2- التزكية الرّوحيّة 3- الانضباط العسكري.

وهذا التفاعل يُذكي فطرة المتعلم ويستخرج خفايا طاقاته وقواه السحرية ليقوم بتوجيهها نحو الغاية المثلى، وحينها ينجح في اجتياز علائق النفس والجسد والهوى والفناء، ويكتب لرسالته الخلود دون إفراط أو تفريط في تلبية حاجات الجسد والعقل والروح لدى طَلَبتِه أو أولاده.

ولا يجوز بحالٍ أن يشغر التدريس الفعَّال أو التدريس بالمواقف أو التعلُّم النَّشِط عن أدبيَّات ومهارات هذا التفاعل التربويِّ الذي يعزِّز المشاركة ويحقِّق الدافعيَّة ويغذي الحافز ويُعلِي من شأن المعلِّم القُدْوة ليتخذه المتعلم أسوة حسنة، وهذا هو لُباب التفاعل التربوي الذي تصفه الأدبيات بأنَّه “اقتناع وتجاوب نفسي بين طرفي العملية التربوية -المعلم والمتعلم- يؤدي إلى التأثر والاستجابةِ المعرفية والسلوكية من الطرف الثاني للطرف الأول”([6]).

وتتجلى أهمية التفاعل التربوي في العملية التعليمية وفقا لتلك الأدبيات في انتقال الخبرات بالوسائل السمعيّة والبصريّة والحركيّة، وفي اكتساب المعلومات، واصطباغ المتربي بصبغة المربّي، فالعملية التربوية تعني بناء الإنسان في دائرة رضا الرحمن لا تشييد المرافق والبنيان؛ وإلا فأعيروني قَدُوما أحطِّم به تلك العمارات أو معولا أقوِّض به تلك الشاهقات إذا ما غدت هدفًا يُقصَد أو صنمًا يُعبَد كما قد قيل.

إنّ شكوى الآباء والمسؤولين والمعلمين لَتحمل في طيّاتها برهانَ صدق على تجاهلهم أو جهلهم بمهارات التفاعل التربوي والتعامل الإيجابي مع الآخرين، وقد أكدت الدراسات والتجارب أن للتفـاعل التربوي نتائج ذات دلالة برهنت عليها إحصاءات الدراسات الميدانيَّة في هذا المجال، وأهمُّها وجود علاقةٍ إيجابية بين التفاعل الإيجابي والتحصيل العلمي، وللتفاعل أيضا أثر بالغ في تقويم السلوك، والنجاحِ في الحياة العامة، وتنميةِ الشخصية ونماءِ الثقة بالذّات، والمعالجةِ الناجعة لمواقف سلبيَّة قد تعرِض للطالب، ولا ريب أنّ من واجب المعلِّم الحصيف تُجاه هذه المواقف السلبيَّة أن يتفاعل معها تفاعلا إيجابيًّا ليستخرج من الداء خالص الدواء.

لقد بات التفاعل بين المعلم والمتعلمين ضروريًّا لتحفيز الطلبة على التعلُّم الذاتي والتعلُّم النَّشط الذي من شأنه أن يستثير معارفهم السابقة ويُشرِكهم في إنجاز أعمالٍ تجبـــرهم على التفكير فيما يتعلمونه، ويُلْجِئهم إلى مهامِّ التفكير العليا كالتحليل والتركيب والتقويم ويشجع التعاون بين المتعلمين، فالتعلم يتعزز بصورة أكبر عندما يكون جَمَاعيًّا، وهذا بدَهيّ فإنّ التعلّم المتقن كالعمل المتقن، يتطلّب التشارك والتعاون لا التناحر أو الانعزال، وللتفاعل سهم وشأن عظيم في صناعة الوعي بأهمية التعلم الذاتي لا سيما أن التعليم السَّحابي أو عن بعد في فترة كورونا غدا أشبهَ بالتعلُّم الذاتيِّ من وجوهٍ عدة، فما لم يحظَ المتعلم من معلمه بما يشحذ همته ويشحن طاقته لن يجد عند غيره حوافز ولا بواعث تحمله على مقاومة اللعب والبصريات وتقديم التعلم على الولع بالشبكة وبرامجها.

بهذا النمط من التفاعل التربويّ يغدو المتعلم مشاركا نشطًا في العملية التعليمية والتعلم الذاتي في زمن الجائحة وبعدها، ويفعِّل ما تعلَّمه في موادَّ ومصادر معرفيَّة أخرى؛ ذلك أنَّ استثارة المعارف السابقة باتت شرطا ضروريًّا للتعلُّم الجيِّد.

ولا ريب أنّ للتهيئة وإثارة العقل والوجدان والحواسِّ بالأسئلة والمناقشة والعروض والمواقف والتعزيز واستثارة العاطفة دورًا فعَّالًا في تحقيق الدافعية وعصف الذهن والتفكير الناقد وإثارة الوجدان وتَمثُّلِ مواقف الأُسوة الحسنة، وهذا هو التفاعل التربويُّ الذي يثمر الإقناع والإمتاع والاتِّباع على حدٍّ سواء.

هذا، وإنَّ المدرسة الإصلاحية الحقيقةَ بالتجريبِ في هذا العصر هي مدرسةُ بناء الإنسان على هدْي رؤية إصلاحيةٍ متكاملة في مؤسسات التعليم ومعاملها ومخابرها، فالجماعات الدعوية ما تركت بابًا إلا طرقته ولا منهجًا إلا جرَّبَته مستهدفة إصلاح الإنسان والمجتمع والدولة وريادة الأمة؛ وبقيَت مدرسةُ الفتح، فالفاتح الجدير بتقلد مفاتيحها كرَّ في آخر أمرِهِ عاطفًا؛ عَطْفًا وشفقةً على من بعدَه إِثْرَ تجربتِه الفريدة في الإصلاح الاجتماعيِّ والسياسي، روَى شيخُ مدينة حماة محمد الحامد رحمه الله عن هذا الفاتح -الذي وصفَه بأنه مجدّد قرونٍ لا مجدّد هذا القرن فحسب- أنَّه سمعه في آخر لقاء له به يقول: “لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرتُ لَقصَرْتُ الجماعةَ على التربية والتعليم”، وكأنه تمنٍ يُرادُ به الطلبُ، لم لا ولِمُؤسسات التربية والتعليم جيوشٌ بوسعك أن تنتظرها في كل مؤسسةٍ! إنك لتراها عندئذٍ حاكمةً رائدةً قائدةً للدولةِ والدُّوَل حُكمًا وحقيقةً في كلِّ ساحٍ بكلِّ سلاحٍ.

تلكم هي رسائل اقرأ إليكم أي صُنَّاع العقول وبُناة الحضارة والمستقبل، فأنتَ أنتَ أيها المعلم وحدَك تقف شامخًا هناك كجذع النخلة في صحرائنا. فبينما تعصف بأجيالنا ريحٌ صرصر عاتية تَهُزُّ جلَبتُها أطرافَك بعنف تُساقِط علينا من فيك دُرًّا ندِيًّا، وي كأنك تتلو علينا اليوم من وحي ربنا ما لم تَسمعه آذاننا أو تستوعبه قلوبنا! فالآن }اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلَق{ حتى نقتفي إثرك فنقرأ باسم الخالق ما أغفلَه أو تغافل عنه الآخرون في قراءتهم للخَلْقِ، أمَّا نحن في قراءتنا فباسم الله نبدأ، وبه نستعين، وإليه نسير، فالقراءة عن الله وبالله هي جوهر العلم، والتعلُّم هو مشكاة العبودية الحقَّة للربِّ الذي خلق، فالعلم والمعرفة ريادة في مقام العبودية، فلا عبد أعبد من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتبتل بل يقول: هل من مزيد {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وعلى قدر علمك بالله تخشاه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وخير العلم ما كانت الخشية معَه، وسلسبيله ما كان الإخلاص منبَعَه، فالأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سرّ الإخلاص فيها، وإنّ الله ليحيي القلب الميِّت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر([7]).

([1])  ونحن نبني حضارتنا، ت: عوني، ص36 ـ 48.

([2])  المرجع السابق.

([3])  أضواء على الطريق، ت: أورخان محمد، ص 12، 31.

([4])  المرجع سابق، ص 28.

([5])  المرجع سابق، ص 13.

([6])  عبد العزيز بن محمد النغيمشي: علم النفس الدعوي، دار المسلم، 2003م، ص 325.

([7])  للبحث في هذا الموضوع يُراجع كلٌ من: ياسين قنديل: التدريس وإعداد المعلم، دار النشر الدولي، الرياض، 1421هـ. عبد المجيد نشواتي: علم النفس التربوي، مؤسسة الرسالة، 1432هـ 2010م. محمود عبد الحليم منسي: علم النفس التربوي للمعلمين، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2000م.