الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الثورة السورية أتمت عامها الثامن ودخلت عامها التاسع، وتقدم كل يوم تضحيات، وتحقق في مقابل ذلك مكتسبات، وتدفع الأثمان الباهظة لينال السوريون حريتهم ويتخلصوا من أعتى وأقسى نظام عرفه التاريخ الحديث، والمجلس الإسلامي السوري بهذه المناسبة يؤكد على ما يلي:
أولاً: إنّ الثورات تعد مدارس في حياة الشعوب، تكسب الشعوب وعياً وصلابة، فتصحح المسار، وتنفض الغبار، وتبعث الأمة من جديد، ولا عجب إنْ طال أمدها، وتعقدت مسائلها، وزادت تضحياتها، فهذه طبيعة الثورات التي سطر التاريخ صفحاتها، وجلّى المفكرون مراحلها، وبينت السنن الإلهية التي بثها الله في كتابه الكريم شروط نجاحها، فمن جملة ذلك قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وذكر لنا القرآن نماذج بشرية عانت من طغيان الظالمين فكانت العاقبة للمتقين، والاستخلاف والتمكين لأهل العدل والإصلاح، قال تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)
ثانياً: إنّ من سنن الله التي تكون قبل النصر والتمكين، سنة الابتلاء والتمحيص، ليتبين الصادق من الكاذب، والانتهازي من المخلص، قال تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ومما لا يخفى على أحد أنْ طول أمد هذه الثورة جعلها كاشفة وفاضحة، على المستويين الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الداخلي عرّت الثورة بطش النظام المجرم وممارساته القمعية وفضحت عصاباته ولصوصه الذين سرقوا قوت الأمة وتركوا الشعب يعيش في أدنى درك من الفقر والعوز، وصار كل شيء عند النظام سلعة للبيع والتجارة، وفضحت الثورة الشعارات البراقة التي كان النظام يخدع بها البسطاء والسذج من أبناء أمتنا، وسلب لأجلها الأموال، وصادر الحريات، وابقى الشعب رازحا لعقود تحت نير حالة الطوارئ، كل ذلك تحت شعار (الممانعة والمقاومة) فلم تعد هذه الشعارات الرنانة تخدع أحداً، وفي الطرف الآخر هناك كثيرون ممن تسلقوا على أكتاف الثورة، وعبثوا بمقدراتها وتاجروا بشعاراتها، من الغلاة والانتهازيين، واليوم بدؤوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، ولفظتهم الثورة وتطهرت من دنسهم، وعلى المستوى الخارجي فقد تعرّت كثير من الأنظمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر “جمهورية إيران الإسلامية” التي رفعت شعار رفع الظلم عن شعوب العالم فضلاً عن الشعوب الإسلامية، وتاجرت بالشعارات الأخرى البراقة التي انخدع بها كثير من شباب الأمة ومثقفيها، فقد وقف ملالي إيران مع الطاغية ضد الشعب، ومع الظالم ضد المظلوم، وثبت لكل المسلمين أنها دولة طائفية عنصرية مجرمة، فجيش القدس يرى أنْ طريق القدس يمر فوق جثث أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في حوران وغوطة دمشق وأرياف ومدن الشمال.
ثالثاً: إنّ هذه المنطقة التي هي مهد النبوات، وملتقى الحضارات، حباها الله موقعاً جغرافياً فريداً، يربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وفيها عقد طرق التجارة وممرات النفط، كل هذا جعل منها مسرحاً للتنافس الدولي والحروب الباردة والمستعرة، مما عقد فيها الصراع، وجعل دول العالم تبحث عن مصالحها بعيداً عن مصلحة شعبنا السوري وآلامه وعذاباته، وكذلك إضعاف المنطقة لمصلحة دولة الاحتلال “إسرائيل” وإشغال المنطقة باستمرار لمنع مسارات التنمية فيها، وجاءت الثورة لتفضح شعارات حقوق الإنسان والعدالة والحرية وتقرير المصير، التي تتغنى بها الدول المتقدمة -المتحضرة- والمنظمات الدولية، فقد غدت قراراتها سيفاً مسلطاً على الضعفاء، وذريعة تستخدم لابتزاز من يراد نهشه واقتسام كعكته.
رابعاً: في كل هذه الظروف لا بد لشعبنا أنْ يخط طريقه، ويمضي نحو هدفه، ضمن الثوابت التي وضعها لنفسه في ثورته، لا لبقاء نظام الرعب والطغيان وأجهزته الأمنية والقمعية، نعم لوحدة سوريا أرضاً وشعباً، ولقيام حكم عادل رشيد يعبر عن خيارات وتطلعات شعبنا السوري في العيش المشترك، ودولة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات ومبدأ تكافؤ الفرص، وتحقق الحماية والكفاية لمواطنيها، لا بد من العمل الجاد المنظم الحر الذي يرعى أهدف الثورة ويحافظ على مشاريعها، ويبني على خبراتها التي دفع شعبنا ثمنها دماً وسجناً وتعذيباً وتشريداً، وقد علمتنا السنن وأخبرنا التاريخ أنه لا بد أنْ تنتصر إرادة الشعوب على الطواغيت وأعوانهم من المستعمرين والمعتدين
وفي الختام نتواصى جميعاً بأنْ نواصل السير في قافلة العدالة والحرية والكرامة، وألا نخضع لطاغية العصر ومن يقف وراءه، ونوصي شعبنا في كل أصقاع الأرض، داخل سوريا وخارجها، بالتراحم والتعاطف والتآزر، فالراحمون يرحمهم الرحمن، وأنْ يشدّوا أيديهم بأيدي بعض، ويرصوا صفوفهم، ويثبتوا على حقوقهم ومطالبهم العادلة، وما النصر إلا صبر ساعة، والعاقبة للمتقين، وستكون الدائرة بحول الله على الطغاة والمجرمين، والحمد لله رب العالمين.
المجلس الإسلامي السوري
10 رجب 1440 هــ الموافق 17 آذار 2019 م