وعي الحياة المشتركة المتآلفة في المجتمع السوري ([1])
د. محمد نور حمدان
دكتوراه في الفقه الإسلامي – محاضر في جامعة الزهراء
يتميز المجتمع السوري بكونه مجتمعًا تعدديًّا متنوع الثقافات والأعراق والديانات، ففيه العربي والكردي والتركماني والشركسي…، وفيه المسلم والنصراني والأقليات الأخرى المختلفة، إذًا نحن أمام مجتمع فيه أطياف كثيرة ازدادت بالثورة السورية يوم قدمت إلى سورية شخصيات من جنسيات مختلفة، استقروا فيها ولا يريدون الرجوع إلى بلادهم، فنحن أمام خريطة سورية جديدة تحوي كثيرًا من التنوع والتعدد، فهل هذا التنوع عامل إيجابي أم سلبي؟ وهل هي عامل بِناء أم هدم؟ وكيف يمكن استثمار هذا التنوع في العيش المشترك وتوظيف هذا التنوع في بناء سورية لا في هدمها؟ وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مجتمع المدينة المنورة، وكيف عامل الخلفاء الراشدون المجتمعات الجديدة في البلاد التي فتحوها؟
جميع هذه الأسئلة سأجيب عنها في محاور أربعة:
الأول: الاختلاف سنة كونية فطر الله الناس عليها. الثاني: مجتمع المدينة وكيف تعامل معه الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث: الفتوحات الإسلامية وكيف تعامل الصحابة مع المجتمعات في تلك البلاد. الرابع: أسس وقواعد الحياة المشتركة.
التعددية فطرة ربانيَّة
إن تعدد المجتمعات وتنوعها فطرة فطر الله الخلق عليها، وقد أشار الله إلى هذا الاختلاف في موضعين:
الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. أشار الله تعالى إلى التنوع في الجنس البشري (ذكر، أنثى)، والتنوع في الشعوب (عربية وغربية وإفريقية وآسيوية تركية وكردية)، والتنوع في الشعب الواحد إذ ينقسم إلى قبائل، وبين الله عز وجل أن غاية هذا التنوع والاختلاف هو التعارف والتعاون لا التدابر والتخاصم.
الثاني قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 20 و22]، بيّن الله -عز وجل- أن الأصل الإنساني واحد ثم حصل التنوع والانتشار، وأن هذا التنوع لم يكن في الناس فحسب بل كان في المخلوقات الأخرى، فأشار الله -عز وجل- إلى التنوع في الجمادات (السموات والأرض)، ثم ذكَر تنوع اللغات (ألسنتكم) والألوان (أبيض، أسود، أحمر، أصفر) وأَنَّ ذلك من البراهين الإلهية ودلالات القدرة، فالتعددية هي فطرة فطر الله الناس والمخلوقات كلها عليها على جميع المستويات.
مفهوم التعددية:
إن التعددية لها مفهوم وسط محمود يقابله طرفان ذميمان، الطرف الأول هو الاختلاف والتشرذم والتخاصم، فقد يؤدي التنوع إلى التشرذم والتخاصم والاقتتال، وهذا معنى ذميم للتعددية، والطرف الثاني حمل الناس على نمط موحد في الحياة وإلزامهم بعادات وتقاليد واحدة أو الحديث بلغة واحدة أو الالتزام بلباس موحد، وهذا ما عملت عليه القوميات في القرن الماضي، ففكرة القومية تقوم على توحيد الشعوب بإلزامها بالحديث بلغة واحدة وحملها على عادات واحدة وثقافة واحدة، وقد أخفقت النظريات القومية لأنها جاءت معاندة للفطرة التي خلق الله الناس عليها.
التعددية في الشرائع:
إن التنوع لم يكن في الخلق فحسب بل كان في الشرائع الدينية رغم أن مصدر الشرائع واحد وهو الله عز وجل، إلا أن الشرائع كانت مختلفة من نبي إلى آخر، فجاءت الشرائع ملاحظةً اختلاف البيئات والزمان والمكان لتحقيق مصالح الناس وحاجاتهم، فالشرائع الربانية تدور مع المصلحة المعتبرة حيثما دارت وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله؛ إن شريعة آدم عليه السلام تختلف عن شريعة موسى وشريعة موسى تختلف عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فزواج الأخ من أخته كان مباحًا في شريعة آدم لهدف واحد هو زيادة النسل البشري، فلما تحققت هذه المصلحة نسخ هذا الحكم، وفي شريعة موسى عليه السلام حرِّم أكل الشحوم والصيد يوم السبت وأبيح ذلك في شريعتنا، فالكثير من الشرائع اختلفت نظرًا لخصوصية الزمان والمكان، قال الله تعالى عن الأنبياء {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13] وقال صلى الله عليه وسلم: ((الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ))([2]) فالشرائع الدينية تعددت لكن ضمن مرجعية واحدة هي دين الله عز وجل، وهذا ما يؤكد دور المرجعية في المجتمع المتعدد وأهميتها، فرغم وجود المجتمع متعدد الأطياف لا بد من مرجعية واحدة يرجع إليها الشعب حتى لا يؤدي التعدد إلى الاختلاف والتفرق والتشرذم والانفصال.
إن المجتمع السوري مجتمع متنوع في العرق والدين والبيئة، وإنما يحمي التعددية من التفرق والتشرذم والتخاصم وجود مرجعية واحدة يلجؤون إليها عند الاختلاف، وهذا ما يعبر عنه بالدستور، فالدستور الذي يتوافق عليه المجتمع يحميه من التفرق والانفصال، فكيف كان الدستور الأول في الإسلام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها أديان وأعراق شتّى؟
مجتمع المدينة والحياة المشتركة
عندما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وجد مجتمعًا متنوعًا متعددًا دينيًّا وعرقيًّا وقبليًّا، كانت يثرب قبل الهجرة قبيلتين عربيتين -هما الأوس والخزرج- وثلاث قبائل يهودية، وكانت القبيلتان العربيتان في صراع دائم، وكانت القبائل اليهودية تغذي هذا الصراع، وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ازداد المجتمع تنوعًا، فعلى مستوى الدين أصبح المجتمع يضم المسلمين واليهود والمشركين عبدة الأوثان، وعلى المستوى القبلي انضم المهاجرون إلى هذا المجتمع الجديد وهم من قبائل متنوعة، وضم المجتمع أعراقًا جديدة دخلت الإسلام مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي؛ فكيف حكم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع المتنوع المختلف في الثقافات واللغات والأديان والأعراق، وكيف وظف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختلاف لبناء المجتمع لا لهدمه كما كان حاله قبل الهجرة النبوية؟
أول عمل قام به -رسول الله صلى الله عليه وسلم- لتحقيق الانسجام والتفاهم في هذا المجتمع المتنوع هو كتابة وثيقة المدينة المنورة، وهذه الوثيقة كانت بمنزلة دستور يضبط الدولة الناشئة ويبين حقوق كل فرد وواجباته، فهي عقد اجتماعي اتفق عليه أفراد المجتمع كلهم لبيان حقوقهم وواجباتهم وحل مشكلاتهم بدلًا من حلها بالسلاح والنزاع، فكانت الفصلَ فيما شجر بينهم.
نشأةُ الدولةِ هذه في المدينة المنورة تظهر لنا جليا أهمية الدستور في بناء المجتمع السوري لأنه مجتمع يحتاج إلى ضابط يتوافق عليه الناس، وقد كان من أهم أسباب قيام الثورة عدم وجود دستور عادل تتحدد فيه واجبات المجتمع وحقوقه بأطيافه كلها ويضمن فيه جميع أفراد المجتمع العيش بحرية وعدل وسلام ومساواة، وتلك أول خطوة في بناء المجتمع المتنوع، فالدستور المتوافق عليه يحمي المجتمع السوري من الاختلاف لأنه وثيقتهم التي يرجعون إليها.
نصت وثيقة المدينة المنورة على أن أفراد المجتمع جميعًا أمة واحدة، وحملتهم مسؤولية الدفاع عن المدينة المنورة ضد أي خطر خارجي يهددها: ((المؤمنون والمسلمون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس)). وحافظت الوثيقة على عادات القبائل وديانات غير المسلمين، جاء فيها: ((إن يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم))، ودخل اليهود في معاهدة الدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدو: ((إن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن على يهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)) فهذا نصٌّ على ضمان العيش المشترك والدفاع المشترك واحترام خصوصيات الأديان والثقافات المتنوعة في مجتمع المدينة الواحد، ثم أكدت الوثيقة وجوب الرجوع إلى المرجعية الواحدة عند الاختلاف أو الاختصام، فنصت على ((أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله)) وهذا مطلب مهم في المجتمع المتعدد، لا بد من الرجوع إلى مرجعية واحدة عند النزاع لئلا تؤدي هذه التعددية إلى توسع الشقاق، فالحكم النهائي في كل ذلك هو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه حاكمًا على غير المسلمين ولكونه نبيًّا وحَكَما وولي أمرٍ عند المؤمنين به.
مجتمع المدينة المنورة والمنافقون
ظهر في مجتمع المدينة المنورة فئة جديدة تظهر الإسلام وتبطن الكفر، تصلي في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتواصل سرًّا مع العدو الخارجي، تنشر الشائعات وتبث الذعر في المدينة المنورة وتنتظر في كل لحظة إعلان قتل الرسول ودخول المشركين إلى المدينة المنورة، فكيف تعامل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع هذه الفئة؟
لقد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الفئة معاملة المسلمين، فعاملهم حسب ظاهرهم رغم تحذيره الشديد من خطرهم، ونزلت كثير من الآيات لتفضح نفاقهم، ورغم معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المنافقين لكنه أراد أن يعلم الحكام من بعده أن التعامل مع أفراد المجتمع يكون بالظاهر، فإذا لم يصدر عنهم ما يدل على فسادهم وخبثهم وخيانتهم ومكرهم فوصْف الإسلام والمواطنة قائمان فيهم، وصرح الرسول بهذا الحكم في أكثر من مناسبة عندما كان الصحابة يشيرون عليه أن يقتل بعض المنافقين لا سيما زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول حتى إن ابنه عبد الله -وكان مؤمنًا- طلب ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((معاذ الله أن تتسامع الأمم بأن محمدًا يقتل أصحابه))([3]) فالتعامل مع المنافقين لا يكون حسب بواطنهم ومعتقداتهم وإنما بحسب ما يظهرون من أعمال، وهكذا يجب أن يكون التعامل مع المجتمع المتعدد المتنوع حتى لا يؤدي ذلك إلى الشقاق والانقسام والخلاف في المجتمع الواحد، فهذه الفئة تظهر في كل زمن وحين، وقد وجد في المجتمع السوري فئة من هؤلاء الناس يعيشون في مناطق المعارضة وينعمون بأجواء الحرية فيها وقلوبهم مع النظام المجرم، يؤيدونه في إجرامه ويشفي غليلهم مقتل الأبرياء والمدنيين، فهذه الفئة في مناطق الثوار تنتظر لحظة اجتياح النظام وقوى الاحتلال مناطقنا حتى تميل على المعارضة وتقاتل في صفوف الأسد.
مثل هؤلاء لا يجوز أن نتعامل معهم حسب اعتقاداتهم وآرائهم وإنما بحسب ما يظهرون من أعمال كباقي فئات المجتمع، وإلا أدى ذلك إلى الفساد وكان وسيلة إلى ظلم الناس وأخذهم بالظنون والاتهامات، وعندئذ تتولد الشكوك وتنعدم الثقة في هذا المجتمع، وقد وقع عدد من هذه القضايا في المناطق المحررة فألقي بعض الناس في السجون بتهمة التأييد للنظام المجرم أو التأييد لداعش، فلا يجوز إلقاء الناس في السجون بسبب الفكر إلا إن وجد ما يدل على تجسس أو خيانة أو عمالة أو مشاركة بالقتل، فالفكر يقابل بالفكر والسلاح يقابل بالسلاح، ولا حساب إلا على الأعمال، وهذا ما عامل به الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين.
الفتوحات الإسلامية والمجتمعات الجديدة
بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدأت الفتوحات، وأخذت الدولة الإسلامية تتسع حيث فتحت بلاد الشام وفارس ومصر والعراق، فكيف عامل الصحابة المجتمعات الجديدة والبلاد التي فتحوها؟ هل أرغموا أهلها على الدخول في الإسلام أو على تغيير دينهم ولغاتهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم؟ وهل هدموا أماكن عباداتهم؟
إن التاريخ شاهدٌ على أن المسلمين عندما فتحوا هذه البلاد لم يرغموا أمة أو مجتمعًا على تغيير عاداته ودينه ومعتقده التزامًا بقول الله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256] بل تركوهم وما يدينون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، ولم ينقل التاريخ إكراه أحد من الخلفاء الراشدين أمةً أو فردًا ما على الدين بل أبقوا لهم كنائسهم وأماكن عبادتهم، والواقع أكبر دليل على ذلك فهذه بلاد الشام والعراق ومصر وتركية، فيها آثار عمرها آلاف السنين، وفيها تماثيل كثيرة وقد مر على هذه البلاد صحابة كثيرون لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه هدمها بل بقيت قائمة في ظل دولة المسلمين، وعندما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلاد فارس والروم واستشار أهل الشورى ماذا يصنع بالمجوس وهم عباد النار، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سمعت سول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب))([4])، فكانت سنة ماضية في معاملة غير المسلين سواء كانوا وثنيين أم أهل كتاب.
والمجتمع السوري مجتمع متنوع من حيث الدين؛ ففيه أهل الكتاب وفيه الأقليات المختلفة، فالواجب الاعتراف بهذه الأقليات وحماية خصوصياتها وعدم إكراه أحد على تغيير دينه ومعتقده، فالمجتمع السليم هو الذي يقوم على الحوار واحترام خصوصيات الآخرين: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}. [النحل:125]
أسس الحياة المشتركة في المجتمع السوري
يمكن أن نَصُوْغَ أهمَّ المعايير التي يمكن أن تؤسس لضمان العيش المشترك في المجتمع المتعدد المتنوع:
هذه المعايير ونظائرها جديرة بتأسيس قواعد العيش المشترك بين أفراد المجتمع مهما تعددت ألوانه وأطيافه وطوائفه وأديانه.
[1] هذه الورقة ألقيت في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون صيف عام 2019 في ست مناطق (عفرين- جرابلس- الباب- إعزاز- مارع- المخيمات) في دورات تنوير الدعاة والمرشدين التي يقيمها وقف الديانة التركي بالتعاون مع جامعة الزهراء، وحضر هذه الدورات حوالي 1000 داعية من الرجال والنساء.