الأستاذ الدكتور حسن الخطاف – أستاذ مشارك باختصاص العقيدة الإسلامية، مدرس في جامعة آرتقلو ماردين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فِكرة البحث:
الملاحظ لواقع الأمة الإسلامية يجد شيئا يُدمي القلب من الاختلاف السياسي والفكري، والارتماء بأحضان الآخرين، وقد ولّد هذا الوضع هزيمة فِكرية في النفوس، وشعورًا عند كثير من أبناء الأمة، ولا سيما الشباب، بعدم الثقة بفهمنا لديننا، إنْ لم نقل عدم الثقة بالدين ذاته من بعض الشباب.
ومن الملاحظ أنّ أكبر عوامل الهدم في هذه الأمة، هو الاختلاف الفكري بين أبنائها منذ حصول الفتنة بمقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى وقتنا الحاضر، وهو واقع يرتضيه أعداؤنا ويبذلون كُلَّ شيء في سبيله.
وأبرز هذه العوامل الغلو في الدين الذي تمثَّل بالخوارج في عصر الصحابة رضي الله عنهم وصولًا إلى ظهور الغلو في أبشع صوره على يد غلاة العصر داعش وأمثالها.
ومن هنا فإنَّ البحث يحاول رصد أبرز المسائل التي أثارت الغلو في فِكرنا وما زالت تثيره.
الغاية من البحث:
السعي من أبناء الأمة للوقوف على المسائل التي أثارت وتُثير الغلو، بغية درسها بتجرد تامٍّ من كل الأسبقيات الفكرية للوصول إلى رأي يُلتَفُّ حوله، يكون بمنزلة العاصم من انزلاق الأمة نحو الغلو أو البقاء في مستنقعاته.
ومن الجدير التنبيه على أنَّ جُلَّ هذه المسائل لا تُثير الغلو بحد ذاتها، وإنما الفهم السطحي لها، أو البعد عن المقصد الشرعي منها، ومن هنا يقتضي الأمر الاعتناء بهذه المسائل جُهد الاستطاعة لإبعاد أيِّ شُبهة يمكن التّعلُّق بها.
ومن الواضح أنّ الغاية هنا ليس خلط مفهوم أهل السَّنة مع غيرهم، وليس الغاية التّنازل عن المعتقد، أو تغييره، أو إخفاؤه، فهذا ليس واردًا وليس مقصودًا، فأنا على سبيل المثال أتبنَّى الفكر الأشعري، ولكنْ لا يعني هذا أنَّ أسير وراءه في كُلّ مسائله، ولا يعطيني هذا التَّبني التَّضليل لمعتقد غيري، أو تكفيره، أو اتهامه بأنه يسعى إلى تقويض الدين، ما دام صاحبه حريصًا على الدين من خلال كُتُبه ومقالاته، ولم يُفض مُعتقده لرد نصٍ قطعي الثبوت والدلالات، وكذا ليس المقصود هنا التَّخلص من بعض أو كل أسباب هذه المثارات، فهذا شيء يبعُد في ظل نصوصٍ – في بعض المسائل- ليست قطعية الثبوت والدلالة، ووجه الاختلاف فيها سائغ، وإنما الهدف الاهتداء إلى عاصمٍ من الانزلاق إلى التضليل والتفسيق والتكفير كمخرجات لبعض هذه الخلافات، وهو ما لاحظناه في بعض كُتُب الفرق.
ومن الواضح أيضا أنَّ هذه المسائل هي خلافية بحد ذاتها، لكنَّ الغلو يكون أثرًا من آثارها، ولا يقتصر الأمر على الاختلاف في الرَّأي.
نماذج من الغلو:
سآخذ نموذجين أراهما من الغلو الذي ينبغي أنْ نجنِّب أمتنا منه، أحدهما منتمٍ للفكر السُّنيّ والآخر منتمٍ للفكر المعتزليّ، وهذا لا يعني ألبتة الغلو في بقية أفكارهما، فهو بحكم المسكوت عنه.
النموذج الأول:
هذا النموذج للمُحسن بن محمد بن كَرَّام، المعروف بالحاكم الجُشَمي الزَّيدي المعتزلي المقتول سنة (393ه) والذي كان معاصرًا لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، وقد عُرِف بشدّته على معتقد أهل السنة، وألَّف في ذلك كتابا سمّاه “رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس” وقيل اسمه “رسالة إبليس إلى إخوانه من المجبرة والمشتبهة في الشكاية من المعتزلة”، وقد كان الكتاب سببًا في قتله.
وإخوان إبليس في نظره هم من كان على عقيدة أهل السُّنة، ومما جاء في هذا الكتاب في مخاطبة إبليس إخوانه من أهل السّنة وعلى رأسهم الأشعرية، محُذِرّا أتباعه من مجالسة المعتزلة خشية الافتتان بحديثهم (ولقد علمتم إخواني أنَّ من الواجب في الدين نصيحة الإخوان والأتْباع، وبذل الأمانة للأشياع، ألا إني أبلغكم ما لا تعلمون، وأنصح لكم وأنا ناصح أمين، فاجتنبوا مجالسهم ومدارسهم، ولا تستمعوا إلى كلامهم ومواعظهم، وجنبوا أشياعكم وعوامكم، ونساءكم وصبيانكم، فإنَّ لكلامهم حلاوة، وعليه طلاوة، تُحَيّر ذوي الألباب، وتدخل في القلب بلا حجاب، ومن عظيم فتنتهم أنْ سموا أنفسهم بالموحِدة العدلية، وسمُّونا بالمُجبرة)[1].
والتَّدليس في العبارة الأخيرة واضحٌ “وسمُّونا المجبرة” لأنَّ المعتزلة يُطلقون لفظ المُجبرة على أتباع جهم بن صفوان، وعلى الأشعري وأتباعه؛ لأنهم يقولون بأنّ الله يخلق أفعال العبد، وأنَّ ذلك في نظر المعتزلة يؤدي إلى الجبر، والفرق كبيرٌ بين نَظرة جهم بن صفوان (ت:128ه) وبين نظرة أبي الحسن الأشعري (ت:324ه) وأتباعه، فالأول يُجرّدُ الإنسان من أعزِّ شيء ميزه الله به وهو الإرادة والقُدرة ليُصبح مماثلًا للجمادات، ولا تُنسب للإنسان القُدرة إلا مجازًا كما تُنسب للجمادات، فُيقال تحركتِ الشَّجرة وهبَّت الريحُ[2]، وأما مقولة أبي الحسن الأشعري وأتباعه بأنَّ الله يخلق أفعال العباد فلا يترتّبُ عليها الجبر، لأنَّ خَلْقَ الله للفعل لا يستلزم جبر الإنسان، فالإنسان يملك إرادة وقُدرة في التَّوجُّه نحو هذا الفعل[3]، والله يخلق الفعل عند هذا التَّوجه، وهذا ما يُسمّى بنظرية الكسب، وتفصيلها في كُتُب الكلام.
النموذج الثاني:
بعض العبارات الموجودة في كُتُب أهل السُّنة من أهل الحديث والكلام، من ذلك ما نجده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (414ه) المعاصر للبغدادي وللحاكم الجُشَمي، فقد نقل اللالكائي رحمه الله عن بعضهم أنه قال: (من قال القرآن مخلوق يُفرَّق بينه وبين امرأته بمنزلة المرتد)[4]، بل نقل عن ثُلَّة من كبار العلماء أنَّ حكم من قال بذلك: (أنهم لا يُنكحون، ولا يُصلى خلفهم، ولا تُعاد مرضاهم، ولا تُشهَد جنائزهم، وأنَّ موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين)[5]، وبعضهم قال عن الجهمية: (كفار ولا يُصلَّى خلفهم)[6]، وفي حوادث سنة 409 من شهر المُحرم يذكر الذهبي (ت:748ه) أنه (قُرئ بدار الخلافة كتاب بمذاهب السُّنة، وفيه: من قال: «القرآن مخلوق» فهو كافر حلال الدم، إلى غير ذلك من أصول السنة)[7].
ومع جزْمي بتخْطئة المخالفين لأهل السُّنة من جهمية وغيرهم، لكنِّي لا أرى أنَّ ما ذُكِر هنا يُمثِّل أصول أهل السُّنة في حُكمهم على الآخرين.
مُحدِّدات البحث وإطاره:
عنوان البحث مرتبط بما يُمكن أنْ يُفهَم خطأ ويكون منطلقًا للغلو، وعليه لن أتعرض هنا لتعريف الغلو وتاريخه والممارسات التي يرتكبها الغلاة، وآثار ذلك في أمتنا، ولاسيما في الوقت الراهن، فالحديث عن هذا حَفَلَتْ به كتبٌ، وعُقِدت له مؤتمرات، وهو الشغل الشاغل اليوم، ومن هنا قصدتُ التركيز على أبرز مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي.
مثارات الغلو[8]
1. مفهوم الولاء والبراء وصلته بالعقيدة:
جاءت نصوص كثيرة من القرآن والسُّنة تبيّن أنَّ الولاء يكون بين المؤمنين لله ولرسوله وللمؤمنين، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [سورة المائدة: آية 55] وقوله سبحانه وتعالى في قطع الولاء عن غير المسلمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: آية 51].
تُعَدُّ هذه الآية الأخيرة هي الأشدُّ دلالة في قطع الولاء إلا مع المؤمنين، بمقابل ذلك نجد الولاء غير مُرتبط بالإيمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الأنفال: آية 72]، حيث ربط الله تعالى بين الولاء وبين الهجرة، فمن لم يهاجر فهو مؤمن، لكن ليست له الولاية إلا بالهجرة إلا في حالات خاصة هي طلب النَّصرة، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (فبيَّنَتْ حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبري من ولايتهم حتى يهاجروا) [9]، ومن الواضح في الآيات السابقة أنَّ غير المسلمين يوالي بعضهم البعض أيضًا.
مفهوم الولاء والبراء تحوَّل في أيامنا إلى خانة المفاهيم العَقَدية، كالإيمان بالرسُّل والكتُب، وصار عند كثيرين مِفصلًا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، بل بين المسلمين أنفسهم، فكثيرًا ما يُكفَّر المسلم بأنَّ ولاءه لغير الله أو لغير إقامة حكم الله تعالى، ومن الملاحظ أنَّ بعض الكتَّاب المعاصرين يجعلون دلالات هذا المصطلح من أسس العقيدة وأصولها، من غير البحث في الدلالات القرآنية، ومدى انطباقها على الحالات المعروضة، ويُطْلقون لسانهم بتكفير الآخرين استنادًا إلى هذا المصطلح.
ليس القصد هنا ضبط مفهوم الولاء والبراء، وذكر النصوص الدالة على ذلك، ولكنْ من الثابت أنَّ مصطلح الولاء والبراء مصطلح فضفاض، يحتاج إلى ضبط من سياقات النصوص القرآنية، وعلاقة هذا المصطلح بمصطلحات أخرى كالبِرِّ والمودة والإحسان والمحادَّة والكُره والمحبة، وعندما نرجع إلى كُتُب العقيدة في بواكيرها الأولى، ككُتب أبي الحسن الأشعري (ت:324) والماتريدي (ت:333) والطحاوي (ت:321) وما بعد، نجدها لا تتعرض لهذه القضية، مما يجعلنا نعرض السؤال الآتي: ما الذي جعل أولئك الأوائل يُعرضون عن هذا المصطلح في حين يهتم به المتأخرون من المعاصرين؟ بل ويجعلون من مفهوم الولاء والبراء أساسًا من أُسُس العقيدة؛ إذ أُلِّفت كتبٌ كثيرة في الولاء والبراء تجعل هذا المصطلح بإطلاقاته من أُسُس العقيدة، وناقضًا من نواقضها، ولمَّا كانت دلالة هذا المصطلح فيها معنى التّناصر بين المسلمين، كانت مظاهرة المشركين على المسلمين ناقضًا من نواقض الإسلام عند بعض المعاصرين، تحت مُسمَّى الولاء والبراء، جاء في شرح هذا الناقض، (الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين: ومن فعل ذلك فقد كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: آية 51] قال العلامة الفوزان في شرحه للنواقض: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ نوعًا واحدًا من أنواع موالاة الكفار، وهو المظاهرة، وإلا فالموالاة تشمل المحبة بالقلب، والمظاهرة على المسلمين، والثناء والمدح لهم، إلى غير ذلك)[10].
فاعتبارُ مظاهرة المشركين ومناصرتهم على المسلمين كُفْرٌ من غير تفصيل ليس صحيحًا، فالموالاة أنواعٌ، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: (والموالاة تكون بالظاهر والباطن، وبالظاهر فقط، وتعتوِرها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال، الحالة الأولى: أن يتخذ المسلم جماعة الكفر أو طائفته أولياء له في باطن أمره، ميلًا إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين)[11].
وهذه هي الحالة الوحيدة المُكفِّرة، بينما كثير من كُتُب المعاصرين تُعمِّم الحكم، وما قاله الشيخ الطاهر رحمه الله متناسق مع عقيدة أهل السنة والجماعة، فمنهاج أهل السنة هو عدم البراءة إلا مما تجب البراءة منه، يقول الإسفراييني (ت471ه): (إن أهل السنة مجتمعون فيما بينهم، لا يكفر بعضهم بعضًا، وليس بينهم خلاف يوجب التبريء والتكفير)[12].
ومما يؤسف له تعميم مفهوم الولاء والبراء حتى شمل الاحتفال بـ (عيد الأم أو عيد الحب، أو عيد النيروز وما شابه من أعياد الكفر… فالاحتفال بها حرام كلمة واحدة؛ لما في ذلك من تضييعٍ لثوابت الإسلام، وإضعافٍ لوازع الدين في نفس المسلم، وإلغاء لهويته وضياع أصل الولاء والبراء، وإقرار ما عليه النصارى أو اليهود أو غيرهم من ملل الكفر من الباطل)[13].
ولا يُفهم من هذا ألبتة أنّنا ندعو للاحتفال بهذه الأعياد، لكن ليس من المقبول القول بأنَّ الاحتفال بعيد الأم هو إقرارٌ لِما عليه اليهود والنصارى وتضييع لثوابت الدين، فهو عند كثيرين- وإنْ كان مصدرُ الفِكرة خارجي- لا ينظر إليه بمنظار عَقَدي، وإذا أردنا البحث عن حُكمٍ دقيق يجب أن نتعرَّف على الأسباب الحاملة على هذا الاحتفال، وهذا لا يعني ألبتة تحسين هذا العمل أو تجويزه، ويمكن أنْ يكون التَّصرف مُخرجًا عن الملّة كَمَن نشأ بين المسلمين، واحتفلَ بعيدٍ ما، وهو يعتقد أنَّ هذا العيد المُحتَفَل به هو أفضلُ من الأعياد التي شرعها الله تعالى، وإنما الذي يعنينا هو التَّوقف عن إعطاء أحكامٍ شاملة قاطعة تحت مُسمّى الولاء والبراء.
وقد ذكرنا سابقا أنَّ مصطلح الولاء والبراء لم يكن من أصول الدين عند أهل السُّنة في الكتب التي وصلت إلينا، ومن اللافت للانتباه أنَّ أوَّل من وصلَنا قوله بالبراءة هم الأزارقة، وهم أشد الخوارج غلوًّا، أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق، وهو أول من أحدث الخلاف في الخوارج، فقال في بدء الأمر بالبراءة من القَعَدة الذين لم يهاجروا إليهم وكفَّرهم، ووصل الأمر لشدة غلوهم إباحة قتل أطفال المخالفين والنساء[14]، وكذلك عند الفرق الباطنية، فالطُهْر عند الباطنية: (هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام)[15].
ويُلاحظ أنّ مصطلح الولاء والبراء هو الأساس الذي انطلقت منه تنظيمات القاعدة وداعش، في تعاملها مع المسلمين، ترويجًا لأفكارهم وتغريرا بالشباب المسلم، إذ الولاء عندهم هو الوقوف والمساندة والمناصرة لِمَا جاؤوا به، والبراء يُطلقونه على كُلِّ من خالفهم في توجُّههم، وأكثر هذه الإطلاقات كانت على المسلمين، والبراء في النتيجة لا يكون إلا من كافرٍ، ليُصبح المجتمع- كُلُّه أو أغلبه- في النتيجة كافرًا.
إن اعتبار الموالاة ناقضًا من نواقض العقيدة على إطلاقه مخالفٌ لما عليه أهل السنة والجماعة، وكلُّ من درس أمور العقيدة يُفرّق بين الفعل الظاهري، والفعل القلبي المرتبط بالمحبة، وعقيدة أهل السُّنة عدم التَّكفير بالفعل مالم يكن مُستحلًا له أو مستخفّا أو مستهزئًا مما عُلِم من الدين بالضرورة.
فما هو ضابط الولاء والبراء؟ وما أنواعه؟ وكيف يتم التكفير به وجزء منه عملي؟ ومعلوم أن العملي فيه من الغموض ما ليس في القول!
من هنا تأتي ضرورة دراسة مصطلح الولاء والبراء بمختلف صِيَغه الصّرفية وسياقاته القرآنية حيث وَرَد، واستجلاء الدلالات المأخوذة منه في ضوء اللغة والسياق القرآني وفهم المفسرين، وعلاقة الولاء والبراء بالمحبة والكره والبُغض والمودَّة والمحادَّة، ومن ثَمَّ المقارنة والمقاربة بين هذه الدلالات وبين كُتُب الكلام والعقيدة تبيانًا لدلالاته، والإجابة عن هذه الأسئلة ليست مقصودة لنا هنا، وإنما كان المقصود التنبيه على أنَّ الولاء والبراء من مثارات الغلو في فكرنا الإسلامي، وأن الحذر والتأني واجب عند التعامل مع هذه المسألة وتطبيقها على واقع المسلمين.
2. عدم التمييز بين أصول الدين وفروعه:
هذه المسألة في غاية الأهمية، وهي ضرورة ضبط أصول الدين وفروع أصول الدين، فالخلاف الذي حصل بين المدارس الفكرية الكلامية من معتزلة وقدرية وأشعرية هو خلاف في فروع أصول الدين وليس في الأصول.
فأصول الدين- التي أقصدها هنا- هي ما كان من شاكلة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بشمولية علم الله تعالى بأنه لا يخفى على الله تعالى شيء في الأرض ولا في السماء، وأنَّ الله قادر على كل شيء، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والإيمان بوحدانية الله تعالى وبقائه وأنه لا أوّل لوجوده، وأنَّ الكل سيموت ويبقى هو سبحانه الحيُّ الذي لا يموت، وأنَّ الكل سيُبعث يوم القيامة، والإيمان ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء، وأنَّ هناك حسابًا وجنة ونارًا، والإيمان بوجود الملائكة والجن… فهذه من أصول الدين، ولم يقع فيها خلاف ألبتة بين المذاهب الإسلامية المحسوبة على المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والإباضية.
لكن وقع الخلاف في مسائل من فروع أصول الدين، والتي لا يخرج صاحبها عن مِظلَّة الإسلام.
وعليه فضابط الأصول الذي نقصده هنا هو كُلُّ ما ورد في نصوصٍ قطعية الثبوت والدَّلالة، مما لا يجوز ألبتة الجهل بها وكان متعلقها بأصول الدين، يقول الإمام أبو حامد الغزالي عند حديثه عن المُكفِّرات: (أن ينكر أصلاً من أصول الشرعيات المعلومة بالتواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول القائل: الصلوات الخمس غير واجبة… وإنه لو أنكر غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة، أو أنكر نكاحه حفصة بنت عمر، أو أنكر وجود أبي بكر وخلافته لم يلزم تكفيره لأنه ليس تكذيباً في أصل من أصول الدين مما يجب التصديق به، بخلاف الحج والصلاة وأركان الإسلام، ولسنا نكفره بمخالفة الإجماع، فإن لنا نظرة في تكفير النَّظَّام المنكر لأصل الإجماع، لأن الشبه كثيرة في كون الإجماع حجة قاطعة)[16] أي تلك الأحكام التي لا تحتاج إلى نَظَرٍ واستدلال لوضوحها، فيكون معنى الأصل هنا مساويًا تمامًا لمصطلح النَّص عند الأصوليين من جهة الدَّلالة، ويزداد عليه من جهة الثبوت بحيث يكون قطعي الثبوت، لا يتطرق إليه شكٌ، وهذه لا تكون من جهة الثبوت إلا في القرآن الكريم وما تواتر من السُّنة النبوية.
والعلاقة واضحة بين المعلوم من الدين بالضرورة وأصول الدين، فما كان من أصول الدين ينبغي أنْ يدخل تحت مُسمَّى المعلوم من الدين بالضرورة، وعلى هذا تكون العلاقة بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا، فكلُّ ما كان من أصول الدين فهو معلوم من الدين بالضرورة، وليس كُلُّ ما هو معلوم من الدين بالضرورة داخلًا في أصول الدين، فحُرمة الزنا والظلم… وما كان على هذه الشَّاكلة وإنْ كانت معلومة من الدين بالضرورة فليست من مباحث علم العقيدة، وإنْ كان من حيث الأثر المترتب عليها يكفر مُستحلهما وَفقًا لمناهج المتكلّمين والأصوليّين.
والمقصود بالضرورة أنَّ العلم بها لا يتوقف على نظر واستدلال ومقدمات وأسباب، بل معلوم وجوبه أو حرمته لعامّة المسلمين.
خطورة الخلط بين الأصول والفروع:
خطورة عدم التمييز بين الأصول والفروع أمران:
الأول: أنَّ الله تعالى لم يطلب منا فعل الفروع كما طلب منا فعل الأصول، سواء من جهة الاعتقاد أو من جهة العمل، وبالتالي فمكانتها هي أدنى من الأصول، وعدم التمييز بينهما يجعلهما في مرتبة واحدة.
الثاني: أنَّ الحق في الفروع مُتعدد، والمجتهد فيها بعد التَّمكن من أهلية النظر مصيبٌ، فإن أصاب الحق في علم الله تعالى فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وذلك مشروط بقصد الوصول للحّق واستكمال أهلية النَّظر، وبذل الجهد واستفراغ الوسع في المسألة المنظور فيها، وهو ما درَسه الأصوليون ووضعوا له ضوابط.
والخلط بين الأصول والفروع قد يؤدي إلى تأصيل الفروع، وتفريع الأصول، ومن حق الأصل أن يبقى أصلًا فلا يُفرَّع، ومن حق الفرع أنْ يبقى فرعًا فلا يؤصَّل، والأمثلة على ذلك من واقع الفكر الإسلامي كثيرة وخاصة بين المذاهب العَقَدية، كما أنَّها في واقعنا كثيرة، ويمكن أنْ نأخذ أمثلة من واقع داعش؛ إذ أصبحت كثيرٌ من الفروع أصولًا في نَظَرهم، ويتوقف عليها محددات الولاء والبراء والهزيمة والنصر، من ذلك على سبيل المثال السَّعي إلى طمس القبور المرتفعة، وفرض تقصير اللباس بالقوة.
وبمقابل ذلك تأتي ردة الفعل بتمييع الأصول وتفريعها، وخير دليل على هذا المؤتمرات التي تُعقد بهدف الدعوة إلى وحدة الأديان، وأنّ الحق في الأديان متعدد، وأنه لا يوجد هناك حق مُميز ألبتة، فكل ما يراه أصحاب الأديان المتعددة هو حق، ومؤدى ذلك أن تكون الأديان عبارة عن خليط عجيب قابل لجميع الألوان الصحيحة والفاسدة، فما أراه أنا فيما يتصل بإيماني ونظرتي إلى الحياة والكون والخالق والرسل والغيبيات هو حق، وما يتصوره الآخر من إنكاره للوحدانية والرسل والغيبيات هو حق أيضًا، وبالتالي يتساوى من يعبد الله مع من يعبد البقر في صحة التَّصور.
لكنَّ عقيدتنا أنَّ المسلم على حق في التصورات وغيره على باطل، وهذه عقيدة لا تَزحْزُح عنها، على أنَّه ليس من لوازم ذلك ولا من فرعيّاته، – بل ولا قال أحد ممن يُعتد برأيه – أنّ امتلاك المسلم للحق، هو مسوغ له في الاعتداء على الآخرين أو النيل منهم باعتبار أنهم لا يملكون هذا الحق، فمن بدهيات ما يتعلمه المسلم قول الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: آية 256]، ((مَن قتَلَ معاهداً لَم يَرَحْ رائحةَ الجنةِ، وإنَّ ريحَها يُوجَدُ مِن مسيرةِ أربعينَ عاماً))[17].
التمييز بين الفروع والأصول ليس تقليلًا من شأن الفروع:
التمييز بين الأصول والفروع ليس تقليلًا من شأنِ الفروع، ولكنَّه تمييز منهجي علمي ضروري لحماية الأمة من التصورات والمعتقدات الخاطئة التي تؤدي إلى التَّكفير والقتل في مسائل لا تستلزم ذلك، مما يؤثر في كيان الأمة ووحدتها.
استنادًا إلى ما سبق، يمكن القول جازمًا – اعتمادًا على الاستقراء- إنَّ كل مسألة وقع الخلاف فيها بين الأشعرية والماتريدية، أو بين السَّلف والخلف، أو بين أهل السنة والمعتزلة، أو بين أهل السنة والخوارج، هي من فروع أصول الدين وليست من أصولِ الدين بالمعنى السابق الذي شرحناه لمفهوم أصول الدين، ويمكننا أن نمثل لذلك بالاختلاف الحاصل في الصفات.
الاختلاف الحاصل في الصفات الذاتية:
هناك اختلاف في بعض المسائل المتصلة بالإلهيات، منها: هل توجد صفات ذاتية لله تعالى كصفة تُسمى صفة القدرة مثلا أم لا؟ اتفق المعتزلة وأهل السنة على أنَّ الله قادر، ولكن وقع الخلاف بينهم هل الله قادر بقدرة؟ أم قادر بذاته من غير صفة تُسمى صفة القدرة، بالأول قال أهل السنة[18] وبالثاني قال المعتزلة[19]، وهكذا في بقية الصفات، والحق في المسألة مع أهل السنة، ولسنا بحاجة إلى عرض أدلتهم، نَظَرًا لوضوحها، كما أن هذا الموطن ليس مناقشة لخصومهم، فالمسألة – وهذا ما نقصده – ليست من أصول الدين بل من فروعه، وهذا ما رُمْنا الوصول إليه، ولكنْ كونها من الفروع لا يمنع من الحكم على قائلها بالخطأ، وإنما المقصود أنْ لا يرقى ذلك إلى الحكم بالتكفير واعتبار ضرر هؤلاء على الدين أكثر من ضرر المجوس أو اليهود والنصارى، أو مساوين لهم في الحكم.
3.عدم وضع ضوابط للمُحكم والمتشابه، وفهم المتشابه في ضوء المحكم:
آيات القرآن الكريم منها المُحكَم ومنها المتشابه، والأصل في هذا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران: آية 7] ومما دخل تحت هذا المثار عند كثير من العلماء النصوصُ التي توهم تشبيه الله تعالى بخلقه، فإذا كان الله سبحانه وتعالى مُنزَّهًا عن النقائص وعن صفات المخلوقات، فكيف نفهم النصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية مما يوهم ظاهرها تشبيه الله تعالى بخلقه؟ من ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة المائدة: آية 64] وأحاديث كثيرة وردت قريبة من هذا المعنى، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))[20].
اتفق أهل السنة والمعتزلة ابتداء على تنزيه الله تعالى عن المشابهة، لكن عند تطبيق هذه النصوص في ضوء تنزيه الله تعالى، وقع الاختلاف، وهذا الاختلاف مرده إلى تنزيه الله تعالى كلٌّ بحسب فهمه للتنزيه، مع يقيننا بصحة مذهب أهل السنة، ولم يكن الخلاف قاصرًا بين المعتزلة وأهل السنة، بل حصل بين أهل السنة أنفسهم، ومثار الخلاف كان عدم الاتفاق في ضبط مذهب السَّلف على وجه الدقة، فهل كانوا يسكتون عن هذه النصوص؟ ولا يخوضون فيها بتفسير أو تأويل، ويُفوضون المُراد منها كاملًا لله تعالى، – وهذا ما أراه – أم كانوا يحملونها على ما يليق بكمال الله تعالى مع تنزيه الله عن المشابهة والمُماثلة؟ وأيهما أسلم، هل مذهب السلف أم الخلف؟ وما الحدود الزَّمنية لمذهب السَّلف؟ وما علاقة هذه النُّصوص بالمجاز؟ وهل هذه النصوص تدخل تحت المحكم والمتشابه أم لا؟ وما معيار المحكم والمتشابه… كانت هذه مثار خلاف[21].
4.عدم الفهم الدقيق لتروك النبي e عند الأصوليين وصلته بمفهوم البدعة:
دين الله سبحانه وتعالى يقوم على أمرين:
الأول: أنْ نفعل ما طلبه الله تعالى منَّا أو طلبه رسوله e طلبًا جازمًا أو غير جازم، ويشمل ذلك الواجب والمندوب، ويدخل في ذلك ما فعله عليه الصلاة والسلام مما فيه صفة التأسّي لنا به، بحيث يكون داخلًا في التشريع لنا إلى يوم القيامة، وهذا شأن الصلوات والزكوات والصدقات وبر الوالدين وحسن الجوار والأمر بالمعروف وأمثالها.
الثاني: هو أنْ نترك ما نهانا عنه ربنا أو نهانا عنه رسوله e نهيًا جازمًا أو غير جازم، ويدخل في ذلك المُحرَّم والمكروه، ويدخل في هذا النهيُ عن الكذب والسرقة والزنا وشرب الخمور وشهادة الزور وموالاة الظالم والتقاعس عن نصرة المظلومين.
لكن أنْ نفعل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنَّ صحابته الكرام فعلوه قد يكون من مثارات الغلو، ويدخل هذا عند البعض في مفهومُ البدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: – فيما رواه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة السّلمِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – ((عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديّين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ، وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور، فَإِن كل بِدعَة ضَلَالَة)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح[22].
يقول ابن رجب الحنبلي: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يُرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة)[23]، ويقول ابن حجر: (والمحدَثات بفتح الدال جمع محدَثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودًا أو مذمومًا، وكذا القول في المحدثة، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))[24].
فلو أخذنا مثالًا على ذلك الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هو داخلٌ في مفهوم البدعة؟ – مع أنّي لا أراه كذلك- وهل للاحتفال أصلٌ في الشرع؟ أو ليس له أصل؟ وما صلة هذا بقضية التُّروك عند الأصوليين؟ وليس الموضع هنا مناقشة المسألة وتبيان الراجح، وإنما التنبيه على أنّ هذا من مثارات الغلو، حيث يصل الأمر إلى التراشق بالتبديع والتضليل وترك سُنَن النبي صلى الله عليه وسلم أو الاتهام بالجهل وجفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدم الاحتفال بمولده، ويكفي أنّ هناك عشرات من الكُتُب بين الطرفين في مثل هذه المواضيع، وكان بالإمكان أن تصرف جهود الكتابة والتأليف إلى باب آخر مما يحتاجه المسلمون أكثر من الدخول في مثل هذه القضايا.
5.غياب التعامل مع العام والخاص والمطلق والمقيد عند البعض:
الأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما رواه البخاري ((لا يَزْنِي العَبْدُ – وفي رواية الزاني – حينَ يَزْني وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ حينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَقْتُلُ وَهْوَ مُؤمِنٌ))[25]، وحديث مسلم ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))[26].
بناء على مثل هذه الظواهر كفَّر الخوارج مرتكب
الكبيرة، وأدْخله المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، ولو دُرست هذه الأحاديث في
ضوء أصول الفقه والنصوص الأخرى، ولاسيما قول الله تعالى {إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [سورة
النساء: آية 48] لما وُجِد هذا الغلو، يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن الخوارج: (عمدوا إلى آيات الوعيد
النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاؤوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب)[27]،
وقد تعرّضتُ لهذه المسألة في البحث السابق المنشور في العدد الثاني من مجلة
مقاربات تحت عنوان “أثر أصول الفقه في الاعتدال الفكري”.
الخاتمة:
بعد أنْ منّ الله عليِّ بإتمام ذكر أبرز مثارات الغلو، يمكن القول بضرورة تمييز ما هو من أصول الدين وما هو من فروعه، وكثير من القضايا الخلافية في فكرنا الإسلامي هي من هذا النوع، وهذا لا يعني أبدًا أنْ نغيِّر قناعاتنا، أو أنْ نتنازل عن أفكارنا، فهذا ليس مقصودًا من البحث، ولا يمكن الوصول إليه أصلًا؛ لأن الكثير من الخلاف راجع إلى طبيعة النصوص، بمعنى ما يُفهم من النصوص من جهة الدلالة إضافة إلى ما يتعلق بالإسناد فيما يخص السُّنة النبوية، وهنا لا بدّ من حَكَمٍ يُلجَأ إليه من أجل تبيان وجوه الاجتهاد في المسألة وبيان الراجح منها وحدود الاختلاف الممكن فيها، ومن المعلوم أنَّ كثيرًا من هذه المسائل ظهر فيها وجه الحق فأصبح القول فيها راجحًا، والقول الآخر مرجوحًا، وخاصة في القضايا المتصلة بفروع أصول الدين بين أهل السُّنة والمعتزلة، وظهور الحق لا يمنع من الحكم على الآخر بالخطأ وعدم إصابة السُّنة والدخول في البدعة، لكنَّه لا يقتضي تكفيرًا أو استباحة للدم، أو النَّظر إلى المخالف على أنه مساوٍ لليهود والنصارى، أو رمي جهوده في خدمة الدين ونشر العلم،
قال الإمام الذهبي في ترجمة إمام المفسرين والمحدثين في عصره قَتَادَةُ بنُ دِعَامَةَ السَّدُوْسِيُّ: (وَهُوَ حُجّةٌ بِالإِجْمَاعِ إِذَا بَيَّنَ السَّمَاعَ… وَكَانَ يَرَى القَدَرَ.. وَمعَ هَذَا، فَمَا تَوقَّفَ أَحَدٌ فِي صِدقِه، وَعَدَالَتِه، وَحِفظِه، وَلَعَلَّ اللهَ يَعْذُرُ أَمْثَالَه مِمَّنْ تَلبَّسَ بِبدعَةٍ يُرِيْدُ بِهَا تَعْظِيْمَ البَارِي وَتَنزِيهَه، وَبَذَلَ وِسْعَهُ، وَاللهُ حَكَمٌ عَدلٌ لَطِيْفٌ بِعِبَادِه، وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، ثُمَّ إِنَّ الكَبِيْرَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُه، وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلْحقِّ، وَاتَّسَعَ عِلْمُه، وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ، وَعُرِفَ صَلاَحُه وَوَرَعُه وَاتِّبَاعُه، يُغْفَرُ لَهُ زَلَلُهُ، وَلاَ نُضِلِّلْهُ وَنَطرْحُهُ وَنَنسَى مَحَاسِنَه، نَعَم، وَلاَ نَقتَدِي بِهِ فِي بِدعَتِه وَخَطَئِه، وَنَرجُو لَهُ التَّوبَةَ مِنْ ذَلِكَ)[28].
وقد عبَّر أهل أصول الفقه والمشتغلون بالعقيدة – تنظيرًا – عن شيء يُسمَّى أصول الدين، والقطعيات، والمعلوم من الدين بالضرورة، ومما لا يجوز الجهل به، ولكنْ لم يقع بشكل دقيق – من جهة التنظير – ضبط هذه المصطلحات، كما أنَّ الإشكال الأكبر أنه قد تتداخل بعض هذه المصطلحات مع بعض من جهة التطبيق، وقد يتداخل ما هو من فروع الدين مع ما هو من أصوله.
إن قضية الولاء والبراء والعام والخاص وفروع أصول الدين وحكم تروك النبي صلى الله عليه وسلم ومفهوم التأسي به كلُّها من القضايا التي تحتاج علاجًا وإعادة تأصيل وشرح للمسلمين عموما وللمتصدرين للدعوة والإرشاد خصوصا، لذا فالمقترح:
والله الموفق
والهادي إلى سواء السبيل.
[1] الحاكم الجشمي، رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس، تح: حسين المدرسي، ط. دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط. الأولى:1415هـ/1995مـ. ص:10
[2] الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة – بيروت، 1404هـ، ص:85
[3] الأشعري، اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع تح: حموده غرابة، مطبعة مصر، 1955، ابن فورك مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، تحقيق: دانيال جيماريه، قبرص، ص:100
[4] أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي، تح: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة – السعودية، الطبعة: الثامنة، 1423هـ / 2003م 2/ 354
[5] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ص:354
[6] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ص:355
[7] الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثانية، 1993م، 28/29
[8] ليس المقصود هنا هو الحصر، بل ذكر أبرز مثارات الغلو.
[9] محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر:10/ 85، وانظر: فخر الدين الرازي خطيب الري، تفسير الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420ه، 15/ 517
[10] شرح نواقض الإسلام لشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب، تأليف أبي عبد الله ناصر بن أحمد بن علي العدني، مكتبة الإمام الوادعي صنعاء، دار عمر بن الخطاب مصر، ص:96
[11] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ، 3/ 217
[12] الإسفراييني، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، ص:186
[13] شعبان محمود عبد القادر البركاتي المصري، الولاء والبراء في الإسلام، دار الدعوة الإسلامية، الطبعة: الأولى، 2012 م، ص:45
[14] الشهرستاني، الملل والنحل، دار المعرفة، ص117، الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، 1429 هـ – 2008 م، 3/ 359
[15] الشاطبي، الاعتصام: 2/ 75
[16] الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، وضع حواشيه: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ – 2004 م، ص:136
[17] صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم، رقم: 1378
[18] انظر: أبو منصور الماتريدي، التوحيد، تح: فتح الله خليف، دار الجامعات المصرية ص:45، الأشعري، اللمع، ص:26 ، الباقلاني، تمهيد الأوائل، ص:299، الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص:87
[19] انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص:155
[20] الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم رقم: 1827
[21] الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ط. دار الفكر، بيروت، ط. الأولى: 1996م. ص:304 و326، النووي، شرح مسلم، ط. دار إحياء التراث العربي، ج12، ص:211، 212. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تح: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ج13، ص 275
[22] ابن حجر العسقلاني، البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، تح: دار الهجرة للنشر والتوزيع – السعودية، الطبعة: الأولى، 1425هـ-2004م، ج9، ص 582
[23] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، تح: شعيب الأرناؤوط – إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: السابعة، 2001م، ج2، ص 128
[24] ابن حجر، فتح الباري، ج13، ص 253
[25] مختصر صحيح الإمام البخاري، كتاب الفرائض، باب تَوْبَةِ السَّارِقِ، رقم: 2578، مكتَبة المعارف للنَّشْر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2002م.
[26] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، رقم: 134. تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[27] التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية: ج1، ص50
[28] الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبعة مؤسسة الرسالة، ج5 ص272