الشيخ خليل محمد الحسين
إن المجتمعات الإسلامية اليوم تتعرض لأنواع شتى من الثقافات والقيم البشرية المختلفة، فكيف تتعامل مجتمعاتنا مع هذه الواردات؟ وما مصادرها للحكم عليها وتقييمها؟
تتعامل مجتمعاتنا المسلمة مع الثقافات العالمية الواردة عليها من خلال ثلاثة مداخل أو مصادر، هي:
إنَّ هذه الثلاثية المتمثلة بالنص المعصوم والموروث والفكر المعاصر تتلاقى في داخل الإنسان المسلم لتبني تصوراته وأحكامه في الحياة، لكن عليه أن يتذكر دائمًا أنَّ هذه الثلاثية تتلاقى على أساس حاكمية الشرع أو النص لها، ولا تتلاقى بلا ضوابط كما يحسب بعضهم، وعلينا أيضًا ألا نُعمِّم مسألة الالتقاء الفعلي والمنطقي بينها.
الحقيقة أن هذه الثلاثية تلتقي في أمور ليست بالقليلة لاتحاد منطق الحياة وقانونها المبني على المصلحة المقدرة من قبل العقل المنطقي لاتحاد الأشياء، لكن هذا ليس على إطلاقه؛ فمن الخطأ أن نعد الثلاثية محكومة ببعضها، أو أن نعتقد أن الفكر الغربي المعاصر بما فيه من نظريات كبرى تسير دفة العالم هو الحاكم المطلق على المنطق الحياتي، فنذهب خلفها ونخضع النصوص التشريعية لها دون النظر لما هو أساسي من النصوص عندنا في الشريعة الإسلامية، ولِمَا هو ثابت من نظام عام في إطار التشريعات الإسلامية التي لا يجوز تجاوزها بأي حال.
كيف نوفق بين مصادر الفكر الثلاثة؟
إذا كانت مصادر تكوين فكر المسلم في عصرنا تتراوح ما بين هذه الثلاثة فكيف يوفق بينها؟ وما التوجيه الإسلامي في ذلك؟
أولًا: امتاز الفكر العالمي المعاصر بتحطيم المقدسات وتجاوز الحدود والضوابط الأخلاقية والإنسانية، وفي غمرة هذا التخبط فإن على المؤمن ألا ينزلق إلى مستنقع الهلاك، وليعتصم بطود شامخ من إيمانه، فيعتقد عصمة الوحي الذي ثبتت أحقيته بالعقل والنقل ولم يجادل في ذلك إلا مكابر.
ثانيًا: ننظر إلى الموروث الإسلامي نظرة شمولية كلية نابعة من الاحترام التام لما قدمه كل مجتهد في عصره، ولِمَا أنتج كل عصر من المعارف والأحكام التي كانت محور العمل القيادي في تلك الحقبة التي عاشها المجتهد والمجتمع يومئذٍ.
ثالثًا: نتعامل مع هذا الموروث الإسلامي العظيم على أنه نتاج اجتهاد أولئك العلماء الجهابذة، وقد اعتُمد في حياة الأمة ووضع في موضعه باجتهاد مطلق نابع من تتبع القواعد التشريعية الإسلامية السامية الكفيلة بالسعادة الإنسانية لترابطها العقلي المنطقي والواقعي.
رابعًا: ننظر إلى هذا الموروث نظرة دقيقة لنتخير منه ما هو صالح لزماننا ونستبدل ما عداه، نقوم بذلك ونحن نعترف ونقر بصحته في حقبته وعصره، وأنَّه قابل في الوقت نفسِه لتغيير ما يرجع منه إلى أعراف مجتمعات ذلك العهد، فهي قد تختلف اختلافًا كليًّا عما هو الحال في هذه الآونة؛ فننظر إلى الموروث نظرة المتأني الذي امتلأ قلبه بالإيمان أولًا وبالعلم ثانيًا وبالتقوى ثالثًا لنختار منه ما هو صالح، ولنحدد ما هو عام ويتطابق مع الحياة البشرية المستمرة بكل مكوناتها وما هو خاص بحقبة معينة؛ لذلك كان مجال المجتهدين في النصوص محصورًا في غير المحكم والمفسر منها كما هو معلوم في أصول الفقه، متفادين بذلك الانحراف عن القواعد الأساسية المرسومة للنظام الإسلامي العام.
ليس كلُّ ما جاءنا عن العلماء السابقين صالحًا لنا الآن، ولم يدَّع واضعوه قديمًا شيئًا من ذلك، بل إنهم وضعوا أسسًا وقواعد منضبطة للاختلاف الاجتهادي المبني على اطراد قواعد التشريع العامَّة، وليس أدل على ذلك من القاعدة الفقهية (لا يُنكَر تغيُّر الأحكام بتغير الأزمان) وبتغير المكان أيضًا، ومنه قول الحنفية في تعليل مخالفتهم أئمتهم السابقين في بعض الأحكام: (إن الأمر اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان).
إن الموروث الإسلامي يحمل في أصوله قواعدَ القدرة على العيش في المجتمعات الإنسانية كلِّها على اختلاف الزمان والمكان، وانطلاقًا من هذه الأصول جعلت المصلحة أساسا في تقعيد التشريعات الإسلامية التي تدعو إلى جلب كل ما هو صالح نافع للإنسانية ودفع كل ضرر وفساد، وقد أسست مباحث الاجتهاد في الأدلة على هذا الإطار العام الشامل، فنتج عنه قواعد عظيمة في الأدلة يدور معها الحكم حيث كانت، ومنها سد الذرائع والمصلحة المرسلة والعرف، هذا إضافة إلى نظرية المقاصد في التشريع التي تحقق مطلبين مهمين، وهما: مراد الله تعالى بقدر وسع المجتهد، والنفع المبني على هذه الإرادة لإدراك السعادة والطمأنينة والنماء المستمر مع التكافل الاجتماعي العام الذي يحقق ما تدركه العقول بطبيعة تفكيرها المصلحي المنضبط بتلك الأسس في النظام العام، وهذا أمر قرره علماء الأصول بفهمهم الدقيق لتطابق الحكم ومنطق العقل؛ لذلك نرى سلطان العلماء العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى- يشير في قواعد الأحكام إلى أنك حينما تدرك بعقلك أن الأمر فيه مصلحة فاعلم أن الدين هنا، ومتى أدركت بعقلك أن الأمر فيه ضرر فاعلم أن الدين ليس هنا([1])، كما يشير أيضا إلى أن الطباع البشرية قد ركز الله تعالى فيها معرفة معظم المصالح الدنيوية لتحصلها، ومعرفة معظم المفاسد الدنيوية لتتركها([2])؛ لذلك كان التشريع الإسلامي في حقيقته مصالح كله وحكم كله ورحمة عامة كله.
إن هذا الموروث الذي وصلنا عن الأئمة ليس عبثيًّا ولا معصوما في الوقت ذاته، فقد يكون حقًّا مصيبًا مرادَ الله تعالى، لكونه جاء من مجتهد مطلق يحق له الاجتهاد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))([3])، فهو قواعد وثوابت ننطلق منها متى امتلكنا حقيقة النظر والفهم وحقيقة العلم مع التقوى، ولا بد من التأكيد على صفة التقوى؛ فالعالم إذا انسلخ عنها ضل علمه وساء عمله واتبع هواه، فكان فكره باطلًا مائلًا عن الصواب.
وإذا امتلك المسلم أحقية النظر والاجتهاد بتوفر العلم والفهم مع التقوى في شخصه يحق له أن يجلس أمام مائدة الموروث الغنية بأصناف العلوم وضروب المعرفة، فيأخذ منها ما يكون نافعا لنا مناسبا لعصره، ويترك منها ما كان نافعا في زمانه فقط مع احترام ما قام به الأولون من جهود في سبيل العلم وتجلية الأحكام وفق مقاصد النص وحاجات زمانهم.
في واقعٍ تتطورُ فيه الحياة وتجد فيه حوادث لا نستطيع أن نكون أسْرَى لكل جزئيات موروثنا الفقهي رغم شواهد التاريخ والمنهج النقدي على عظمة من خلفوا هذا التراث لنا، لكنا نعتقد أن هذا التاريخ منصة انطلاق في الاجتهاد والاستنباط لا بد من الرجوع إليها لصحة التطلع لواقعنا ومواكبة حقائق الحياة المتجددة، فنكون بذلك أمناء على قضايا عصرنا كما كانوا، نختلف في المتجدد المبني على طبائع البشر رغم اتفاقنا في الأصول المفسرة الثابتة بالعقل والنقل.
إنه من المسلَّم به عندنا في تشريعنا الإسلامي أنه بكل مكوناته الأصولية والفقهية والتفسيرية معتمدٌ على أدلة قررها الشرع، جاعلٌ العقل فيها أساسًا لا ينفك عنه أي حكم مصلحي من أحكامه الموجبة أو السالبة قطعًا، وإنه من المسلم به أيضًا أنه لا بد لكلِّ واقعةٍ من حكم، وهذا أمرٌ وسعه الشرع الإسلامي بكل ما ذكرنا من مكوناته مع ثلاثية العلم والفهم والتقوى.
أما الفكر الغربي وهو الجانب الثالث من ثلاثية مصادر الفكر، فالحقيقة أنه لا بد من نظرة واقعية تشمل ذلك الفكر وريادته للعالم الحالي وانحطاط المسلمين اجتماعيا واقتصاديا زيادة على الضعف الديني والأخلاقي، فدولة الفكر الغربي بنظرياته سادت العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لكن بالنظر إلى تاريخ هذا الفكر نجده:
أولًا: لا ينفك عن الاحتلال والاستغلال والدماء، وهذا أمر معروف لدى أي شخص ينظر في تاريخ الغرب المعاصر.
ثانيًا: نرى أنَّ هذا الفكر وهذه الثقافة وإن كانت لها الريادة الآن فلا يجوز لنا من منطلق العقلانية والمنطقية أن ننحني لها تمام الانحناء، فنأخذ منها غثها وسمينها وفاسدها وصالحها؛ إذ غالبا ما تتداخل أهواء السلطة وأهواء الانتصار والقوة والغلبة في أحكام المجتمعات الإنسانية وقيمها، فالفكر الأوربي وليد هذه الأشياء بالنظر إلى تاريخه وبالنظر إلى علاجه للقضايا المجتمعية العالمية الآن، فلا يمكن لمن أخذ عن المعصوم أن يقبل كل ما يأتي من هذا الفكر المبني على نواقص لا يختلف عليها العقلاء، نعم إنَّ الأفكار تتغذى ببعضها وتتأثَّر، وقد تتلاقى من غير سبق تأثر، فلا ضير أن يكون هناك حكم قد قدحته عقلية الغرب وهو متوافق تماما مع أسس النظم الإسلامية، ولا ضير حينها في أن نأخذ به ونقيده وننظر إليه بعين الجد والتمحيص، وهذا أمر أرشدنا إليه الإسلام، وحثنا عليه رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها إذا وجدها))([4])، فالعمل بفكر الآخر الإنساني أمر مرغوب في شرعنا إذا كان منضويًا تحت الأطر العامة لتشريعنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ بحفر الخندق، وهو أمر نقله سلمان الفارسي رضي الله عنه عن فكر الفرس المجوس في التخطيط الحربي إلا أنه توافق مع مبدأ المصلحة في أوجه الدفاع عن الإسلام وعن وطنه المدينة في ذلك الوقت.
ثالثًا: لا حجر ولا حرج -وفقًا للتشريع الإسلامي- في اقتباس الأفكار وتطويرها والأخذ من الحضارات الإنسانية، فالعنصر الإنساني هو الأساس في بناء التكامل المصلحي لكل أصناف العالم؛ لذلك جاء التعليل في نصوص قرآنية عدة بقوله تعالى: {لعلكم تعقلون}، وقد ختمت ثماني آيات من القرآن الكريم بهذه العبارة.
إن مدرك معظم الأحكام المصلحية التي لها القيادة والريادة في تنظيم المجتمعات مبنيٌّ على العقل المستقر داخل كل إنسان بصبغته الإنسانية لا الدينية، والحضارات تتجدد وتتطور فلا بد أن تواكب المفاهيم هذا التجدد، لكن يجب أن نكون -بنقلنا وفكرنا وأخذنا واقتباسنا من الآخرين- في مظلة النص القرآني المتجدد في ذاته المستمر في عطائه إلى يوم الدين؛ فهو بقواعده الشمولية ونصوصه العامة يواكب كل مجتمع بشري حي عاقل مزدهر مفكر متجدد، ويشترط لذلك أن يكون المجتهد المعاصر قادرًا على الغوص في بحر هذه النصوص بثلاثية العلم والفهم والتقوى، علمًا أنَّ من يقرأ نصوص الإسلام بتدبر يعرف أنه لا فقر عندنا في النصوص، ولا عجز في المفاهيم، ولا رهبانية في حصر أنفسنا بالتجارب؛ فالإسلام بنصوصه المعصومة الصادرة عن الوحي يعلمنا كيف نكون منفتحين على الجميع، ونستطيع من خلاله أن نكوِّن نظامًا عامًّا شاملًا لكل أصناف الإنسانية ولكل مناحي الحياة مطلقًا، والتاريخ شاهد على ذلك حينما كان في مجتهدي أمتنا من يفهم الدين فهم الأمين المؤتمن على عصره ذي العلم والفهم والتقوى والبحث عن الحقيقة المرادة من تشريع الحكم المصلحي.
وهنا لا بد من التأكيد على الحذر من انزلاق المثقفين وجريانهم خلف مصطلحات التجديد البرَّاقة، فهم ينسفون كلَّ الثوابت وكل الموروث لأجل التطور الذي لا تسعه التشاريع الإسلامية أو لأن الحياة ما عادت كما كانت؛ ولهذا لا تصلح لها كل الأحكام المستقرة في ثوابت الدين الإسلامي كما يزعمون!
والحقيقة أن هذا تبديد لا تجديد، فما لا ضابط له لا قيمة له، وضوابطنا نابعة من موروثنا الإسلامي والقواعد العامة الواضحة في دلائل النصوص القطعية وما تلقته الأمة بالقبول.
[1])) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام العز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية 1441ه ، 1/5
[2])) المصدر السابق 2/60 .
[3])) أخرجه البخاري في صحيحه، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم (7352)، 9/108، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه، وأخرجه مسلم في الباب نفسِه، رقم (1716)، 3/1342، دار التراث العربي.
[4])) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، باب ما قالوا في البكاء من خشية الله تعالى، رقم (35681)، 7/240، وانظره بألفاظ أخرى في سنن الترمذي وابن ماجة وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.