أثر الشُّعوبيّة على المجتمع العربيِّ المسلم
يناير 29, 2019
خيريّة الأمّة
فبراير 18, 2019

فقهُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

د. معاذ الخن – رئيس مجلس الإفتاء السوري

الحمد لله حمدًا كثيرًا، شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على سيِّدنا محمَّدٍ وآله وصحبه، وبعد:

فإنّ من أهمِّ تكاليف هذا الدِّين العظيم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولأهميّة هذا المبدأ يكفي أن نعلم أنّ الله تعالى قد أمر به في عدة مواضع في كتابه الكريم، بصيغة الأمر تارة، كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 104]، وتارة في معرض الوصف بالخيرية، كقوله تعالى: {كنتم خير أمَّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [سورة آل عمران: آية 110]، وتارة بأن هذه المهمة من أعظم مهام الرسالة النبوية، كقوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [سورة الأعراف: آية 157]، وتارة بالوصف المستقر للمؤمنين، كما في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة التوبة: 71].

بل وامتدح الله بهذه المهمة الأمم السابقة جماعات وأفرادًا فقال سبحانه: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ^ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 114]، وقال في وصية لقمان: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [سورة لقمان: آية 17]، وجعل هذه المهمة من شروط التمكين لهذه الأمة فقال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [سورة الحج: آية 41]، وسأتكلّم حول هذا الركن العظيم من أركان الدين بما يعرف به ويقرّبه إلى واقع الأمة اليوم، من خلال التعرّض لأربعة من أهمّ مسائله، وهي: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الأمة، أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مسؤولية الجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخيرًا درجات إنكار المنكر.

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الأمة

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

هو بالأصل فرض كفاية بشروطه التي سأذكرها، فقد قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: آية 104]، وعلى هذا فهو جائزٌ لآحاد المسلمين بالشروط المعتبرة، لكن نصّ الفقهاء على أنّ فرض الكفاية قد يتعين في حالات، منها على سبيل المثال:

الأولى: إذا كان المنكر في موضع لا يعلم به إلا هو، وكان متمكنًا من إزالته.

الثانية: في موضع ودائرة مسؤولية الإنسان، كالأب في بيته، والمدير في دائرته، كما جاء في الحديث ((والرجل راعٍ على أهل بيته ومسؤول عن رعيته))([1]).

الثالثة: إذا لم يكن أحد قادرًا على تغييره إلا هو فيتعين عليه.

نستطيع أن نلخص دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمرين أساسيين هما، الأول: حراسة الدين في واقع الناس، الثاني: تكوين رأي عام فاضل.

وإن الدافع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلم: الأول: رجاء ثواب الله تعالى، الثاني: الخوف من العقوبة على تركه، الثالث: الغضب لله تعالى أن تنتهك محارمه، وإجلال الله ومحبته وتعظيمه، فهو أهلٌ لأن يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، الرابع: النصيحة للمؤمنين والرحمة بهم من أن تنالهم عقوبة الله تعالى.

من خصائص هذه الأمة:

قال الله تعالى في معرض حديثه عن هذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [سورة آل عمران: آية 110]، فلا يسمح لأحد أن يخرج جهارًا على قيم المجتمع الإسلامي، ممّا يحقق السيادة المطلقة لقيم الإسلام، وبذلك تأمن سفينة المسلمين من الغرق في لجج المعاصي والمفاسد الأخلاقية والاجتماعية التي هي سبب الهلاك والدمار والزوال، وتأمن من العقوبة الربانية التي تنزل بالأمة إذا تخلت عن هذا الواجب الاجتماعي الجماعي، لذا نلاحظ أنّ الأمم السابقة استحقت غضب الله ونقمته عندما تركت النهي عن المنكر، فغدا المفسدون يرتعون ويسرحون ويمرحون في قيم الأمة يتلاعبون فيها كما يشاؤون، قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون % كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [سورة المائدة: آية 78 -79]، ولو سلكت هذه الأمة هذا الطريق لحلّ بها ما حلّ بمن قبلها.

المسؤولية الجماعية والحرية المقيّدة:

لا يوجد حرية مطلقة بنظر كل الأديان والمبادئ والمذاهب، فالجميع يقولون بالحرية المقيّدة، ولكن يختلف هؤلاء بتحديد تلك القيود ومن يملك صلاحيات وحق التقييد، فالقيود عند المسلمين دينية شرعية، وعند غيرهم قوانين وضعية، وعلى هذا فالنهي عن المنكر لا يعد تعديًا على الحريات، بل هو تقييد شرعي لها، صحيح أنّ المسؤولية في الأصل هي مسؤولية فردية، لكن المسؤولية الفردية لا تلغي المسؤولية الجماعية، وهذا ما أشكل على كثير من الناس حتى في عصر الصحابة الكرام y أجمعين، فقد ثبت أنّ أبا بكر الصديق t قال في خطبته: (أيّها الناس إنّكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} [سورة المائدة: آية 105] وإنّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعت النبي r يقول: ((إنّ النّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه))([2]).

أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هما ركنان أساسيان، الأول: العلم، والثاني: القدرة.

الركن الأول: العلم

إن العلم بهذا الأمر يشمل أربع مسائل: (العلم بالحكم، والعلم بالوقوع، والعلم بآداب الأمر والنهي، والعلم بمآلات الأمر أو النهي).

  1. العلم بالحكم:

ينبغي لمن يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالمًا بالأمر المأمور به أو المنهي عنه، فالعلم إمام العمل كما قال معاذ بن جبل t، وأكد هذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذ قال: ((مَنْ عَبَدَ الله بغير علم ٍكان يفسد أكثر ممّا يصلح))([3])، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (فلا بدّ من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بدّ من العلم بحال المأمور وحال المنهي)([4]) وعلى هذا فالأمور التي يؤمر بها أو يُنهى عنها قسمان:

  • ما يستوي في علمه أكثر الناس:

ويندرج في ذلك ما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والصيام، وحرمة الربا والزنا وشرب الخمر، وتحريم الحلف بغير الله تعالى، وتحريم الظلم والعدوان، وتحريم الاستطالة على الأموال والأنفس والأعراض، هذه المسائل متفق على تحريمها بغير خلاف معتبر، فيجب الأمر والنهي فيها، نفعت الذكرى أم لم تنفع.

  • ما كان مختلفًا فيه بين العلماء اختلافًا معتبرًا: وله حالتان:

الأولى: في مسائل الاجتهاد، ما دام الخلاف فيها قائمًا معتبرًا، فلا إنكار فيه مطلقًا، فمن يعمل بأحد هذه الأقوال لا يُنكر عليه، وعليه قعّد العلماء قاعدة (لا إنكار في موارد الاجتهاد)، قال الإمام ابن تيمية: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه)([5])، ويقول في موضع آخر: (وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمةٌ ولا أخوة)([6])، ففي مسائل الاجتهاد لا يسوغ الإنكار بل يجوز الإرشاد والمدارسة لبيان الراجح فيها، إلا إن علم المنكِر أن الفاعل يرى تحريم ما يُنكر عليه.

الثانية: ما كان في دقائق مسائل الشرع التي حسم الخلاف فيها، وأضحى وجه الحق فيها واضحًا عن أهل الاختصاص، فلا يجوز لكل أحد أن ينكر فيها؛ لأنها تحتاج إلى فهم دقيق، ويمكن لأهل العلم والتخصص الإنكار فيها، ومثالها دقائق مسائل الاعتقاد.

2- العلم بوقوع المنكر بحيث يكون ظاهرًا بغير تجسس:

قال الله تعالى {ولا تجسسوا}، والأصل عدم تتبع عورات المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (إنّ ناسًا كانوا يُؤخذون بالوحي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال سريرته حسنة)، والناس بعد هذا ضربان: الأول: مستور لم يعرف بشيء من المنكرات، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز كشفها ولا هتكها ولا التحدث بها، والثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي معلنًا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، فهذا فاجر معلن لا بأس بمتابعته لتقام عليه الحدود.

3- العلم بآدابهما، وأهمها ثلاثة: الرفق، والتدرج، والصبر.

(1) فالرفق: قال سفيان الثوري: (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى، عدلٌ بما يأمر عدلٌ فيما ينهى، عالمٌ فيما يأمر وعالمٌ فيما ينهى)([7])، وهو الأصل في أسلوب الأمر والنهي، وما كان على خلافه فهو الاستثناء، والنبي r قال: ((إنّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف))([8])، وقال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه))([9])، ولهذا قيل: (ليكن أمرك بالمعروف بمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر)([10])، وأمثلة جدوى الرفق في هذا المقام من السيرة النبوية وتراجم المصلحين أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وهو موضوع طويل بالإمكان أن يفرد بالبحث فيملأ الكثير من الصفحات، وهنا أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن النهي عن المنكر ليس عقوبة، بل هو إما تذكير (باللسان) أو تغيير وإزالة (باليد)، والأمر والنهي والإزالة حق لكل مسلم بشروطه كما سأبين، وعلى هذا يجب الاقتصار في التغيير على قدر الحاجة، ولكن العقوبة حق للسلطان وحده، ولهذا اشترط العلماء في إزالة المنكر أن يكون موجودًا في الحال فتكون الإزالة تتناول الحال أو الاستقبال، وأما الماضي فتتناوله العقوبة وهي من اختصاصات السلطان، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (كل منكر موجود في الحال، ظاهر للمحتسب بغير تجسس، معلوم كونه منكرًا بغير اجتهاد)([11]).

(2) التدرج: والمقصود بذلك معرفة مراتب التعامل مع مرتكب المنكر مثلًا، فإنّ كثيرًا من الناس يقررون الهجر والمقاطعة لأول وهلة، مع أنها ليست المرتبة الأولى في التعامل مع المنكَر عليه، لذا رتب العلماء مراتب التعامل:

الأول: التعريف، لأنّ المرتكب قد يكون جاهلًا والجاهل يُعلّم، وهذا متوقع خاصة في أزماننا هذه، ففي كثير من بلاد المسلمين هناك تجهيل متعمد بالدين، ولا يتلقى الطالب مثلًا إلا معلومات ضحلة عن مبادئ الدين، ويرافق التعريف كما بينت الترفق والتلطف والإرشاد والتوجيه، كل ذلك مجلل بالرحمة والحرص على هذا المرء.

الثاني: الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، فالمنكَر عليه هنا عالم بالحكم الشرعي، فالتذكير بالله تعالى والتحذير من مخالفته والتخويف من عقوبته من الذكرى التي تنفع المؤمنين كما قال تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [سورة الذاريات: الآية 55]، وليحرص أن يكون ذلك في السر ليعينه على قبولها فلا تأخذه العزة بالإثم، وليدرك أن القصد النصح لا التشهير.

الثالث: التغليظ بالقول، إذا لم ينفع ما ذكر، فلا مانع من إغلاظ القول، لكن ضمن ضوابط الشريعة في خطاب الناس، ويكون ذلك على قدر الحاجة وبحدود ضيقة ولا يقول إلا حقًا، قال تعالى في مثل هذا المقام {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغا} [سورة النساء: الآية63].

 الرابع: التهديد والتخويف، بالتغيير باليد، أو بالإبلاغ عنه إلى من يملك ذلك، أو التهديد بالهجران أو المقاطعة وعدم الزيارة، أو عدم تلبية دعوته وأكل طعامه، ولا يجوز له أن يهدده بوعيد ليس من حقه أن يهدده به، كتحريق بيته أو ضربه، أو ما شابه ذلك.

الخامس: الهجر والمقاطعة، ويكون ذلك عند الإصرار بعد استخدام كل ما سبق، فلا يكون أكيله ولا جليسه ولا زائره، فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله قال: قال رسول الله r ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنّ الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل…} الآية))([12])، وهناك تفصيل للعلماء في مسألة الهجر يحسن الرجوع إليها.

(3) الصبر: فمما ينبغي أن يُعلم أنّ الآمر والناهي لا يتوقع الاستجابة ابتداءً، أو على الأقل استجابةً فورية، فضلًا عن توقع الرد القبيح، الذي قد يصل إلى الأذى باللسان أو باليد، فعند ذلك ينبغي التحلي بالصبر واحتساب الأجر، وأسوأ ما يمكن تصوره في هذه الحالة الندم على ما قام به من الأمر أو النهي، وليعتبر هذا من الابتلاء في نصرة الدين وإظهار الحق والصدع به، وجاء في وصية لقمان لابنه في الكتاب الكريم { يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [سورة لقمان: آية 17]، وقالوا لا بدّ للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتمثل بثلاث خصال: العلم قبله، والرفق عنده، والصبر بعده.

4- النظر في المآلات:

من العلم الواجب لمن يتصدى للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أن يكون عالما بمآلات ما يقوم به، وذلك أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ومن ذلك تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين، وهذا مقدرٌ بميزان الشريعة، ويكفي في تقدير ذلك اليقين أو غلبة الظن، ذكر ابن القيم أن إنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول المنكر ويخلفه ضده (أي المعروف).

الثاني: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته.

الثالث: أن يتساويا، أي يزول المنكر ويعقبه منكر قريب منه.

الرابع: أن يزول ويخلفه منكر شر منه.

قال: فالأولى والثانية مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.

ومثلوا للدرجة الرابعة ترك النبي r قتل عبد الله بن أبي، بل ونهيه عن ذلك، لئلا يتحدث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، وكذلك نهيه تعالى عن سب آلهة المشركين مع أنها باطلة حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علم، وذكر ابن القيم مثالًا من فهم شيخه ابن تيمية لهذه القاعدة فقال: (مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنّما حرّم الله الخمر لأنّها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذراري وأخذ الأموال فدعهم)([13])، ثم ذكر كلامًا نفيسًا فقال: (ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر)([14])، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلمٍ ونية وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع)([15]).

الركن الثاني: القدرة

والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [سورة البقرة 286]، وجاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري t قوله r ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))([16])، وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل))، فواضح من الحديث ربط التغيير بالقدرة والاستطاعة، ولقد قال تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [سورة الحج 41]،  فالآية أشارت إلى التمكين، وهو من أعلى مراتب الاستطاعة، فالقدرة تنتقض بأمرين:

الأول: العجز الحسي الفعلي.

الثاني: بالخوف من المكاره الكبيرة.

وهي المكاره المحققة التي تلحق الإنسان في نفسه أو بدنه أو ماله، ولا عبرة بالضرر اليسير كالكلمة النابية أو السب والشتم، فهذا قد لا يخلو منه إنكار منكر، وهذا المراد في وصية لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [سورة لقمان: 17]، لكن فرّق العلماء بين حالتين:

الأولى: توقع حصول الضرر البالغ عليه وحده، فهنا يكون حكم المكلف مترددًا بين أخذه بالرخصة أو بالعزيمة، فله أن ينكر مع توقع حصول هذا الضرر على سبيل العزيمة، وله الترك من باب الرخصة، وعلى هذا يُحمل قوله r: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))([17])، وقوله ((سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فوعظه فقتله))([18])، لأنّ الإنسان له أن يتسامح في حقوق نفسه، ولكن يخلص في ذلك كله لله تعالى، لكن في بعض الحالات تنتفي الرخصة في حق العالم المقتدى به كما أشار بعض أهل العلم، إذا كان السكوت يقتضي فتنة كبيرة على الأمة وإضلالًا لها، كما حصل مع الإمام أحمد رحمه الله في امتحانه بمسألة القول بخلق القرآن فكان لا يرى لنفسه رخصة بالسكوت، وهذا ما صرح به.

الثانية: توقع حصول ضرر على أهله أو جماعته أو من ينتمي إليهم فكريًّا، فهنا يمتنع عن النهي إلا بإذنهم، لأنّه ليس له أن يتسامح في حقوقهم، أو يلحق بهم أذى بغير إذنهم ورضاهم، وكما بينت سابقًا كل هذا مبني على أساس اليقين أو غلبة الظن، قال ابن رجب: (من خشي في الإقدام في الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى، سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك، منهم مالك وإسحق وغيرهم، قال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول)([19]).

مسؤولية الجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

جاءت الآيات مصرحة بالدور الجماعي لهذا الواجب الشرعي كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة آل عمران: 104]، ويتأكد هذا الواجب الجماعي في زمان ضيعة الدين وعدم قيام الجهات الرسمية بهذا الواجب، بل في بعض البلاد على العكس تمامًا نجد هذه الجهات هي التي تأمر بالمنكر وتشجع عليه وتروج له، وينشأ من ذلك ضعف الأفراد وعجزهم عن القيام ببعض صور هذا الواجب، لا سيما في مثل هذه المنكرات التي انتشرت وتدعمها جهات متنفذة أو رسمية، فعندها تكون الجماعة أقدر على القيام بهذا الواجب من الفرد، لكن بشروط ذكرها أهل العلم، منها:

  1. التزامها الكامل بشروط القيام بهذا الواجب مما جاء في شرط العلم، كأن يكون هذا المنكر مما أجمع على إنكاره وليس من مسائل الاجتهاد المختلف فيها.
  2. أن تكون هذه المجموعة موالية لجماعة المسلمين وإمامهم إن كان لهم إمام وجماعة.
  3. ألا تشق عصا الطاعة ولا تخلع يدًا من طاعة، إن كان هذا المنكر لا يصل إلى أن يكون كفرًا بواحًا لا يقبل تأويلًا ولا تسويغًا، فليس ثمة ولاية خاصة تقدم على ولاية عامة.
  4. ألا تقدم مصلحة أفرادها على مصلحة المسلمين العامة، بل يكون هدفها مصلحة المسلمين العامة.
  5. ألا يكون في أهدافها دعوة أو نصرة لعصبية.

وعلى هذا إذا كان المنكر لا يزال إلا باجتماع مجموعة تتعاون على إزالته؛ وجب اجتماعهم بقصد إزالته، على قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وإذا كان بالإمكان إزالة المنكر دون ذلك – ومبنى ذلك على الظن وغلبته أو على اليقين – يصبح هذا التجمع مندوبًا ومستحبًا، ويأتي الاستحباب لأن هذا الاجتماع من قبيل التعاون على البر والتقوى ما لم يؤد إلى محظور، فعند ذلك تدخل المسألة في فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد.

درجات إنكار المنكر

نلاحظ في فقه الاستطاعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملاحظات الآتية:

  • إن الإنكار والتغيير باليد واللسان ربطا بالاستطاعة، بينما الإنكار بالقلب يستطيعه كل مسلم، فلم يذكر فيه الاستطاعة، وهو في الوقت نفسه مؤشر على صدق الإيمان، فمن تأثّر قلبه لرؤية المنكر وتمعّر وجهه فهذا من علامات صدق الإيمان، وتعظيم حرمات الله والغيرة على محارمه، وأمّا من لم يجد في قلبه شيئًا من هذا فيخشى أن يكون ذلك من علامات ضعف الإيمان، فكيف لو سرّ بالمنكر وانشرح له صدره، فلا شك أنّ شائبة النفاق شابت إيمانه.
  • إن التغيير باليد يقوم به من كان قادرًا عليه، لكن ينبغي التنبيه على مسائل:

الأولى: التغيير باليد واجب في دائرة المسؤولية والرعاية لقوله :r ((والرجل راعٍ على أهل بيته ومسؤول عن رعيته))([20])، وهكذا في كل دوائر المسؤولية، ويقع على قمة هرم المسؤولية، الحاكم ذو السلطان، فهو مسؤول عن الأمة بأسرها، ومن أوجب واجباته تغيير المنكر باليد حفاظًا على الدين.

الثانية: إذا ترتب على تغيير المنكر باليد فتنة؛ لم يجز لآحاد الناس أن يقوموا بذلك، كما هو حال زماننا إذ عم الجهل بأحكام الشريعة وضعف القائمون بأحكام الدين وشرائعه، فإنّه لا يؤمن الفساد والفتن لو أطلق جواز التغيير باليد في مثل هذه الأحوال، فيقتصر التغيير باليد على الحاكم أو من يقيمه الحاكم في أمر الحسبة، على أن يكون التغيير باليد على قدر الحاجة، ويدخل ذلك التغيير في دائرة المسؤولية.

  • ويبقى الإنكار باللسان جائزًا بشروطه، قال الجويني: (ويسوغ لآحاد الرعية أن يصدَّ مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك رُبط الأمر بالسلطان)([21]).

وفي الختام، هذه جملةٌ من آدابِ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وأحكامِها، حري بكل مسلم أن يطَّلع عليها ويكون على علمٍ ودرايةٍ بها، لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، لكن عن علم وفقه وحكمة، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السَّبيل.


([1]) متفق عليه، البخاري في باب تأويل قوله تعالى: “من بعد وصية يوصى بها أو دين” عن ابن عمر، ومسلم في باب فضيلة الإمام العادل عن ابن عمر.

([2]) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في مسند أبي بكر وابن ماجه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

([3]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية ص68، وورد في مصنف ابن أبي شيبة 7/187 من كلام الحسن البصري.

([4]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام ابن تيمية رحمه الله ص68

([5]) مجموع الفتاوى 20/257

([6]) مجموع الفتاوى 24/173

([7]) جامع العلوم والحكم 1/325

([8]) أخرجه مسلم عن عائشة في كتاب البر والصلة.

([9]) أخرجه مسلم عن عائشة في كتاب البر والصلة.

([10]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام ابن تيمية ص56

([11]) إحياء علوم الدين 2/352

([12]) تفسير ابن كثير 2/78، وأخرجه أبو داود في سننه في باب الأمر والنهي عن ابن مسعود. وأخرجه البيهقي بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَسَائِرَ أَعْمَالِ الْوُلَاةِ مِمَّا يَكُونُ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.

([13]) إعلام الموقعين 3/15

([14]) المرجع السابق.

([15]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص61

([16]) أخرجه مسلم عن أبي سعيد، بَابُ بَيَانِ كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ.

([17]) أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وابن ماجه في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

([18]) أخرجه الحاكم في مستدركه عن جابر، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

([19]) جامع العلوم والحكم، ص282

([20]) سبق تخريجه.

([21]) السيل الجرار للشوكاني ص586